مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-037-4
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٣٧٢

وقفت عن المشي كأنّها صار لها جناحان فجعلت تمشي بأسرع مشي وأحسنه حتّى وردوا إلى سامرّاء قبل نزول القافلة بزمان ، ولم يمرّوا بالقافلة في طريقهم ولم يروا أحدا منهم ، نزلوا في الدار التي كان نزل بها ابن عمّنا العلّامة الحاجّ الميرزا محمّد حسين الشهرستاني ، وكان قد زار قبلهم ، ولمّا رآهم وردوا قبل الزوّار تعجّب من ذلك وقال : كيف وردتم قبل نزول القافلة منفردين مع هذا الطريق المخوف؟ ثمّ ورد السيّد مع القافلة بعدهم بزمان وكانوا في غاية التشويش والاضطراب لفقدهم ذلك المحمل ، فلمّا رأوهم فرحوا وعلموا أنّه من بركات الإمام المنتظر عليه‌السلام ، فحمدوا الله حمد الشاكرين.

الثانية عشرة : عروض العمى على السيّد شاهر وزواله

حدّث العلّامة النوري قدس‌سره في دار السلام (١) عن الثقة الأمين آقا محمّد الشمّاع ، قال : إنّ السيّد شاهر كان أخا للسيّد حسين الكليدار والد السيّد علي الكليدار ـ الذي تشيّع بسبب شيخنا الأستاذ العلّامة الشيخ عبد الحسين الطهراني أعلى الله مقامه ـ وكان نائب أخيه في فتح أبواب الروضة المقدّسة للعسكريّين عليهما‌السلام وإغلاقها ، قال : كنت ليلة في الحرم الشريف إلى أن خرج من كان فيه ولم يبق أحد ، فأردت إغلاق الباب فأغلقت أحد البابين ، ولمّا أردت إغلاق الآخر رأيت سيّدا جليلا نبيلا دخل الحضرة في غاية من السكينة والوقار بتمام الخشوع ، فقلت : لعلّه يخفّف في زيارته ، فما منعته عن الدخول ، وكان بيده كتابا ، فلمّا استقرّ تجاه القبر المطهّر شرع في الزيارة الجامعة الكبيرة بترتيل واطمينان ويبكي في خلالها بكاء شديدا ، فدنوت منه وسألت منه التخفيف فيها والتعجيل في الخروج ، فلم يلتفت

__________________

(١) دار السلام : ٢٨٤.

٢٢١

إليّ أصلا ، فجلست هنيئة فضاق خلقي فقمت إليه ثانيا وذكرت له بعض ما يسوءه ، فلم يشعر بي وظنّي أنّه ذكر المرّة الثالثة قال : فأخذت الكتاب من يده وأغلظت القول معه فلم يلتفت إليّ كأنّه لم يسمع كلامي وهو على ما عليه من التأنّي والبكاء والخشوع.

قال : فلمّا أخذت الكتاب منه وجدت عيني لا تبصر شيئا أصلا ، فاجتهدت في ذلك فوجدتها عمياء ، فقرّبت نفسي إلى الباب وأخذت بطرفيه منتظرا لخروجه ، فلمّا فرغ من الزيارة مشى إلى خلف الضريح وزار السيّدة نرجس والسيّدة حكيمة وأنا أسمع كلامه ، فلمّا وصل إلى الباب قاصدا للخروج أخذت ثوبه وتضرّعت إليه وأقسمت عليه أن يتجاوز عنّي ويردّ بصري إلى ما كان ، فأخذ منّي الكتاب وأشار إلى عيني فصارت كالأولى كأنّها لم تكن عميا ، فسرحت طرفي فلم أجد أحدا في الرواق ولا في خارجه.

