البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

يعلمون القرآن المنزل عليك هو الحق. وقيل : ويرى منصوب عطفا على ليجزي ، وقاله الطبري والثعلبي ؛ وتقدّم الخلاف في (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) في ذلك المكان الذي نزلت فيه هذه السورة. وقال الزمخشري : أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علما لا يزاد عليه في الاتفاق ، ويحتجوا به على الذين كفروا وتولوا. ويجوز أن يريد : وليعلم من لم يؤمن من الأخيار أنه هو الحق ، فيزداد حسرة وغما. انتهى. وإنما قال : عند مجيء الساعة ، لأنه علق ليجزي بقوله : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ، فبنى التخريج على ذلك. وقرأ الجمهور : الحق بالنصب ، مفعولا ثانيا ليرى ، وهو فصل ؛ وابن أبي عبلة : بالرفع جعل هو مبتدأ والحق خبره ، والجملة في موضع المفعول الثاني ليرى ، وهو لغة تميم ، يجعلون ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ، قاله أبو عمر الجرمي. والظاهر أن الفاعل ليهدي هو ضمير الذي أنزل ، وهو القرآن ، وهو استئناف إخبار. وقيل : هو في موضع الحال على إضمار ، وهو يهدي ، ويجوز أن يكون معطوفا على الحق ، عطف الفعل على الاسم ، كقوله : (صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) (١) ، أي قابضات ، كما عطف الاسم على الفعل في قوله :

فألفيته يوما يبير عدوه

وبحر عطاء يستحق المعابرا

عطف وبحر على يبير ، وقيل : الفاعل بيهدي ضمير عائد على الله ، وفيه بعد. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : هم قريش ، قال بعضهم لبعض على جهة التعجب والاستهزاء ، كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه : هل أدلك على قصة غريبة نادرة؟ لما كان البعث عندهم من المحال ، جعلوا من يخبر عن وقوعه في حيز من يتعجب منه ، وأتوا باسمه ، عليه‌السلام ، نكرة في قوله : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ)؟ وكان اسمه أشهر علم في قريش ، بل في الدنيا ، وإخباره بالبعث أشهر خبر ، لأنهم أخرجوا ذلك مخرج الاستهزاء والتحلي ببعض الأحاجي المعمولة للتلهي والتعمية ، فلذلك نكروا اسمه. وقرأ الجمهور : (يُنَبِّئُكُمْ) بالهمز ؛ وزيد بن علي : بإبدال الهمزة ياء محضة. وحكى عنه الزمخشري : ينبئكم ، بالهمز من أنبأ ، وإذا جوابها محذوف تقديره : تبعثون ، وحذف لدلالة ما بعده عليه ، وهو العامل إذا ، على قول الجمهور. وقال الزجاج ذلك ، وقال أيضا هو والنحاس : العامل (مُزِّقْتُمْ). قال ابن عطية : هو خطأ وإفساد للمعنى. انتهى. وليس بخطأ ولا إفساد للمعنى ، وإذا الشرطية مختلف في العامل فيها ، وقد بينا ما كتبناه في (شرح التسهيل) أن الصحيح أن يعمل فيها فعل الشرط ، كسائر أدوات الشرط. والجملة الشرطية يحتمل أن تكون معمولة لينبئكم ، لأنه في معنى يقول

__________________

(١) سورة الملك : ٦٧ / ١٩.

٥٢١

لكم : (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ، ثم أكد ذلك بقوله : (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). ويحتمل أن يكون : (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) معمولا لينبئكم ، ينبئكم متعلق ، ولو لا اللام في خبر إن لكانت مفتوحة ، فالجملة سدت مسد المفعولين. والجملة الشرطية على هذا التقدير اعتراض ، وقد منع قوم التعليق في باب أعلم ، والصحيح جوازه. قال الشاعر :

حذار فقد نبئت أنك للذي

ستنجزى بما تسعى فتسعد أو تشقى

وممزق مصدر جاء على زنة اسم المفعول ، على القياس في اسم المصدر من كل فعل زائد على الثلاثة ، كقوله :

ألم تعلم مسرحي القوافي

فلا عيابهن ولا اجتلابا

أي : تسريحي القوافي. وأجاز الزمخشري أن يكون ظرف مكان ، أي إذا مزقتم في مكان من القبور وبطون الطير والسباع ، وما ذهبت به السيول كل مذهب ، وما نسفته الرياح فطرحته كل مطرح. انتهى. و (جَدِيدٍ) ، عند البصريين ، بمعنى فاعل ، تقول : جد فهو جاد وجديد ، وبمعنى مفعول عند الكوفيين من جده إذا قطعه. والظاهر أن قوله : (أَفْتَرى) من قول بعضهم لبعض ، أي هو مفتر ، (عَلَى اللهِ كَذِباً) فيما ينسب إليه من أمر البعث ، (أَمْ بِهِ) جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه. عادلوا بين الافتراء والجنون ، لأن هذا القول عندهم إنما يصدر عن أحد هذين ، لأنه إذا كان يعتقد خلاف ما أتى به فهو مفتر ، وإن كان لا يعتقده فهو مجنون. ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال : (هَلْ نَدُلُّكُمْ) ، ردد بين الشيئين ولم يجزم بأحدهما ، حيث جوز هذا وجوز هذا ، ولم يجزم بأنه افتراء محض ، احترازا من أن ينسب الكذب لعاقل نسبة قطعية ، إذ العاقل حتى الكافر لا يرضى بالكذب ، لا من نفسه ولا من غيره ، وأضرب تعالى عن مقالتهم ، والمعنى : ليس للرسول كما نسبتم البتة ، بل أنتم في عذاب النار ، أو في عذاب الدنيا بما تكابدونه من إبطال الشرع وهو بحق ، وإطفاء نور الله وهو متم.

ولما كان الكلام في البعث قال : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ، فرتب العذاب على إنكار البعث ، وتقدم الكلام في وصف الضلال بالبعد ، وهو من أوصاف المحال استعير للمعنى ، ومعنى بعده : أنه لا ينقضي خبره المتلبس به. (أَفَلَمْ يَرَوْا) : أي هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة ، (إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : أي حيث ما تصرفوا ، فالسماء والأرض قد أحاطتا بهم ، ولا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما ، ولا يخرجوا عن ملكوت الله

٥٢٢

فيهما. وقال الزمخشري : أعموا فلم ينظروا ، جعل بين الفاء والهمزة فعلا يصح العطف عليه ، وهو خلاف ما ذهب إليه النحويون من أنه لا محذوف بينهما ، وأن الفاء للعطف على ما قبل همزة الاستفهام ، وأن التقدير فالم ، لكن همزة الاستفهام لما كان لها الصدر قدمت ، وقد رجع الزمخشري إلى مذهب النحويين في ذلك ، وقد رددنا عليه هذا المذهب فيما كتبناه في (شرح التسهيل). وقفهم تعالى على قدرته الباهرة ، وحذرهم إحاطتها بهم على سبيل الإهلاك لهم ، وكان ثم حال محذوفة ، أي أفلا يرون إلى ما يحيط بهم من سماء وأرض مقهور تحت قدرتنا نتصرف فيه كما نريد؟

(إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) ، كما فعلنا بقارون ، (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) ، كما فعلنا بأصحاب الظلة ، أو (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) محيطا بهم ، وهم مقهورون تحت قدرتنا؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ) النظر إلى السماء والأرض ، والفكر فيهما ، وما يدلان عليه من قدرة الله ، (لَآيَةً) : لعلامة ودلالة ، (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) : راجع إلى ربه ، مطيع له. قال مجاهد : مخبت. وقال الضحاك : مستقيم. وقال أبو روق : مخلص في التوحيد. وقال قتادة : مقبل إلى ربه بقلبه ، لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقابه من يكفر به. وقرأ الجمهور : إن نشأ نخسف ونسقط بالنون في الثلاثة ؛ وحمزة والكسائي ، وابن وثاب ، وعيسى ، والأعمش ، وابن مطرف : بالياء فيهن ؛ وأدغم الكسائي الفاء في الباء في نخسف بهم. قال أبو علي : وذلك لا يجوز ، لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء ، فلا تدغم فيها ، وإن كانت الباء تدغم في الفاء ، نحو : اضرب فلانا ، وهذا ما تدغم الباء في الميم ، كقولك : اضرب مالكا ، ولا تدغم الميم في الباء ، كقولك : اصمم بك ، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغنة التي في الميم. وقال الزمخشري : وقرأ الكسائي نخسف بهم ، بالإدغام ، وليست بقوية. انتهى. والقراءة سنة متبعة ، ويوجد فيها الفصيح والأفصح ، وكل ذلك من تيسيره تعالى القرآن للذكر ، فلا التفات لقول أبي علي ولا الزمخشري.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ، أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ ، يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ، فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ

٥٢٣

الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ).

مناسبة قصة داود وسليمان ، عليهما‌السلام ، لما قبلها ، هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته عندهم ، فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره ، إذ طفحت ببعضه أخبارهم وشعراؤهم على ما يأتي ذكره ، إن شاء الله ، من تأويب الجبال والطير مع داود ، وإلانة الحديد ، وهو الجرم المستعصي ، وتسخير الريح لسليمان ، وإسالة النحاس له ، كما ألان الحديد لأبيه ، وتسخير الجن فيما شاء من الأعمال الشاقة.

وقيل : لما ذكر من ينيب من عباده ، ذكر من جملتهم داود ، كما قال : (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) (١) ، وبين ما آتاه الله على إنابته فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) ، وقيل : ذكر نعمته على داود وسليمان ، عليهما‌السلام ، احتجاجا على ما منح محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي لا تستبعدوا هذا ، فقد تفضلنا على عبيدنا قديما بكذا وكذا. فلما فرغ التمثيل لمحمد ، عليه‌السلام ، رجع التمثيل لهم بسبأ ، وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو. انتهى. والفضل الذي أوتي داود : الزبور ، والعدل في القضاء ، والثقة بالله ، وتسخير الجبال ، والطير ، وتليين الحديد ، أقوال. (يا جِبالُ) : هو إضمار القول ، إما مصدر ، أي قولنا (يا جِبالُ) ، فيكون بدلا من (فَضْلاً) ، وأما فعلا ، أي قلنا ، فيكون بدلا من (آتَيْنا) ، وإما على الاستئناف ، أي قلنا (يا جِبالُ) ، وجعل الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت إلا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته ، ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية ، حيث نادى الجبال وأمرها. وقرأ الجمهور : (أَوِّبِي) ، مضاعف آب يؤب ، ومعناه : سبحي معه ، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد. وقال مؤرج ، وأبو ميسرة : أوبي : سبحي ، بلغة الحبشة ، أي يسبح هو وترجع هي معه التسبيح ، أي تردد بالذكر ، وضعف الفعل للمبالغة ، قاله ابن عطية. ويظهر أن التضعيف للتعدية ، فليس للمبالغة ، إذ أصله آب ، وهو لازم بمعنى : رجع اللازم فعدى بالتضعيف ، إذ شرحوه بقولهم : رجعي معه التسبيح.

قال الزمخشري : ومعنى تسبيح الجبال : أن الله يخلق فيها تسبيحا ، كما خلق الكلام في الشجرة ، فيسمع منها ما يسمع من المسبح ، معجزة لداود. قيل : كان ينوح على ذنبه

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٢٤.

٥٢٤

بترجيع وتحزين ، وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها. انتهى. وقوله : كما خلق الكلام في الشجرة ، يعني أن الذي يسمع موسى هو مما خلقه الله في الشجرة من الكلام ، لا أنه كلام الله حقيقة ، وهو مذهب المعتزلة. وأما قوله : تساعده الجبال على نوحه بأصدائها فليس بشيء ، لأن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة ، والله تعالى نادى الجبال وأمرها بأن تؤوب معه ، والصدى لا تؤمر الجبال بأن تفعله ، إذ ليس فعلا لها ، وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما يقوم عليه البرهان. وقال الحسن : معنى (أَوِّبِي مَعَهُ) : سيري معه أين سار ، والتأويب : سير النهار. كأن الإنسان يسير الليل ثم يرجع للسير بالنهار ، أي يردده ، وقال تميم بن مقبل :

لحقنا بحي أوبوا السير بعد ما

رفعنا شعاع الشمس والطرف تجنح

وقال آخر :

يومان يوم مقامات وأندية

ويوم سير إلى الأعداء تأويب

وقيل : أوّبي : تصرفي معه على ما يتصرف فيه. فكان إذا قرأ الزبور ، صوتت الجبال معه وأصغت إليه الطير ، فكأنها فعلت ما فعل. وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابن أبي إسحاق : أوبي ، أمر من أوب : أي رجعي معه في التسبيح ، أو في السير ، على القولين.

فأمر الجبال كأمر الواحدة المؤنثة ، لأن جمع ما لا يعقل يجوز فيه ذلك ، ومنه : يا خيل الله اركبي ، ومنه : يا رب أخرى ، وقد جاء ذلك في جميع ما يعقل من المؤنث ، قال الشاعر :

تركنا الخيل والنعم المفدى

وقلنا للنساء بها أقيمي

لكن هذا قليل. وقرأ الجمهور : (وَالطَّيْرَ) ، بالنصب عطفا على موضع (يا جِبالُ). قال سيبويه : وقال أبو عمرو : بإضمار فعل تقديره : وسخرنا له الطير. وقال الكسائي : عطفا على (فَضْلاً) ، أي وتسبيح الطير. وقال الزجاج : نصبه على أنه مفعول معه. انتهى ، وهذا لا يجوز ، لأن قبله معه ، ولا يقتضي الفعل اثنين من المفعول معه إلا على البدل أو العطف ، فكما لا يجوز : جاء زيد مع عمرو مع زينب إلا بالعطف ، كذلك هذا. وقرأ السلمي ، وابن هرمز ، وأبو يحيى ، وأبو نوفل ، ويعقوب ، وابن أبي عبلة ، وجماعة من أهل المدينة ، وعاصم في رواية : والطير ، بالرفع ، عطفا على لفظ (يا جِبالُ) ؛ وقيل : عطفا على الضمير في (أَوِّبِي) ، وسوغ ذلك الفصل بالظرف ؛ وقيل : رفعا بالابتداء ، والخبر محذوف ، أي والطير تؤوّب. وإلانة الحديد ، قال ابن عباس وقتادة : صار كالشمع. وقال

