مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-037-4
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٣٧٢

١٣١٤ وقيل ١٣١٥ في استانبول ، وصلّي عليه في جامع التشوبقيّة ودفن في مقبرة شيخار مزاد لغي أي مقبرة المشايخ التي تختصّ بقبور الأولياء والعلماء على مقربة من الجامع المذكور.

والأسد آبادي نسبة إلى أسد آباد قرية على بعد سبعة فراسخ من مدينة همدان إلى جهة العراق بين همدان وكرمانشاه ، فيها نحو ثلاثمائة بيت وعدد سكّانها نحو أربعة آلاف نسمة.

سبب وفاته :

اختلف في سبب وفاته على أقوال لا يرجع أكثرها إلى مستند.

قال السيّد صالح الشهرستاني في مجلّة العرفان نقلا عن تلميذ السيّد جمال وهو صادق خان البروجردي قال : لمّا وصلت إلى الآستانة علمت أنّه مات مسموما في فنجان قهوة.

والشيخ مصطفى عبد الرزاق المصري يقول : إنّه لقّح في شفته بمادة سامّة سبّبت له حالة تشبه السرطان.

ويقول الأمير شكيب أرسلان فيما علّقه على كتاب حاضر العالم الإسلامي أنّه ظهر في ظهره حنكة مرض السرطان فأمر السلطان عبد الحميد كبير جرّاحي القصر أن يجري له عمليّة جراحيّة فلم تنجح ومات بعد أيّام قلائل.

وقيل : إنّ العمليّة لم تعمل على الوجه اللازم لها عمدا.

وقيل : مات حتف أنفه.

هو إيرانيّ شيعيّ لا أفغانيّ سنّي :

أمّا نسبته إلى الأفغان واشتهاره بالأفغاني فمن المشهورات التي لا أصل لها ،

٤١

وربّ مشهور لا أصل له ، وسبب اشتهاره بذلك أنّه نسب نفسه إلى الأفغان في مصر وخلافها لا إلى إيران تعمية للأمر ، ولو لا ذلك لما سمّي بحكيم الإسلام وفيلسوف الشرق ، ولا كانت له هذه الشهرة الواسعة ، ولا أنزله الصدر الأعظم علي باشا في استانبول منزلة الكرامة ، ولا أقبل بما عليه لم يسبق لمثله ، ولا عظّمه الوزراء والأمراء ، ولا عيّن عضوا في مجلس المعارف ، ولا أجرت له حكومة مصر ألف قرش مصري مشاهرة ، ولا عكف عليه الطلبة للتدريس في مصر ، ولا تمكّن الشيخ محمّد عبده أن يصاحبه ويأخذ عنه ويتخذه مرشدا وصديقا حميما إلى غير ذلك.

ومن هنا يلزم أن لا يعتمد على المشهورات دينيّة كانت أو عادية قبل البحث والتنقيب والتحقيق والتمحيص ، خصوصا ما يوافق الميول المذهبيّة والعقائد الخاصّة ، وما لفّقه تلميذه الشيخ محمّد عبده المشهور في صدر رسالة المترجم في الردّ على الدهريّة من أنّ السيّد جمال الدين أفغانيّ حنفيّ ومن بيت عظيم في بلاد أفغان لا نصيب له من الصحّة ؛ فإنّ الظاهر أنّ جمال الدين كان يملي هذه القصص على تلميذه الشيخ محمّد عبده مبالغة في تعمية الأمر عليه فإنّه إيرانيّ أسد آباديّ همدانيّ لا أفغانيّ ولا كابليّ ، بل لعلّه لم ير بلاد الأفغان ولا كابل في عمره ، وعشيرته في أسد آباد حتّى اليوم.

وقال السيّد صالح الشهرستاني فيما كتبه في مجلّة العرفان المجلّد ٤ : لا يزال يوجد في أسد آباد من أفراد بيته وأولاد وأعمام وعمّات وأخوان وأخوات السيّد جمال الدين ما ينيف على خمسين نسمة بين ذكر وأنثى ، ومنهم أحد أحفاد أخي السيّد جمال الدين وهو السيّد محمود ابن السيّد كمال ابن السيّد مسيح المتوفّى سنة ألف وثلاثمائة أخي السيّد جمال الدين ابن السيّد صفدر وهو مدرّس مدرسة القرية سنة ١٣٠١.

٤٢

قال : ولا تزال الغرفة التي ولد فيها السيّد جمال الدين في دار والده الواقعة في محلّة سيّدان (أي السادات) على حالها حتّى اليوم ، وتعرف أسد آباد عند أهل القرى المجاورة لها بقرية السيّد جمال الدين.

وقال : إنّ السيّد محمود المذكور أهدى إليه نسخة من كتاب فارسيّ فيه تاريخ حياة السيّد جمال الدين منذ ولادته حتّى وفاته ، [ألّفه] ابن أخت السيّد جمال الدين الميرزا لطف الله الأسد آبادي ، وأمّه السيّدة طيّبة بيگم بنت السيّد صفدر أخت جمال الدين وهو صاحب المذكّرات عن خاله المذكور بالفارسيّة المطبوعة في برلين ، والسيّد جمال الدين مذهبه شيعيّ إمامي اثنا عشريّ كما هو مذهب آبائه وأجداده وعشيرته وأهل بلده.

أقوال المترجمين فيه :

أطنب العلّامة المعاصر السيّد محسن العاملي في ترجمته في أعيان الشيعة فقال ما خلاصته : إنّ السيّد جمال الدين كان ذكيّا متوقّد الذكاء فصيح الكلام بليغه ، عالي الهمّة ، قليل النوم ، كثير التفكير ، سريع البديهية ، حسن الأخلاق ، يتقن اللغات العربيّة والفارسيّة والانكليزيّة وآدابها ، وقليلا من التركيّة والفرنسيّة ، له جاذبيّة لكلّ من حادثه وجالسه ، ميّال بطبعه إلى الحركة ومعارضة الحكّام والدعوة إلى الإصلاح ، وكان يتلوّن في لباسه تارة بالعمامة الإيرانيّة السوداء الكبيرة والعباءة ، وأخرى باليشماغ والعقال اللفّ ، وثالثة بالعمامة البيضاء والطربوش والجبّة ، ورابعة بالطربوش بدون عمامة ، وهو مسلك جماعة من الناس في كلّ عصر وزمان ؛ فالناس مختلفون بطباعهم وميولهم وعقولهم ونفوسهم وأخلاقهم وسجاياهم كاختلافهم بألوانهم وألسنتهم وقبائلهم وشعوبهم ودياناتهم.

