البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم». (وَكَذلِكَ) : أي مثل ذلك الإنزال الذي للكتب السابقة ، (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) : أي القرآن. (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هم : عبد الله بن سلام ومن آمن معه. (وَمِنْ هؤُلاءِ) : أي من أهل مكة. وقيل : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) : أي الذين تقدموا عهد الرسول ، يؤمنون به : أي بالقرآن ، إذ هو مذكور في كتبهم أنه ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَمِنْ هؤُلاءِ) : أي ممن في عهده منهم. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) ، مع ظهورها وزوال الشبهة عنها ، (إِلَّا الْكافِرُونَ) : أي من بني إسرائيل وغيرهم.

قال مجاهد : كان أهل الكتاب يقرأون في كتبهم أن محمدا عليه‌السلام ، لا يخط ولا يقرأ كتابا ، فنزلت : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ) : أي من قبل نزوله عليك ، (مِنْ كِتابٍ) : أي كتابا ، ومن زائدة لأنها في متعلق النفي ، (وَلا تَخُطُّهُ) : أي لا تقرأ ولا تكتب ، (بِيَمِينِكَ) : وهي الجارحة التي يكتب بها ، وذكرها زيادة تصوير لما نفي عنه من الكتابة ، لما ذكر إنزال الكتاب عليه ، متضمنا من البلاغة والفصاحة والإخبار عن الأمم السابقة والأمور المغيبة ما أعجز البشر أن يأتوا بسورة مثله. أخذ يحقق ، كونه نازلا من عند الله ، بأنه ظهر عن رجل أمي ، لا يقرأ ولا يكتب ، ولا يخالط أهل العلم. وظهور هذا القرآن المنزل عليه أعظم دليل على صدقه ، وأكثر المسلمين على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكتب قط ، ولم يقرأ بالنظر في كتاب.

وروي عن الشعبي أنه قال : ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى كتب وأسند النقاش. حديث أبي كبشة السلولي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قرأ صحيفة لعيينة ابن حصن وأخبر بمعناها. وفي صحيح مسلم ما ظاهره : أنه كتب مباشرة ، وقد ذهب إلى ذلك جماعة ، منهم أبو ذر عبد الله بن أحمد الهروي ، والقاضي أبو الوليد الباجي وغيرهما. واشتد نكير كثير من علماء بلادنا على أبي الوليد الباجي ، حتى كان بعضهم يسبه ويطعن فيه على المنبر. وتأول أكثر العلماء ما ورد من أنه كتب على أن معناه : أمر بالكتابة ، كما تقول : كتب السلطان لفلان بكذا ، أي أمر بالكتب. (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) : أي لو كان يقرأ كتبا قبل نزول القرآن عليه ، أو يكتب ، لحصلت الريبة للمبطلين ، إذ كانوا يقولون : حصل ذلك الذي يتلوه مما قرأه ، قيل : وخطه واستحفظه ؛ فكان يكون لهم في ارتيابهم تعلق ببعض شبهة ، وأما

٣٦١

ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة فظاهر فساده. والمبطلون : أهل الكتاب ، قاله قتادة ؛ أو كفار قريش ، قاله مجاهد. وسموا مبطلين ، لأنهم كفروا به ، وهو أمي بعيد من الريب. ولما لم يكن قارئا ولا كاتبا ، كان ارتيابهم لا وجه له.

(بَلْ هُوَ) : أي القرآن : (آياتٌ بَيِّناتٌ) : واضحات الإعجاز ، (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : أي مستقرة ، مؤمن بها ، محفوظة في صدورهم ، يتلوها أكثر الأمة ظاهرا ، بخلاف غيره من الكتب ، فليس بمعجز ، ولا يقرأ إلا من الصحف. وجاء في صفة هذه الأمة : صدورهم أناجيلهم ، وكونه القرآن ، يؤيده قراءة عبد الله ، بل هي آيات. وقيل : بل هو ، أي النبي وأموره ، آيات بينات ، قاله قتادة. وقرأ : بل هو آية بينة على التوحيد ؛ وقيل : بل هو ، أي كونه لا يقرأ ولا يكتب. ويقال : جحدته وجحدت به ، وكفرته وكفرت به ، قيل : والجحود الأول معلق بالواحدنية ، والثاني معلق بالنبوّة ، وختمت تلك بالكافر. ولأنه قسيم المؤمنين في قوله : (يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ) ، وهذه بالظالمين ، لأنه جحد بعد إقامة الدليل على كونه الرسول صدر منه القرآن منزل عليه ، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ، فهم الظالمون بعد ظهور المعجزة.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) : أي قريش ، وبعض اليهود كانوا يعلمون قريشا مثل هذا الاقتراح يقولون له : ألا يأتيكم بآية مثل آيات موسى من العصا وغيرها؟ وقرأ العربيان ، ونافع ، وحفص : آيات ، على الجمع ، وباقي السبعة : على التوحيد. (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ، ينزل أيتها شاء ، ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لفعل. (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ) بما أعطيت من الآيات. وذكر يحيى بن جعدة أن ناسا من المسلمين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بكتب قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود ، فلما نظر إليها ألقاها وقال : «كفر بها جماعة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم» ، فنزلت : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ).

