مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-037-4
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٣٧٢

له يد تسأل الرحمن راحته

ممّا به ويد أخرى على كبده

يا من راى أسفا مستهترا دنفا

كانت منيّته في عينه ويده

فجعلت الجارية تصيح : هذا والله هو الغنا يا سيّدي.

وذكر الحكاية إلى أن قال : وخلوت معه ثمّ قال لي : يا سيّدي ، ذهب ما كان من أيّامي ضياعا إذ كنت لا أعرفك فمن أنت يا مولاي؟ فلم يزل يلحّ عليّ حتّى أخبرته ، فقام وقبّل رأسي ، فقال : يا سيّدي ، وأنا أعجب أن يكون هذا الأدب إلّا لمثلك وإنّي لأجالس الخلفاء وأنا لا أشعر ثمّ سألني عن قصّتي وكيف حملت نفسي على ما فعلت ، فاخبرته خبر الطعام وخبر الكفّ والمعصم ، ثمّ قال : يا فلانة ـ لجارية له ـ قولي لفلانة تنزل ، فجعل ينزل واحدة واحدة فأنظر إلى كفّها ومعصمها فأقول : ليس هي ، فقال : والله ما بقي غير أختي وأمّي ، والله لأنزلتهما إليك ، فعجبت من كرمه وسعة صدره ، فقلت : جعلت فداك ، ابدأ بأختك قبل الأمّ ، فعسى أن تكون هي ، فقال : صدقت ، فنزلت ، فلمّا رأيت كفّها ومعصمها قلت : هي ذه ، فأمر غلمانه فصاروا إلى عشرة مشايخ من أجلّة مشايخ جيرانه في ذلك الوقت فأحضروا ، ثمّ أمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم وقال للمشايخ : هذه أختي فلانة أشهدكم أنّي قد زوّجتها من سيّدي إبراهيم بن المهدي وأمهرتها عنه عشرة آلاف درهم ، فرضيت وقبلت النكاح ، ودفع إليها البدرة وفرّق البدرة الأخرى على المشايخ ، ثمّ قال لهم : اعذروا وهذا ما حضر على الحال ، فقبضوها ونهضوا.

ثمّ قال لي : يا سيّدي ، أمهّد لك بعض البيوت تنام مع أهلك؟ فاحتشمني والله ما رأيت من سعة صدره وكرمه ، فقلت : بل أحضر عمارية وأحملها إلى منزلي. قال : ما شئت ، فأحضرت عمارية فحملتها وسرت بها إلى منزلي ، فوحقّك يا أمير المؤمنين لقد حمل إليّ من الجهاز ما ضاقت به بعض بيوتنا فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين.

٢٦١

فعجب المأمون من كرم ذلك الرجل وسعة صدره ، وقال : لله أبوه ما سمعت مثله قطّ ، ثمّ أطلق الرجل الطفيلي وأجازه بجائزة سنيّة ، وأمر إبراهيم بإحضار الرجل فكان من خواصّ المأمون وأهل محبّته.

أخبار حرمة الغناء والتغنّي

قال في المجمع : الغناء ـ ككساء ـ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب ، وما يسمّى في العرف غناء وإن لم يطرب سواء كان في شعر أو قرآن أو غيرها ، واستثني منه الحدي للإبل. قيل : وفعلة المرأة في الأعراس مع عدم الباطل ، انتهى.

وعن تفسير عليّ بن إبراهيم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه سيكون قوم يبيتون وهم على اللهو وشرب الخمر والغناء فبيناهم كذلك إذ مسخوا من ليلتهم وأصبحوا قردة وخنازير.

وفيه : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)(١) يعني عن الغناء والملاهي.

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)(٢) يعني الغناء ومجالس اللغو.

وفيه : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)(٣) قال عليه‌السلام : اللغو الكذب ، واللهو الغناء.

وفيه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)(٤) قال : الغناء والخمر وجميع الملاهي.

وقال الصادق عليه‌السلام ـ كما في معاني الأخبار ـ ما حاصله : النرد والشطرنج والغناء لا خير فيه فلا تفعلوا ، الخ.

__________________

(١) المؤمنون : ٣.

(٢) الفرقان : ٧٢.

(٣) القصص : ٥٥.

(٤) لقمان : ٦.

٢٦٢

وقال عليه‌السلام ـ كما في الخصال ـ : المنجّم ملعون ، والكاهن ملعون ، والساحر ملعون ، والمغنية ملعونة ، ومن آواها وأكل كسبها ملعون.

وقال عليه‌السلام : ثمن الكلب والمغنية سحت.

وعن الرضا عليه‌السلام ـ ما حاصله ـ إذا جمع الله بين الحقّ والباطل فكان الغناء مع الباطل.

وفي الأمالي : قوله تعالى : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)(١) هو الغناء.

وقال : الغناء عشّ النفاق.

وعن الأمالي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يكون في أمّتي الخسف والمسخ والقذف. قيل : يا رسول الله ، بم؟ قال : باتخاذم القينات وشربهم الخمور.

وعن الصادق عليه‌السلام : أما يستحي أحدكم أن يغنّي على دابّته وهو تسبّح؟!

وعن فقه الرضا عليه‌السلام : كسب المغنية حرام.