وقد نظم هذه القصّة العلّامة السماوي دام وجوده في وشايح السرّاء (١) ، فقال :

وقد روي عن خادم الشعاع

محمّد المعروف بالشمّاع

عن شاهر أخي الحسين الخازن

وكان في المقام كالمعاون

قال رأيت ذات ليلة فتى

في وقت سدّ الباب مسرعا أتى

فقلت في نفسي هذا عجل

وخير ما أعمل أنّي أمهل

فظلت واقفا وظلّ يدعو

فضاق منّي بدعاه الذرع

وقلت قم واخرج فزار الجامعه

مرتّلا في الكلمات الناصعه

مردّدا في عبرة مقاله

كأنّي لم أطلب استعجاله

وزدته فلم يكن يرتاب

وكان في يمينه كتاب

__________________

(١) وشايح السرّاء : ١٩.

٢٢٢

فجئت واستسلبته منه فما

أدار لي لحظا ولا أجرى فما

فلم أمل حتّى وجدت عيني

عمياء لم تبصر لذات البين

ورحت أمشي مشية الذليل

رجليّ حيرى ويدي دليلي

وصرت بالباب على تربّص

أن سيعود بالرضا مخلصي

وجاء فاقتنصته مستعطفا

فأخذ الكتاب منّي وعفا

من بعد ما استشفعت بالأئمّه

ورمت منه لعيوني الرحمه

فعاد في عيني ذاك النور

كأنّما في يده الأمور

وما عرفت أين عنّي قد خرج

في الأرض غار أو إلى السما عرج

فصرت لا أمنع من قد زارا

ولا أصدّ الليل والنهارا

الثالثة عشرة : رؤيا العلّامة الآغا علي رضا الاصبهاني

جاء في دار السلام (١) ما هذا لفظه ، قال : حدّثني العالم العيلم الآقا علي رضا الاصفهاني قدس‌سره قال : دخل في اصفهان فتى من أعيان بلد كردستان لحاجة عرضت له ، فلمّا طال زمان مكثه دعته الضرورة أن طلب منّي أربعين تومانا فوفيته له ثمّ رجع إلى بلده وأرسل إليّ المبلغ المذكور وزاد عليه أربعة توامين من جهة ربحه ولم أكن أطلبه منه شرعا ، فأخذته وصرفته في حوائجي.

فرأيت ليلة في المنام كأنّ قائلا يقول لي : كيف بك إذا حميت تلك الدراهم فتكوى بها جسدك ولم أعرف القائل ، فانتبهت فزعا مذعورا ولم يكن عهدي التكسّب من مثله غير تلك الواقعة. ثمّ مضى على ذلك قريب من سبع سنين وأخذ منّي رجل سبعين تومانا ورجع إلى بلده فطال الزمان ، فلمّا ردّه بعد تعب ومطالبة

__________________

(١) دار السلام : ٢٩٣.

٢٢٣

أكيدة زاد عليها قريبا من خمسة عشر تومانا ونسيت أن أجعل لها حيلة شرعيّة ، فوفّقت للزيارة.

فلمّا دخلت سامرّاء رأيت فيها العالم الزاهد الجليل المولى زين العابدين السلماسيّ مشغولا بعمارة الروضة البهيّة وكانت بيننا صداقة تامّة وبقيت أيّاما وكنت أبيت الليل في الحضرة المقدّسة وأشتغل بالزيارة والعبادة ، ولمّا كانت ليلة الجمعة أخذت معي كتاب الكافي للكليني رحمه‌الله فبقيت فيه وأغلق الكليدار أبواب الحضرة الشريفة وكنت مشغولا بعملي من الزيارة والصلاة والمطالعة في زمان الكلالة ، فلمّا كان آخر الليل غلبني النوم فدافعته فلم يندفع ، فقمت وأتيت إلى الزاوية التي تلي الرجلين وقعدت متّكئا على الحائط وهجعت فرأيت من حينه أنّ الإمام أبا محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام قد خرج من الضريح المقدّس ووضع كرسيّ هناك وجلس عليه والنور يتلألأ من بين عينيه بحيث لم أقدر على النظر إليه وقال لي : ما هذا الكتاب؟ فقلت : أصول الكافي ، فقال عليه‌السلام : عدّ منه أوراقا ثمّ انظر في الصفحة اليسرى واقرأه لتنظر ما يقول جدّي في حقّ جدّنا إبراهيم عليه‌السلام ، قال : وذكر كلاما آخر نسيته ، ثمّ قال : ألم أعهد إليك قبل ذلك بسبع سنين أنّه لا يحلّ التصرّف في مثل هذه الدراهم فكيف حالك إن حميت جميعها ووضعت على بدنك ، ثمّ قال : قم فإنّ الكليدار جاء واشتغل بفتح الأبواب.