٤٣

وقال في مجلّة العرفان أنّ السيّد صفدر والد السيّد جمال الدين جاء إلى طهران مع ولده جمال الدين أوائل عام ألف ومأتين وستّة وستّين وبعد ما مكثا فيها ما يزيد على خمسة أشهر سافرا إلى العراق ودخلا النجف في عصر الشيخ مرتضى الأنصاري فاعتنى الأنصاري بجمال الدين وبقي السيّد صفدر في النجف مدّة شهرين ثمّ عاد إلى أسد آباد وبقي جمال الدين في النجف أربع سنوات درس في السنتين الأوليّين منها العلوم الأوليّه والمتوسّطة من دينيّة وعربيّة ، وفي السنتين الآخريين العلوم العالية من التفسير والحديث والفقه والأصول والكلام والمنطق والحكمة الالهيّة والرياضيّات والطبيعيّات ومقدّمات الطبّ والتشريح والهيأة والنجوم وغيرها ، فلمّا مضى اربع سنين سافر إلى بمبئي فجعلوه في صف نوابغ الحكماء ولم يتجاوز عمره خمسة عشر ، فصار أمير الخطباء وداهية من أعظم الدهاة ، دامغ الحجّة ، قاطع البرهان ، ثبت الجنان ، متوقّد العزم ، شديد المهابة ، كان في ناسوته أسرار المغناطيسيّة فلهذا كان المنهاج الذي نهجه عظيما ، وكانت سيرته كبيرة ، فبلغ من علوّ المنزلة في المسلمين ما قلّ أن يبلغ مثله سواه ، وكان سائحا جوّالا ، طاف العالم الإسلامي قطرا قطرا ، وجال غربي أروبا بلدا بلدا ، فاكتسب من هذه السياحات الكبرى ومن الاطّلاع العميق والتبحّر الواسع في سير العالم والأمم علما راسخا واكتنه أسرارا خفيّة ، واستبطن غوامض كثيرة فأعانه ذلك عونا كبيرا على القيام بجلائل الأعمال التي قام بها.

وكان جمال الدين بعامل سجيّته وطبعه وخلقه داعيا مسلما كبيرا ، وكأنّه على وفور استعداده ومواهبه إنّما خلقه الله في المسلمين لنشر الدعوة فحسب ، فانقادت له نفوسهم وطافت متعاقدة من حوله قلوبهم ، فليس هناك في قطر من الأقطار الإسلاميّة وطأت أرضه قدما جمال الدين إلّا وكانت فيه ثورة فكريّة اجتماعيّة لا تخبو نارها ولا يبير أوارها.

٤٤

وفي كتاب حاضر العالم الإسلامي تأليف ستودارد الأمريكي قال : جمال الدين كان أوّل مسلم أيقن بخطر السيطرة الغربيّة المنتشرة في الشرق الإسلامي وتمثّل عواقبها فيما إذا طال عهدها وامتدّت حياتها ورسخت في تربة الشرق قدمها وأدرك شؤم المستقبل وما سينزل بساحة الإسلام والمسلمين من النائبة الكبرى ، فلمّا اشتهر شأن جمال الدين خشيت الحكومات الاستعماريّة أمره وحسبت له ألف حساب ، ونفته بحجّة أنّه يهيّج المسلمين ولم تخف دولة جمال الدين وتضطهده مثل ما خافته واضطهدته الدولة البريطانيّة فسجنته في الهند مدّة ثمّ أطلقت سراحه فجاء إلى مصر وكانت له يد في الثورة العربيّة التي أوقدت نارها في وجه الغربيّين ، فلمّا احتلّت انكلتره مصر نفت جمالا في الحال فزايل مصر وأنشأ يسيح في مختلف البلدان حتّى وصل إلى القسطنطينيّة فتلقّاه عبد الحميد بطل الجامعة الإسلاميّة بالمبرّة والكرامة وقرّبه منه ورفع منزلته فسحر جمال الدين السلطان الداهية بتوقّد ذكائه ونفسه الكبيرة فقلّده رياسة العمل في سبيل الدعوة للجامعة الإسلاميّة ، ويغلب أنّ ما ناله السلطان عبد الحميد من النجاح في سياسته في سبيل الجامعة الإسلاميّة إنّما كان على يد جمال الدين المتوقّد الهمّة ، المشتعل العزم ، وكان عاملا كبيرا في سبيل النهضة الإسلاميّة حتّى النفس الأخير من أنفاسه.

وقال الأمير شكيب أرسلان فيما علّقه على كتاب حاضر العالم الإسلامي : كان جمال الدين من أعاظم رجال الإسلام في القرن التاسع عشر الميلادي ، وكان فيلسوفا كاتبا خطيرا صحفيّا ، وقبل كلّ شيء كان رجلا سياسيّا يرى فيه مريدوه وطنيا كبيرا وأعداؤه مهيّجا خطيرا ، وقد كان له تأثير عظيم في حركات الحرّيّة والمنازع الشورويّة التي جدت في العشرات الأخيرة من هذه السنين في الحكومات الإسلاميّة ، وكانت حركته ترمي إلى تحرير هذه الممالك من السيطرة الغربيّة وإنفاذها من الاستغلال الأجنبي وإلى ترقية شؤونها الداخليّة بتأسيس إدارة حرّة ؛

٤٥

فجمال الدين بقلمه ولسانه كان أصدق ممثّل لفكر الجامعة الإسلاميّة.

