مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-037-4
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٣٧٢

الدين بن السيّد فخر الدين بن السيّد أمير محمّد بن السيّد أحمد بن السيّد محمّد بن الإمام الهمام أبي الحسن عليّ الهادي بن الإمام محمّد الجواد بن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليهم‌السلام.

نبذة من الكرامات التي ظهرت من مشهد أبي جعفر السيّد محمّد عليهم‌السلام

رأيت بخطّ العلّامة الحجّة مولانا الميرزا محمّد الطهراني العسكري نزيل سامرّاء مجموعة كبيرة بلغة فارسيّة تتضمّن الكرامات التي ظهرت من قبور الأئمّة وأبنائهم وكرامات بعض العلماء ، ومن جملة ما ذكر فيها نيّف وأربعون كرامة لأبي جعفر السيّد محمّد سلام الله عليه بين ما رآها بعينه ، وبين ما سمعها من أهل الوثوق والإتقان ، ونحن نكتفي بذكر ستّة منها بعد تعريبها وتلخيصها من المجموعة المشار إليها.

الأوّل : تبرئة امرأة من التهمة

قال : أخبرني الشيخ الأستاذ الشيخ إسماعيل الغرباغي قال : أخبرني العلّامة الكبير السيّد إسماعيل البهبهاني أنّه قال : كنت مع جماعة من أصدقائي عند مرقد السيّد محمّد عليه‌السلام جالسين قبال بعض الحجرات المقابلة للروضة البهيّة فإذا بامرأة من الأعراب صارخة باكية تركض بشدّة ومن ورائها إخوتها ومعهم الخناجر يريدون قتلها ، فسألنا عن الخبر ، قيل لنا : إنّ هذه المرأة الصارخة تهّمتها زوجة أخيها بأنّها تراود فتى من فتيان العرب وقالت : والشاهد لذلك أنّي غسلت منديل أخيها وكان من الأبريسم له قيمة وعلّقته على خشية لا يمرّ عليها أحد إلّا هذه المرأة فهي أخذته وأعطته لمن تراوده ومن عادة العرب أنّه إذا علم بفساد أخته وابنته يقتلها لا محالة.

٣٢١

فدخلت المرأة الصارخة وأخذت الشبّاك بأنين وبكاء يصدع القلوب وتقول : يا سيّدي ، يا سبع الدجيل ، أنت أعلم بحالي وبرائتي من هذه التهمة.

قال : فبينما نحن متألّمون من حال المرأة فإذا بثور يعدو بشدّة ودخل الصحن الشريف فجاء قبال البهو وراث فسقط في خلال روثه المنديل ، فلمّا رأوا ذلك إخوة المرأة فرحوا بذلك وعلموا أنّ أختهم مصونة من هذه التهمة ، وكانت المكيدة من زوجة الأخ والمنديل ابتلعه الثور فسقط منه ببركة مولانا السيّد محمّد عليه‌السلام.

الثانية : شفاء امرأة مفلوجة خرساء

قال : أخبرني العلّامة الميرزا هادي قال : أخبرني عبد الصاحب وكان من أوثق سدنة روضة السيّد محمّد عليه‌السلام قال : كانت في بلد امرأة شابّة معقود عليها فعرضها فلج فصارت مفلوجة خرساء ، وشاع خبرها في تمام بلد ، فجاؤوا بها إلى الروضة البهيّة وأدخلوها داخلها وأغلقوا الأبواب عليها ، فلمّا مضى من الليل نصفه فإذا بالامرأة تصرخ في وسط الصحن المطهّر سالمة ناطقة ، فهجموا عليها الناس من كلّ جانب وسألوها عن القصّة ، وقال لها بعض السدنة : أنا أغلقت الأبواب ومفاتيحها عندي ، فكيف خرجت من الحرم؟

قالت : رأيت شخصا جليلا ضرب برجله عليّ وقال : قومي ليس عليك شيء ، فخرجت من الروضة سالمة.

وشاع الخبر في بلد ، وعرفها كلّ برّ وفاجر.

الثالثة : شفاء زوجة الأستاذ محمود البنّاء

قال : رأيت بعيني أنّ الأستاذ محمود المعمار الكاظمي كانت له زوجة صالحة

٣٢٢

ابتلت بمرض الاستسقاء ، وعجز الأطبّاء عن معالجتها في الكاظمين ويئسوا عن العلاج ، وأشرفت المرأة على الهلاك ، ولم تتمكّن على القعود أصلا ، وصارت كالقربة المنفوخة ، فوضعوها في المحمل وجيء بها إلى الروضة البهيّة للسيّد محمّد سلام الله عليه ، فلم تنقضي الأيّام والليالي إلّا وبرئت من ذلك المرض المزمن بغير دواء.

الرابعة : شفاء بنت من أهل كربلاء

قال دام وجوده : رأيت بعيني حين كنت عند روضة السيّد محمّد عليه‌السلام وكنت مشتغلا بعمارة الصحن الشريف أنّ بنتا من أهل كربلا دخلت الصحن الشريف ومعها أقربائها وأمّها وأبوها ، وكانت البنت في صرع شديد تشقّق ثيابها وأمّها من ورائها تصرخ صرخة الوالهة الثكلى ، وكان أبوها لازما خمارها لئلّا تبدو معاصمها. قال : فلمّا رأيت ذلك تغيّر حالي وجرت دمعتي ، فخاطبت السيّد محمّد وقلت : يا سيّدي ، بعيد عن كرمك وإفضالك الجمّ وإنعامك العام أن تردّ هذه المرأة المسكينة خائبة ، فأدخلوها الروضة البهيّة فلمّا أصبحنا رأينا البنت سالمة ليس لها أثر أصلا.