٥٢٥

الحسن : كالعجين ، وكان يعمله من غير نار. وقال السدي : كالطين المبلول والعجين والشمع ، يصرفه كيف شاء من غير نار ولا ضرب مطرقة. وقيل : أعطي قوة يلين بها الحديد. وقال مقاتل : وكان يفرغ من الدرع في بعض يوم أو في بعض ليلة ثمنها ألف درهم ، وكان داود يتنكر فيسأل الناس عن حاله ، فعرض له ملك في صورة إنسان فسأله ، فقال : نعم العبد لو لا خلة فيه ، فقال : وما هي؟ فقال : يرتزق من بيت المال ، ولو أكل من عمل يده تمت فضائله ، فدعا الله أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه ، فعلمه صنعة الدروع وألان له الحديد فأثرى ، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين. وأن في (أَنِ اعْمَلْ) مصدرية ، وهي على إسقاط حرف الجر ، أي ألناه لعمل (سابِغاتٍ). وأجاز الحوفي وغيره أن تكون مفسرة ، ولا يصح ، لأن من شرطها أن يتقدمها معنى القول ، وأن ليس فيه معنى القول. وقدر بعضهم قبلها فعلا محذوفا حتى يصح أن تكون مفسرة ، وتقديره : وأمرناه أن اعمل ، أي اعمل ، ولا ضرورة تدعو إلى هذا المحذوف. وقرىء : صابغات ، بالصاد بدلا من السين ، وتقدم أنها لغة في قوله : وأسبغ عليكم نعمه. (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) ، قال ابن زيد : هو في قدر الحلقة ، أي لا تعملها صغيرة فتضعف ، فلا يقوى الدرع على الدفاع ، ولا كبيرة فينال لابسها من خلالها. وقال ابن عباس : هو في المسمار ، لا يرق فينكسر ، ولا يغلظ فيفصم ، بالفاء وبالقاف. وقال قتادة : إن الدروع كانت قبل صفائح كانت ثقالا ، وهو أول من صنع الدرع حلقا. والظاهر أن الأمر في قوله : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ) لآل داود ، وإن لم يجر لهم ذكر. ويجوز أن يكون أمرا لداود شرفه الله بأن خاطبه خطاب الجمع.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) ، قال الحسن : عقر سليمان الخيل على ما فوتته من صلاة العصر ، فأبدله الله خيرا منها ، وأسرع الريح تجري بأمره. وقرأ الجمهور : الريح بالنصب ، أي ولسليمان سخرنا الريح ؛ وأبو بكر : بالرفع على الابتداء ، والخبر في المجرور ، ويكون الريح على حذف مضاف ، أي تسخير الريح ، أو على إضمار الخبر ، أي الريح مسخرة. وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وخالد بن الياس : الرياح ، بالرفع جمعا. وقال قتادة : كانت تقطع في الغدو إلى قرب الزوال مسيرة شهر ، وفي الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر. وقال الحسن : فخرج من مستقره بالشام يريد تدمر التي بنتها الجن بالصفاح والعمد ، فيقيل في إصطخر ويروح منها فيبيت في كابل من أرض خراسان. والغدو ليس الشهر هو على حذف مضاف ، أي جري غدوها ، أي جريها في الغدو مسيرة شهر ، وجري رواحها ، أي جريها في الرواح مسيرة شهر. وأخبر هنا في الغدو عن الرواح بالزمان وهو شهر ، ويعني

٥٢٦

شهرا واحدا كاملا ، ونصب شهر جائز ، ولكنه لم يقرأ به فيما أعلم. وقرأ ابن أبي عبلة : غدوتها وروحتها على وزن فعلة ، وهي المرة الواحدة من غدا وراح. وقال وهب : كان مستقر سليمان ، عليه‌السلام ، بتدمر ، وكانت الجن قد بنتها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأشقر ، وفيه يقول النابغة :

ألا سليمان قد قال الإله له

قم في البرية فاصددها عن العبد

وجيش الجن إني قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصفاح والعمد

ووجدت أبياتا منقورة في صخرة بأرض يشكر شاهدة لبعض أصحاب سليمان ، عليه‌السلام ، وهي :

ونحن ولا حول سوى حول ربنا

نروح من الأوطان من أرض تدمر

إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا

مسيرة شهر والغدو لآخر

أناس أعز الله طوعا نفوسهم

بنصر ابن داود النبي المطهر

لهم في معاني الدين فضل ورفعة

وإن نسبوا يوما فمن خير معشر

وإن ركبوا الريح المطيعة أسرعت

مبادرة عن يسرها لم تقصر

تظلهم طير صفوف عليهم

متى رفرفت من فوقهم لم تنشر

انتهى ما حكى وهب. (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) : الظاهر أنه جعله له في معدنه عينا تسيل كعيون الماء ، دلالة على نبوته. قال قتادة : يستعملها فيما يريد. وعن ابن عباس ومجاهد والسدي : أجريت له ثلاثة أيام بلياليهن ، وكانت بأرض اليمن. قال مجاهد : سالت من صنعاء ، ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله ، وكان لا يذوب. وقالت فرقة : المعنى أذبنا له النحاس على نحو ما كان الحديد يلين لداود ، عليه‌السلام. قالوا : وكانت الأعمال تتأتى منه ، وهو بارد دون نار ، وعين بمعنى الذات. وقالوا : لم يكن أولا ذاب لأحد قبله. وقال الزمخشري : أراد بها معدن النحاس نبعا له ، كما ألان الحديد لداود ، فنبع كما ينبع الماء من العين ، فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه ، كما قال : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) (١). ويحتمل (مَنْ يَعْمَلُ) أن يكون في موضع نصب ، أي وسخرنا من الجن من يعمل ، وأن يكون في موضع رفع على الابتداء ، وخبره في الجار والمجرور قبله (بِإِذْنِ رَبِّهِ) لقوله : (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا). وقرأ الجمهور : يزغ مضارع زاغ ، أي ومن

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٣٦.

٥٢٧

يعدل عن أمرنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان. وقرىء : يزغ بضم الياء من أزاغ : أي ومن يمل ويصرف نفسه عن أمرنا. و (عَذابِ السَّعِيرِ) : عذاب الآخرة ، قاله ابن عباس. وقال السدي : كان معه ملك بيده سوط من نار ، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجني. ولبعض الباطنية ، أو من يشبههم ، تحريف في هذه الجمل. إن تسبيح الجبال هو نوع قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (١) ، وإن تسخير الريح هو أنه راض الخيل وهي كالريح ، وإن (غُدُوُّها شَهْرٌ) يكون فرسخا ، لأن من يخرج للتفرج لا يسير في غالب الأمر أشد من فرسخ. وإلانة الحديد وإسالة القطر هو استخراج ذوبهما بالنار واستعمال الآلات منهما.