وقال تلميذه الشيخ محمّد عبده مفتي الديار المصريّة في ترجمته التي صدّر بها رسالة السيّد جمال الدين في الردّ على الدهريّة : إنّ السيّد جمال الدين كان حقيقة كلّيّة تجلّت في كلّ ذهن بما يلائمه أو قوّة روحيّة قامت لكلّ نظر بشكل يشاكله ، والرجل في صفاء جوهره وذكاء مخبره لم يصبه وهم الواهمين ، ولم يمسّه ضرر الخرّاصين ، في السنة الثامنة من عمره أجلس للتعليم وعنى والده بتربيته ، وأيّد العناية به قوّة في فطرته وإشراق في قريحته ، وذكاء في مدركته ؛ فأخذ من بدايات العلوم ولم يقف دون نهاياتها ، تلقّى علوما جمّة برع في جميعها منها العلوم العربيّة من نحو وصرف ومعان وبيان وكتابة وتاريخ عامّ وخاصّ ، ومنها علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه وكلام وتصوّف ، ومنها علوم عقليّة من منطق وحكمة عمليّة سياسيّة ومنزليّة وتهذيبيّة وحكمة نظريّة طبيعيّة وإلهيّة ، ومنها علوم رياضيّة من حساب وهندسة وجبر وهيأة أفلاك ، ومنها نظريّات الطبّ والتشريح ، أخذ جميع تلك الفنون عن أساتذة ماهرين على الطريقة المعروفة في تلك البلاد ، وعلى ما في الكتب الإسلاميّة المشهورة ، واستكمل الغاية من دروسه في الثامن عشرة من سنّه ، ثمّ عرض له سفر إلى البلاد الهنديّة فأقام بها سنة وبضعة أشهر ينظر في بعض العلوم الرياضيّة على الطريقة الأورپاويّة الجديدة.

أمّا مقصده السياسي الذي وجّه إليه أفكاره وأخذ على نفسه السعي إليه مدّة حياته وكلّ ما أصابه من البلاء أصابه في سبيله ، فهو إنهاض دولة إسلاميّة من ضعفها وتنبيهها للقيام على شؤونها حتّى تلحق الأمّة بالأمم العزيزة والدول بالدول القويّة فيعود للإسلام شأنه والدين الحنيفيّ مجده ، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار الشرقيّة وتقليص ظلّها عن رؤوس الطوائف الإسلاميّة ، وله في عداوة الانكليز شؤون يطول بيانها.

٤٦

أمّا منزلته من العلم وغزارة المعارف فليس يحدّها قلمي إلّا بنوع من الإشارة إليها ، لهذا الرجل سلطة على دقائق المعاني وتحديدها وإبرازها في صورها اللائقة بها كأنّ كلّ معنى قد خلق له ، وله قوّة في حلّ ما يعضل منها كأنّه سلطان شديد البطش ، فنظرة منه تفكّك عقدها كلّ موضوع يلقى إليه يدخل للبحث فيه كأنّه صنع يديه فيأتي على أطرافه ويحيط بجميع أكنافه ، ويكشف ستر الغموض عنه فيظهر المستور منه ، وإذا تكلّم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها. ثمّ له في باب الشعريّات قدرة على الاختراع كأنّ ذهنه عالم الصنع والإبداع ، وله لسان في الجدل وحذق في صناعة الحجّة لا يلحقه فيهما أحد إلّا أن يكون في الناس من لا نعرفه ، وكفاك شاهدا على ذلك أنّه ما خاصم أحدا إلّا خصمه ، ولا جادله عالم إلّا ألزمه ، وقد اعترف له الأوربيّون بذلك بعد ما أقرّ له الشرقيّون.

أمّا أخلاقه فسلامة القلب سائدة في صفائه ، وله حلم عظيم يسع ما شاء الله أن يسع إلى أن يدنو منه أحد ليس شرفه أو دينه فينقلب الحلم إلى غضب فبينما هو حليم أوّاب إذا هو أسد وثّاب ، وهو كريم يبذل ما بيده ، قويّ الاعتماد على الله ، لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر ، عظيم الأمانة ، سهل لمن لاينه ، صعب على من خاشنه ، طموح إلى مقصده السياسي.

أمّا خلقه فهو يمثّل لناظره عربيّا محضا من أهالي الحرمين ، ربعة في طوله ، وسط في بنيته ، قمحيّ في لونه ، عصبيّ دمويّ في مزاجه ، عظيم الرأس في اعتدال ، عرض الجبهة في تناسب ، واسع العينين ، عظيم الأحداق ، ضخم الوجنات ، رحب الصدر ، جليل في النظر ، هشّ بشّ عند اللقاء ، قد وفّاه الله من كمال خلقه ما ينطبق على كمال خلقه.

٤٧

مؤلّفاته :

منها تاريخ الأفغان ، ومنها انتقاد الفلاسفة الطبيعيّين ؛ طبعا بمصر غير مرّة ، ومنها رسالة الردّ على الدهريّين ألّفها في حيدرآباد دكن بالفارسيّة ونقلها من الفارسيّة إلى العربيّة تلميذه الشيخ محمّد عبده بمساعدة عارف أفندي وطبعت بمصر ، ومنها مجلّة العروة الوثقى مطبوعة في مجلّد ، ومنها حقائق جمال فارسي.

أخباره :

هاجر من أسد آباد إلى طهران ومن طهران إلى النجف ، بقي فيها أربع سنين ثمّ سافر إلى الهند وعمره ١٨ سنة فأقام بها سنة وبضعة أشهر ، وأتى بعد ذلك إلى الأقطار الحجازيّة لأداء فريضة الحجّ وطالت مدّة سفره إليها نحو سنة وهو ينتقل من بلد إلى بلد ، ومن قطر إلى قطر ، فوقف على كثير من عادات الأمم وأصاب من ذلك فوائد غزيرة ، ثمّ رجع إلى بلاده وفي سنة ١٢٨٥ سافر إلى الحجّ على طريق الهند ، فلمّا وصل إلى التخوم الهنديّة تلقّته حكومة الهند بحفاوة وإجلال إلّا أنّها لم تسمح له بطول الإقامة في بلدها ولم تأذن للعلماء في الاجتماع معه إلّا على عين من رجالها ، فلم يقم أكثر من شهر ثمّ سيّرته من سواحل الهند في أحد مراكبها على نفقتها إلى السويس.