الخامسة : قضاء حاجة مهمّة

قال دام وجوده : أخبرني السيّد الجليل العابد المتهجّد الحاج ساعد السلطان الطهراني قال : كانت لي بنت زوّجتها لبعض أقاربها فبقيت منذ عشر سنين عاقرا لم تلد ، فحزنت أمّها حزنا شديدا بعد أن يئست عن المعالجة ، فجئنا بها إلى السيّد محمّد عليه‌السلام ونذرت لله إن حملت وولدت أبعث أربعين روبية إلى السيّد محمّد لتصرف في العمارة ، فقضى الله حاجتها سريعا ببركة مولانا أبي جعفر السيّد محمّد عليه‌السلام فحملت وولدت. قال : فبعثت بالمبلغ فجعلناه في مصارف العمارة.

٣٢٣

السادسة : شفاء امرأة من أهل سنقر

قال : أخبرني العلّامة الخبير الشيخ محمّد علي الحائري السنقري صاحب التصانيف الجيّدة ، في الثاني عشر من شهر جمادى الثانية من سنة ١٣٦١ في منزلي بسامرّاء قال : إنّي لمّا كنت في بلدة سنقر مشتغلا بالوظائف الشرعيّة رأيت في مدّة إقامتي بها أنّ ولد إمام الجمعة اشتغل بالتجارة وكان اسمه حاجي سيّد آقا ولأجل معاملته مع الأجانب والفجّار انحرف عن دين الإسلام والمجالسة مؤثّرة ، وصار لا يعتني بالشرع ولا بأهله ، وكنت منقطعا عنه لأجل هذا ، فاتفق أنّي سافرت إلى زيارة العتبات المقدّسة فرأيته في الكاظمين عليهما‌السلام فقلت له : ما أنت وذاك؟ جنابك لا تعتقد الزيارة ولا تعتني بأمثال ذلك؟!

فقال لي : كان الأمر على ما وصفت وما جئت للزيارة ، إنّما جئت لأمر دهمني وهو أنّ زوجتي حدث في رحمها ما عجز الأطبّاء عن معالجتها وما تركت طبيبا لا في همدان ولا في كرمانشاهان إلّا وعالجتها عنده فعقمدت المعالجة ، واتفقت كلمتهم على مباشرتها عند أطبّاء سوريا ، وإنّي عازم إلى سوريا وما أدري ما يصير إليه مآل أمري هذا.

قال : فاختلج في صدري كأنّي ألهمت بذلك فقلت له : اسمع منّي ما أقول لك ، إنّ سفرك هذا فيه نصب وتعب شديد ، وما تدري هل تنال مقصدك أم لا ، فأرى أنّك تسافر إلى مرقد السيّد محمّد عليه‌السلام وتوسّل به فأرجو أن لا ترجع إلّا مقضيّ المرام.

فقال : السيّد محمّد من هو؟ فعرّفته مقامه وفضله ، فوقع في قلبه ما قلت له ، وكنت مضطربا ممّا ذكرت له ، وقلت في نفسي : لعلّ المصلحة الإلهيّة تقتضي خلاف ما ذكرت له ، فسافر إلى مرقد السيّد محمّد وأنا رجعت إلى سنقر ، فلم تنقضي الأيّام والليالي إلّا ورجع مع عياله إلى سنقر فرحا مسرورا ، فسألته عن القصّة ، فقال :

٣٢٤

بحمد الله رجعنا عن مرقد السيّد محمّد بعد ما توسّلنا به وقد شفى الله زوجتي بعد أن كنت آيسا عن المعالجة.

قال : فحملت المرأة وولدت ذكرا سويّا ، وجاء بالطفل وأنا رأيته ، وقال : هذا من كرامة سيّدنا أبي جعفر السيّد محمّد ، فهداه الله فصار من المؤمنين المخلصين لولاء أهل بيت العصمة سلام الله عليهم.

هذه نبذة من كراماته عليه‌السلام وقد شوهد منه أمثالها ممّا يبهر العقول ، وكلّها مدوّنة في المؤلّفات ومسطورة في الكتب.

ولنعم ما قال الشيخ راضي آل ياسين من قصيدة في مدحه عليه‌السلام :

يا مرقد الطهر أبي جعفر

ثوبت في هذا الضريح الضراح

تهوي إلى من فيه أرواحنا

لأنّه للروح روح وراح

هذا الشذا من شذره فائح

وذا السنا من نوره فيك فاح

غصّت بك الحاجات معروضة

تنتظر العطف وترجو النجاح

ضاقت بها الدنيا وقد يمّمت

واديك فازت بالأماني الفصاح

قد شفعت جاه أبي جعفر

جلّلها الفوز وفاض السماح

كم منحة أولى وكم محنة

جلى وكم ذي كربة قد أراح

هذي كرامات أبي جعفر

عندك تجلوها مساء صباح

شاعت وضاءت بسناها الدنا

نورا وضائت بشذاها البطاح

وقد رواها معشر صالح

فهي الأحاديث الحسان الصحاح

وشاهد الآلاف من جيلنا

آلافها في غدوة أو رواح

لا غرو فالمدفون فيك الذي

لو لا البدا كان الإمام الصراح

وللعلّامة الأجل رئيس المجلس التميز الشرعي سيّدنا السيّد محمّد صادق الصدر ابن السيّد محمّد حسين أخ العلّامة الحجّة السيّد حسن الصدر الكاظمي رحمه‌الله تشطير لبيتين في مدحه عليه‌السلام :

٣٢٥

(إنّ الإمامة إن عدتك فلم تكن)

تعدو الفضائل شخصك المقداما

ولئن عدت نحو الزكيّ فلن ترى

(تعدوك كلّا رفعة ومقاما)

(يكفي مقامك إنّه في رتبة)