(وَمِنَ الْجِنِ) : هم ناس من بني آدم أقوياء شبهوا بهم في قواهم ، وهذا تأويل فاسد وخروج بالجملة عما يقوله أهل التفسير في الآية ، وتعجيز للقدرة الإلهية ، نعوذ بالله من ذلك. والمحاريب ، قال مجاهد : المشاهد ، سميت باسم بعضها تجوزا. وقال ابن عطية : القصور. وقال قتادة : كليهما. وقال ابن زيد : مساكن. وقيل : ما يصعد اليه بالدرج ، كالغرف. والتماثيل : الصور ، وكانت لغير الحيوان. وقال الضحاك : كانت تماثيل حيوان ، وكان عملها جائزا في ذلك الشرع. وقال الزمخشري : هي صور الملائكة والنبيين ، والصالحين ، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ، ليراها الناس ، فيعبدوا نحو عبادتهم ، وهذا مما يجوز أن يختلف فيه الشرائع ، لأنه ليس من مقبحات الفعل ، كالظلم والكذب. وعن أبي العالية : لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما ، أو صورا محذوفة الرؤوس. انتهى ، وفيه بعض حذف. وقيل : التماثيل طلسمات ، فيعمل تمثالا للتمساح ، أو للذباب ، أو للبعوض ، ويأمر أن لا يتجاوز ذلك الممثل به ما دام ذلك التمثال والتصوير حرام في شريعتنا. وقد ورد تشديد الوعيد على المصورين ، ولبعض العلماء استثناء في شيء منها. وفي حديث سهل بن حنيف : لعن الله المصورين ، ولم يستثن عليه الصلاة والسلام. وحكى مكي في الهداية أن قوما أجازوا التصوير ، وحكاه النحاس عن قوم واحتجوا بقوله : (وَتَماثِيلَ) ، قاله ابن عطية ، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه. وقرىء : (كَالْجَوابِ) بلا ياء ، وهو الأصل ، اجتزاء بالكسرة ، وإجراء الألف واللام مجرى ما عاقبها ، وهو التنوين ، وكما يحذف مع التنوين يحذف مع ما عاقبه ، وهو أل. والراسيات : الثابتات على الأثافي ، فلا تنقل ولا تحمل لعظمها. وقدمت المحاريب

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٤٤.

٥٢٨

على التماثيل ، لأن النقوش تكون في الأبنية. وقدم الجفان على القدور ، لأن القدور آلة الطبخ ، والجفان آلة الأكل ، والطبخ قبل الأكل ، لما بين الأبنية الملكية. وأراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور ، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيها ، والقدور لا تكون فيها ولا تحضر هناك ، ولهذا قال : (راسِياتٍ). ولما بين حال الجفان ، سرى الذهن إلى عظمة ما يطبخ فيه ، فذكر القدور للمناسبة ، وذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب لاحتياجه إلى قتال الأعداء ، وفي حق سليمان المحاريب والتماثيل ، لأنه كان ملكا ابن ملك ، قد وطد له أبوه الملك ، فكانت حاله حالة سلم ، إذ لم يكن أحد يقدر على محاربته.

وقال عقب : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) ، و (اعْمَلُوا صالِحاً) ، وعقب ما يعمله الجن : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) ، إشارة إلى أن الإنسان لا يستغرق في الدنيا ولا يلتفت إلى زخارفها ، وأنه يجب أن يعمل صالحا ، (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ). وقيل : مفعول اعملوا محذوف ، أي اعملوا الطاعات وواظبوا عليها شكرا لربكم على ما أنعم به عليكم ، فقيل : انتصب شكرا على الحال ، وقيل : مفعول من أجله ، وقيل : مفعول له باعملوا ، أي اعملوا عملا هو الشكر ، كالصلاة والصيام والعبادات كلها في أنفسها هي الشكر إذا سدت مسده ، وقيل : على المصدر لتضمينه اعملوا اشكروا بالعمل لله شكرا. روي أن مصلى آل داود لم يخل قط من قائم يصلي ليلا ونهارا ، وكانوا يتناوبونه. وكان سليمان ، عليه‌السلام ، يأكل الشعير ، ويطعم أهله الخشكار ، والمساكين الدرمك ، وما شبع قط ، فقيل له في ذلك ، فقال : أخاف إن شبعت أن أنس الجياع. و (الشَّكُورُ) : صيغة مبالغة ، وأريد به الجنس. قال ابن عباس : الشكور : من يشكر على أحواله كلها. وقال السدي : من يشكر على الشكر. وقيل : من يرى عجزه عن الشكر ، وهذه الجملة تحتمل أن تكون خطابا لآل داود ، وهو الظاهر ، وأن تكون خطابا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيها تنبيه وتحريض على الشكر.

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) : أي أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت ، وأخرجناه إلى حيز الوجود. وجواب لما النفي الموجب ، وهذا يدل على أن لما حرف لا ظرف ، خلافا لمن زعم ذلك ، لأنه لو كان ظرفا لكان الجواب هو العامل وما دخلت عليه ، وهي نافية ، ولا يعمل ما قبلها فيما بعدها ، وقد مضى لنا نظير هذا في يوسف في قوله : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (١).

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٦٨.

٥٢٩

فالضمير في (دَلَّهُمْ) عائد على الجن الذين كانوا يعملون له ، وكان سليمان قد أمر الجن ببناء صرح له ، فبنوه له. ودخله مختليا ليصفو له يوم من الدهر من الكدر ، فدخل عليه شاب فقال له : كيف دخلت عليّ بغير إذن؟ فقال : إنما دخلت بإذن ، قال : ومن أذن لك؟

قال : رب هذا الصرح. فعلم أنه ملك الموت أتى بقبض روحه ، فقال : سبحان الله ، هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفا ، فقال له : طلبت ما لم يخلق ، فاستوثق من الاتكاء على العصا ، فقبض روحه ، وبقيت الجن تعمل على عادتها. وكان سليمان قصد تعمية موته ، لأنه كان بقي من تمام بناء المسجد عمل سنة ، فسأل الله تمامها على يد الإنس والجن ، وكان يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة ، فكانوا يقولون : إنه يتحنث. وقيل : إن ملك الموت أعلمه أنه بقي من حياته ساعة ، فدعا الشياطين فبنوا له الصرح ، وقام يصلي متكئا على عصاه ، فقبض روحه وهو متكئ عليها. وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ، فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق ، فمر واحد منهم فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم يسمع ، فنظر فإذا هو قد خر ميتا ، وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة. ملك بعد موت أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وكان أبوه قد أسس بنيان المسجد موضع بساط موسى ، فمات قبل أن يتمه ، ووصى به ابنه ، فأمر الشياطين بإتمامه ، ومات قبل تمامه.

و (دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ) : هي سوسة الخشب ، وهي الأرضة. وقيل : ليست سوسة الخشب ، لأن السوسة ليست من دواب الأرض ، بل هذه حيوان من الأرض شأنه أن يأكل الخشب ، وذلك موجود. وقالت فرقة ، منها أبو حاتم : الأرض هنا مصدر أرضت الأبواب ، والخشب أكلتها الأرضة فكأنه قال : دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة. وإذا كان الأرض مصدرا ، كان فعله أرضت الدابة الخشب تأرضه أرضا فأرض بكسر الراء نحو : جدعت أنفه فجدع. ويقال : إنه مصدر لفعل مفتوح العين ، قراءة ابن عباس. والعباس بن الفضل : الأرض بفتح الراء ، لأن مصدر فعل المطاوع لفعل يكون على فعل نحو : جدع أنفه جدعا وأكلت الأسنان أكلا ، مطاوع أكلت. وقيل : الأرض بفتح الراء جمع أرضه ، وهو من إضافة العام إلى الخاص ، لأن الدابة أعم من الأرض. وقراءة الجمهور : بسكون الراء ، فالمتبادر أنها الأرض المعروفة ، وتقدم أنها مصدر لأرضت الدابة الخشب. وتأكل : حال ، أي أكلت منسأته ، وهي حال مصاحبة. وتقدم أن المنسأة هي العصا ، وكانت فيما روي من خرنوب ، وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس ، فتنبت له في محرابه كل سنة شجرة تخبره بمنافعها فيأمر فتقلع ، ويتصرف في منافعها ، وتغرس لتتناسل. فلما قرب موته ، نبتت شجرة وسألها