والذي يظهر أنه رد على الذين قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) : أي أو لم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات ، إن كانوا طالبين للحق ، غير متعنتين هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان؟ فلا تزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل ، كما تزول كل آية بعد وجودها ، ويكون في مكان دون مكان. إن في هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان لرحمة لنعمة عظيمة لا تنكر وتذكر. وقيل : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) : يعني اليهود ، (أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك ، وروي

٣٦٢

أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا : يا محمد! من يشهد بأنك رسول الله؟ فنزلت : (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) : أي قد بلغت وأنذرت ، وأنكم جحدتم وكذبتم ، وهو العالم (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فيعلم أمري وأمركم ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ). قال ابن عباس : بغير الله. وقال مقاتل : بعبادة الشيطان. وقيل : بالصنم.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) : أي كفار قريش في قولهم : (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) (١) ، وقول النضر : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) (٢) ، وهو استعجال على جهة التعجيز والتكذيب والاستهزاء بالعذاب الذي كان يتوعدهم به الرسول. والأجل المسمى : ما سماه الله وأثبته في اللوح لعذابهم ، وأوجبت الحكمة تأخيره. وقال ابن جبير : يوم القيامة. وقال ابن سلام : أجل ما بين النفختين ، وقيل : يوم بدر. (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) : أي فجأة ، وهو ما ظهر يوم بدر ، وفي السنين السبع. ثم كرر فعلهم وقبحه ، وأخبر أن وراءهم جهنم ، تحيط بهم. وانتصب (يَوْمَ يَغْشاهُمُ) بمحيطة. وقرأ الكوفيون ، ونافع : (وَيَقُولُ) : أي الله ؛ وباقي السبعة : بالنون ، نون العظمة ، أو نون جماعة الملائكة ؛ وأبو البرهسم : بالتاء ، أي جهنم ؛ كما نسب القول إليها في : (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (٣). وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة : ويقال ، مبنيا للمفعول.

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ، كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ، اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ، وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ، فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٧٧.

(٢) سورة الأنفال : ٨ / ٣٢.

(٣) سورة ق : ٥٠ / ٣٠.

٣٦٣

أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ، وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن قوله : (يا عِبادِيَ) الآية ، نزلت فيمن كان مقيما بمكة ؛ أمروا بالهجرة عنها إلى المدينة ، أي جانبوا أهل الشرك ، واطلبوا أهل الإيمان. وقال أبو العالية : سافروا لطلب أوليائه. وقال ابن جبير ، وعطاء ، ومجاهد ، ومالك بن أنس : الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية ، ويلزم الهجرة عنها إلى بلد حق. وقال مطرف بن الشخير : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) عدة بسعة الرزق في جميع الأرض. وقيل : أرض الجنة واسعة أعطيكم. وقال مجاهد : سافروا لجهاد أعدائه. (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) ، من باب الاشتغال : أي فإياي اعبدوا فاعبدون. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى الفاء في فاعبدون ، وتقدم المفعول؟ قلت : الفاء جواب شرط محذوف ، لأن المعنى : إن أرضي واسعة ، فإن لم تخلصوا العبادة في أرض ، فاخلصوها في غيرها. ثم حذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول ، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص. انتهى. ويحتاج هذا الجواب إلى تأمل.

ولما أخبر تعالى بسعة أرضه ، وكان ذلك إشارة إلى الهجرة ، وأمر بعبادته ، فكأن قد يتوهم متوهم أنه إذا خرج من أرضه التي نشأ فيها لأجل من حلها من أهل الكفر إلى دار الإسلام ، لا يستقيم له فيها ما كان يستقيم له في أرضه ، وربما أدى ذلك إلى هلاكه. أخبر أن كل نفس لها أجل تبلغه ، وتموت في أي مكان حل ، وأن رجوع الجمع إلى أجزائه يوم القيامة. وقرأ علي : (تُرْجَعُونَ) ، مبنيا للفاعل ؛ والجمهور : مبينا للمفعول ، بتاء الخطاب. وروي عن عاصم : بياء الغيبة. وقرأ أبو حيوة : (ذائِقَةُ) ، بالتنوين ؛ (الْمَوْتِ) : بالنصب. وقرأ : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) ، من المباءة. وقرأ علي ، وعبد الله ، والربيع بن خيثم ، وابن وثاب ، وطلحة ، وزيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي : من الثواء ؛ وبوّأ يتعدى لاثنين. قال تعالى : (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) (١) ، وقد جاء متعديا باللام. قال تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) (٢) ، والمعنى : ليجعلنّ لهم مكان مباءة ، أي مرجعا يأوون إليه. (غُرَفاً) : أي علالي ، وأما ثوى فمعناه : أقام ، وهو فعل لازم ، فدخلت عليه همزة التعدية فصار يتعدى إلى واحد ، وقد قرىء مشددا عدى بالتضعيف ، فانتصب

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٢١ / ١.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٢٦.

٣٦٤

غرفا ، إما على إسقاط حرف الجر ، أي في غرف ، ثم اتسع فحذف ، وإما على تضمين الفعل معنى التبوئة ، فتعدى إلى اثنين ، أو شبه الظرف المكاني المختص بالمبهم يوصل إليه الفعل. وروي عن ابن عامر : غرفا ، بضم الراء. وقرأ ابن وثاب : فنعم ، بالفاء ؛ والجمهور : بغير فاء. (الَّذِينَ صَبَرُوا) : أي على مفارقة أوطانهم والهجرة وجميع المشاق ، من امتثال الأوامر واجتناب المناهي. (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) : هذان جماع الخير كله ، الصبر وتفويض الأمور إلى الله تعالى.