فقت الأنام وكنت ثمّ غلاما

قد كنت صدرا للعلوم ومصدرا

(لو لا البدا لأخيك كنت إماما)

وللشيخ حسن آل شيخ أسد المحقّق التستري قدّس الله نفسه في مدحه عليه‌السلام مشطّرا لهما :

(إنّ الإمامة إن عدتك فلم تكن)

سيمائها إلّا عليك لزاما

حزت الفضائل والمناقب فهي لا

(تعدوك كلّا رفعة ومقاما)

(يكفي مقامك أنّه في رتبة)

تبدي الملائك نحوه الإعظاما

ظنّ الأنام بأن تكون إمامهم

(لو لا البدا لأخيك كنت إماما)

ولقد أجاد العالم الأديب الشيخ جابر بن الشيخ مهدي بن عبد الغفّار الكاظمي رحمه‌الله في مدحه عليه‌السلام حيث يقول :

قف بجنب الدار من هذا الحمى

واترك اللهو بأوطان الدمى

وأرح نضوك أن تجهده

منجدا طورا وطورا متهما

فلكم سامك إدلاج السرى

أن ترى طول العنا والنّسما

واحبس العيس على مغنى أبي

جعفر تلق الغنا والمغنما

واخلع النعل بواديه ففي

نشر مغناه طوى بل والسما

واحظ يا سعد به إنّ به

منزل السعد الأعزّ الأعظما

فهو بيت من أتى حوزته

كعبة البيت أتى والحرما

ومزار قد تعالى شأنه

بمزور جلّ قدرا وسما

إن عدته عصمة عدّ لها

فلقد عدّ لنا معتصما

ومنار واضح الحقّ به

يزهق الباطل بين الخصما

ومطاف وفد أملاك السما

اتخذت ترب ثراها ملثما

٣٢٦

ولنعم ما قال الشاعر المفلق الخطيب الشيخ محمّد علي ابن الشيخ يعقوب النجفي في مدحه عليه‌السلام :

ما بين سامرّاء والزوراء

مثوى بساحته أطلت ثوائي

قد شاقني ذاك المقام فساقني

فرط الغرام لربعه المتنائي

متيقّنا أنّ النجاح ببابه

فأنخت آمالي به ورجائي

وضريح قدس هيبة لجلاله

يعنو الضراح له مع الجوزاء

تأتي ملوك الأرض خاضعة له

وتأمّه أملاك كلّ سماء

ألممت فيه مسلّما فقد اكتفى

غيري من التسليم بالإيماء

نجل الإمام أخ الإمام محمّد

عمّ الإمام بقيّة الأمناء

لو لا البدا حاز الإمامة بالهدى

لكنّها منصوصة بقضاء

كم من كرامات له ومناقب

جلّت عن التعداد والإحصاء

شهدت به الأعداء ما بين الورى

ومن العجيب شهادة الأعداء

ما خصّ نائله القريب وإنّما

عمّ البعيد به مع القرباء

إن يبكه الهادي أبوه فعاذر

جزعا عليه إن أطلت بكائي

ويشقّ جيب العسكريّ ولم يكن

قلبي يشقّ ولم تذب أحشائي

يا خير فرع ينتمي لأرومة

محدودة الأفنان والأفياء

حيّ الحيا بلدا بقربك إنّه

ما زال في أمن من الأسواء

أنّى يحلّ الجدب مربع أهله

وبفضلك استغنت عن الأنواء

وقد جمع العلّامة الكبير الميرزا محمّد علي الأردوبادي جملة وافية من القصائد الفاخرة في مدح مولانا أبي جعفر السيّد محمّد عليه‌السلام مع نبذة من أخباره وفضاله وكراماته على ما سمعت منه دام وجوده ، وهو كتاب ثمين في بابه ولم يزل مخطوطا.

٣٢٧

عمارة مشهده عليه‌السلام

منذ عرف هذا المقام الشريف والمرقد المنيف كان مهجورا ، والسبب في ذلك وقوعه في برية موحشة منحرفا عن طريق الزائرين ، لأنّ القاصد إلى سامرّاء يخرج مع القوافل من الكاظمين عليهما‌السلام ويبيت في الدجيل ، وفي الليلة الثانية يبيت في بلد ، وفي الثالثة في سامرّاء ، هكذا كان دأب الزائرين في مئات من السنين ، ولا يمرّ أحد بهذا المشهد خوفا من القتل والسلب ، وأكثر الزائرين لم يعرفوا هذا المشهد الشريف فضلا عن ذهابهم إلى زيارته وكان الأمر كذلك إلى أن وفّق الله الملك المؤيّد أحمد خان الدنبلي إلى تجديد عمارة مشهد العسكريّين عليهما‌السلام بسامرّاء بنظارة العلّامة المهذّب البارع الشيخ زين العابدين السلماسي قدّس الله نفسه فكان في خلال اشتغاله قد مرّ بهذا المشهد الشريف ورأى أنّ الخراب غلب عليه فشمّر عن ساعد الجدّ وبذل جهده لعمارته وجعل يستنهض أرباب الثروة من أبناء الترك والعجم لتشييد عمارته فبنى عليه قبّة من الجصّ والآجر وأحدث خانا لنزول الزائرين كما صرّح بذلك العلّامة الخبير السيّد محسن عاملي في أعيان الشيعة في ترجمة الميرزا إسماعيل بن الشيخ زين العابدين السلماسي طاب ثراهما وكان ذلك في حدود سنة ١٢٠٨ فظهر هذا المشهد الشريف لبعض الخواصّ فكانوا يزورونه مع القافلة.