فجاء إلى مصر وأقام فيها أربعين يوما تردّد فيها على الجامع الأزهر وخالطه كثير من طلبة العلم السوريّين ومالوا إليه كلّ الميل وسألوه أن يقرأ لهم شرح الإظهار ، فقرأ لهم بعضا منه في بيته ثمّ سافر إلى الآستانة وأمكنته ملاقاة الصدر الأعظم عالي باشا ونزل منه منزلة الكرامة وعرف له الصدر فضله وأقبل عليه بما لم يسبق لمثله ، وعلا ذكره بينهم ، وبعد ستّة أشهر عيّن عضوا في مجلس المعارف ،

٤٨

فأدّى حقّ الاستقامة في آرائه وصعد على منبر الخطابة وألقى ما كان أعدّه ، فحسده حسن فهمي أفندي فآل أمر السيّد جمال إلى صدور أمر الصدارة إليه بالجلاء عن الآستانة فجاء إلى مصر في أوّل محرّم سنة ١٢٨٨ واشتغل بالتدريس فيها في بيته ، فعظم أمره في نفوس طلّاب العلوم وأخذوا يتهافتون عليه وانطلقت الألسن بالثناء عليه وانتشر صيته في الديار المصريّة وما منهم إلّا وقد أخذ عنه ، فحسده أقوام فأخرجوه من القطر المصري.

فجاء إلى حيدرآباد دكن وفيها كتب الردّ على مذهب الدهريّين ثمّ ذهب إلى كلكتّة وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها ، ثمّ ذهب إلى أوربا وباريس وأقام بها ثلاث سنوات وفي جمادى الآخرة سنة ١٣٠٣ دخل إلى البلاد الإيرانيّة. وقيل أنّ ناصر الدين دعاه بالبرق إلى حاضرة ملكه طهران فأكرم مثواه وبالغ في الاحتفاء به ، ثمّ استأذن من الشاه وذهب إلى روسيا. وقيل : إنّ الشاه أمره بالذهاب إليها ، وفي سنة ١٣٠٨ عاد إلى طهران من روسيّة ونزل في دار الحاج محمّد حسن كمباني أمين دار الضرب ، وكان في جميع مجالسه ينقد السلطان ناصر الدين فأخرجوه من إيران بصورة قبيحة ونفوه إلى البصرة ، وكتب فيها كتابه الذي تقدّم ذكره إلى الإمام الشيرازي الكبير قدس‌سره ، ثمّ ذهب إلى الآستانة وكان بها إلى أن توفّي مسموما كما تقدّم تفصيله ودفن هناك في سنة ١٣١٥.

العمارة الرابعة عشرة

كانت في عصر السيّد الكبير آية الله المجدّد الشيرازي قدّس الله تربته ، وهي ترصيع بعض الرواق بمرايا ذوات أشكال هندسيّة ونجارة بديعة ، وترصيف شطر من الصحن الشريف ، ونصب الساعة المبتاعة بسبعمائة تومان على عرش باب

٤٩

القبلة ، وستائر ثمينة لأبواب الحرم والرواق ، وبناء المدرسة الكبيرة ، والحمام وغيرها ، أخبرنا بذلك كلّه شيخنا الحجّة الميرزا محمّد الطهراني أدام الله وجوده ، وكان جليس سيّدنا الإمام المجدّد وموضع أسراره.

حالة سامرّاء قبل هجرة سيّدنا الإمام المجدّد إليها

كان الزائر لسامرّاء في حرز أمين بعد أن حطّ رحله بها سيّدنا الإمام الشيرازي رحمه‌الله.

قال العلّامة المحدّث الميرزا محمّد حسين النوري في كشف الأستار (١) : أمّا سامرّاء فكانت بعد خرابها وقبل استيلاء سلاطين آل عثمان على العراق كصومعة في برية والأعراب ساكنون فيها ، وفي أطرافها لم يكن لهم همّ إلّا القتل والنهب والفساد ، وكانوا الإماميّة يدخلون ويزورون ويخرجون خائفين مترقّبين لنزول الدواهي ، وبعد استيلاء العثمانيّين على العراق كان أهل سامرّاء وغيرها من أطراف العراق في جنّة حصينة من الأمن والأمان والدعة والاطمينان غير أنّ الزوّار كانوا وجلين خائفين مرعوبين لكثرة المصادمات التي ترد عليهم من أهلها ، ويشهد بذلك ما رواه الجزائري في الأنوار النعمانيّة عند مسافرته إلى سرّ من رأى ، قال :

لمّا مضينا نحن مع جماعة قليلة إلى سرّ من رأى فلمّا عزلنا عن القافلة وسرنا فرسخا تقريبا لقينا رجلا فقال لنا : إنّكم تمضون واللصوص أمامكم في نهر الباشا ، فتردّدنا في الرجوع والمضي فصار العزم على المضي ، فلمّا وصلنا إلى ذلك النهر طلعت علينا خيولهم فعدوا علينا ، فقرأت آية الكرسي وأمرت أصحابي بقراءتها ، فلمّا وصلوا إلينا انفردوا عنّا ناحية وكانوا يتفكّرون ، فرأيناهم جاؤوا إلينا وقالوا

__________________

(١) كشف الأستار : ١٩٠.

٥٠

لنا : قد ضللتم عن الطريق وكان الحال كما قالوا ، فأرسلوا معنا رجلا منهم فسار معنا إلى قرب المنزل وهو القازاني ، فلمّا قربنا إلى القازاني استقبلنا جماعة من سادات سرّ من رأى لأجل أن يأخذونا ، وكان آخر اختيارنا من أرواحنا وأموالنا أوّل وقوعنا في أيديهم ، وكانت عندنا دوابّ ، فقالوا : ينبغي أن تركبوا دوابّنا لأجل الأجرة ، فركبنا دوابّهم فوصلنا إلى المشهد المبارك في الليل ونزلنا في بيت ذلك السيّد ، فأتت علينا امرأة بقبضة حطب قيمتها أقلّ من الفلس. فلمّا صلّينا الصبح قلنا : نروح إلى الزيارة ، قال : لا حتّى تأكلوا الضيافة من عندي ، فقلنا له : نحن معنا من اللحم والخبز ما يكفينا ، فقال : لا يكون هذا ، فبعد ساعة قدّم إلينا جفنة من الخشب كبيرة وفيها ماء أسود لا ندري ما يكون تحته ، وفيها ملاعق ، فقلنا : هذا أيّ شيء؟ فقال : مدّوا أيديكم فمددنا أيدينا فكان ذلك الماء حارّا ، فمددنا الملاعق فقصرت عن الوصول إلى قعر الجفنة ، فمددنا بعض أيدينا فتناولنا بالملاعق ما في قعر الجفنة فكانت حبّات من الأرز وكان قد غليت مع ذلك الماء ، فشربنا كلّ واحد ملعقة وقمنا للزيارة.