قال : فانتبهت فزعا ووثبت من مكاني دفعة من رعب دخل عليّ بحيث سقطت عمامتي عن رأسي فلم ألتفت إليها وذهبت إلى قريب الباب فسمعت حركة المفتاح واشتغال الكليدار بفتح الباب ، فوقفت هنيئة فالتفتّ أنّ رأسي مكشوف ، فقلت : لو يروني على هذه الحالة لقالوا إنّه لمجنون ، فرجعت ووضعت العمامة على رأسي وخرجت من الروضة المقدّسة خائفا خجلا ، وتائبا متبصّرا ، والحمد لله.

٢٢٤

قال : وفي هذه الحكاية من الألطاف الخفيّة والمواعظ البليغة والأسرار الغيبيّه ما لا يخفى. وقد نظم هذه الحكاية العلّامة السماوي في وشايح السرّاء (١) بقوله : «وذكر النوريّ عمّن قرّضا» إلى آخر ما قال.

الرابعة عشرة : نجاة السيّد محمّد خزانة من حادثة القطار

رأيت بخطّ المولى الحجّة الميرزا محمّد الطهراني نزيل سامرّاء ما حاصل تعريبه ، قال : حدّثني العلّامة المحقّق الفقيه البارع الميرزا هادي الخراساني قال : حدّثني السيّد الورع الجليل السيّد محمّد خزانة قال : خرجت من بغداد يوم الأربعاء سنة ١٣٣٤ متوجّها إلى زيارة أئمّة سامرّاء عليهم‌السلام فلمّا وصلت المحطّة كنت أنتظر مجيء القطار وكان لا يقف فيها إلّا دقايق ليركب الزوّار ، فعزمت على نفسي أنّه إذا طلع من بعيد أسبق الزائرين في الركوب قبل وقوف القطار ، ففعلت فإذا القطار طرحني تحته حين تعلّقت به فلم أشعر بذلك غير أنّي رأيت القطار يمرّ من فوقي وإنّي وقعت إلى يمين السكّة وخرجت من طرف يسارها والقطار يسير ويمشي على رسله ، فلمّا علم السائق وكان رجلا نصرانيّا أوقف القطار وجاء إليّ ولطمني وجاء الناس يوبّخوني ويعاتبوني على ما فعلته ، فلمّا تأمّلوا كيفيّة القضيّة وما جرى عليّ أيقنوا بأنّها معجزة باهرة لأنّهم رأوا أنّ زادي وغراضي صارت مثل الطحين تحت القطار ، وأنا خرجت سالما ما أصابني ألم أصلا ، فاعتذر الناس عنّي ، وقال لي السائق : هذه كرامة وإلّا لم يعهد منذ سنين أنا في هذا العمل أن أرى أحدا وقع تحت القطار وخرج سالما ، والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) وشايح السرّاء : ١٨.

٢٢٥

أقول : سيأتي جملة أخرى في ذيل معجزات العسكريّين في الأجزاء الآتية إن شاء الله ، ونكتفي هنا بهذا القليل لأنّ كرامات قبور الأئمّة عليهم‌السلام غير محصورة لا يمكن إحصاؤها ، ولقد أجاد العلّامة السماوي بعد عدّه شرذمة قليلة منها كما أشار إليها ، قال دام وجوده :