ولما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من أسلم بمكة بالهجرة ، خافوا الفقر فقالوا : غربة في بلاد لا دار لنا ، ولا فيه عقار ، ولا من يطعم. فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدّخر ، ولا تروّى في رزقها ، ولا تحمل رزقها ، من الحمل : أي لا تنقل ، ولا تنظر في ادخار ، قاله مجاهد ، وأبو مجلز ، وعلي بن الأقمر. والادخار جاء في حديث : «كيف بك إذا بقيت في حثالة من حثالة الناس يخبئون رزق سنة لضعف اليقين؟» قيل : ويجوز أن يكون من الحمالة التي لا تتكفل لنفسها ولا تروى. وقال الحسن : (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) : لا تدخر ، إنما تصبح فيرزقها الله. وقال ابن عباس : لا يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق ، وقيل : البلبل يحتكر في حضنيه ، ويقال : للعقعق مخابئ ، إلا أنه ينساها. وانتفاء حملها لرزقها ، إما لضعفها وعجزها عن ذلك ، وإما لكونها خلقت لا عقل لها ، فيفكر فيما يخبؤه للمستقبل : أي يرزقها على ضعفها. (وَإِيَّاكُمْ) : أي على قدرتكم على الاكتساب ، وعلى التحيل في تحصيل المعيشة ، ومع ذلك فرازقكم هو الله ، (وَهُوَ السَّمِيعُ) لقولكم : نخشى الفقر ، (الْعَلِيمُ) بما انطوت عليه ضمائركم.

ثم أعقب تعالى ذلك بإقرارهم بأن مبدع العالم ومسخر النيرين هو الله. وأتبع ذلك ببسط الرزق وضيقه ، فقال : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أن يبسطه ، (وَيَقْدِرُ) لمن يشاء أن يقدره. والضمير في له ظاهره العود على من يشاء ، فيكون ذلك الواحد يبسط له في وقت ، ويقدر في وقت. ويجوز أن يكون الضمير عائدا عليه في اللفظ ، والمراد لمن يشاء آخر ، فصار نظير : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ، وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) (١) : أي من عمر معمر آخر. وقولهم : عندي درهم ونصفه : أي ونصف درهم آخر ، فيكون المبسوط له الرزق غير المضيق عليه الرزق. وقرأ علقمة الحمصي : ويقدر : بضم الياء وفتح القاف وشد الدال ، (عَلِيمٌ) : يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم.

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ١١.

٣٦٥

ولما أخبر بأنهم مقرون بأن موجد العالم ، ومسخر النيرين ، ومحيي الأرض بعد موتها هو الله ، كان ذلك الإقرار ملزما لهم أن رازق العباد إنما الله هو المتكفل به. وأمر رسوله بالحمد له تعالى ، لأن في إقرارهم توحيد الله بالإبداع ونفي الشركاء عنه في ذلك ، وكان ذلك حجة عليهم ، حيث أسندوا ذلك إلى الله وعبدوا الأصنام. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، حيث يقرون بالصانع الرازق المحيي ، ويعبدون غيره.

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) : الإشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها ، وكيف لا؟ وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة ، أي ما هي في سرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها ، إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون. والحيوان ، والحياة بمعنى واحد ، وهو عند الخليل وسيبويه مصدر حيي ، والمعنى : لهي دار الحياة ، أي المستمرة التي لا تنقطع. قال مجاهد : لا موت فيها. وقيل : الحيوان : الحي ، وكأنه أطلق على الحي اسم المصدر. وجعلت الدار الآخرة حيا على المبالغة بالوصف بالحياة ، وظهور الواو في الحيوان وفي حيوة ، علم لرجل استدل به من ذهب إلى أن الواو في مثل هذا التركيب تبدل ياء لكسر ما قبلها ، نحو : شقي من الشقوة. ومن ذهب إلى أن لام الكلمة لامها ياء ، زعم أن ظهور الواو في حيوان وحيوة بدل من ياء شذوذا ، وجواب لو محذوف ، أي لو كانوا يعلمون ، لم يؤثروا دار الفناء عليها. وجاء بنا مصدر حي على فعلان ، لأنه يدل على الحركة والاضطراب ، كالغليان ، والنزوان ، واللهيان ، والجولان ، والطوفان. والحي : كثير الاضطراب والحركة ، فهذا البناء فيه لكثرة الحركة.

ولما ذكر تعالى أنهم مقرون بالله إذا سئلوا : من خلق العالم؟ و (مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً)؟ ذكر أيضا حالة أخرى يرجعون فيها إلى الله ، ويقرون بأنه هو الفاعل لما يريد ، وذلك حين ركوب البحر واضطراب أمواجه واختلاف رياحه. وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ)؟ قلت : بمحذوف دل عليه ما وصفهم به ، وشرح من أمرهم معناه على ما وصفوا به من الشرك والعناد. (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين ، حيث لا يذكرون إلا الله ، ولا يدعون مع الله آخر. وفي المخلصين ضرب من التهكم ، و (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) : جواب لما ، أي فاجأ السجية إشراكهم بالله ، أي لم يتأخر عنها ولا وقتا. والظاهر في (لِيَكْفُرُوا) أنها لام كي ، وعطف عليه (وَلِيَتَمَتَّعُوا) في قراءة من كسر اللام وهم : العربيان ونافع وعاصم ، والمعنى : عادوا إلى شركهم. (لِيَكْفُرُوا) : أي الحامل لهم على الشرك هو

٣٦٦

كفرهم بما أعطاهم الله تعالى ، وتلذذهم بما متعوا به من عرض الدنيا ، بخلاف المؤمنين ، فإنهم إذا نجوا من مثل تلك الشدة ، كان ذلك جالب شكر الله تعالى ، وطاعة له مزدادة. وقيل : اللام في : (لِيَكْفُرُوا) ، (وَلِيَتَمَتَّعُوا) ، لام الأمر ، ويؤيده قراءة من سكن لام وليتمتعوا وهم : ابن كثير ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ؛ وهذا الأمر على سبيل التهديد ، كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (١).

وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر ، وبأن يعمل العصاة ما شاؤا ، وهو ناه عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت : هو مجاز عن الخذلان والتحلية ، وإن ذلك الأمر مسخط إلى غاية. انتهى. والتحلية والخذلان من ألفاظ المعتزلة. وقرأ ابن مسعود : فتمتعوا فسوف تعلمون ، بالتاء فيهما : أي قيل لهم تمتعوا فسوف تعلمون ، وكذا في مصحف أبيّ. وقرأ أبو العالية : فيتمتعوا ، بالياء ، مبنيا للمفعول. ومن قرأ : وليتمتعوا ، بسكون اللام ، وكان عنده اللام في : ليكفروا ، لام كي ، فالواو عاطفة كلاما على كلام ، لا عاطفة فعل على فعل. وحكى ابن عطية ، عن ابن مسعود : لسوف تعلمون ، باللام ، ثم ذكرهم تعالى بنعمه ، حيث أسكنهم بلدة أمنوا فيها ، لا يغزوهم أحد ولا يستلب منهم ، مع كونهم قليلي العدد ، قارين في مكان لا زرع فيه ، وهذه من أعظم النعمة التي كفروها ، وهي نعمة لا يقدر عليها إلا الله تعالى. وقرأ الجمهور : (يُؤْمِنُونَ) ، و (يَكْفُرُونَ) ، بالياء فيهما. وقرأ السلمي ، والحسن : بتاء الخطاب فيهما. وافتراؤهم الكذب : زعمهم أن لله شريكا ، وتكذيبهم بالحق : كفرهم بالرسول والقرآن. وفي قوله : (لَمَّا جاءَهُ) : إشعار بأنهم لم يتوقفوا في تكذيبه وقت مجيء الحق لهم ، بخلاف العاقل ، فإنه إذا بلغه خبر ، نظر فيه وفكر حتى يبين له أصدق هو أم كذب. وأليس تقرير لمقامهم في جهنم كقوله :

ألستم خير من ركب المطايا

و (لِلْكافِرِينَ) من وضع الظاهر موضع المضمر : أي مثواهم. (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) : أطلق المجاهدة ، ولم يقيدها بمتعلق ، ليتناول المجاهدة في النفس الأمّارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين ، وما ورد من أقوال العلماء ، فالمقصود بها المثال. قال ابن عباس : جاهدوا أهواءهم في طاعة الله وشكر آلائه والصبر على بلائه. (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) : لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير ، كقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٢). وقال السدي : جاهدوا فينا بالثبات على الإيمان ، لنهدينهم سبلنا إلى الجنة.

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٤٠.

(٢) سورة محمد : ٤٧ / ١٧.

٣٦٧

وقال أبو سليمان الداراني : جاهدوا فيما علموا ، لنهدينهم إلى ما لم يعلموا. وقيل : جاهدوا في الغزو ، لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة. وقال ابن عباس : المحسنين الموحدين. وقال غيره : المجاهدون. وقال عبد الله بن المبارك : من اعتاصت عليه مسألة ، فليسأل أهل الثغور عنها ، كقوله تعالى : (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا). (وَالَّذِينَ) : مبتدأ خبره القسم المحذوف ، وجوابه : وهو لنهدينهم وبهذا ، ونظيره ردّ على أبي العباس ثعلب في منعه أن تقع جملة القسم والمقسم عليه خبرا للمبتدأ ، ونظيره : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ).

٣٦٨

سورة الرّوم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦)

٣٦٩

فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ

٣٧٠

فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ

٣٧١

عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)

(الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ، بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ ، أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ، ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ، اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ

٣٧٢

يَتَفَرَّقُونَ ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ).

هذه السورة مكية ، قال ابن عطية وغيره ، بلا خلاف. وقال الزمخشري : إلا قوله : (فَسُبْحانَ اللهِ). وسبب نزولها أن كسرى بعث جيشا إلى الروم ، وأمر عليهم رجلا ، واختلف النقلة في اسمه ؛ فسار إليهم بأهل فارس ، وظفر وقتل وخرب وقطع زيتونهم ، وكان التقاؤهم بأذرعات وبصرى ، وكان قد بعث قيصر رجلا أميرا على الروم. وقال مجاهد : التقت بالجزيرة. وقال السدي : بأرض الأردن وفلسطين ، فشق ذلك على المسلمين لكونهم مع الروم أهل الكتاب ، وفرح بذلك المشركون لكونهم مع المجوس ليسوا بأهل كتاب. وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن الروم (سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ).