ويظهر من كتاب تحفة العالم للمير عبد اللطيف التستري أنّ المولى الميرزا محمّد رفيع بن محمّد شفيع الخراساني الأصل التبريزي المسكن كانت له اليد في عمارة مشهد السيّد محمّد لأنّه كان وكيلا أيضا من قبل أحمد خان الدنبلي ، واسمه مكتوب بلون أبيض جليّ على جبهة يسار الأيوان للعسكريّين عليهما‌السلام لمن يريد الدخول في الرواق وإن لم يصرّح بذلك في تحفة العالم لأنّه كان مقدّما على الشيخ زين العابدين

٣٢٨

السلماسي ، فلمّا توفّي انتقلت النظارة والوكالة إلى السلماسي ، ذكر ذلك شيخنا الأستاذ الشيخ آقا بزرك الطهراني صاحب الذريعة في كتابه «الكرام البررة» في ذكر علماء القرن الثالث بعد العشرة ، وقال : لقب أبيه مستوفي الممالك كما في كتاب تحفة العالم الذي فرغ منه سنة ١٢١٦ وكان من الأفاضل الأعلام في الفنون العلميّة سيّما العلوم العقليّة ، وكان من أزهد الناس في عصره ، بل لا نظير له في الزهد والعرفان مع ما له من الجاه الخطير.

وفي مقدّمة طبع إيضاح الأنباء تأليف حفيده أنّه كانت وفاته في أوائل شوّال ١٢٢٢ ، وكان من أجلّاء تلاميذ الوحيد البهبهاني ، وكانت مباشرته لعمارة مشهد سامرّاء من سنة ١١٩٨ ، وذكر في تحفة العالم أنّه لقّبه أوان مباشرته بعمارة مشهد سامرّاء ، وذكره أيضا الشيخ عبد النبي القزويني في تتميم أمل الآمل ، وعدّ من مشايخه الوحيد البهبهاني والشيخ مهدي الفتوني ، وقال : الآن مشتهر بالفضل ، وما رأيته ، ومراده بالآن سنة ١١٩٨.

ثمّ وفّق الله تعالى جماعة من تجّار دولة آباد فأكملوا بناء الخان الذي بناه السلماسي فصار طريقا لبعض القوافل فكان الأمر كذلك إلى أن هاجر إلى سامرّاء آية الله المجدّد محمّد حسن الشيرازي طيّب الله رمسه فكثر أولوا الفضل والنباهة في سامرّاء فخرج قدس‌سره في بعض السنين مع جماعة من أفاضل تلاميذه من سامرّاء ماشيا على قدميه إلى السيّد محمّد عليه‌السلام وأمر بإنشاء حجرتين على ما حدّثني به العلّامة الحجّة مولانا الميرزا محمّد الطهراني ، وأخبرني أيضا أنّ الآقا خان المحلّاتي بنى الرواقين خلف الروضة البهيّة وقدّامها.

ثمّ أمر المولى الحاج مولى فتحعلي السلطان آبادي بإنشاء حوض عند البئر التي كانت على يمين الصحن الشريف.

ثمّ بنى العلّامة الخبير الميرزا حسين النوري ثماني حجر في جنوب الصحن

٣٢٩

الشريف وأربعة في طرف الغرب وكانت قبل ذلك أواوين لا يزيد عرضها على أربعة أشبار وطول الصحن الشريف لا يزيد على خمسين مترا ، وعرضه على ثمانية وعشرين مترا ، وعلوّ حاطئه على مقدار قامة وشبرين تقريبا ، فشمّر عن ساعد الجدّ العلّامة النوري قدس‌سره فألبس القبّة بالقاشاني الملوّن ، ونصب شبّاكا من الفولاذ الأصفر على المرقد المطهّر ووصف ساحة الروضة بالرخام الصيقل ، وجعل حيطانها مكسوّة بالرخام بمقدار دون القامة ، والبقيّة بالمرايا ذات الألوان ومولانا الأعظم العلّامة الخبير السيّد حسن الصدر الكاظمي رحمه‌الله يعتقد بهذا المشهد اعتقادا عظيما ويكثر من زيارته وبنى فيه الكيشوانيّة الغربيّة الجنوبيّة.

ثمّ قام بعمارة هذا المشهد الشريف مولانا الحجّة العلّامة الخبير الميرزا محمّد الطهراني العسكري نزيل سامرّاء دام وجوده ، فوسّع الصحن الشريف وأنشأ الحجرات الشماليّة ، وبنى عدّة دكاكين ومقهى وحياضا ، وجاء بمضخّة الماء فاستراح الزائرون بعد أن كانوا في مشقّة شديدة من أجل تحصيل الماء ، فبذل جهده دام وجوده في عمارة المشهد المقدّس حتّى صار بمساعيه الجميلة محطّا لرحال عامّة الزائرين ، يقصده الحاضر والبادي من كلّ فجّ عميق ، ويؤمّه الرجال والنساء زرافات ووحدانا ، وكثيرا ما يتفق أنّ الزائر يبيت في سامرّاء ليلة أو ليلتين ويبيت في جوار السيّد محمّد عليه‌السلام عشرة أيّام أو أكثر ذلك لتهيئة أسباب الراحة له في هذا المشهد أكثر من غيره وصار هذا المشهد الشريف مشهورا ، ومن المشاهد المهمّة ، وتجبى إليه النذور والهدايا الثمينة من كلّ حدب وصوب ويتبرّك به كلّ من عرف قدره من المسلمين.

ثمّ قام بعمارته جمعيّة خيريّة من أهالي طهران وغيرها بنظارة السيّد الأجل العالم المؤيّد الحاج آقا محمّد نجل العلّامة الحجّة الحاج آقا حسين القمّي رحمه‌الله فنهضوا

٣٣٠

لتشييد هذه العمارة بإرسال الأموال الطائلة إلى السيّد الأجل الحاج آقا محمّد وهو ينفقها على البنّائين والعمّالين.