٥٣٠

فقالت : أنا الخرنوب ، خرجت لخراب ملكك ، فعرف أنه حضر أجله ، فاستعد واتخذ منها عصا واستدعى بزاد سنة ، والجن تتوهم أنه يتغذى بالليل. وروي أن سليمان كان في قبة ، وأوصى بعض أهله بكتمان موته عن الإنس والجن سنة ليتم البناء الذي بدىء في زمن داود ، فلما مضى لموته سنة ، خر عن العصا ونظر إلى مقدار ما تأكله الأرضة يوما وقيس عليه ، فعلم أنها أكلت العصا منه سنة. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وجماعة : منساته بألف ، وأصله منسأته ، أبدلت الهمزة ألفا بدلا غير قياسي. وقال أبو عمرو : أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقا ، فإن كانت مما لا تهمز ، فقد احتطت ، وإن كانت تهمز ، فقد يجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز. وقرأ ابن ذكوان وجماعة ، منهم بكار والوليدان بن عتبة وابن مسلم : منسأته ، بهمزة ساكنة ، وهو من تسكين التحريك تخفيفا ، وليس بقياس. وضعف النحاة هذه القراءة ، لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل التأنيث ساكنا غير الفاء. وقيل : قياسها التخفيف بين بين ، والراوي لم يضبط ، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهدا على سكون هذه القراءة قول الراجز :

صريع خمر قام من وكأته

كقومة الشيخ إلى منسأته

وقرأ باقي السبعة بالهمز مفتوحة ، وقرىء بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا ، وعلى وزن مفعالة : منساءة. وقرأت فرقة ، منهم عمر بن ثابت ، عن ابن جبير : مفصولة حرف جر وسأته بجر التاء ، قيل : ومعناه من عصاه ، يقال لها : ساة القوس وسيتها معا ، وهي يدها العليا والسفلى ، سميت العصا ساة القوس على الاستعارة ، ولا سيما إن صح النقل أنه اتخذها من شجر الخروب قبل موته ، فيكون حين اتكأ عليها ، وهي كما قطعت من شجرة خضراء ، قد اعوجت حتى صارت كالقوس. ألا ترى أنك إذا اتكأت على غصن أخضر كيف يعوج حتى يكاد يلتقي طرفاه؟ فيها لغتان : ساة وسية ، كما يقال : قحة وقحاة ، والمحذوف من ساة وسية.

(فَلَمَّا خَرَّ) : أي سقط عن العصا ميتا ، والظاهر أن الضمير في خر عائد على سليمان. وقيل : إنه لم يمت إلى أن وجد في سفر مضطجعا ، ولكنه كان في بيت مبني عليه ، وأكلت الأرضة عتبة الباب حتى خر الباب ، فعلم موته. وقال ابن عباس : مات في متعبده على فراشه ، وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة ، أي عتبة الباب ، فلما خر ، أي الباب. انتهى ، وهذا فيه ضعف ، لأنه لو كانت المنسأة هي العتبة ، وعاد الضمير عليها ، لكان التركيب : فلما خرت ، بتاء التأنيث ، ولا يجيء حذف مثل هذه التاء

٥٣١

إلا في ضرورة الشعر ، ولا يكون من ذكر المعنى على معنى العود لأنه قليل. وقرأ الجمهور : تبينت ، مبنيا للفاعل ، فاحتمل أن يكون من تبين بمعنى بان ، أي ظهرت الجن ، والجن فاعل ، وإن وما بعدها بدل من الجن. كما تقول : تبيّن زيد جهله ، أي ظهر جهل زيد ، فالمعنى : ظهر للناس جهل الجن علم الغيب ، وأن ما ادعوه من ذلك ليس بصحيح. واحتمل أن يكون من تبين بمعنى علم وأدرك ، والجن هنا خدم الجن ، وضعفتهم (أَنْ لَوْ كانُوا) : أي لو كان رؤساؤهم وكبراؤهم يعلمون الغيب ، قاله قتادة. وقال الزمخشري : أو علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم ، وأنهم لا يعلمون الغيب ، وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم ، وإنما أريد بهم التهكم كما يتهكم بمدعي الباطل إذا دحضت حجته وظهر إبطاله ، كقولك : هل تبينت أنك مبطل وأنت لا تعلم أنه لم يزل لذلك متبينا؟ انتهى.

ويجىء تبين بمعنى بان وظهر لازما ، وبمعنى علم متعديا موجود في كلام العرب. قال الشاعر :

تبين لي أن القماءة ذلة

وأن أعزاء الرجال طيالها

وقال آخر :

أفاطم إني ميت فتبيني

ولا تجزعي على الأنام بموت

أي : فتبيني ذلك ، أي اعلميه. وقال ابن عطية : ذهب سيبويه إلى أن أن لا موضع لها من الإعراب ، إنما هي موزونة ، نحو : إن ما ينزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين ، لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم. فما لبثوا : جواب القسم ، لا جواب لو. وعلى الأقوال ، الأول جواب لو. وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ : (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) ، بنصب الجن ، أي تبينت الإنس الجن ، والمعنى : أن الجن لو كانت تعلم الغيب ما خفى عليها موته ، أي موت سليمان. وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة والضعة وهو ميت. وقرأ ابن عباس ، فيما ذكر ابن خالويه ويعقوب بخلاف عنه : تبينت مبنيا للمفعول ؛ وعن ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبيّ ، وعلي بن الحسن ، والضحاك قراءة في هذا الموضع مخالفة لسواد المصحف ولما روي عنهم ، ذكرها المفسرون ، أضرب عن ذكرها صفحا على عادتنا في ترك نقل الشاذ الذي يخالف للسواد مخالفة كثيرة.

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ

٥٣٢

وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ، فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ). لما ذكر تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان ، بيّن حال الكافرين بأنعمه بقصة سبأ ، موعظة لقريش وتحذيرا وتنبيها على ما جرى لمن كفر أنعم الله ، وتقدم الكلام في سبأ في النمل. ولما ملكت بلقيس ، اقتتل قومها على ماء واديهم ، فتركت ملكها وسكنت قصرها ، وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا : لترجعنّ أو لنقتلنك ، فقالت لهم : لا عقول لكم ولا تطيعوني ، فقالوا : نطيعك ، فرجعت إلى واديهم ، وكانوا إذا مطروا ، أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام ، فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمساءة بالصخر والقار ، وحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة فيها اثنا عشر مخرجا على عدد أنهارهم ، وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان ، عليه‌السلام ، ما سبق ذكره في سورة النمل. وقيل : الذي بنى لهم السد هو حمير أبو القبائل اليمنية. وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قيل : وكان لهم رئيس يلقب بالحمار ، وكان في الفترة ، فمات ولده ، فرفع رأسه إلى السماء فبزق وكفر ، فلذا يقال في المثل : أكفر من حمار ، ويقال : بركة جوف حمار ، أي كوادي حمار ، لما حال بهم السيل.