ونزلت أوائل الروم ، فصاح أبو بكر بها في نواحي مكة : (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ). فقال ناس من مشركي قريش : زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارسا في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك؟ فقال : بلى ، وذلك قبل تحريم الرهان. فاتفقوا أن جعلوا بضع سنين وثلاث قلائص ، وأخبر أبو بكر رسول الله بذلك فقال : «هلا اختطبت؟ فارجع فزدهم في الأجل والرهان». فجعلوا القلائص مائة ، والأجل تسعة أعوام. فظهرت الروم على فارس في السنة السابعة ، وكان ممن راهن أبيّ بن خلف. فلما أراد أبو بكر الهجرة ، طلب منه أبيّ كفيلا بالخطر إن غلبت ، فكفل به ابنه عبد الرحمن. فلما أراد أبيّ الخروج إلى أحد ، طلبه عبد الرحمن بالكفيل ، فأعطاه كفيلا ومات أبيّ من جرح جرحه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وظهر الروم على فارس يوم الحديبية. وقيل : كان النصر يوم بدر للفريقين ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي ، وجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : «تصدق به».

وسبب ظهور الروم ، أن كسرى بعث إلى شهريزان ، وهو الذي ولاه على محاربة الروم ، أن اقتل أخاك فرّخان لمقالة قالها ، وهي قوله : لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى ، فلم يقتله. فبعث إلى فارس أني عزلت شهريزان ووليت أخاه فرّخان ، وكتب إليه : إذا ولي ، أن يقتل أخاه شهريزان ، فأراد قتله ، فأخرج له شهريزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل أخيه فرّخان. قال : وراجعته في أمرك مرارا ، ثم تقتلني بكتاب واحد؟ فرد الملك إلى أخيه. وكتب شهريزان إلى قيصر ملك الروم ، فتعاونا على كسرى ، فغلبت الروم فارس ،

٣٧٣

وجاء الخبر ، ففرح المسلمون. وكان ذلك من الآيات البينات الشاهدة بصحة النبوة ، وأن القرآن من عند الله ، لأنها إيتاء من علم الغيب الذي لا يعلمه إلّا الله.

وقرأ علي ، وأبو سعيد الخدري ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومعاوية بن قرة ، والحسن : (غُلِبَتِ الرُّومُ) : مبنيا للفاعل ، (سَيَغْلِبُونَ) : مبنيا للمفعول ؛ والجمهور : مبنيا للمفعول ، سيغلبون : مبنيا للفاعل. وتأويل ذلك على ما فسره ابن عمران : الروم غلبت على أدنى ريف الشام ، يعنى : بالريف السواد. وجاء كذلك عن عثمان ، وتأوله أبو حاتم على أن الروم غلبت يوم بدر ، فعز ذلك على كفار قريش ، وسر المؤمنون ، وبشر الله عباده بأنهم سيغلبون في بضع سنين. انتهى. فيكون قد أخبر عن الروم بأنهم قد غلبوا ، وبأنهم سيغلبون ، فيكون غلبهم مرتين. قال ابن عطية : والقراءة بضم الغين أصح. وأجمع الناس على سيغلبون بفتح الياء ، يراد به الروم. وروي عن ابن عمر أنه قرأ سيغلبون بضم الياء ، وفي هذه القراءة قلب المعنى الذي تظاهرت به الروايات. انتهى. وقوله : وأجمعوا ، ليس كذلك. ألا ترى أن الذين قرأوا غلبت بفتح الغين هم الذين قرأوا سيغلبون بضم الياء وفتح اللام ، وليست هذه مخصوصة بابن عمر؟ وقرأ الجمهور : غلبهم ، بفتح الغين واللام : وعلي ، وابن عمر ، ومعاوية بن قرة : بإسكانها ؛ والقياس عن ابن عمر : وغلابهم ، على وزن كتاب. والروم : طائفة من النصارى ، وأدنى الأرض : أقربهما : فإن كانت الواقعة في أذرعات ، فهي أدنى الأرض بالنظر إلى مكة ، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله :

تنوّرتها من أذرعات وأهلها

بيثرب أدنى دارها نظر عال

وإن كانت بالجزيرة ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض كسرى. فإن كانت بالأردن ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض الروم. وقرأ الكلبي : (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) ، وتقدم الكلام في مدلول البضع باعتبار القراءتين. ففي غلبت ، بضم الغين ، يكون مضافا للمفعول ؛ وبالفتح ، يكون مضافا للفاعل ، ويكون المعنى : سيغلبهم المسلمون في بضع سنين ، عند انقضاء هذه المدة التي هي أقصى مدلول البضع.

أخذ المسلمون في جهاد الروم ، وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى : (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ) إلى قوله : (فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، افتتاح المسلمين بيت المقدس ، معينا زمانه ويومه ، وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى ، وأن ابن برجان مات قبل الوقت الذي كان عينه للفتح ،

٣٧٤

وأنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم. وكان أبو جعفر يعتقد في أبي الحكم هذا ، أنه كان يطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله.

(لِلَّهِ الْأَمْرُ) : أي إنفاذ الأحكام وتصريفها على ما يريد. وقرأ الجمهور : (مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) ، بضمهما : أي من قبل غلبة الروم ومن بعدها. ولما كانا مضافين إلى معرفة ، وحذفت بنيا على الضم ، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو. وقرأ أبو السماك ، والجحدري ، وعون العقيلي : من قبل ومن بعد ، بالكسر والتنوين فيهما. قال الزمخشري : على الجر من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه ، كأنه قيل : قبلا وبعدا ، بمعنى أولا وآخرا. انتهى. وقال ابن عطية : ومن العرب من يقول : من قبل ومن بعد ، بالخفض والتنوين. قال الفراء : ويجوز ترك التنوين ، فيبقى كما هو في الإضافة ، وإن حذف المضاف. انتهى. وأنكر النحاس ما قاله الفراء ورده ، وقال للفراء في كتابه (في القرآن) أشياء كثيرة من الغلط ، منها : أنه زعم أنه يجوز من قبل ومن بعد ، وإنما يجوز من قبل ومن بعد على أنهما نكرتان ، والمعنى : من متقدم ومن متأخر. وحكى الكسائي عن بعض بني أسد : لله الأمر من قبل ومن بعد الأول مخفوض منوّن ، والثاني مضموم بلا تنوين. والظاهر أن يومئذ ظرف (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) ، وعلى هذا المعنى فسره المفسرون.