والسيّد محمّد هذا تقيّ ورع خفيف الروح ، أبيّ النفس ، معروف لدى الخاصّة والعامّة ، ومن حسنات الدهر ، وإنّ نفس أبيه بين جنبيه ، وقد رأيته في بعض الأيّام بالمشهد المقدّس وعليه ثياب العمّالين ويشتغل معهم ، وكأنّه يعد نفسه منهم ، وكان يأكل معهم ويستأنس بهم ، ويستنهضهم على العمل ، وربّما تنفذ المصارف للعمارة فيسافر إلى إيران ويستنهض أولي الهمم العالية ويحرّضهم على المساعدة والمعاونة في البرّ والتقوى ، فأنشأ دام وجوده بالمشهد المقدّس حمّاما بديعا ، يؤمّه الزائرون وغيرهم.

وزاد في توسيع الصحن الشريف فجعل طوله من طرف الشرق ثمانية وسبعين مترا ونصف متر ، ومن طرف الشمال مائة متر ، وأنشأ حجرات كثيرة بلغ عددها في يومنا هذا سنة ١٣٦٦ ثماني وتسعين حجرة ، وهدم الحائط الشرقي الذي كان بين الخان وبين الصحن الشريف ، وأنشأ ثماني عشرة حجرة مع خلوتين وسراديب وميضاة للرجال والنساء ، ورصف الصحن الشريف بالسمند على أحسن تركيب بعد أن كان فيه كالجبل من التراب ، وأنشأ رواقا من جهة شرق الروضة البهيّة ، ثمّ هدم الحجرات الجنوبيّة ، وفتح بابا كبيرا للصحن الشريف والعمّالة اليوم يشتغلون بتوسيع الصحن من الجهة الجنوبيّة وجلب ثلاث مضخّات للماء ، وبنى حصنا لينصبها فيه ، ونصب بعضها في خارج المشهد للزراعة والطحين وجلب ماكينة الكهرباء وحياض الحديد والأنابيب وما يحتاج إليه.

فبلغ الأمر في يومنا هذا وهو سنة ١٣٦٦ إلى أنّ أهالي بلد يبتاعون الأراضي حول الحضرة المقدّسة لإنشاء الدور والدكاكين فنأمل أملا قويّا بأن تصير بلدة مهمّة لأنّ موادّ العمارة فيها مبذولة وهو التراب الجيّد. وكان باستطاعة بنّائي الدور

٣٣١

أن لا يتباعدوا عن مقتضيات البداعة وأن يستعملوا الموادّ المبذولة في محيطهم وتساعدهم على صنع اللبن الجيّد وفيها أتربة كليسة تصلح لتحضير الجصّ القوي ولتحضير الطابوق الجيّد ، أضف أنّها واقعة بين بلتدين كبيرتين بغداد والموصل ، والقطار يمرّ عليه ، ودجلة جار على جنبه.

وسيّدنا المشار إليه لكثرة شوقه إلى عمارة هذا المشهد الشريف يجلب الجصّ من سامرّاء والآجر من بغداد ، والسمند وأبواب الحجر من إيران ، والرخام من الموصل ، ولم يزل جادّا في العمارة وهو دام وجوده في كلّ سنة يزور بيت الله الحرام من غير أن ينوب عن أحد ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده ، فأجزل الله أجره ، وأعلى في أفق الشرف بدره.

ومنهم : السيّدة حكيمة بنت الإمام الجواد عليه‌السلام

وقد تقدّم ذكر أخبارها وجلائل فضائلها في الجزء الأوّل ولم أذكر هناك أنّها ذات بعل وولد ، وفي الأخريات ظفرت على نسخة خطّيّة في ممكتبة النسّابة شهاب الدين التبريزي في بلدة قم من نسخ عمدة الطالب فرأيت في بعض حواشيها تعليقا للعلّامة المير محمّد قاسم الحسيني السبزواري من علماء عصر الصفويّة ، قال : ولمولانا الجواد بنات منهنّ حكيمة ، تزوّجها أبو علي الحسن المحدّث بن أبي الحسن عليّ المرعش بن عبيد الله بن أبي الحسن محمّد الأكبر بن أبي محمّد الحسن المحدّث بن الحسين الأصغر ابن الإمام السجّاد ، وولدت منه أبا عبد الله الحسين وزيدا وحمزة ، وكانت حكيمة هي صاحبة القصّة في ميلاد القائم ، نقل من شجرة ابن خداع المصري.

وقال أيضا : إنّ الحسين بن عليّ الهادي عليهما‌السلام مدفون عند رجلي الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام.

٣٣٢

ومن المدفونين في سامرّاء القديمة يحيى بن عبد الحميد الحماني

ذكره المحدّث القمّي في الكنى والألقاب ، قال : يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمان ابن ميمون أبو زكريّا الحماني الكوفي ، توفّي في سامرّاء القديمة سنة ٢٢٨ ، قال : قدم بغداد وحدّث بها عن جماعة منهم سفيان بن عيينة وأبو بكر بن عيّاش ووكيع.

وذكره الخطيب في تاريخ بغداد ، وأورد روايات عن يحيى بن معين أنّه قال : يحيى ابن عبد الحميد الحماني صدوق ثقة ، وروى عنه أنّه قال : مات معاوية على غير ملّة الإسلام.

قال الخطيب : مات الحماني سنة مأتين وثمانية وعشرين بسرّ من رأى في شهر رمضان ، وكان هو أوّل من مات بسامرّاء من المحدّثين الذين أقدموا ، وكان لا يخضب وهو الذي كان مع أبي بكر بن عيّاش في مجلس إنكاره على موسى بن عيسى الهاشمي في كرب قبر الحسين عليه‌السلام ، وقصّته مذكورة في أواخر العاشر من البحار.