وقد يروى عن أبي عبد الله أنّه سأله بعض أصحابه فقال : جعلت فداك ، لي جيران ولهم جوار مغنّيات يتغنّين ويضربن بالعود ، فربّما دخلت الخلاء فأطيل الجلوس استماعا منّي لهنّ. قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا تفعل ، فقال الرجل : والله ما هو شيء أتيته برجلي إنّما هو أسمع بأذني ، فقال أبو عبد الله : أو سمعت قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(٢). وروي في تفسير هذه الآية : إنّه يسئل السمع عمّا سمع ، والبصر عمّا نظر ، والقلب عمّا عقد عليه. فقال الرجل : كأنّي لم أسمع بهذه الآية في كتاب الله عزوجل من عجمي وعربيّ ، لا جرم إنّي تركتها وإنّي أستغفر الله. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : اذهب فاغتسل وصلّ ما بدا لك

__________________

(١) الحجّ : ٣٠.

(٢) الإسراء : ٣٦.

٢٦٣

فلقد كنت مقيما على أمر عظيم ، ما كان أسوء حالك لو كنت متّ على هذا ، استغفر الله واسأل الله التوبة من كلّ ما يكره فإنّه لا يكره إلّا القبيح والقبيح دعه لأهله فإنّ لكلّ قبيح أهلا.

وعن تفسير العيّاشي : إنّ أوّل من تغنّى كان إبليس.

وعن جامع الأخبار : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : الغناء رقية الزنا.

وروى أبو أمامة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما رفع أحد صوته بالغناء إلّا بعث الله شيطانين على منكبه يضربان بأعقابهما على صدره حتّى يمسك.

هذه نبذة من الأخبار ، وسنشير إلى بعضها الآخر في ترجمة يحيى بن أكثم في أخبار حرمة الخمر إن شاء الله.

أخبار حرمة المعازف والملاهي

في الأمالي : في مناهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه نهى عن الكوبة والعرطبة يعني الطبل والطنبور والعود.

وروى الصدوق في الخصال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله بعثني رحمة للعالمين ولأمحق المعازف والمزامير وأمور الجاهليّة.

وقال الرضا عليه‌السلام : استماع الأوتار من الكبائر. هكذا في روضات الجنّات في ترجمة الأمير غياث الدين منصور بن محمّد بن إبراهيم الدشتكي الشيرازي.

وفيه أيضا : إنّه سمع أمير المؤمنين عليه‌السلام رجلا يضرب بالطنبور فمنعه وكسر طنبوره ثمّ استتابه فتاب. ثمّ قال عليه‌السلام : أتعرف ما يقول الطنبور حين يضرب؟ فقال : وصيّ رسول الله أعلم. فقال : إنّه يقول : ستذم ستذم أيا صاحبي ستدخل جهنّم أيا ضاربي.

٢٦٤

وفيه : وفي جامع الأخبار وغيرهما : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يحشر صاحب الطنبور يوم القيامة وهو أسود الوجه وبيده طنبور من النار وفوق رأسه سبعون ألف ملك بيد كلّ ملك مقمعة يضربون رأسه ووجهه ، ويحشر صاحب الدفّ أعمى وأخرس وأبكم ، ويحشر صاحب الغناء مثل ذلك ، ويحشر الزاني مثل ذلك ، ويحشر صاحب المزمار مثل ذلك.

وعن فقه الرضا : من أبقى في بيته طنبورا أو عودا أو شيئا من الملاهي من المعزفة والشطرنج وأشباهه أربعين يوما فقد باء بغصب من الله ، فإن مات في أربعين مات فاجرا فاسقا ومأواه النار وبئس المصير.

وعن الخصال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ستّة لا ينبغي أن يسلّم عليهم : اليهود والنصارى وأصحاب النرد والشطرنج وأصحاب الخمر والبربط والطنبور والمتفكّهون بسبّ الأمّهات.

وروى الصدوق في علل الشرايع : سأل الشامي أمير المؤمنين عن معنى هدير الحمام الراعبيّة ، فقال : تدعو على أهل المعازف والقيان والمزامير والعيدان.

قتل محمود فرج

قال أبو الوليد في روض المناظر : وفي سنة خمس وثلاثين ومأتين ظهر رجل بسامرّاء يقال له محمود فرج ، وادّعى النبوّة ، وتبعه سبعة وعشرون رجلا وأتي به إلى المتوكّل فأمر أصحابه أن يصفعون ، فصفعه كلّ واحد منهم عشر صفعات وضربه حتّى مات ، وحبس أصحابه.

٢٦٥

وممّن توفّي في سامرّاء : أبو الهذيل العلّاف

وقد أتينا بأخباره في ذكر قضاة سامرّاء وعلمائها.

ومنهم : محمّد بن عبد الملك الزيّات

وزير المعتصم الواثق ، توفّي في سامرّاء سنة ٢٣٣ وكان كاتبا بليغا ذا فضل وافر ، وله أشعار رائقة وديوان رسائل ، وكان قد هجا القاضي أحمد بن أبي داود بتسعين بيتا فعمل فيها القاضي بيتين على ما يأتي في ترجمة أحمد بن أبي داود.

وكان ابن الزيّات قد اتّخذ في أيّام وزارته تنّورا من حديد وبأطرافه مسامير محدودة إلى داخل التنّور وهي قائمة وكان يعذّب فيه المصادرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال ، فكيف ما انقلب واحد منهم أو تحرّك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه فيجدون لذلك أشدّ الألم ، ولم يسبقه أحد لهذه المعاقبة.

فلمّا تولّى المتوكّل الخلافة اعتقل ابن الزيّات وأمر بإدخاله التنّور وقيّده بخمسة عشر رطلا من الحديد ، فأقام في التنّور أربعين يوما ثمّ مات.