فقال لنا ذلك السيّد المبارك : اعلموا يا ضيوفي أنّ سادة سامرّاء ليس لهم خوف من الله ولا حياء فإذا دخلتم قبّة الإمام عليه‌السلام أخذوا ثيابكم ولكنّكم أكلتم ملحي فأنا أنصحكم أن تجعلوا ما عندكم من الثياب الجدّد عندي في منزلي وخذوا خلقان ثيابكم حتّى لو أخذت منكم ترجعون إلى هذه الثياب ، فاستصوب كلامه أصحابنا ووضعوا ثيابهم عنده ، وأمّا أنا فقلت : قد أصابني البرد هذه البارحة فلبست ثيابي واحدا فوق آخر. فلمّا مضينا إلى الزيارة أخذوا منّا في الباب الأوّل من كلّ واحد أربع محمّديّات ، فلمّا وصلنا الباب الثاني أخذوا منّا أيضا ، فزرنا موالينا وأتينا إلى السرداب فلمّا نزلنا إليه أحاطوا بنا تحت الأرض فأخذوا ما أرادوا ، وكأنّي أرى طرف مئزر واحد من أصحابي في يده والطرف الآخر في يد رجل سيّد من السادة

٥١

فأخذه السيّد فبقي صاحبي مكشوف الرأس.

فأتينا إلى منزل صاحبنا فقلنا له : هات الثياب ، فقال : أوّلا حاسبوني على حقوقي وادفعوها إليّ ، فقلنا : هكذا يكون فاحسبها أنت ، فقال : الأوّل حقّ الاستقبال ، فقلنا له : هذا هو حقّ واضح ، فقال : لخاطركم عن كلّ واحد محمّديّان ، فأخذ منّا ، ثمّ قال : حقّ المنزل البارحة ، فأخذ حقّه ، ثمّ قال : حقّ الحطب فأخذ من كلّ واحد نصف محمّديّة ، ثمّ قال : حقّ المرأة التي أتت به فأخذ ما أراد ، ثمّ قال : والحقّ الأعظم حقّ الضيافة وهو عن كلّ واحد محمّديّة ، فأخذ ذلك الحقّ ثمّ قال : حقّ الحماية وهو أنّكم في منزلي ولو لا ذلك لكان السادة أخذوا ما معكم ، فأخذ ذلك الحقّ ، فقال : حقّ المشايعة فأخذه ، فلمّا قبض الحقوق كلّها قلنا : ردّ إلينا ثيابنا ، فقال لهم : إنّكم لو أخذتموها معكم حين دخلتم القبّة الشريفة والسرداب أما كان السادة يأخذونها منكم ، فها أنا من السادة فأخذتها منكم من غير إهانة بكم ، فقلنا : جزاك الله خيرا ، فرجعنا إلى بغداد ، انتهى.

وفي يومنا هذا لا يوجد في سامرّاء هذه الأعمال الشنيعة غير أنّ الرعب بعد باق في قلوب الزائرين الضعفاء فلم يزل الأمر على ذلك حتّى هاجر إليها الإمام المجدّد الكبير قدس‌سره فأخذت سامرّاء أهمّيّتها فتلاحقت العمارات فصارت مركزا مهمّا علميّا ومحطّا لرجال كبار العلماء فلم تزل كلّ يوم في زيادة إلى أن توفّي فيها.

نبذة يسيرة من حياة سيّدنا الإمام المجدّد الشيرازي

وبمناسبة ذكر آية الله المجدّد الشيرازي رحمه‌الله وحياة سامرّاء بوجوده وازدهار أيّام حياته نورد لك يسيرا من حياته الطيّبة نقلا عن المصادر الوثيقة.

ولد رحمه‌الله في شيراز في الخامس عشر من جمادى الأولى بعد مضي ساعتين من

٥٢

النهار سنة ١٢٣٠ وتوفّي رضوان الله عليه في الساعة الأولى من ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من شهر شعبان سنة ١٣١٢ بسامرّاء وحمل جثمانه الشريف على الأكتاف إلى النجف الأشرف ودفن في المقبرة التي أنشأها ناصر علي خان الأفغاني المقيم في لاهور وهي معروفة اليوم بمقبرة الشيرازي على يمين الخارج من الباب الشمالي للصحن الشريف المعروف بباب الطوسي ، وقبره حتّى اليوم مزار مشهور ، وعلى قبره صندوق خشبي وشبّاك من الفولاذ الأصفر.

وقد ألّفوا في مآثره كتبا ورسائل شريفة أوفاها ما ألّفه العلّامة الخبير الأستاذ الشيخ آقا بزرك الطهراني دام وجوده صاحب كتاب الذريعة سمّاه هدية الرازي في حياة المجدّد الشيرازي ، وذكره أيضا تلميذه العلّامة الكبير الحجّة السيّد حسن الصدر في تكملة أمل الآمل ، والمحدّث القمّي في حرف الميم من كتاب الكنى والألقاب ، ونحن نذكر خلاصة ما ذكروه ونشير إلى مواضع النقل.