أقول : وكان مولانا عليّ الهادي عليه‌السلام يفضّله على الشعراء كما ذكره الشيخ في الأمالي بسنده عن خير الكاتب ، قال : دخل عليّ الهادي عليه‌السلام يوما على المتوكّل ، فقال له : يا أبا الحسن ، من أشعر الشعراء؟ وقد كان سأل قبله عليّ بن الجهم فذكر له شعراء الجاهليّة وشعراء الإسلام ، فلمّا سئل الإمام عليه‌السلام ، قال : الحماني حيث يقول :

لقد فاخرتنا من قريش عصابة

بمطّ خدود وامتداد الأصابع

فلمّا تنازعنا المقال قضى لنا

عليهم بما يهوى نداء الصوامع

فإنّ رسول الله أحمد جدّنا

ونحن بنوه كالنجوم الطوالع

٣٣٣

قال المتوكّل : وما نداء الصوامع يا أبا الحسن؟ قال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله جدّي أم جدّك؟ فضحك المتوكّل ثمّ قال : هو جدّك لا ندفعك عنه.

وأبو بكر بن عيّاش الذي أشار إليه هو من مشاهير علماء القرن الثاني ، ولد سنة ٩٨ ـ على قول ـ وفي تشيّعه اختلاف.

وقد أطنب في أعيان الشيعة في ترجمته وذكر ما ملخّصه : أبو بكر بن عيّاش بن سالم الأسدي بالولاء ، الكوفي الحنّاط المقري ، مولى واصل بن حبّان الأسدي الأحدب ، وقيل اسمه شعبة ، وقيل مطرف اسمه كنية ، وقيل لأبي بكر بن عيّاش : ما اسمك؟ قال : ولدت وقد قسمت الأسماء.

وعدّه ابن سعد في الطبقات من الطبقة الثانية ولكنّه بقي وعمّر حتّى كتب عنه الأحداث ، وكان من العباد.

وقال وكيع ونظر إليه يصلّي يوم الجمعة حين يسلّم الإمام إلى العصر ، فقال : أعرف هذا الشيخ بهذه الصلاة منذ أربعين سنة.

وكان أبو بكر ثقة صدوقا عارفا بالحديث والعلم.

وفي خلاصة تهذيب الكمال : أحد الأعلام.

وقال ابن عدي : لم أجد له حديثا منكرا إذا روى عنه ثقة.

وقال يزيد بن هارون : لم يضع جنبه إلى الأرض أربعين سنة.

وفي تذكرة الحفّاظ : أبو بكر بن عيّاش الإمام القدوة ، شيخ الإسلام ، الكوفيّ المقري.

وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن أبي بكر بن عيّاش وأبي الأحوص ، فقال : ما أقربهما لا أبالي بأيّهما بدأت.

قال : وسئل أبي عن شريك وأبي بكر بن عيّاش أيّهما أحفظ ، قال : هما في

٣٣٤

الحفظ سواء غير أنّ أبا بكر أصحّ كتابا.

قلت لأبي : أبو بكر أو عبد الله بن بشر الرقّي؟ قال : أبو بكر أحفظ منه وأوثق.

وذكره ابن حبّان في الثقات ، وهو من مشهوري مشايخ الكوفة وقرّائهم.

قال إبراهيم بن أبي بكر بن عيّاش : لمّا نزل بأبي الموت قال : يا بني ، إنّ أباك لم يأت فاحشة قطّ وإنّه يختم القرآن من ثلاثين سنة كلّ يوم مرّة ، وكان يقول : أنا نصف الإسلام ، وكان جليلا ، مات هو وهارون الرشيد في شهر واحد.

أقول : وعلى هذا توفّي في أربع ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ١٦٣ لأنّ هارون الرشيد توفّي في هذا التاريخ على ما ذكره المسعودي في مروج الذهب.

أخباره :

نقل في أعيان الشيعة عن تهذيب التهذيب ، عن يحيى الحماني وبشر بن الوليد الكندي قالا : سمعنا أبا بكر بن عيّاش يقول : جئت ليلة إلى زمزم فاستقيت منه دلوا لبنا وعسلا ، ثمّ ذكر أخبارا تشهد بتسنّنه ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّه ذكرها تقيّة.

قال يحيى بن آدم : لمّا قدم الرشيد الكوفة نزل الحيرة ثمّ بعث إلى أبي بكر بن عيّاش فحملناه إليه وكنت أنا أقوده بعد ذهاب بصره ، فلمّا انتهينا إلى باب الخليفة ذهب الحجّاب يأخذون أبا بكر منّي ، فأمسك أبو بكر بيدي وقال : هذا قائدي لا يفارقني ، فقالوا : أدخل أنت وقائدك يا أبا بكر.

قال : فدخلت به وإذا هارون جالسا وحده ، فلمّا دنا منه أنذرته ، فسلّم عليه بالخلافة فأحسن هارون الردّ ، فأجلسته حيث أمرت ، ثمّ حرجت فقعدت في مكان أراهما وأسمع كلامهما ، فجعلت أنظر إلى هارون يتلمّح أبا بكر ، وكان أبو بكر رجلا قد كبر وضعفت رقبته ، فإنّما ذقنه على صدره ، فسكت هارون عنه ساعة ثمّ

٣٣٥

قال له : يا أبا بكر ، قال : لبّيك يا أمير المؤمنين ، قال : إنّي سائلك عن أمر فأسألك بالله لمّا صدّقتني عنه ، قال : إن كان علمه عندي ، قال : إنّك قد أدركت أمر بني أميّة وأمرنا ، فأسألك بالله أيّهما كان أقرب إلى الحقّ؟

قال يحيى : فقلت في نفسي : اللهمّ وفّقه وثبّته.