وقال المسعودي : إنّه قال للمتوكّل بأن يأذن له في دواة وبطاقة يكتب فيها ما يريد ، فاستأذن المتوكّل في ذلك ، فأذن له ، فكتب :

هي السبيل فمن يوم إلى يوم

كأنّه ما تريك العين في نوم

لا تجزعنّ رويدا إنّها دول

دنيا تنقّل من قوم إلى قوم

قال : وتشاغل المتوكّل في ذلك اليوم فلم تصل الرقعة إليه ، فلمّا كان الغد قرأها فأمر بإخراجه فوجده ميّتا.

قال ابن خلّكان : قال أحمد الأحول : لمّا قبض على ابن الزيّات تلطّفت إلى أن وصلت إليه ، فرأيته في حديد ثقيل ، فقلت له : يعزّ عليّ ما أرى ، فقال :

٢٦٦

سل ديار الحمّى من غيّرها

وعفاها ومحى منظرها

وهي الدنيا إذا ما أقبلت

صيّرت معروفها منكرها

إنّما الدنيا كظلّ زائل

نحمد الله الذي قدّرها

ولمّا جعل في التنّور قال له خادمه : يا سيدي ، قد صرت إلى ما صرت إليه وليس لك حامد.

وقال ابن الأثير في الكامل : فلمّا مات حضره ابناه سليمان وعبيد الله وكانا محبوسين ، وطرح على الباب في قميصه الذي حبس فيه ، فقالا : الحمد لله الذي أراحه من هذا الفاسق وغسّلاه على الباب ودفناه. وقيل : إنّ الكلاب نبشته وأكلت لحمه.

ومنهم : عليّ بن جعفر المدني

قال المسعودي في مروج الذهب : ومات في خلافة المتوكّل جماعة من أهل العلم ونقلة الآثار وحفّاظ الحديث منهم عليّ بن جعفر المدني بسامرّاء يوم الاثنين لثلاث بقين من ذي الحجّة سنة أربع وثلاثين ومأتين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة وأشهر.

أقول : إن كان مراده عليّ بن جعفر الصادق عليه‌السلام فهو مدفون بالعريض قرب المدينة ، وإن كان غيره فلا نعرفه لأنّ عليّ بن جعفر الوكيل الذي هو من أصحاب أبي الحسن العسكري الثقة الجليل القدر ليس بمدنيّ ، وعليّ بن جعفر الهرمزانيّ القمّي وعليّ بن جعفر الهمداني البرمكيّ أيضا ليسا بمدنيّين.

وأمّا عليّ بن جعفر الصادق عليه‌السلام لمّا توفّي لم يكن عمره أقلّ من مائة سنة لأنّه أدرك الإمام عليّا الهادي عليه‌السلام وكان يروي عن أبيه جعفر الصادق عليه‌السلام وكانت وفاة

٢٦٧

الصادق عليه‌السلام سنة ١٤٨ ، ومقتضى روايته عن الإمام عليّ الهادي حين توفّي ابنه أبو جعفر السيّد محمّد عليه‌السلام سنة ٢٥٢ أن لا يكون عمره أقلّ من مائة وعشرين سنة ، والله العالم.

أقوال العلماء في حقّه

قال المامقاني رحمه‌الله في رجاله : إنّه عليه‌السلام جليل القدر ، عظيم المنزلة. عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق تارة ، وأخرى من أصحاب أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام وثالثة من أصحاب الرضا عليه‌السلام.

وقال في الفهرست : عليّ بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، جليل القدر ثقة ، وله كتاب المناسك ، ومسائل لأخيه موسى الكاظم عليه‌السلام سأله عنها.

وقال النجاشي : أبو الحسن عليّ بن جعفر سكن العريض من نواحي المدينة فنسب ولده إليها ، له كتاب في الحلال والحرام.

وقال العلّامة في القسم الأوّل من الخلاصة أنّه ثقة. روى الكشّي عنه ما يشهد بصحّة عقيدته وتأدّبه مع أبي جعفر الثاني ، وحاله أجلّ من ذلك ، سكن العريض ـ بضمّ العين المهملة ـ من نواحي المدينة فنسب ولده إليها ، وكونه من أصحاب الأئمّة الثلاثة الصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام ممّا لا ريب فيه ولا شبهة.

وقال المفيد في الإرشاد : وكان عليّ بن جعفر راويا للحديث ، سديد الطريق ، شديد الورع ، كثير الفضل ، ولزم أخاه موسى وروى عنه شيئا كثيرا.

وروى الكشّي في رجاله بإسناده عن عليّ بن أسباط وغيره عن عليّ بن جعفر بن محمّد عليهم‌السلام : قال رجل أحسبه من الواقفة : ما فعل أخوك أبو الحسن؟ قلت : قد

٢٦٨

مات. قال : وما يدريك بذاك؟ قال : قلت : اقتسمت أمواله ونكحت نساؤه ونطق الناطق من بعده. قال : ومن الناطق بعده؟ قلت : ابنه عليّ. قال : فما فعل؟ قلت له : مات. قال : وما يدريك إنّه مات؟ قلت : قسمت أمواله ونكحت نساؤه ونطق الناطق من بعده. قال : ومن الناطق من بعده؟ قلت : ابنه أبو جعفر. قال : فقال لي : أنت في سنك وقدرك وابن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام تقول هذا القول في هذا الغلام ، قلت : ما أراك إلّا شيطانا. قال : ثمّ أخذ بلحيته فرفعها إلى السماء ، ثمّ قال : فما حيلتي إن كان الله رآه أهلا لهذا ولم ير هذه الشيبة لهذا أهلا.