وقيل : (وَيَوْمَئِذٍ) عطف على : (مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) ، كأنه حصر الأزمنة الثلاثة : الماضي والمستقبل والحال ، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر. و (بِنَصْرِ اللهِ) : أي الروم على فارس ، أو المسلمين على عدوهم ، أو في أن صدق ما قال الرسول من أن الروم ستغلب فارس ، أو في أن يسلط بعض الظالمين على بعض ، حتى تفانوا وتناكصوا ، احتمالات. وفي الحديث : «فارس نطحة أو نطحتان ، ثم لا فارس بعدها أبدا ، والروم ذات القرون ، كلما ذهب قرن خلف قرن إلى آخر الأبد».

وقال ابن عباس : يوم بدر كانت هزيمة عبدة الأوثان وعبدة النيران ، وقال معناه أبو سعيد الخدري ، وقيل : ورد الخبر يوم الحديبية بوفاة كسرى ، فسر المسلمون بحرب المشركين ، ولموت عدو لهم في الأرض متمكن. وهو (الْعَزِيزُ) بانتقامه من أعدائه ، (الرَّحِيمُ) لأوليائه. وانتصب (وَعْدَ اللهِ) على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تقدمت ، وهو قوله : (سَيَغْلِبُونَ) ، وقوله : (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ). (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) الكفار من قريش وغيرهم ، (لا يَعْلَمُونَ) : نفى عنهم العلم النافع للآخرة ، وقد أثبت لهم

٣٧٥

العلم بأحوال الدنيا. قيل : والمعنى لا يعلمون أن الأمور من عند الله ، وأن وعده لا يخلفه ، وأن ما يورده بعينه ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حق. (يَعْلَمُونَ ظاهِراً) : أي بينا ، أي ما أدّته إليهم حواسهم ، فكأن علومهم إنما هي علوم البهائم. وقال ابن عباس ، والحسن ، والجمهور : معناه ما فيه الظهور والعلوّ في الدنيا من إتقان الصناعات والمباني ومظان كسب المال والفلاحات ، ونحو هذا. وقالت فرقة : معناه ذاهبا زائلا ، أي يعلمون أمور الدنيا التي لا بقاء لها ولا عاقبة. وقال الهذلي :

وعيرها الواشون أني أحبها

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

أي : زائل. وقال ابن جبير : (ظاهِراً) ، أي يعلمون من قبل الكهنة مما يسترقه الشياطين. وقال الرماني : كل ما يعلم بأوائل الرؤية فهو الظاهر ، وما يعلم بدليل العقل فهو الباطن. وقال الزمخشري : (يَعْلَمُونَ) بدل من قول : (لا يَعْلَمُونَ) ، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه ، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده ، لنعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله : (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) : يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا ، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز للآخرة ، يتزود إليها منها بالطاعة والأعمال الصالحة ؛ وهم الثانية توكيد لهم الأولى ، أو مبتدأ. وفي إظهارهم على أي الوجهين ، كانت تنبيه على غفلتهم التي صاروا ملتبسين بها ، لا ينفكون عنها. و (فِي أَنْفُسِهِمْ) : معمول ليتفكروا ، إما على تقدير مضاف ، أي في خلق أنفسهم ليخرجوا من الغفلة ، فيعلموا أنهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا فقط ، ويستدلوا بذلك على الخالق المخترع.

ثم أخبر عقب هذا بأن الحق هو السبب في خلق السموات والأرض ؛ وأما على أن يكون (فِي أَنْفُسِهِمْ) ظرفا للفكرة في خلق السموات والأرض ، فيكون (فِي أَنْفُسِهِمْ) توكيدا لقوله : (يَتَفَكَّرُوا) ، كما تقول : أبصر بعينك واسمع بأذنك. وقال الزمخشري : في هذا الوجه كأنه قال : أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم؟ أي في قلوبهم الفارغة من الفكر. والفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك. وقال أيضا : يكون صلة المتفكر ، كقولك : تفكر في الأمر وأجال فكره. و (ما خَلَقَ اللهُ) متعلق بالقول المحذوف ، معناه : أو لم يتفكروا ، فيقولوا هذا القول؟ وقيل معناه : فيعلموا ، لأن في الكلام دليلا عليه. انتهى. والدليل هو قوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا). وقيل : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) متصل بما بعده ، ومثله : ثم (يَتَفَكَّرُوا

٣٧٦

ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) (١) ، ومثله : (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٢) ، فيكون في بمعنى الباء ، ثم (يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ) ، كأنه قال : أو لم يتفكروا بقلوبهم فيعلموا. انتهى. ويجوز أن يكون تفكروا هنا معلقة ، ومتعلقها الجملة من قوله : (ما خَلَقَ) إلى آخرها. و (فِي أَنْفُسِهِمْ) : ظرف على سبيل التأكيد ، لأن الفكر لا يكون إلا في النفس ، كما أن الكتابة لا تكون إلا باليد. و (بِالْحَقِ) : في موضع الحال ، أي وهي ملتبسة بالحق مقترنة به ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه وهو : قيام الساعة ، ووقت الحساب والثواب والعقاب. ألا ترى إلى قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (٣). كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثا؟ والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمى.