فأطال أبو بكر التفكّر في الجواب ، ثمّ قال له : يا أمير المؤمنين ، أمّا بنو أميّة فكانوا أنفع للناس منكم وأنتم أقوم بالصلاة منهم.

فجعل هارون يشير بيده ويقول : إنّ في الصلاة ، ثمّ خرج فتبعه الفضل بن ربيع فقال : يا أبا بكر ، إنّ أمير المؤمنين قد أمر لك بثلاثين ألفا ، فقال أبو بكر ، فما لقائدي؟ فضحك الفضل وقال : لقائدك خمسة آلاف.

قال يحيى : فأخذت الخمسة آلاف قبل أن يأخذ أبو بكر الثلاثين.

قال أبو بكر بن عيّاش : دخلت على هارون فسلّمت وجلست ، فدخل فتى من أحسن الناس وجها فسلّم وجلس ، فقال لي هارون : يا أبا بكر ، أتعرف هذا؟ قلت : لا ، قال : هذا ابني محمّد ، أدع الله تعالى له. فقلت : يا أمير المؤمنين ، جعله الله أهلا لما جعلته له أهلا.

فسكت ، ثمّ قال : يا أبا بكر ، ألا تحدّثني ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، حدّثنا هشام بن حسان عن الحسين ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله فاتح عليكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإنّ عمّال ذلك الزمان في النار إلّا من اتّقى الله وأدّى الأمانة.

فانتفض هارون وتغيّر وقال : يا مسرور ، اكتب ، ثمّ سكت ساعة ، وقال : يا أبا بكر ، ألا تحدّثني ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، حدّثنا هشام بن حسّان ، عن الحسن قال : أتدري ما قال عمر بن الخطّاب للهروان؟ قال : وما قال له؟ قلت : قال له : ما يمنعك من حبّ المال وأنت كافر القلب ، طويل الأمل؟ قال : لأنّي قد علمت أنّ الذي لي سوف يأتيني ، والذي أخلّفه بعدي يكون وباله عليّ.

٣٣٦

ثمّ قال : يا مسرور ، أكبت ويحك ، ثمّ قال : ألك حاجة يا أبا بكر؟ قلت : تردّني كما جئت بي. قال : ليست هذه حاجة ، سل غيرها ، قلت : يا أمير المؤمنين ، لي بنات أخت ضعاف فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لهنّ بشيء. قال : قدّر لهنّ ، قلت : يقول غيري ، قال : لا يقول غيرك ، قلت : عشرة آلاف ، قال : لهنّ عشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف ، يا فضل ، اكتب بها إلى الكوفة ، والآن تحسب إليه ، ثمّ قال : انصرف ولا تنسنا من دعائك. قال : فأخذت خمسين ألف دينار وانصرفت.

قال وكيع : دخل أبو بكر بن عيّاش على موسى بن عيسى وهو على الكوفة وعنده عبد الله بن مصعب الزبيري ، وأدناه موسى ، ودعا له بتكاء فاتّكأ وبسط رجليه ، فقال الزبيري : من هذا الذي دخل ولم يستأذن ثمّ اتّكأته وبسطته؟ قال : هذا فقيه الفقهاء والرائس عند أهل المصر أبو بكر بن عيّاش.

قال الزبيري : فلا كثير ولا طيّب ولا مستحقّ لكلّ ما فعلته به.

فقال أبو بكر : يا أيّها الأمير ، من هذا الذي سأل عنّي بجهل ثمّ تتابع في جهله بسوء قول وفعل فنسبه له؟

فقال : أسكت مسكتا ؛ فبأبيك غدر ببيعتنا ، ويقول الزور خرجت آمنّا ، وبابنه هدمت كعبتنا ، وبك أحرى أن يخرج الدجّال فينا.

فضحك موسى حتّى فحص برجليه وقال للزبيري : أنا والله أعلم أنّه يحرط أهلك وأباك ويتولّاه ولكنّك مشؤوم على آبائك.

ومن شعره :

إنّ الكريم الذي تبقى مودّته

ويكتم السرّ إن صافى وإن حرما

ليس الكريم الذي إن ذلّ صاحبه

أفشى وقال عليه كلّ ما علما

وله أيضا :

٣٣٧

بلغت الثمانين أو جزتها

فماذا أؤمّل أو أنتظر

علتني الستون فأبليتني

ودقّت عظامي وكلّ البصر

أما في الثمانين من مولدي

ودون الثمانين ما يعتبر؟

وممّا يدلّ على تشيّعه كونه من أهل الكوفة والغالب عليهم التشيّع ، وروايته عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، وكون أكثر مشايخه وتلاميذه شيعة ، وربّما يرشد إليه ما ذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج ، قال : قال أبو بكر بن عيّاش : لقد ضرب عليّ بن أبي طالب ضربة ما كان في الإسلام أيمن منها ؛ ضربته عمرا يوم الخندق ، ولقد ضرب عليّ عليه‌السلام ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها ؛ يعني ضربة ابن ملجم لعنه الله.

وقال الميرزا محمّد في رجاله الكبير : أبو بكر بن عيّاش ، جاء في بعض رواياتنا ، الظاهر أنّه عاميّ كوفيّ له محبّة وميل إلى أهل البيت عليهم‌السلام ونوع تديّن.