قال شيخنا العلّامة في هدية الرازي ما ملخّصه : الآية العظمى والحجّة الكبرى السيّد السند الإمام العلّامة أستاذ نقباء البشر ، المهاجر إلى دار ولادة الإمام الثاني عشر ، والمجدّد للدين والملّة في رأس القرن الثالث عشر ، ومربّي الفقهاء للقرن الرابع عشر ، حامي بيضة الإسلام ، حافظ شرع سيّد الأنام ، المطيع لأوامره الأمراء والملوك ، والمنقاد إليه العظماء والسلاطين ، السيّد المسدّد أبو محمّد ميرزا محمّد حسن ابن السيّد فخر السادة وبحر السعادة الميرزا محمود ، بن السيّد الجليل الميرزا إسماعيل ، ابن فتح الله بن السيّد العابد بن السيّد لطف الله بن محمّد مؤمن الحسينيّ النسب ، الشيرازيّ المولد ، الغرويّ المنشأ ، العسكريّ المسكن ، النجفيّ المدفن ، طيّب الله تربته ورمسه ، وقدس‌سره ونفسه ، وبرّد الله مضجعه وثراه ، وأعلى في الخلد مقامه ومثواه.

وقال السيّد العلّامة الحجّة السيّد حسن الصدر الكاظمي في تكملة أمل الآمل :

٥٣

أستاذنا وسنادنا وعمادنا سيّدنا الإمام ، رئيس الإسلام ، نائب الإمام عليه‌السلام ، مجدّد الأحكام ، أستاذ حجج الإسلام ، آية الله على الأنام ، محيي شريعة سيّد الأنام ، مميت بدع الظلام ، قائد الملّة والمذهب والدين بأقوم نظام ، وأقوى زمام ، تعجز والله عن إحصاء مزاياه الأقلام ، ويضيق عن شرحها فم الكلام ، وما عسى أن أقول في معزّ الدين ، ومحيي آثار أجداده الأئمّة الراشدين ، وحجّتهم البالغة الدامغة على أعداء الدين ، ومربّي المجتهدين ، وناصر المؤمنين ، وقامع يد الكافرين عن دولة المسلمين ، وناشر الأحكام في العالمين ، وأبي الأرامل واليتامى والمساكين ، ومن كان الناس في ظلّه راقدين ، وأهل العلم في كنفه آمنين ، سيّد تهابه الملوك والسلاطين ، وأنّى لي بوصف آية الله من المجتهدين ، وخليفة خاتم الأئمّة المعصومين وحجّته في الأرضين ، وأفضل المتقدّمين والمتأخّرين ، من الفقهاء والمحدّثين والحكماء والمتكلّمين والمحقّقين من الأصوليّين ، وجميع المتفنّنين حتّى النحويّين والصرفيّين ، فضلا عن المفسّرين والمنطقيّين والمتطبّبين ؛ لا يضاهيه أحد في غوره وفكره ، وتحقيقه وتدقيقه ، وتأسيسه ، ولا في اعتدال السليقة ، إذا تكلّم في فقه الحديث رأيته على أعدل استقامة في العرفيّات وحفظ الوجدنيّات كأنّه لم يشمّ رائحة الدقّة ، وإذا تكلّم في غوامض المسائل وعوائص المطالب تراه الفيلسوف الدقيق يشقّ الشعرة ويدرك الذرّة.

له الأفكار الأبكار التي لم يهتد إليها المضطلعون ، ولا حام حولها المحقّقون ، قد فتح الله سبحانه له باب فهم المسائل ، وهداه إلى كيفيّة الوصول إلى حقيقة الحقائق ، وإذا قسمت أنظاره وتحقيقاته وتنبيهاته في علم إلى أنظار كلّ محقّق في ذلك العلم تجدها كالقمر البازغ في النجوم ، لم تر عين الزمان مثل دقائق أفكاره ، وصفايا آثاره وأنظاره ، لم يسبقه أحد إليها ، ولا حام طائر فكر فقيه قبله عليها ، كان قدّس الله روحه إذا أراد تدريس كتاب من أبواب الفقه بحث عن مشكلات مسائله وترك

٥٤

التعرّض لسواها ، ولا ينتفع من بحثه إلّا من كان قد أحاط بأقوال المسألة وأدلّتها وبذل جهده في فهم المراد منها.

مراتب سيره في التحصيل

قال شيخنا العلّامة في هدية الرازي : شرع علم المعلم وعمره أربع سنين وخمسة عشر يوما ، واستغنى عن تعلّم القرآن والخطوط والكتب الفارسيّة في سنتين وأربعة أشهر ، واشتغل بالعلوم وله ست سنين وخمسة أشهر ونصف ، وإنّه كان يدرّس شرح اللمعة وله خمس عشرة سنة ، وورد أصفهان وله سبع عشرة سنة وتسعة أشهر ، وحضر أوائل وروده أشهرا قلائل على العلّامة الشيخ محمّد تقي الأصفهاني صاحب الحاشية على المعالم في بحث مخصوص له ، وكان يحضر عند السيّد مير محمّد حسين الخاتون آبادي إمام الجمعة في مبحث الوضع.

وحصلت له الإجازة قبل بلوغ العشرين ، وتوفّي صاحب الحاشية على المعالم في سنة ١٢٤٨ ، وكان يحضر أيضا على العلّامة الفقيه الحاج محمّد إبراهيم الكلباسي فحصلت له الرئاسة والتدريس بأصفهان إلى أن تشرّف بالعتبات حدود سنة ١٢٥٩ وأدرك من الفقهاء من آل كاشف الغطاء الشيخ علي والشيخ حسن وصاحب الجواهر الشيخ محمّد حسن ، ولمّا توفّي صاحب الجواهر كان من أركان بحث العلّامة الشيخ مرتضى الأنصاري وسمع عن العلّامة الأنصاري وهو يقول : إنّ درسي يكون لثلاثة : الميرزا محمّد حسن الشيرازي والميرزا حبيب الله الرشتي والآقا حسين الطهراني.