وفيه أيضا بالإسناد عن أبي عبد الله الحسين بن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام بالمدينة وعنده عليّ بن جعفر عليه‌السلام وأعرابيّ من أهل المدينة جالس ، فقال الأعرابي : من هذا الفتى ـ وأشار إلى أبي جعفر عليه‌السلام ـ؟ قلت : هذا وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال : يا سبحان الله ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد مات منذ مأتي سنة وكذا وكذا سنة وهذا حدث كيف يكون هذا؟ قال : قلت : هذا وصيّ عليّ بن موسى بن جعفر ، وموسى وصيّ جعفر بن محمّد ، وجعفر وصيّ محمّد بن عليّ ، ومحمّد وصيّ عليّ ابن الحسين ، والحسين وصيّ الحسن ، والحسن وصيّ عليّ بن أبي طالب ، وعليّ وصيّ رسول الله.

قال : ودنا الطبيب ليقطع له العرق ، فقام عليّ بن جعفر فقال : يا سيّدي ، يبدأ بي ليكون حدّة الحديد في قبلك. قال : فقطع له العرق.

تأدّبه مع الإمام الجواد عليه‌السلام

قال في الخبر السابق : ثمّ أراد أبو جعفر عليه‌السلام النهوض ، فقام عليّ بن جعفر عليه‌السلام فسوّى له نعليه حتّى يلبسهما.

٢٦٩

وروى الكليني في باب النصّ على الجواد عليه‌السلام من أصول الكافي بإسناده عن محمّد ابن الحسن بن عمّار قال : كنت عند عليّ بن جعفر بن محمّد جالسا بالمدينة وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما يستمع من أخيه يعني أبا الحسن موسى عليه‌السلام إذ دخل عليه أبو جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه‌السلام المسجد مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوثب عليّ بن جعفر بلا حذاء ولا رداء فقبّل يده وعظّمه ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : يا عم ، اجلس رحمك الله. فقال : يا سيّدي ، كيف أجلس وأنت قائم؟!

فلمّا رجع عليّ بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبّخونه ويقولون : أنت عمّ أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال : اسكتوا ، إذا كان الله عزوجل ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهّل هذه الشيبة وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه أنكر فضله؟! نعوذ بالله ممّا تقولون ، بل أنا عبد له.

هذا يدلّ على حسن عقيدته ونهاية أدبه.

تعيين مشهده

قال المسعودي : توفّي في سامرّاء ـ كما عرفت آنفا ـ ولم أستبعد ذلك لو صحّت روايته عن أبي الحسن الهادي عليه‌السلام في سامرّاء.

قال العلّامة النوري في المجلّد الثالث من المستدرك (١) : روى الكليني في باب النصّ على العسكري عليه‌السلام : عليّ بن محمّد ، عن موسى بن جعفر بن وهب ، عن عليّ بن جعفر قال : كنت حاضرا أبا الحسن لمّا توفّي ابنه محمّد ، فقال للحسن عليه‌السلام ابنه : يا بني ، أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك أمرا ، انتهى.

وحضوره في ذلك الوقت في سامرّاء وقد طعن في السنّ لعلّه يقرب أنّه توفّي

__________________

(١) المستدرك للوسائل ٣ : ٦٢٧.

٢٧٠

فيها ، غير أنّ المسعودي صرّح بأنّ وفاته كانت في سنة ٢٣٤ ، وكانت وفاة أبي جعفر محمّد ابن عليّ الهادي في حدود سنة ٢٥٢ كما ستعرف في محلّه.

وتوفّي الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام سنة ٢٥٤ ، فعلى هذا التاريخ إسناد الرواية إليه غير صحيح ، والله الأعلم.

أضف أنّ الرواية مرويّة في بصائر الدرجات بالإسناد عن عليّ بن عبد الله بن مروان الأنباري قال : كنت حاضرا عند مضي أبي جعفر بن أبي الحسن العسكري ، إلى آخرها.

ورواه المفيد في الإرشاد والطبرسي في إعلام الورى بالإسناد عن سعد بن عبد الله ، عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الأفطس أنّهم حضروا يوم توفّي محمّد بن عليّ بن محمّد عليه‌السلام ، إلى آخرها.

ورواه الشيخ في غيبته بالإسناد عن ابن أبي الصهبان قال : لمّا مات أبو جعفر ، إلى آخرها.

وفي جميع هذه الروايات ليس فيها ذكر عن عليّ بن جعفر ، ويحتمل قويّا حضور بعض ولده في الرواية المشار إليها ، والله العالم.

والاحتمال الثاني أنّه مدفون بقم ، جزم بذلك المولى محمّد تقي المجلسي قدس‌سره في شرحه للفقيه ، قال بعد ترجمته وذكر فضائله : وبالجملة فجلالة قدره أجلّ من أن يذكر ، وقبره بقم مشهور ، وسمعت أنّ أهل الكوفة التمسوا منه مجيئه من المدينة إليهم وكان في الكوفة مدّة وأخذ أهل الكوفة الأخبار عنه وأخذ منهم أيضا ، ثمّ استدعى القميّون نزوله إليهم ، فنزلها وكان بها حتّى مات رضي‌الله‌عنه وأرضاه ، وانتشر أولاده في العالم ؛ ففي اصبهان قبر بعض أولاده منهم السيّد كمال الدين في قرية «سين برخوار» من قرى اصفهان ، وقبره يزار ، وسادات نطنز أكثرهم من أولاده ، منهم السيّد أبو المعالي ، والسيّد أبو علي ، وأولادهما باصبهان من الأعاظم في الدين والدنيا ، انتهى.