وهي كنجمة من الدراري

أو وردة من يانع الأزهار

أو نقرة الطائر من بحر خضم

أو ذرّة الرضراض من طود أشم

ولا أقول درّة من عقد

لأنّه يحصر عند العدّ

فقد أرى مناقب المحجّب

لم تتّسع لها بطون الكتب

فكيف لو ضممت ما لجدّه

ولأبيه المجتبى من بعده

مناقب بمثلها معاضده

بين رواية إلى مشاهده

ينقلهنّ متق عن متّق

وما يعبح لبنات الطرق

من كلّ غرّاء المحيّا معجزه

لم يجد الشانئ فيها مغمزه

إذ لم يجد ذو مطلب بني الرضا

إلّا انقضى وعاد منه بالرضا

٢٢٦

المدفونون في سامرّاء القديمة ونواحيها من العلماء والأعيان

منهم : إبراهيم بن العبّاس الصولي.

ومنهم : يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمان الحماني. تقدّم تحت عنوان المدفونين حول الروضة البهيّة للعسكريّين عليهما‌السلام.

ومنهم : يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكّيت ـ بكسر السين المهملة والكاف المشدّدة معا وسكون الباء المثنّاة من تحت والتاء المثنّاة من فوق ـ قتله المتوكّل لأجل تشيّعه في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة ٢٤٤.

وفي تاريخ بغداد للخطيب البغدادي إنّه مات وقد بلغ ٥٨ سنة.

قال السيوطي في تاريخ الخلفا (١) : وفي سنة أربع وأربعين ومأتين قتل المتوكّل يعقوب بن السكّيت الإمام في العربيّة فإنّه ندبه إلى تعليم أولاده ، فنظر المتوكّل يوما إلى ولديه المعتزّ والمؤيّد ، فقال لابن السكّيت : من أحبّ إليك : هما أو الحسن والحسين؟ فقال : قنبر مولى عليّ بن أبي طالب خير منهما. فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتّى مات. وقيل : أمر بسلّ لسانه فمات.

وقال الدميري في ترجمة القبّرة من حياة الحيوان : فأمر الأتراك بسلّ لسانه من قفاه ففعلوا به ذلك فمات في التأريخ المذكور.

__________________

(١) تاريخ الخلفا : ١٣٩.

٢٢٧

أقوال العلماء فيه :

قال النجاشي : يعقوب بن إسحاق السكّيت ، كنيته أبو يوسف ، كان مقدّما عند أبي جعفر الثاني وأبي الحسن الثالث عليهما‌السلام وكانا يخصّانه ، وله عن أبي جعفر رواية ومسائل ، وقتله المتوكّل لأجل تشيّعه وأمره مشهور ، وكان وجيها في علم العربيّة واللغة ، ثقة ، مصدّقا ، لا يطعن عليه ، وله كتب ، ثمّ عدّ كتبه الآتي ذكرها.

ومثله في القسم الأوّل من خلاصة العلّامة أعلى الله مقامه ، والباب الأوّل من رجال ابن داود ، ووثّقه في الوجيزة والبلغة والمشتركاتين وغيرها ، وعدّه في الحاوي في فصل الثقات.

وعن الخليل : إنّه من أفاضل الإماميّة وثقاتهم.

وعن المولى صالح : إنّه ثقت ثبت عالم بالعربيّة واللغة ، مصدّق لا يطعن عليه.

وفي مجمع البحرين : إنّه ثقة عند أهل الرجال.

وذكره التفريشي في النقد وأثنى عليه ، وعبّر عنه السيوطي بالإمام في العربيّة.

وقال المحدّث القمّي في الكنى والألقاب : إنّه دورقيّ (ودورق على وزن جعفر بليدة من أعمال خوزستان من كور الأهواز) وهو الإمامي النحوي اللغوي الأديب ، ذكره كثير من المؤرّخين وأثنوا عليه ، وكان ثقة جليلا من عظماء الشيعة ، ويعدّ من خواصّ الإمامين التقيّين عليهما‌السلام ، وكان حامل لواء علم العربيّة والأدب والشعر واللغة والنحو ، وله تصانيف كثيرة.