٥٥

توصية الشيخ صاحب الجواهر في حقّه إلى حاكم فارس

كتب الشيخ الفقيه صاحب الجواهر تصديقا لاجتهاده بخطّ يده الشريفة توصية له إلى حاكم مملكة فارس وصاحب اختيارها ، ورأيت الخطّ الشريف بهذه الصورة :

بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله تعالى شأنه ، ثمّ السلام على ولدنا وقرّة أعيننا فخر الأقران وجوهرة الزمان ، إنسان عين الإنسان ، جناب الأعظم حسين خان سلّمه الله تعالى وأبقاه وزاد في عمره وعلاه. أمّا بعد ، فالمعلوم لدى جنابك أنّ ولدنا وقرّة عيننا الأمين المؤتمن ، جناب الميرزا محمّد حسن سلّمه الله وأبقاه ممّن يهمّنا أمره ومن أولادنا وتلاميذنا الفضلاء الذين وهبهم الله سبحانه ملكة الاجتهاد مقرونة بالرشاد والسداد ممّن اختاره الله علما للعباد ، وأمينا في البلاد ، ومروّجا لمذهب الشيعة ، وكفيلا لأبنائهم ، فالمرجوّ الاعتناء بأموره ، وملاحظة جميع متعلّقاته ، فإنّه أهل لذلك بل فوق ما هنالك ، مضافا إلى رجوع أموره إلينا ، ونحن أوقفناه في هذه الأماكن ليكون لك من الداعين ، ولينتفع به كافّة الطلبة والمشتغلين ، فاللازم كمال الاعتناء بأموره ، وإدخال السرور عليه وعلينا ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وإنّا لا ننساك من الدعاء عند مرقد سيّد الأوصياء عليه‌السلام.

وختمه بخاتمين وأمضاه بقوله : الراجي عفو ربّه الغافر خادم الشريعة محمّد حسن ابن المرحوم الشيخ باقر.

قال شيخنا العلّامة بعد نقل هذه الرقيمة : أنظر إلى كرامة صاحب الجواهر وإخباره عن المستقبل قبل سنين بقوله إنّه ممّن اختاره الله علما للعباد .. الخ ، ولا ريب فالمؤمن ينظر بنور الله.

٥٦

كثرة حافظته وسعة باله

قال العلّامة الحجّة السيّد حسن الصدر في تكملة أمل الآمل : وأمّا سيرته في الاشتغال بالعلم فإنّه مات أبوه الميرزا محمود وهو طفل فكفله خاله مجد الأشراف واعتنى في تربيته لما رأى من فطانته ، فقد حدّثني هو قدس‌سره أنّه طلب معلّما جيّد الكتابة في داره وعيّن له في كلّ شهر عشرة توامين. قال : وهذا المبلغ في ذلك الزمان خطير ، ويعلم من خطّ خاله مجد الأشراف أنّ تاريخ ابتداء تعلّمه غرّة جمادى الثانية سنة ١٢٣٤. ولمّا فرغ من تعلّم القراءة والكتابة وصار يكتب مثل أستاده ، عيّن له معلّما في النحور والصرف ، ولمّا بلغ عمره ثماني سنين فرغ من كلّ المقدّمات فاختار خاله أن يصير منبريّا واعظا فسلّمه إلى أكبر منبري واعظ الميرزا إبراهيم لتعلّم الوعظ ، وكان قد قرّر له أستاده المذكور أن يحفظ شيئا من أبواب الجنان للقزويني وكان يقرأ الصفحة مرّتين فيحفظها على ظهر القلب ويروح إلى مسجد الوكيل ويصعد المنبر ويقرأها ، يفعل ذلك كلّ يوم ، وإنّ عبارة أبواب الجنان من أصعب العبارات قراءة لاشتمالها على السجع الذي لا يهتدي إلى كلّ أحد فضلا عن حفظه على ظهر القلب. ولمّا كان ذلك من النوادر ولم يخل عن الغرابة منعته عمّته من صعود المنبر كلّ يوم مخافة أن تصيبه العين الناظرة وقالت له : اصعد في الأسبوع يومين فإنّ عيون الناس لا تتحمّل أن ترى طفلا عمره ثماني سنين كلّ يوم يصعد المنبر يقرأ صفحة من أبواب الجنان.

وكان قدس‌سره يحفظ أكثر القرآن ويحفظ جميع أدعية شهر رمضان وجميع ما كان يقرأ من الأدعية في سائر الأوقات وكذلك الزيارات جميعا في جميع المشاهد ولم يتفق له أن يحمل معه كتابا في ذلك ، وكان يطيل في أدعيته وزياراته ، وكان كثير البكاء رقيق القلب ، غزير الدمعة ، وفي أثناء اشتغاله بالوعظ يشتغل بالعلم وقراءة الكتب

٥٧

المتعارفة في الأصول والفقه ، وكان يطالع الدرس قبل حضوره عند الأستاد ، ويكتب أنظاره ويشرح مشكلات العبارة ، فلمّا مضى زمان قليل جاء بكراريسه المكتوبة إلى أستاذه الشيخ محمّد تقي الذي كان بشيراز وكان معروفا بتدريس شرح اللمعة ويحضر درسها عنده ما يزيد على أربعين مشتغلا ، فلمّا نظر أستاذه قال له : ليس في شيراز من تنتفع منه فيجب أن تهاجر إلى أصبهان فإنّها اليوم دار العلم ، فرحل من شيراز وورد أصبهان سابع عشر صفر سنة ١٢٤٨ ونزل في مدرسة الصدر واشتغل في الدرس والتدريس في علمي المعقول والمنقول ، وحضر أيّاما قلائل مجلس درس الشيخ محمّد تقي الأصفهاني صاحب الحاشية على المعالم.

فلمّا توفّي صاحب الحاشية لازم مجلس درس السيّد المحقّق المدقّق الأمير السيّد حسن المعروف بالمدرّس إلى أن عزم على زيارة العتبات وورد كربلاء والنجف فصار يمرّ على محافل العلماء ويحضر مجالس تدريسهم كالشيخ صاحب الجواهر ، والشيخ حسن صاحب أنوار الفقاهة في النجف ، والسيّد إبراهيم صاحب الضوابط في كربلاء ، ولم يطل في الحضور عندهم حتّى اجتمع مع الشيخ المرتضى الأنصاري فرآه من أهل الأنظار العالية والتحقيقات الجيّدة فعزم على المقام في النجف لأجله وعدل عن الرجوع إلى أصبهان ، وأخذ بالخوض في مطالب الشيخ بغاية جهده وكدّه ، والغوص فيها بقاطع ضرسه ، حتّى اغتنم كنوزها وحقّ حقائقها وزاد عليها بكامل نفسه فأكبّ عليه الفضلاء في درسه ، وصار آية في التحقيق والتدقيق ، وتقدّم في الفضل على كلّ أبناء جنسه.