٢٧١

وقال ولده العلّامة المجلسى قدس‌سره في البحار : ثمّ اعلم أنّ المشاهد المنسوبة إلى أولاد الأئمّة الهادية والعترة الطاهرة وأقاربهم صلوات الله عليهم يستحبّ زيارتها والإلمام بها ـ إلى أن قال : ـ وعليّ بن جعفر المدفون بقم جلالته أشهر من أن يحتاج إلى البيان ، وأمّا كونه مدفونا بقم فغير مذكور في الكتب المعتبرة ، لكن أثر قبره الشريف موجود وعليه اسمه مكتوب ، انتهى.

مشهده بالعريض

قال العلّامة النوري قدس‌سره في المجلّد الثالث من المستدرك (١) بعد نقل كلام المجلسيّين رحمهما‌الله : وإنّي لأتعجّب من هذين الجليلين الماهرين الخبيرين واحتمالهما كون عليّ بن جعفر مدفونا بقم فضلا عن الظنّ أو الجزم به ، لما سمعه الأوّل ممّا لا أصل له ، وذكر الثاني من كتابة الاسم على القبر ، بل القرائن الكثيرة المعتبرة تشهد بعدم كونه فيه. ثمّ أخذ في ذكر القرائن بأنّه مدفون بالعريض وهي قرية على أربعة أميال من المدينة. وحاصل ما ذكره أنّه قال:

منها : عدم ذكر ذلك في الكتب مع أنّ عليّ بن جعفر جمع بين السيادة والفضل والجلالة وكثرة الرواية والاشتهار ، ولو كان ممّن هاجر إلى قم ومات فيه لتعرّض له أهل الرجال كتعرّضهم كثيرا في التراجم أنّ فلانا كوفيّ مثلا انتقل إلى البصرة أو هاجر أو سكن بلد كذا ، وكذا أهل الأنساب مع أنّهم ذكروا مقامه وجلالته ، وكتبه والطريق إليه ، وما ورد فيه ولم يذكر أحد أنّه هاجر إلى العجم.

ومنها : إنّه لو كان في قم لأخذوا الأخبار عنه فكيف تركوا الأخذ عنه ، والرواية عنه ، وهم الذين كانوا يشدّون الرحال إلى أقاصي البلاد لأخذ الحديث من حملته ،

__________________

(١) المستدرك ٣ : ٦٢٦.

٢٧٢

وهم الذين سافروا من قم إلى اصبهان وهو أبعد البلاد من الشيعة لأخذ الحديث عن إبراهيم الثقفي الذي هاجر من الكوفة إليه ، ومع ذلك يتركون أخذ الحديث ممّن نزل فيهم ، وهو الشيخ الكبير العالم الجليل ابن الإمام وأخوه وعمّه ، وعنده ما تشتهيه الأنفس وتلذّ القلوب.

ومنها : أنّ الفاضل الماهر الخيّر الحسن بن محمّد بن الحسن القمّي المعاصر للصدوق رحمه‌الله ذكر السادات وذكر أوّل من نزل منهم بقم ، وذكر السادات العريضيّة وقال : أوّل من نزل منهم بقم الحسن بن عيسى بن محمّد بن عليّ بن جعفر الصادق عليهم‌السلام ، ثمّ شرع في شرح حال ذرّيّته ولم يذكر من عليّ بن جعفر شيئا أبدا ، وأنت خبير بأنّه لو كان جدّ هؤلاء السادة عليّ بن جعفر ممّن نزل بقم ودفن فيها لكان أولى بالذكر من جميعهم ، وما كان ليخفى عليه كما يظهر لمن نظر إلى هذا الكتاب يعني تاريخ قم واطّلاعه على جميع ما يتعلّق بهذه البلدة الطيّبة وقراها ، وهذا ممّا يورث القطع بالعدم.

والحقّ أنّ قبره بالعريض كا هو معروف عند أهل المدينة. قال : وقد نزلنا عنده في بعض أسفارنا ، وعليه قبّة عالية ، وأمّا الموجود في قم فيمكن أن يكون من أحفاده ، وأمّه أمّ ولد ، يقال لولده العريضيّون. ثمّ إنّ الذي ادّعى أنّ اسمه مكتوب عليه فقد نقش عليه فلان بن فلان بن عليّ بن جعفر فمحي بعض الأسماء وبقي اسمه فظنّوا أنّه قبره.

ومنهم : جعفر المعروف بالكذّاب

تقدّم في الجزء الأوّل أنّه توفّي في سامرّاء ودفن في الدار بجنب أبيه الإمام عليّ الهادي وأخيه الحسن العسكري عليهما‌السلام. كانت ولادته في سنة إحدى وسبعين ومأتين.

٢٧٣

وجاء في هامش الفرق والمذاهب للنوبختي المطبوع بالنجف الأشرف : كان عمره خمسا وأربعين سنة وقبره في دار أبيه بسامرّاء.