وقال الخطيب في تاريخ بغداد : ابن السكّيت كان من أهل الفضل والدين ، موثوقا بروايته ، وكان يؤدّب ولد جعفر المتوكّل ، روى عن أبي عمر والشيباني ، حدّث عنه أبو عكرمة الضبي وأبو سعيد السكري وميمون بن هارون الكاتب وعبد الله بن محمّد ابن رستم وأحمد بن فرج المقري.

٢٢٨

وقال في جامع الروات : إنّه يروي عن ابن السكّيت سهل بن الحسن وسهل بن زياد وعليّ بن أبي القاسم.

أخباره :

قال الخطيب في تاريخ بغداد : حكي أنّ الفرّاء سأل السكّيت عن نسبه ، فقال : خوزيّ أصلحك الله من قرى دورق من كور الأهواز.

وكان يعقوب بن السكّيت يؤدّب مع أبيه بمدينة السلام في درب القنطرة صبيان العامّة حتّى احتاج إلى الكسب فجعل يتعلّم النحو.

وحكى عن أبيه أنّه حجّ فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وسأل الله أن يعلّم ابنه النحو ، قال : فتعلّم النحو واللغة ، وجعل يختلف إلى قوم من أهل القنطرة فأجروا له كلّ دفعة عشرة وأكثر حتّى اختلف إلى بشر وإبراهيم ابني هارون أخوين كانا يكتبان لمحمّد بن عبد الله بن طاهر ، فما زال يختلف إليهما وإلى أولادهما دهرا فاحتاج ابن طاهر إلى رجل يعلّم ولده وجعل ولده في حجر إبراهيم ثمّ قطع ليعقوب رزقا خمسمائة درهم ثمّ جعلها ألف درهم. وكان يعقوب قد خرج قبل ذلك إلى سرّ من رأى وذلك في أيّام المتوكّل فصيّره عبد الله بن يحيى بن خاقان عند المتوكّل فضمّ إليه ولده وأسنى له الرزق.

وقال محمّد بن العبّاس الخزّاز : سمعت أبا عمر اللغوي يقول : سمعت ثعلبا وقد ذكر يعقوب بن السكّيت ، فقال : ما عرفنا له خزية قطّ.

قال أبو الحسن الطوسي : كنّا في مجلس علي اللحياني وكان عازما على أن يملي نوادره ضعف ما أملى ، فقال يوما : تقول العرب : مثل استعان بذقنه ، فقام إليه ابن السكّيت وهو حدث فقال : يا أبا الحسن ، إنّما هو تقول العرب : مثقل استعان

٢٢٩

بدفّيه ، يريدون الجمل إذا نهض بالحمل استعان بجنبيه ، فقطع الإملاء.

فلمّا كان في المجلس الثاني أملى فقال : تقول العرب : هو جاري مكاشري ، فقام إليه يعقوب بن السكّيت فقال : أعزّك الله ، وما معنى مكاشري؟ إنّما هو مكاسري ، كسر بيتي إلى كسر بيته. قال : فقطع اللحياني الإملاء ، فما أملى بعد ذلك شيئا.

وقال الحسين بن عبد المجيب الموصلي : سمعت يعقوب بن السكّيت في مجلس أبي بكر بن شيبة يقول :

ومن الناس من يجبّك حبّا

ظاهر الحبّ ليس بالتقصير

فإذا ما سألته عشر فلس

ألحق الحبّ باللطيف الخبير

وقال ثعلب : عدي العبادي أمير المؤمنين في اللغة ، وكان يقول في ابن السكّيت قريبا من هذا.

قال أبو سهل : سمعت المبرّد يقول : ما رأيت للبغداديّين كتابا أحسن من كتاب يعقوب بن السكّيت في المنطق.