والرواية المشار إليها هو ما رواه الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب بإسنادهما عن عبد الرحمان بن الحجّاج من أصحاب الصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام ، قال : اشتريت محملا فأعطيت بعض الثمن وتركته عند صاحبه ثمّ احتبست أيّاما ثمّ جئت إلى بايع المحمل لآخذه ، فقال : قد بعته ، فضحكت ثمّ قلت : لا والله لا أدعك أو أقاضيك ، فقال لي : أترضى بأبي بكر بن عيّاش؟ قلت : نعم ، فأتيته فقصصنا عليه قصّتنا ، فقال أبو بكر بقول من تحبّ أن أقضي بينكما : أبقول صاحبك أو غيره؟ قلت : بقول صاحبي ، قال : سمعته يقول : من اشترى شيئا فجاء بالثمن فيما بينه وبين ثلاثة أيّام وإلّا فلا بيع له ، وأراد بصاحبه الصادق أو الكاظم عليهما‌السلام.

وربّما استفاد السيّد صدر الدين العاملي فيما حكي عنه في حواشي رجال أبي علي تشيّعه ممّا رواه في التهذيب بإسناده عن هاشم الصيداني قال : كنت عند العبّاس بن موسى بن عيسى وعنده أبو بكر بن عيّاش وإسماعيل بن حمّاد بن أبي

٣٣٨

حنيفة وعليّ بن الظبيان ، ونوح بن درّاج تلك الأيّام على القضاء ، فقال العبّاس : يا أبا بكر ، أما ترى ما أحدث نوح في القضاء؟ إنّه ورّث الخال وطرح العصبة وأبطل الشفعة.

فقال أبو بكر بن عيّاش : وما عسى أن أقول للرجل قضى بالكتاب والسنّة؟ فاستوى العبّاس جالسا ، فقال : وكيف قضى بالكتاب والسنّة؟

فقال أبو بكر : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا قتل حمزة بن عبد المطّلب بعث عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فأتاه بابنة حمزة فسوّغها الميراث كلّه ، فقال له العبّاس : فظلم رسول الله جدّي ، فقال : مه أصلحك الله ، شرع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما صنع فما صنع رسول الله إلّا الحقّ.

ووجه استفادة تشيّعه من ذلك أنّه حكم بأنّ إبطال التعصيب مطابق للكتاب والسنّة وهو مذهب أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وعلمائهم ، وكيف كان فتشيّعه غير محقّق ، وإن كان محتملا أو مظنونا ، انتهى.

أقول : تشيّعه محقّق لما ذكره العلّامة المجلسي في المجلّد العاشر من البحار نقلا عن أمالي الشيخ بإسناده عن صاحب الترجمة يحيى بن عبد الحميد الحماني قال : خرجت أيّام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي الكوفة من منزلي فلقيني أبو بكر بن عيّاش فقال لي : امض بنا يا يحيى إلى هذا؟ فلم أدر من يعني ، وكنت أجلّ أبا بكر عن مراجعته وكان راكبا حمارا له ، فجعل يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه ، فلمّا صرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم ، التفت إليّ وقال : يابن الحماني ، إنّما جررتك معي وجشمتك أن تمشي خلفي لأسمعك ما أقول لهذه الطاغية.

قال : فقلت : من هو يا أبا بكر؟ قال : هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى.

فسكتّ عنه ، ومضى وأنا أتبعه حتّى إذا صرنا إلى باب موسى بن عيسى وبصر به الحاجب وبينه ، وكان الناس ينزلون عند الرحبة فلم ينزل أبو بكر هناك وكان

٣٣٩

عليه يومئذ قميص وإزار وهو محلول الإزار.

قال : فدخل وهو على حماره وناداني : تعال يابن الحماني ، فمنعني الحاجب ، فزجره أبو بكر وقال له : أتمنعه ـ يا فاعل ـ وهو معي؟! فتركني ، فما زال يسير على حماره حتّى دخل الأيوان ، فبصر بنا موسى وهو قاعد في صدر الأيوان على سريره وبجنبي السرير رجال متسلحون وكذلك كانوا يصنعون ، فلمّا أن رآه موسى رحّب به وقرّبه وأقعده على سريره ومنعت أنا حين وصلت إلى الأيوان أتجاوزه.

فلمّا استقرّ أبو بكر على السرير التفت فرآني حيث أنا واقف ، فناداني فقال : ويحك ، فصرت إليه ونعلي في رجلي وعليّ قميص وإزار ، فأجلسني بين يديه ، فالتفت إليه موسى فقال : هذا رجل تكلّمنا فيه؟ قال : لا ولكنّي جئت به شاهدا عليك ، قال : فيما ذا؟ قال : إنّي رأيتك وما صنعت بهذا القبر. قال : أيّ قبر؟ قال : قبر الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وكان موسى قد وجّه إليه من كربه وكرب جميع أرض الحائر وحرثها وزرع فيها الزرع ـ.

فانتفخ موسى حتّى كاد أن ينقدّ ، ثمّ قال : وما أنت وذا؟

قال : اسمع حتّى أخبرك ؛ اعلم أنّي رأيت في منامي كأنّي خرجت إلى قومي من بني غاضرة فلمّا صرت بقنطرة الكوفة اعترضتني خنازير عشرة تربدني ، فأغاثني الله برجل كنت أعرفه من بني أسد فدفعها عنّي ، فمضيت لوجهي ، فلمّا صرت إلى شاهي ضللت الطريق فرأيت هناك عجوزا فقالت لي : أين تريد أيّها الشيخ؟ قلت : أريد الغاضريّة ، قالت لي : تنظر هذا الوادي فإنّك إذا أتيت إلى آخره اتّضح لك الطريق ، فمضيت وفعلت ذلك ، فلمّا صرت إلى نينوى إذا أنا بشيخ كبير جالس هناك ، فقلت : من أين أنت أيّها الشيخ؟ فقال لي : أنا من أهل هذه القرية ، فقلت : كم تعدّ من السنين؟ فقال : ما أحفظ ما مرّ من سنّي وعمري ولكن في ذكري أنّي رأيت الحسين ابن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ومن كان معه من أهل بيته ومن تبعه

٣٤٠