وقال ابن عنبة في عمدة الطالب : وكنيته أبو البنين ، ويدعى أبا كرين لأنّه أولد مائة وعشرين ولدا (إذ الكرّ ستّون قفيزا) ولقّب بالكذّاب لادّعائه الإمامة بعد أخيه الحسن عليه‌السلام.

ختم أمره بالغفران

إنّ جعفرا فعل ما فعل وقال ما قال وادّعى ما ادّعى ثمّ تاب وأتاب ورجع إلى الحقّ والصواب إن شاء الله.

لما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمّد بن عثمان العمري أن يوصل إليه عليه‌السلام ما سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام : أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك من أمر المنكرين من أهل بيتنا وبني عمّنا ، فاعلم أنّه ليس بين الله عزوجل وبين أحد قرابة ، ومن أنكرني فليس منّي وسبيله سبيل ابن نوح ، وأمّا سبيل عمّي جعفر وولده فسبيل إخوة يوسف.

فقوله : «فسبيل إخوة يوسف» ظاهره العفو والإغماض عمّا ارتكبه جعفر ، وأنّه تاب وأناب كما أنّ إخوة يوسف تابوا عمّا فعلوا بأخيهم يوسف فلا نقول فيه إلّا خيرا غير أنّا ننقل ما ورد فيه من الأخبار الدالّة على ذمّ عظيم من المصادر الوثيقة والله غفور رحيم(١).

__________________

(١) القول في ختام أولاد الأئمّة عليهم‌السلام بالخير :

روى الصدوق في الأمالي بإسناده عن أبي سعيد المكاري قال : ذكر في مجلس أبي عبد الله عليه‌السلام خروج ـ

٢٧٤

عدم سرور الإمام عليه‌السلام بولادته

روى الصدوق رحمه‌الله في الإكمال ، وعليّ بن عيسى الأربلي في كشف الغمّة ، والعلّامة المجلسي في البحار بالأسانيد عن فاطمة ابنة الهيثم المعروف بابن سبانة قالت : كنت في دار أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكري عليهما‌السلام في الوقت الذي ولد فيه جعفر ، فرأيت أهل الدار قد سرّوا به ، فصرت إلى أبي الحسن عليه‌السلام فلم أره مسرورا بذلك ، فقلت له : يا سيّدي ، ما لي أراك غير مسرور بهذا المولود؟ فقال عليه‌السلام : هوّني عليك فإنّه سيضلّ خلقا كثيرا.

__________________

ـ زيد وأصحابه ، فأراد رجل من أهل المجلس أن يتكلّم في زيد ، فقال عليه‌السلام : مهلا ، ليس لكم أن تدخلوا بيننا إلّا بسبيل خير ، إنّه لم تمت نفس منّا إلّا تدركه السعادة قبل أن تخرج نفسه ولو بفواق ناقة. قال : قلت : وما فواق ناقة ، قال حلابها.

وروى المجلسي في المجلّد الثاني عشر من البحار عن تاريخ قم للحسن بن محمّد القمّي ، قال : رويت عن مشايخ قم أنّ الحسين بن الحسن بن جعفر بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق عليه‌السلام كان بقم يشرب الخمر علانية ، فقصد يوما لحاجة باب أحمد بن إسحاق الأشعري ، وكان وكيلا في الأوقاف بقم ، فلم يأذن له ورجع إلى بيته مهموما ، فتوجّه أحمد بن إسحاق إلى الحجّ فلمّا بلغ سرّ من رأى استأذن على أبي محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام فلم يأذن له ، فبكى أحمد لذلك طويلا وتضرّع حتّى أذن له ، فلمّا دخل قال : يابن رسول الله ، لم منعتني الدخول عليك وأنا من شيعتك ومواليك؟ قال : لأنّك طردت ابن عمّنا عن بابك ، فبكى أحمد وحلف بالله أنّه لا يمنعه من الدخول إليه إلّا أن يتوب من شرب الخمر ، قال : صدقت ولكن لا بدّ من إكرامهم واحترامهم على كلّ حال ، وأن لا تحقّرهم ولا تستهين بهم لانتسابهم إلينا فتكون من الخاسرين.

فلمّا رجع أحمد إلى قم أتاه أشرافهم وكان الحسين معهم ، فلمّا رآه أحمد وثب إليه واستقبله وأكرمه وأجلسه في صدر المجلس ، فاستغرب الحسين ذلك منه واستبعده وسأله عن سببه ، فذكر له ما جرى بينه وبين العسكري عليه‌السلام في ذلك ، فلمّا سمع ذلك ندم من أفعاله القبيحة وتاب منها ورجع إلى بيته وأهرق الخمور وكسر آلاتها وصار من الأتقياء المتورّعين والصلحاء المتعبّدين ، وكان ملازما للمساجد معتكفا فيها حتّى أدركه الموت ودفن قريبا من مزار فاطمة بنت موسى بن جعفر عليه‌السلام.

٢٧٥

أمر الإمام عليه‌السلام بالتجنّب عن جعفر

روى السيّد هاشم البحراني في الحادي والسبعين من معاجز الحجّة عجّل الله تعالى فرجه عن كتاب الهداية للحسين بن حمدان الخصيبي أنّه روى عن محمّد بن عبد الحميد البزّاز وأبي الحسين محمّد بن يحيى ومحمّد بن ميمون الخراساني والحسين ابن مسعود الفزاري قالوا جميعا : قال وقد سألتهم في مشهد سيّدنا أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام بكربلا عن جعفر وما جرى من أمره قبل وفاة سيّدنا أبي الحسن وأبي محمّد عليهما‌السلام صاحبي العسكر وبعد غيبة سيّدنا أبي محمّد عليه‌السلام وما ادّعاه جعفر وما ادّعي له ، فحدّثوني من جملة أخباره أنّ سيّدنا أبا الحسن كان يقول لهم : تجنّبوا ابني جعفرا فإنّه منّي بمنزلة نمرود من نوح الذي قال الله عزوجل فيه : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)(١) قال الله : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ)(٢).