فقد حدّثني السيّد الوالد قدّس الله روحه قال : كان الميرزا قليل التكلّم في بحث الشيخ ، لا يتكلّم إلّا نادرا ، وإذا تكلّم لا يجهر بصوته ، فينحني الشيخ لسماع كلامه ويشير إلى أهل الدرس بالسكوت ويقول لهم : إنّ جناب الميرزا يتكلّم ، وإذا فرغ من كلامه رفع الشيخ رأسه وتوجّه إلى أهل البحث وقرّر لهم كلام الميرزا ، وهذا

٥٨

من الشيخ تعظيم عظيم ، ورأيت عنده كراريس أخرجها إليّ قدس‌سره فيها مسائل تكلّم فيها فيما يتعلّق ببعض تحقيقات الشيخ وتحتها خطّ الشيخ جواب وتحقيق ، وتحته بخطّه قدس‌سره جواب عن تحقيق الشيخ ، كلّ الكراريس بخطّه على هذا النحو.

وحدّثني في هذا المجلس الذي أراني فيها الكراريس أنّ الشيخ في آخر عمره التمس منّي أن أجدّد النظر في الرسائل وأن أنقّحها وأهذّبها وكرّر ذلك عليّ مرارا فلم أفعل احتراما للشيخ ، وكان في غاية التعظيم للشيخ ، إذا طرأ ذكره في مجلسه فصار واحد دهره في عصره ، وكان قدس‌سره لا ينسى من يراه ولو مرّة واحدة وغاب عنه عشرين سنة فإذا دخل عليه عرفه بمجرّد دخوله ، بل رأيت من دخل عليه ليلا وهو شابّ ليس في عارضيه نبات وغاب عنه أربع عشرة سنة فدخل عليه وهو ذو لحية كثيفة فبمجرّد أن سلّم عليه قال : عليكم السلام جناب الشيخ حسين ، هل يشترط في المهاجر إلى العلم في النجف الأشرف أن لا يزور سامرّاء أربع عشرة سنة؟ جنابك جئت إلى هنا لما جئت من جبل عامل والآن أظنّك تريد الرواح إلى جبل عامل؟ فقال له : نعم يا سيّدي أريد الرواح إلى بلدي إن شاء الله بتوجّهاتكم ، فلمّا خرجنا قال لي الشيخ حسين المذكور : هذا والله العجب العجاب! أنا كنت قد دخلت عليه قبل أربع عشرة سنة ولا شعر في وجهي في الليل فكيف الآن عرفني وحفظ اسمي مدّة مفارقتي له؟! ما هو إلّا كرامة من السيّد. فقلت له : ما هي الكرامة بل الكرامة ما منحه سبحانه وتعالى من سعة البال وقوّة الحافظة ، ومثل هذا لا يحصى كثرة

وكان قدس‌سره ينظر إلى الحديث أو العبارة نظرة واحدة وأنا إلى جنبه فيرفع رأسه فيقرأها على ظهر قلبه للجماعة ، وسمعت منه إنّه قال : كنت أستنسخ رسالة أصل البراءة لشيخنا الشيخ المرتضى رحمه‌الله في الليل فأنظر في الرسالة وأحفظ السطر والسطرين وأكتبهما وأنا في خلال ذلك أباحث الميرزا إسماعيل الصرف وكان طفلا صغيرا وما كان يسعني ذلك إلّا أوّل الليل.

٥٩

إجماع العلماء على تقديمه في أمر التقليد

قال شيخنا العلّامة في هدية الرازي : لمّا توفّي الشيخ الأنصاري قدس‌سره سنة ١٢٨١ صار الناس يسألون أفاضل تلامذة الشيخ رحمه‌الله عن تكليفهم في أمر التقليد ، فاجتمع الأفاضل منهم في دار الأستاذ الحجّة الميرزا حبيب الله الرشتي. فقد حدّثني الفاضل الميرزا الآشتياني قال : فاتفقنا على تقديم الآقا الميرزا الشيرازي فأرسلوا عليه وأحضروه عندهم وفيهم الآقا حسن النجم آبادي ، والميرزا عبد الرحيم النهاوندي والميرزا حبيب الله الرشتي والميرزا حسن الآشتياني فقالوا له : لا بدّ للناس من مرجع في التقليد والرئاسة الدينيّة وقد اتفقوا على جنابك. فقال : إنّي لم أستعدّ لذلك ولا أستحضر ما يحتاج إليه الناس ، وجناب الشيخ الآقا حسن فقيه العصر هو أولى بذلك منّي. فقال له الآقا حسن : والله إنّ ذلك حرام عليّ ولو دخلت فيه أفسدته وإنّما هو واجب عليك بالخصوص ، ومسألة استحضار المسائل أسهل ما يكون عليك ، والرئاسة الشرعيّة تحتاج إلى رجل جامع عاقل ذي حنكة عارف بمواقع الأمور كامل النفس وليس ذلك إلّا أنت ، وتكلّم كلّ واحد من الجماعة بنحو كلام الآقا حسن ، وحكموا عليه بوجوب التصدّي لذلك ، فقبل ودموعه تجري على خدّيه.

وحدّثني السيّد الصدر إنّه لم يكن يخطر بباله قبل ذلك أنّه يصير مرجعا للناس في الدين ويبتلى بهذا الابتلاء ، فصار أصحاب الشيخ وتلامذته يرجعون الناس إليه وكلّ من يسألهم عن أمر التقليد لا يذكرون له سواه ، وينصّون عليه بالأعلميّة ومن لم يصرّح منهم بأعلميّته يصرّح بأولويّته للتقليد وأنّه أحوط في براءة الذمّه ، فرجع إليه الناس خصوصا الإيرانيّين والخواصّ من كلّ البلاد ، فأخذ في الترقّي يوما فيوما وعلّق الحواشي على نجاة العباد والنخبة وكلّ ما كان الشيخ علّق عليه من

٦٠