وقرأ الجمهور : في مساكنهم ، جمعا ؛ والنخعي ، وحمزة ، وحفص : مفردا بفتح الكاف ؛ والكسائي : مفردا بكسرها ، وهي قراءة الأعمش وعلقمة. وقال أبو الحسن : كسر الكاف لغة فاشية ، وهي لغة الناس اليوم ؛ والفتح لغة الحجاز ، وهي اليوم قليلة. وقال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة ، فمن قرأ الجمع فظاهر ، لأن كل أحد له مسكن ، ومن أفرد ينبغي أن يحمل على المصدر ، أي في سكناهم ، حتى لا يكون مفردا يراد به الجمع ، لأن سيبويه يرى ذلك ضرورة نحو : كلوا في بعض بطنكم تعفوا ، يريد بطونكم. وقوله :

قد عض أعناقهم جلد الجواميس

أي جلود.

٥٣٣

(آيَةٌ) : أي علامة دالة على الله وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره ، أو جعل قصتهم لأنفسهم آية ، إذ أعرض أهلها عن شكر الله عليهم ، فخربهم وأبدلهم عنها الخمط والأثل ثمرة لهم ؛ و (جَنَّتانِ) : خبر مبتدأ محذوف ، أي هي جنتان ، قاله الزجاج ، أو بدل ، قال معناه الفراء ، قال : رفع لأنه تفسير لآية. وقال مكي وغيره ، وضعفه ابن عطية ، ولم يذكر جهة تضعيفه. وقال : (جَنَّتانِ) ابتداء ، وخبره في قوله : (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ). انتهى. ولا يظهر لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها ، إلا إن اعتقد إن ثم صفة محذوفة ، أي جنتان لهم ، أو عظيمتان لهم (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) ، وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام مفلتا مما قبله. وقرأ ابن أبي عبلة : جنتين بالنصب ، على أن آية اسم كان ، وجنتين الخبر. قيل : ووجه كون الجنتين آية نبات الخمط والأثل والسدر مكان الأشجار المثمرة. قال قتادة : كانت بساتينهم ذات أشجار وثمار تسر الناس بظلالها ، ولم يرد جنتين ثنتين ، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة. انتهى. قال الزمخشري : وإنما أراد جماعة من البساتين عن يمين بلدتهم ، وأخرى عن شمالها ، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة ، كما يكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله ، كما قال : (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ) (١). انتهى. قال ابن زيد : لا يوجد فيها برغوث ، ولا بعوض ، ولا عقرب ، ولا تقمل ثيابهم ، ولا تعيا دوابهم ؛ وكانت المرأة تمشي تحت الأشجار ، وعلى رأسها المكتل ، فيمتلىء ثمارا من غير أن تتناول بيدها شيئا. وروي نحو هذا عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس.

(كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) : قول الله لهم على ألسنة الأنبياء المبعوثين إليهم ، وروي ذلك مع الإيمان بالله ، أو قول لسان الحال لهم ، كما رأوا نعما كثيرة وأرزاقا مبسوطة ، وفيه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم ، حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض. (وَاشْكُرُوا لَهُ) على ما أنعم به عليكم ، (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) : أي كريمة التربة ، حسنة الهواء ، رغدة النعم ، سليمة من الهوامّ والمضار ، (وَرَبٌّ غَفُورٌ) ، لا عقاب على التمتع بنعمه في الدنيا ، ولا عذاب في الآخرة ، فهذه لذة كاملة خالية عن المفاسد العاجلة والمآلية. وقرأ رويس : بنصب الأربعة. قال أحمد بن يحيى : اسكنوا بلدة طيبة واعبدوا ربا غفورا. وقال الزمخشري : منصوب على المدح. ولما ذكر تعالى ما كان من جانبه من الإحسان إليهم ، ذكر ما كان من جانبهم في مقابلته فقال : (فَأَعْرَضُوا) : أي عما جاء به إليهم أنبياؤهم ،

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٣٢.

٥٣٤

وكانوا ثلاثة عشر نبيا ، دعوهم إلى الله تعالى ، وذكروهم نعمه ، فكذبوهم وقالوا : ما نعرف لله نعمة ، فبين كيفية الانتقام منهم. كما قال : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) (١) ، (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (٢) ، فسلط الله عليهم الجرذ فأرا أعمى توالد فيه ، ويسمى الخلد ، وخرقه شيئا بعد شيء ، وأرسل سيلا في ذلك الوادي ، فحمل ذلك السد ، فروي أنه كان من العظم ، وكثر به الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين ، وحمل الجنات وكثيرا من الناس ممن لم يمكنه الفرار. وروي أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات ، فهلكت بهذا الوجه. وقال المغيرة بن حكيم ، وأبو ميسرة : العرم في لغة اليمن جمع عرمة وهي : كل ما بني أو سنم ليمسك الماء. وقال ابن جبير : العرم : المسناة ، بلسان الحبشة. وقال الأخفش : هو عربي ، ويقال لذلك البناء بلغة الحجاز المسناة ، كأنها الجسور والسداد ، ومن هذا المعنى قول الأعشى :

وفي ذاك للمؤتسي أسوة

مآرب عفى عليها العرم

رجام بنته لهم حمير

إذا جاش دفاعه لم يرم

فأروى الزروع وأشجارها

على سعة ماؤه إذ قسم

فصاروا أيادي لا يقدرو

ن منه على شرب طفل فطم

وقال آخر :

ومن سبأ للحاضرين مآرب

إذا بنوا من دونه سيل العرم

وقال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك : العرم اسم ، وإن ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني به. انتهى. ويمكن أن يسمى الوادي بذلك البناء لمجاورته له ، فصار علما عليه. وقال ابن عباس أيضا : العرم : الشديد ، فاحتمل أن يكون صفة للسيل أضيف فيه الموصوف إلى صفته ، والتقدير : السيل العرم ، أو صفة لموصوف محذوف ، أي سيل المطر الشديد الذي كان عنه السيل ، أو سيل الجرذ العرم ، فالعرم صفة للجرذ. وقيل : العرم اسم للجرذ ، وأضيف السيل إليه لكونه كان السبب في خراب السد الذي حمله السيل ، والإضافة تكون بأدنى ملابسة. وقرأ عروة بن الورد فيما حكى ابن خالويه : العرم ، بإسكان الراء تخفيف العرم ، كقولهم : في الكبد الكبد.

ولما غرق من غرق ، ونجا من نجا ، تفرقوا وتحرفوا حتى ضربت العرب بهم المثل

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٥٧.

(٢) سورة السجدة : ٣٢ / ٢٢.

٥٣٥

فقالوا : تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ ، قيل : الأوس والخزرج منهم. وعن ابن عباس : كان سيل ذلك الوادي يصل إلى مكة وينتفع به ، وكان سيل العرم في ملك ذي الأذعار بن حسان ، في الفترة بين عيسى ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انتهى.