وإنّ أبا محمّد كان يقول بعد أبي الحسن عليه‌السلام : الله الله أن يظهروا سرّا لأخي جعفر ، ما مثلي ومثله إلّا مثل هابيل وقابيل ابني آدم حيث حسد قابيل هابيل على ما أعطاه من الحشمة ولو تهيّأ لجعفر قتلي لفعل ولكن الله غالب على أمره ، ولقد كان عهدنا لجعفر وكلّ من في البلدة من العسكر والحاشية والرجال والنساء والخدم يشكون إلينا إذا وردنا الدار أمر جعفر فيقولون : إنّه يلبس المصنعات مثل النساء ، ويضرب له بالعيدان ، ويشرب الخمر ، ويبذل الدراهم والخلع لمن في داره على كتمان ذلك عليه ، فيأخذون منه ولا يكتمون.

وإنّ الشيعة بعد أبي محمّد هجروه وتركوا السلام عليه ، وإنّ جعفرا لمّا كان في ليلة وفاة أبي محمّد عليه‌السلام ختم على الخزائن وكلّما في الدار فلمّا أصبح رأى أنّه لم يبق في

__________________

(١) هود : ٤٥.

(٢) هود : ٤٦.

٢٧٦

الخزائن ولا في الدار إلّا شيء يسير ، فضرب جماعة الخدم والإماء ، فقالوا : لا تضربنا فو الله لقد رأينا الأمتعة والذخائر تحمل على جمال في الشارع ونحن لا نستطيع الكلام ولا الحركة إلى أن سارت الجمال وأغلقت الأبواب كما كانت ، فولّى جعفر يضرب على رأسه أسفا على ما أخرج من الدار وإنّه بقي يأكل ما كان له ويبيع حتّى لم يبق له قوت يوم ، وكان له من الأولاد أربعة وعشرون ـ وفي خبر مائة وعشرون ـ بين ذكور وإناث ، وكان له من أمّهات الأولاد والخدم والحشم والغلمان فبلغ به الفقر إلى أن أمرت جدّة أمّ أبي محمّد عليه‌السلام أن يجري عليه من مالها الدقيق واللحم والشعير والتبن لدوابّه والكسوة لأولاده وأمّهاتهم وحشمه وغلمانه ونفقاتهم ، ولقد ظهرت منه أشياء أكثر ممّا وصفناه ، ونسأل الله العصمة والعافية من البلاء في الدنيا والآخرة.

بيع جعفر حرّة هاشميّة

روى الكليني رحمه‌الله بسنده عن عليّ بن محمّد قال : باع جعفر فيمن باع من مماليك أبي جعفر صبية جعفريّة ـ أي من أولاد جعفر الطيّار ـ كانت في الدار ، فبعث بعض العلويّين وأعلم المشتري خبرها ، فقال المشتري : قد طابت نفسي بردّها وأن لا أزرا ـ أي لا أنقص ـ من ثمنها شيئا ، فذهب العلوي وأعلم أهل الناحية الخبر ، فبعثوا إلى المشتري بأحد وأربعين دينارا وأمروه بدفعها إلى صاحبها ـ أي إلى وليّها من آل جعفر الطيّار ـ.

إخبار زين العابدين عليه‌السلام عن مآثم جعفر

روى الشيخ الطبرسي في الاحتجاج وغيره في غيره عن أبي حمزة الثمالي عن أبي

٢٧٧

خالد الكابلي قال : سألت عليّ بن الحسين من الحجّة والإمام من بعده؟ فقال : ابني محمّد ، واسمه في التوراة الباقر ؛ يبقر العلم بقرا ، هو الحجّة والإمام بعدي ، ومن بعد محمّد ابنه جعفر واسمه عند أهل السماء الصادق.

فقلت له : يا سيّدي ، كيف صار اسمه الصادق وكلّكم صادقون؟

فقال : حدّثني أبي عن أبيه عليهما‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إذا ولد ابني جعفر بن محمّد ابن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فسمّوه الصادق ، فإنّ الخامس من ولده الذي اسمه جعفر يدّعي الإمامة اجتراء على الله وكذبا عليه ، فهو عند الله جعفر الكذّاب المفتري على الله المدّعي لما ليس له بأهل ، المخالف على أبيه ، والحاسد لأخيه ، وذلك الذي يكشف سرّ الله عند غيبة وليّ الله.

ثمّ بكى عليّ بن الحسين بكاء شديدا ثمّ قال : كأنّي بجعفر الكذّاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر وليّ الله والمغيب في حفظ الله والتوكيل بحرم أبيه جهلا منه بولادته وحرصا على قتله إن ظفر به طمعا في ميراث أبيه حتّى يأخذه بغير حقّه ، الحديث.