مؤلّفاته :

قال النجاشي : له كتب منها : إصلاح المنطق ، كتاب الألفاظ ، كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه ، كتاب الأضداد ، كتاب المذكّر والمؤنّث ، كتاب المقصور والممدود ، كتاب الطير ، كتاب النبات ، كتاب الوحش ، كتاب الأرضين والجبال والأودية ، كتاب الأصوات ، كتاب ما فيه صنعة من شعر الشعراء ، شعر امرئ القيس ، شعر زهير ، شعر النابغة ، شعر الأعشى ، شعر أبي داود ، شعر بشر بن أبي حازم ، أوس بن حجر ، شعر علقمة الفحل ، شعر طرفة ، شعر عنترة ، شعر عمرو ابن كلثوم ، شعر الحرث بن حلزة اليشكري ، شعر الفرزدق ، شعر الأخطل ، شعر

٢٣٠

جرير ، شعر عامر بن الطفيل ، شعر السليك بن السلكة ، شعر جامع بن مرحبة ، شعر عمرو بن أحمر ، شعر حسان ابن ثابت.

أخبرنا أحمد بن عبد السلام بن الحسين بن محمّد بن عبد الله البصري قال : أخبرنا أبو القاسم عمرو بن محمّد الخلال قال : حدّثنا أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة قال : حدّثنا تغلب عن يعقوب ، انتهى.

وقال ابن خلّكان : قال بعض العلماء : ما عبر على جسر بغداد كتاب من اللغة بمثل إصلاح المنطق ، ولا شكّ أنّه من الكتب النافعة الممتعة الجامعة لكثير من اللغة ولا نعرف في حجمه مثله في بابه ، وقد عنى به جماعة ، واختصره الوزير المغربي ، وهذّبه الخطيب التبريزي.

وقال أبو العبّاس المبرّد : ما رأيت للبغداديّين كتابا أحسن من كتاب ابن السكّيت في المنطق.

وقال تغلب : أجمع أصحابنا أنّه لم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكّيت.

وقال العلّامة السيّد محمّد باقر الخوانساري في ترجمة يعقوب في روضاته بعد الثناء عليه : وقد اختصر كتابه إصلاح المنطق الشيخ أبو المكارم مجد الدين عليّ بن محمّد المطلّب الكاتب المغربي ، وسمّاه بكتاب الإيضاح في اختصار كتاب الإصلاح ، ورتّبه على حروف المعجم ، وهو الذي اختصر كتاب الغريبين للهروي.

قال : ومن جملة تلاميذ ابن السكّيت أبو بشر النحوي الشاعر المسمّى باليمان بن اليمان ، وهو الذي نقل في حقّه عن ابن النجّار أنّه من البنديحين ، ولد بها وأصله من الأعاجم من الدهاقين ، ولد أكمه سنة مأتين ونشأ بالبنديحين وحفظ بها أدبا كثيرا وعلما وأشعارا كثيرة ، ثمّ خرج إلى بغداد ولقي العلماء وقرأ على محمّد بن زياد الأعرابي وأبي نصر صاحب الأصمعي وابن السكّيت ودخل البصرة فلقي الزيادي والرياشي.

٢٣١

قيل : وكان عارفا باللغة ، وله من الكتب كتاب التعفية ، كتاب معاني الشعر ، كتاب العروض.

شعره :

في شرح الصحيفة للسيّد عليخان عليه الرحمة قال : ومن غريب ما وقع لأبي يوسف يعقوب المعروف بابن السكّيت ، وكان من أكابر علماء العربيّة وعظماء الشيعة ، وهو من أصحاب الجواد والهادي عليهما‌السلام أنّه قال في التحذير من عثرات اللسان :

يصاحب الفتى من عشرة بلسانه

وليس يصاب المرء من عثرة الرجل

فعثرته في القول تذهب رأسه

وعثرته في الرجل تبرء عن السهل

فاتفق أنّ المتوكّل العبّاسي ألزمه تأديب ولديه المعتزّ والمؤيّد ، فقال له يوما : أيّما أحبّ إليك : ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فقال : والله إنّ قنبرا خادم عليّ عليه‌السلام خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكّل للأتراك : سلّوا لسانه من قفاه ، ففعلوا ، فمات رحمه‌الله ، وذلك لخمس خلون من رجب سنة ٢٤٤.