وقال ابن عطية : (إِلَّا بِالْحَقِ) ، أي بسبب المنافع التي هي حق واجب ، يريد من الدلالة عليه والعبادة له دون فتور ، والانتصار للعبرة ومنافع الإرفاق وغير ذلك. (وَأَجَلٍ) عطف على الحق ، أي وبأجل مسمى ، وهو يوم القيامة. ففي الآية إشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية هذا العالم. ثم أخبر عن كثير من الناس أنهم كفروا بذلك المعنى ، فعبر عنها بلقاء الله ، لأن لقاء الله هو عظيم الأمر ، فيه النجاة والهلكة. انتهى.

وقال أبو عبد الله الرازي : قدم هنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق ، وفي : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) (٤) دلائل الآفاق على دلائل الأنفس ، وحكمة ذلك أن المفيد يذكر الفائدة على وجه يختارها ، فإن فهمت ، وإلا انتقل إلى الأبين. والمستفيد يفهم أولا الأبين ، ثم يرتقي إلى الأخفى. وفي (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) بفعل مسند إلى السامع ، فبدأ بما يفهم أولا ، ثم ارتقى إليه ثانيا. وفي (سَنُرِيهِمْ) (٥) أسند إلى المفيد ، فذكر أولا الآفاق ، فإن لم يفهموا ، فالأنفس ، إذ لا ذهول للإنسان عن دلائلها ، بخلاف دلائل الآفاق ، لأنه قد يذهل عنها ، وهذا مراعى في (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) (٦) الآية. بدأ بأحوال الأنفس ، ثم بدلائل الآفاق. وقال أيضا هنا : (وَإِنَّ كَثِيراً) ، و (قَبْلُ) ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) ، وذلك أن هنا ذكر كثيرا بعد ذكر الدلائل الواضحة ، وهما : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) ، و (ما خَلَقَ اللهُ). والإيمان بعد الدلائل أكثر من الإيمان قبلها ، فبعد ذكر الدليل ، لا بد أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع ، فلا يبقى الأكثر. انتهى ، وفيه تلخيص. ولا

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٤.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٤٨.

(٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١١٥.

(٤) سورة فصلت : ٤١ / ٥٣.

(٥) سورة فصلت : ٤١ / ٥٣.

(٦) سورة آل عمران : ٣ / ١٩١.

٣٧٧

يتم كلامه الأول إلا إذا جعل (فِي أَنْفُسِهِمْ) محلا للتفكر ، وجعل (ما خَلَقَ) أيضا محلا ثانيا.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) : هذا تقرير توبيخ ، أي قد ساروا ونظروا إلى ما حمل ممن كان قبلهم من مكذبي الرسل ، ووصف حالهم من الشدة وإثارة الأرض وعمارتها ، وأنهم أقوى منهم في ذلك. قال مجاهد : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) : حرثوها. وقال الفراء :

قلبوها للزراعة. وقال غيرهما : قلبوا وجه الأرض لاستنباط المياه ، واستخراج المعادن ، وإلقاء البذر فيها للزراعة ؛ والإثارة : تحريك الشيء حتى يرتفع ترابه. وقرأ أبو جعفر : وآثاروا الأرض ، بمدة بعد الهمزة. وقال ابن مجاهد : ليس بشيء ، وخرجه أبو الفتح على الإشباع كقوله :

ومن ذم الزمان بمنتزاح

وقال : من ضرورة الشعر ، ولا يجيء في القرآن. وقرأ أبو حيوة : وآثروا من الإثرة ، وهو الاستبداد بالشيء. وقرىء : وأثروا الأرض : أي أبقوا عنها آثارا. (وَعَمَرُوها) : من العمارة ، أي بقاؤهم فيها أكثر من بقاء هؤلاء ، أو من العمران : أي سكنوا فيها ، أو من العمارة. قال الزمخشري : (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) : من عمارة أهل مكة ، وأهل مكة أهل واد غير ذي زرع ، ما لهم إثارة الأرض أصلا ، ولا عمارة لهم رأسا ، فما هو إلّا تهكم بهم وتضعيف حالهم في دنياهم ، لأن معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة ، وهم أيضا ضعاف القوى. (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) : قبله محذوف ، أي فكذبوهم فأهلكوا. وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ) بالرفع اسما لكان ، وخبرها (السُّواى) ، أو هو تأنيث الأسوإ ، أفعل من السوء. (أَنْ كَذَّبُوا) : مفعول من أجله متعلق بالخبر ، لا بأساء ، وإلا كان فيه الفصل بين الصلة ومتعلقها بالخبر ، وهو لا يجوز ؛ والمعنى : ثم كان عاقبتهم ، فوضع المظهر موضع المضمر. (السُّواى) : أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة ، وهي جهنم. ويجوز أن تكون (السُّواى) مصدرا على وزن فعلى ، كالرجعى ، وتكون خبرا أيضا. ويجوز أن تكون مفعولا بأساء بمعنى اقترفوا ، وصفة مصدر محذوف ، أي الإساءة السوأى ، ويكون خبر كان (أَنْ كَذَّبُوا). وقرأ الأعمش والحسن : السوي ، بإبدال الهمزة واوا وإدغام الواو فيها ، كقراءة من قرأ : (بِالسُّوءِ) (١) ،

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٥٣.