ودخلت الباء في (بِجَنَّتَيْهِمْ) على الزائل ، وانتصب ما كان بدلا ، وهو قوله : (جَنَّتَيْنِ) على المعهود في لسان العرب ، وإن كان كثيرا لمن ينتمي للعلم يفهم العكس حتى قال بعضهم : ولو أبدل ضادا بظاء لم تصح صلاته ، وهو خطأ في لسان العرب ، ولو أبدل ظاء بضاد ، وقد تكلمنا على ذلك في البقرة في قوله : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) (١). وسمى هذا المعوض جنتين على سبيل المقابلة ، لأن ما كان فيه خمط وأثل وسدر لا يسمى جنة ، لأنها أشجار لا يكاد ينتفع بها. وجاءت تثنية ذات على الأصح في رد عينها في التثنية فقال : (ذَواتَيْ أُكُلٍ) ، كما جاء (ذَواتا أَفْنانٍ) (٢). ويجوز أن لا ترد فتقول : ذاتا كذا على لفظ ذات ، وتقدم ذكر الخلاف في ضم كاف أكل وسكونها. وقرأ الجمهور : أكل منونا ، والأكل : الثمر المأكول ، فخرجه الزمخشري على أنه على حذف مضاف ، أي أكل خمط قال أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل ذواتي أكل شبع. انتهى. والوصف بالأسماء لا يطرد ، وإن كان قد جاء منه شيء ، نحو قولهم : مررت بقاع عرفج كله. وقال أبو علي : البدل في هذا لا يحسن ، لأن الخمط ليس بالأكل نفسه. انتهى. وهو جائز على ما قاله الزمخشري ، لأن البدل حقيقة هو ذلك المحذوف ، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه. قال أبو علي : والصفة أيضا كذلك ، يريد لا بجنتين ، لأن الخمط اسم لا صفة ، وأحسن ما فيه عطف البيان ، كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة ومنها. انتهى. وهذا لا يجوز على مذهب البصريين ، إذ شرط عطف البيان أن يكون معرفة ، وما قبله معرفة ، ولا يجيز ذلك في النكرة من النكرة إلا الكوفيون ، فأبو علي أخذ بقولهم في هذه المسألة. وقرأ أبو عمرو : أكل خمط بالإضافة : أي ثمر خمط. وقرىء : وأثلا وشيئا بالنصب ، حكاه الفضل بن إبراهيم ، عطفا على جنتين. وقليل صفة لسدر ، وقلله لأنه كان أحسن أشجاره وأكرم ، قاله الحسن ، وذلك إشارة إلى ما أجراه عليهم من تخريب بلادهم ، وإغراق أكثرهم ، وتمزيقهم في البلاد ، وإبدالهم بالأشجار الكثيرة الفواكه الطيبة المستلذة ، الخمط والأثل والسدر. ثم ذكر سبب ذلك ، وهو كفرهم بالله وإنكار نعمه. (وَهَلْ نُجازِي) بذلك العقاب (إِلَّا الْكَفُورَ) : أي المبالغ في الكفر ، يجازي بمثل فعله قدرا بقدر ، وأما المؤمن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٠٨.

(٢) سورة الرحمن : ٥٥ / ٤٨.

٥٣٦

فجزاؤه بتفضل وتضعيف. وقرأ الجمهور : بضم الياء وفتح الزاي ، الكفور رفعا ؛ وحمزة والكسائي : بالنون وكسر الزاي ، الكفور نصبا. وقرأ مسلم بن جندب : يجزي مبنيا للمفعول ، الكفور رفعا ، وأكثر ما يستعمل الجزاء في الخير ، والمجازاة في الشر ، لكن في تقييدهما قد يقع كل واحد منهما موقع الآخر.

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) : جاءت هذه الجملة بعد قوله : (وَبَدَّلْناهُمْ) ، وذلك أنه لما ذكر ما أنعم به عليهم من جنتيهم ، وذكر تبديلها بالخمط والأثل والسدر ، ذكر ما كان أنعم به عليهم من اتصال قراهم ، وذكر تبديلها بالمفاوز والبراري. وقوله : (وَجَعَلْنا) ، وصف تعالى حالهم قبل مجيء السيل ، وهو أنه مع ما كان منهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم ، كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها وجعلهم أربابها ، وقدّر السير بأن قرب القرى بعضها من بعض. قال ابن عطية : حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في أخرى ، ولا يحتاج إلى حمل زاد. والقرى : المدن ، ويقال للجمع الصغير أيضا قرية. والقرى التي بورك فيها بلاد الشام ، بإجماع من المفسرين. والقرى الظاهرة هي التي بين الشام ومأرب ، وهي الصغار التي هي البوادي. انتهى. وما ذكره من أن القرى التي بورك فيها هي قرى الشام بإجماع ليس كما ذكر ، قال مجاهد : هي السراوي. وقال وهب : قرى صنعاء. وقال ابن جبير : قرى مأرب. وقال ابن عباس : قرى بيت المقدس. وبركتها : كثرة أشجارها أو ثمارها. ووصف قرى بظاهرة ، قال قتادة : متصلة على الطريق ، يغدون فيقيلون في قرية ، ويروحون فيبيتون في قرية. قيل : كان كل ميل قرية بسوق ، وهو سبب أمن الطريق. وقال المبرد : ظاهرة : مرتفعة ، أي في الآكام والظراب ، وهو أشرف القرى. وقيل : ظاهرة ، إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى. وقيل : ظاهرة : معروفة ، يقال هذا أمر ظاهر : أي معروف ، وقيل : ظاهرة : عامرة. وقال ابن عطية : والذي يظهر لي أن معنى ظاهر : خارجة عن المدة ، فهي عبارة عن القرى الصغار التي هي في ظواهر المدن ، كأنه فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن. وظواهر المدن : ما خرج عنها في الفيافي والفحوص ، ومنه قولهم : نزلنا بظاهر فلاة أي خارجا عنها ، وقوله : (ظاهِرَةً) : تظهر ، تسميه الناس إياها بالبادية والضاحية ، ومن هذا قول الشاعر :

فلو شهدتني من قريش عصابة

قريش البطاح لا قريش الظواهر

يعني : الخارجين من بطحاء مكة. وفي الحديث : «وجاء أهل الضواحي يسكنون الغرف».

٥٣٧

(وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) : قد ذكر أن الغادي يقيل في قرية ، والرائح في أخرى ، إلى أن يصل إلى مقصوده آمنا من عدو وجوع وعطش وآفات المسافر. قال الضحاك : مقادير المراحل كانت القرى على مقاديرها. وقال الكلبي : مقادير المقيل والمبيت ، وقال القتبي : بين كل قرية وقرية مقدار واحد معلوم ، وقيل : بين كل قريتين نصف يوم ، وهذه أقوال متقاربة. والظاهر أن قوله : (سِيرُوا) ، أمر حقيقة على لسان أنبيائهم. وقال الزمخشري : ولا قول ثم ، ولكنهم لما مكنوا من السير ، وسويت لهم أسبابه ، فكأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه. انتهى. ودخول الفاء في قوله فكأنهم لا يجوز ، والصواب كأنهم لأنه خبر لكنهم. وقال قتادة : كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان ، ولو وجد الرجل قاتل ابنه لم يهجه ، وكان المسافر لا يأخذ زادا ولا سقاء مما بسط الله لهم من النعم. وقال الزمخشري : (سِيرُوا فِيها) ، إن شئتم بالليل ، وإن شئتم بالنهار ، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات ؛ أو سيروا فيها آمنين ولا تخافون ، وإن تطاولت مدة أسفاركم فيها وامتدت أياما وليالي ؛ أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم ، فإنكم في كل حين وزمان لا تلقون فيها إلا آمنين. انتهى. وقدم الليالي ، لأنها مظنة الخوف لمن قال : ومنّ عليهم بالأمن ، حتى يساوي الليل النهار في ذلك.