وقال الدميري في ترجمة القبّرة من كتابه حياة الحيوان : ومن محاسن شعر ابن السكّيت:

إذا اشتملت على اليأس القلوب

وضاق لما به الصدر الرحيب

وأوطنت المكاره واستقرّت

وأرست في أماكنها الخطوب

ولم تر لانكشاف الضرّ وجها

ولا أغنى بحيلته الأريب

أتاك على قنوط منك عفو

يمنّ به اللطيف المستجيب

وكلّ الحادثات إذا تناهت

فموصول بها فرج قريب

٢٣٢

الوجه في تركه التقيّة :

قال المحدّث القمّي في ترجمة ابن السكّيت من كتابه الكنى والألقاب : نقل عن المجلسي الأوّل أنّه قال : اعلم أنّ أمثال هؤلاء الأعلام كانوا يعلمون وجوب التقيّة ولكنّهم كانوا لا يصبرون غضبا لله تعالى بحيث لا يبقى لهم الاختيار عند سماع هذه الأباطيل كما هو الظاهر لمن كان له قوّة في الدين.

قلت : وقريب من ذلك ما جرى بين أبي بكر ابن عيّاش وموسى بن عيسى العبّاسي الذي أمر بكرب قبر الحسين (في الحكاية التي تقدّم ذكرها).

وذكر في روضات الجنّات عن الشهيد الثاني أنّه رحمه‌الله كتب في بعض مصنّفاته أنّ في الإلقاءات الجائرة المستحسنة للأنفس إلى الهلكة فعل من يعرض نفسه للقتل في سبيل الله إذ رأى أنّ في قتله عزّة للإسلام ولكن الصبر والتقيّة أحسن كما ورد في قصّة عمّار ووالديه وخباب وبلال في تفسير قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(١).

وروى صاحب المحاسن عن ابن مسكان قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّي لأحسبك إذا شتم عليّ بين يديك لو تستطيع أن تقطع أنف شاتمه لفعلت ، فقلت : إي والله جعلت فداك إنّي لهكذا وأهل بيتي ، فقال لي : فلا تفعل ، فو الله لربّما سمعت من يشتم عليّا وما بيني وبينه إلّا أسطوانة فأستتر بها فإذا فرغت من صلاتي فأمرّ به فأسلم عليه وأصافحه.

ولكن لا يخفى عليك أنّ هذا في مقام التقيّة ولو لم يكن محلّ التقيّة يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك المداهنة ، فقد قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ الله تعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر.

__________________

(١) النحل : ١٠٦.

٢٣٣

وروى الشيخ الكليني عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أوحى الله تعالى إلى شعيب النبي عليه‌السلام : إنّي معذّب من قومك مائة ألف ؛ أربعين ألفا من شرارهم وستّين ألفا من خيارهم. فقال : يا ربّ ، هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟! فأوحى الله عزوجل إليه : داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي.

وروى شيخ الطائفة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ الله تعالى أهبط ملكين إلى قرية ليهلكهم ، فإذا هما برجل تحت الليل قائم يتضرّع إلى الله تعالى ويتعبّد. قال : فقال أحد الملكين للآخر : إنّي أعاود ربّي في هذا الرجل ، فقال الآخر : بل تمضي لما أمرت ، ولا تعاود ربّي فيما قد أمر به. قال : فعاود الآخر ربّه في ذلك ، فأوحى الله إلى الذي لم يعاود ربّه أن أهلكه معهم فقد حلّ به معهم سخطي ، إنّ هذا لم يتمعّر وجهه قطّ غضبا لي ، والملك الذي عاود ربّه فيما أمر سخط الله عليه فأهبطه في جزيرة فهو حيّ الساعة فيها ساخط عليه ربّه.

وذكر العلّامة الفقيه المامقاني في ترجمة ابن السكّيت من رجاله : إنّ في كتاب الإيمان أنّ اثنين كلّفا بالبراءة من أمير المؤمنين فتبرّأ أحدهما دون الآخر إلى قوله عليه‌السلام : أمّا الأوّل فهو رجل فقيه ، وأمّا الثاني فقد تعجّل بروحه الجنّة ، فإنّه نصّ في عدم ارتكاب الرجل المحرّم ، فتدبّر جيّدا.