توقيع الحجّة عليه‌السلام إلى أحمد بن إسحاق في حقّ جعفر

وروى أيضا في الاحتجاج عن سعد بن عبد الله الأشعري عن الصدوق ، عن أحمد ابن إسحاق القمّي قال : إنّه جاء إليه بعض أصحابنا يعلمه بأنّ جعفر بن عليّ الهادي كتب إليه كتابا يعرّفه نفسه ويعلمه أنّه القيّم بعد أخيه ، وأنّ عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه وغير ذلك من العلوم كلّها.

قال أحمد بن إسحاق : فلمّا قرأت الكتاب كتبت إلى صاحب الزمان وصيّرت كتاب جعفر في درجه ، فخرج إليّ الجواب في ذلك : «بسم الله الرحمن الرحيم ، أتاني

٢٧٨

كتابك أبقاك الله ، والكتاب الذي في درجه وأحاطت معرفتي بما تضمّنه على اختلاف ألفاظه وتكرّر الخطأ فيه ، ولو تدبّرته لوقفت على بعض ما وقفت عليه منه ، والحمد لله ربّ العالمين حمدا لا شريك له على إحسانه إلينا وفضله علينا ، أبى الله عزوجل للحقّ إلّا إتماما ، وللباطل إلّا زهوقا ، وهو شاهد عليّ بما أذكره ولي عليكم كفيل بما أقوله إذا اجتمعنا بيوم لا ريب فيه ، وسألنا عمّا نحن فيه مختلفون ، وإنّه لم يجعل لصاحب الكتاب على من كتب إليه ولا عليك ولا على أحد من الخلق جميعا إمامة مفترضة ولا طاعة ولا ذمّة ، وسأبيّن لكم جملة تكتفون بها إن شاء الله.

يا هذا ، يرحمك الله ، إنّ الله تعالى لم يخلق الخلق عبثا ، ولا أمهلهم سدى ، بل خلقهم بقدرته وجعل لهم أبصارا وأسماعا ، وقلوبا وألبابا ، ثمّ بعث إليهم النبيّين عليهم‌السلام مبشّرين ومنذرين يأمرونهم بطاعته وينهونهم عن معصيته ، ويعرّفوهم ما جهلوه من أمر خالقهم ودينهم ، وأنزل عليهم كتابا بعث إليهم ملائكته ، وبيّن فضلهم عليهم بما آتاهم من الدلائل الظاهرة ، والبراهين الباهرة ، والآيات الغالبة ، فمنهم من جعل عليه النار بردا وسلاما ، واتّخذه خليلا ، ومنهم من كلّمه تكليما ، وجعل عصاه ثعبانا مبينا ، ومنهم من أحيا الموتى بإذن الله وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله ، ومنهم من علّمه منطق الطير وأوتي من كلّ شيء.

ثمّ بعث محمّدا رحمة للعالمين ، وتمّم به نعمته ، وختم به أنبيائه ورسله إلى الناس كافّة ، وأظهر من صدقه ما ظهر ، وبيّن من آياته وعلاماته ما بيّن ، ثمّ قبضه حميدا ، فقيدا سعيدا ، وجعل الأمر من بعده إلى أخيه وابن عمّه ووصيّه ووارثه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ثمّ إلى الأوصياء من ولده واحدا بعد واحد ، أحيا بهم دينه ، وأتمّ بهم نوره ، وجعل بينهم وبين إخوتهم وبني عمّهم والأدنين من ذوي أرحامهم فرقا بيّنا تعرف به الحجّة من المحجوج ، والإمام من المأموم ، بأن عصمهم من الذنوب ، وبرأهم من العيوب ، وطهّرهم من الدنس ، ونزّههم من اللبس ، وجعلهم خزّان

٢٧٩

علمه ، ومستودع حكمته ، وموضع سرّه ، وأيّدهم بالدلايل ، ولو لا ذلك لكان الناس على سواء ، ولادّعى أمر الله عزوجل كلّ واحد ، ولما عرف الحقّ من الباطل ، ولا العلم من الجهل.

وقد ادّعى هذا المبطل المدّعي على الله الكذب بما ادّعاه ، فلا أدري بأيّة حالة هي له رجاء أن يتمّ دعواه؟ أبفقه في دين الله؟ فو الله ما يعرف حلالا من حرام ، ولا يفرّق بين خطأ وصواب ، أم بعلم؟ فما يعلم حقّا من باطل ، ولا محكما من متشابه ، ولا يعرف حدّ الصلاة ووقتها ، أم بورع؟ فالله شهيد على تركه لصلاة الفرض أربعين يوما ، يزعم ذلك لطلب الشعبذة ، ولعلّ خبره تأدّى إليكم ، وهاتيك ظروف مسكره منصوبة ، وآثار عصيانه لله عزوجل مشهورة قائمة ، أم بآية؟ فليأت بها ، أم بحجّة؟ فليلقها ، أم بدلالة الكتاب من الله العزيز الحكيم؟ (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١) الآيات.

فالتمس وفّقك الله من هذا الظالم ما ذكرت له وامتحنه واسأله آية من كتاب الله يفسّرها ، أو صلاة يبيّن حدودها وما يجب فيها ، لتعلم حاله ومقداره ، ويظهر لك عوراه ونقصانه ، والله حسيبه ، حفظ الله الحقّ على أهله ، وأقرّه في مستقرّه ، وقد أبى الله عزوجل أن تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين ، وإذا أذن الله لنا في القول ظهر الحقّ واضمحلّ الباطل وانحسر عنكم ، وإلى الله أرغب في الكفاية وجميل الصنع والولاية ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

__________________

(١) الأحقاف : ٣ و ٤.

٢٨٠