٣٧٨

بالإدغام في يوسف. وقرأ ابن مسعود : السوء ، بالتذكير. وقرأ الكوفيون وابن عامر : (عاقِبَةَ) ، بالنصب ، خبر كان ، والاسم السوأى ، أو السوء مفعول ، وكذبوا الاسم. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون أن بمعنى : أي تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء ، كانت في بمعنى القول ، نحو : نادى وكتب. ووجه آخر ، وهو أن يكون (أَساؤُا السُّواى) بمعنى : اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايات ، و (أَنْ كَذَّبُوا) عطف بيان لها ، وخبر كان محذوف ، كما يحذف جواب لما ولو إرادة الإبهام. انتهى. وكون أن هنا حرف تفسير متكلف جدا. وأما قول الخطايات فكذا هو في النسخة التي طالعناها ، جمع جمع تكسير بالألف والتاء ، وذلك لا ينقاس ، إنما يقتصر فيه على مورد السماع ، ولا يبعد أن يكون زيادة التاء في الخطايات من الناسخ. وأما قوله : (أَنْ كَذَّبُوا) عطف بيان لها ، أي للسوأى ، وخبر كان محذوف إلخ. فهذا فهم أعجمي ، لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف ، فيتكلف له محذوفا لا يدل عليه دليل. وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان وأخواتها ، لا اقتصارا ولا اختصارا ، إلا إن ورد منه شيء ، فلا ينقاس عليه.

وقرأ عبد الله وطلحة : يبدىء ، بضم الياء وكسر الدال ؛ والجمهور : بفتحها ؛ والأبوان : يرجعون ، بياء الغيبة ؛ والجمهور : بتاء الخطاب ، أي إلى ثوابه وعقابه ؛ والجمهور : يبلس ، بكسر اللام ؛ وعلي والسلمي : بفتحها ، من أبلسه إذا أسكته ؛ والجمهور : ولم يكن ، بالياء ؛ وخارجة والأريس ، كلاهما عن نافع ، وابن سنان عن أبي جعفر ، والأنطاكي عن شيبة : بتاء التأنيث. (مِنْ شُرَكائِهِمْ) : من الذين عبدوهم من دون الله ، وهي الأوثان ، وأضيفوا إليهم لأنهم أشركوهم في أموالهم ، وقيل : لأنهم اتخذوها بزعمهم شركاء لله. وقال مقاتل : المراد بهم الملائكة شفعاء لله ، كما زعموا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١). (وَكانُوا) معناه : ويكون عند معاينتهم أمر الله وفساد حال الأصنام عبر بالماضي ، لتيقن الأمر وصحة وقوعه. وكتب السوأى بالألف قبل الياء ، كما كتبوا علماء بني إسرائيل بواو قبل الألف والتنوين في (يَوْمَئِذٍ) ، تنوين عوض من الجملة المحذوفة ، أي (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) ، يوم إذ (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ). والضمير في (يَتَفَرَّقُونَ) للمسلمين والكافرين ، لدلالة ما بعده عليه. قال الزمخشري : ويظهر أنه عائد على ما قبله ، إذ قبله : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). قال قتادة : هي فرقة ، لا اجتماع بعدها.

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٣.

٣٧٩

(فِي رَوْضَةٍ) ، الروضة ، الأرض ذات النبات والماء ، وفي المثل : أحسن من بيضة ، يريدون : بيض النعامة ، والروضة مما تعجب العرب ، وقد أكثروا من مدحها في أشعارهم. (يُحْبَرُونَ) : يسرون. حبره : سره سرورا ، وتهلل له وجهه وظهر له أثره. يحبر بالضم ، حبرا وحبرة وحبورا ، وفي المثل : امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينتظرون العبرة. وحكى الكسائي : حبرته : أكرمته ونعمته. وقال علي بن سليمان : هو من قولهم : على أسنانه حبرة ، أي أثر ، أي يسير عليهم أثر النعمة. وقيل : من التحبير ، وهو التحسين ، أي يحسنون. ويقال : فلان حسن الحبر والسبر ، بالفتح ، إذا كان جميلا حسن الهيئة. وقال ابن عباس ، والضحاك ، ومجاهد : يكرمون. وقال يحيى بن أبي كثير ، والأوزاعي ، ووكيع : يسمعون الأغاني. وقال أبو بكر ، وابن عباس : يتوجون على رؤوسهم. وقال ابن كيسان : يحلون. ومعنى (مُحْضَرُونَ) : مجموعون له ، لا يغيب أحد منهم عنه بقوله : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) (١) ، وجاء في روضة منكرا وفي العذاب معرفا. قال الزمخشري : والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه ، وجاء يحبرون بالفعل المضارع لاستعماله للتجدد ، لأنهم كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة. وجاء (مُحْضَرُونَ) باسم الفاعل لاستعماله للثبوت ، فهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين ، فهو وصف لا ذم لهم.

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ ، وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ، وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ ، وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ، وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ).

لما بين تعالى عظيم قدرته في خلق السموات والأرض بالحق ، وهو حالة ابتداء العالم ، وفي مصيرهم إلى الجنة والنار ، وهي حالة الانتهاء ، أمر تعالى بتنزيهه من كل

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٣٧.

٣٨٠