ولما طالت بهم مدة النعمة بطروا وملوا العافية ، وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، كما فعلت بنو إسرائيل ، وقالوا : لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهى وأغلى قيمة ، فتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد فقالوا : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا). وقرأ جمهور السبعة : ربنا بالنصب على النداء ، باعد : طلب ؛ وابن كثير ، وأبو عمرو ، وهشام : كذلك ، إلا أنهم شددوا العين ؛ وابن عباس ، وابن الحنفية ، وعمرو بن فائد : ربنا رفعا ، بعد فعلا ماضيا مشدد العين ؛ وابن عباس أيضا ، وابن الحنفية أيضا ؛ وأبو رجاء ، والحسن ، ويعقوب ، وأبو حاتم ، وزيد بن علي ، وابن يعمر أيضا ؛ وأبو صالح ، وابن أبي ليلى ، والكلبي ، ومحمد بن علي ، وسلام ، وأبو حيوة : كذلك ، إلا أنه بألف بين الباء والعين ؛ وسعيد بن أبي الحسن أخي الحسين ، وابن الحنفية أيضا ، وسفيان بن حسين ، وابن السميفع : ربنا بالنصب ، بعد بضم العين فعلا ماضيا بين بالنصب ، إلا سعيدا منهم ، فضم نون بين جعله فاعلا ، ومن نصب ، فالفاعل ضمير يعود على السير ، أي أبعد السير بين أسفارنا ، فمن نصب ربنا جعله نداء ، فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشرا منهم وبطرا وإن جاء بعد فعلا ماضيا كان ذلك شكوى مما أحل بهم من بعد

٥٣٨

الأسفار التي طلبوها أولا ، ومن رفع ربنا فلا يكون الفعل إلا ماضيا ، وهي جملة خبرية فيها شكوى بعضهم إلى بعض مما حل بهم من بعد الأسفار. ومن قرأ باعد ، أو بعد بالألف والتشديد ، فبين مفعول به ، لأنهما فعلان متعديان ، وليس بين ظرفا. ألا ترى إلى قراءة من رفعه كيف جعله اسما؟ (فَكَذلِكَ) إذا نصب وقرىء بعد مبنيا للمفعول. وقرأ ابن يعمر : بين سفرنا مفردا ؛ والجمهور : بالجمع. (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) : عطف على (فَقالُوا). وقال الكلبي : هو حال ، أي وقد ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل. (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) : أي عظاة وعبرا يتحدث بهم ويتمثل. وقيل : لم يبق منهم إلا الحديث ، ولو بقي منهم طائفة لم يكونوا أحاديث. (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) : أي تفريقا ، اتخذه الناس مثلا مضروبا ، فقال كثير :

أيادي سبايا عز ما كنت بعدكم

فلم يحل للعينين بعدك منظر

وقال قتادة : فرقناهم بالتباعد. وقال ابن سلام : جعلناهم ترابا تذروه الرياح. وقال الزمخشري : غسان بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان ؛ وفي التحرير وقع منهم قضاعة بمكة ، وأسد بالبحرين ، وخزاعة بتهامة. وفي الحديث أن سبأ أبو عشرة قبائل ، فلما جاء السيل على مأرب ، وهو اسم بلدهم ، تيامن منهم ستة قبائل ، أي تبدّدت في بلاد اليمن : كندة والأزد والسفر ومذحج وأنمار ، التي منها بجيلة وخثعم ، وطائفة قيل لها حجير بقي عليها اسم الأب الأول ؛ وتشاءمت أربعة : لخم وجذام وغسان وخزاعة ، ومن هذه المتشائمة أولاد قتيلة ، وهم الأوس والخزرج ، ومنها عاملة وغير ذلك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي في قصص هؤلاء لآية : أي علامة. (لِكُلِّ صَبَّارٍ) ، عن المعاصي وعلى الطاعات. (شَكُورٍ) ، للنعم. والظاهر أن الضمير في (عَلَيْهِمْ) عائد على من قبله من أهل سبأ ، وقيل : هو لبني آدم. وقرأ ابن عباس ، وقتادة ، وطلحة ، والأعمش ، وزيد بن علي ، والكوفيون : (صَدَّقَ) بتشديد الدال ، وانتصب (ظَنَّهُ) على أنه مفعول بصدق ، والمعنى : وجد ظنه صادقا ، أي ظن شيئا فوقع ما ظن. وقرأ باقي السبعة : بالتخفيف ، فانتصب ظنه على المصدر ، أي يظن ظنا ، أو على إسقاط الحرف ، أي في ظنه ، أو على المفعول به نحو قولهم : أخطأت ظني ، وأصبت ظني ، وظنه هذا كان حين قال : (لَأُضِلَّنَّهُمْ) (١) ، (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ) (٢) ، وهذا مما قاله ظنا منه ، فصدق هذا الظن.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١١٩.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٣٩.

٥٣٩

وقرأ زيد بن علي ، والزهري ، وجعفر بن محمد ، وأبو الجهجاه الأعرابي من فصحاء العرب ، وبلال بن أبي برزة : بنصب إبليس ورفع ظنه. أسند الفعل إلى ظنه ، لأنه ظنا فصار ظنه في الناس صادقا ، كأنه صدقه ظنه ولم يكذبه. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو : إبليس ظنه ، برفعهما ، فظنه بدل من إبليس بدل اشتمال.

(فَاتَّبَعُوهُ) : أي في الكفر. (إِلَّا فَرِيقاً) : هم المؤمنون ، ومن لبيان الجنس ، ولا يمكن أن تكون للتبعيض لاقتضاء ذلك ، إن فريقا من المؤمنين اتبعوا إبليس. وفي قوله : (إِلَّا فَرِيقاً) ، تقليل ، لأن المؤمنين بالإضافة إلى الكفار قليل ، كما قال : لاحتنكن ذريته إلا قليلا. (وَما كانَ لَهُ) : أي لإبليس ، (عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) : أي من تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستواء ، ولا حجة إلا الحكمة بينه وبين تميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها. وعلل التسلط بالعلم ، والمراد ما تعلق به العلم ، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) موجودا ، لأن العلم متقدم أولا. انتهى. وقال معناه ابن قتيبة ، قال : لنعلم حادثا كما علمناه قبل حدوثه. وقال قتادة : ليعلم الله به المؤمن من الكافر عاما ظاهرا يستحق به العقاب والثواب ؛ وقيل : ليعلم أولياؤنا وحزبنا. وقال الحسن : والله ما كان له سوط ولا سيف ، ولكنه استمالهم فمالوا بتزيينه. انتهى. كما قال تعالى عنه : (ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (١). وقرأ الزهري : إلا ليعلم ، بضم الياء وفتح اللام ، مبنيا للمفعول. وقال ابن خالويه : إلا ليعلم من يؤمن بالياء. (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) ، إما للمبالغة عدل إليها عن حافظ ، وإما بمعنى محافظ ، كجليس وخليل. والحفظ يتضمن العلم والقدرة ، لأن من جهل الشيء وعجز لا يمكنه حفظه.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ، قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ، قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ، قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا

__________________

(١) سورة يوسف : ١٤ / ٢٢.

٥٤٠