جريان الأحكام الخمسة في التقيّة :

قال الشهيد رفع الله درجته في القواعد : إنّ التقيّة قد دلّ عليها الكتاب والسنّة. قال الله تعالى في سورة آل عمران : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)(١) وقال في سورة

__________________

(١) آل عمران : ٢٨.

٢٣٤

النحل : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(١) ثمّ ذكر الأخبار في ذلك ، ثمّ قال : التقيّة تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة :

فالواجب : إذا علم أو ظنّ نزول الضرر بتركها به أو ببعض المؤمنين.

والمستحب : إذا كان لا يخاف ضررا عاجلا أو يخاف ضررا سهلا ، أو التقيّة في المستحبّ كالترتيب في تسبيح الزهراء عليها‌السلام ، وترك البعض فصول الأذان.

والمكروه : التقيّة في المستحبّ حيث لا ضرر عاجلا ولا آجلا ، ويخاف منه الالتباس على عوام المذهب.

والحرام : التقيّة حيث يؤمن الضرر عاجلا وآجلا أو في قتل مسلم.

والمباح : التقيّة في بعض المباحات التي ترجّحها العامّة ولا يصل بتركها ضرر.

انتهى.

أخبار التقيّة :

وفي تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : قيل لعليّ بن محمّد الهادي عليهما‌السلام : من أكمل الناس في خصال الخير؟ قال : أعملهم بالتقيّة وأقضاهم لحقوق إخوانه.

وعنه عليه‌السلام : ليس منّا من لم يلزم التقيّة ويصوننا عن سفلة الرعيّة.

وقد عقد المجلسي قدس‌سره في السادس عشر من البحار بابا وسمّاه باب التقيّة والمداراة ، وأورد فيه أخبارا كثيرة.

منها : عن الصادق عليه‌السلام : لا دين لمن لا تقيّة له.

وعنه عليه‌السلام : تسعة أشعار الدين التقيّة ، ولا دين لمن لا تقيّة له ، والتقيّة في كلّ شيء إلّا في شرب النبيذ والمسح على الخفّين.

__________________

(١) النحل : ١٠٦.

٢٣٥

وعنه عليه‌السلام : عليكم بالتقيّة فإنّه ليس منّا من لم يجعله شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجيّة مع من يحذره.

وعنه عليه‌السلام : عليكم بالتقيّة فإنّه ليس منّا من لم يجعله شعاره.

وقال عليه‌السلام في تفسير قول الله عزوجل : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ)(١) قال : الحسن التقيّة ، والسيّئة الإذاعة.

وعنه عليه‌السلام : ما من شيء أحبّ إليّ من التقيّة.

وقال عليه‌السلام : لا والله ما على وجه الأرض شيء أحبّ إليّ من التقيّة ، من كانت له تقيّة رفعه الله ، ومن لم يكن له تقيّة وضعه الله.

وعنه عليه‌السلام ما تقدّم آنفا من رواية ابن مسكان.

وعنه عليه‌السلام : من ترك التقيّة قبل خروج قائمنا فليس منّا.

وعنه عليه‌السلام : التقيّة ديني ودين آبائي.

وعنه عليه‌السلام : من أذاع علينا شيئا من أمرنا فهو كمن قتلنا عمدا ولم يقتل خطأ.

وعنه عليه‌السلام : ليس من شيعة عليّ عليه‌السلام من لا يتّقي.

وعنه عليه‌السلام : لا دين لمن لا تقيّة له ، وإنّ التقيّة لأوسع ممّا بين السماء والأرض.

وعنه عليه‌السلام : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يتكلّم في دولة الباطل إلّا بالتقيّة.

وعنه عليه‌السلام قال : كان أبي يقول : ما شيء أقرّ لعيني من التقيّة ، إنّ التقيّة جنّة المؤمن.

وعنه عليه‌السلام : كلّما تقارب هذا الأمر كان أشدّ للتقيّة. (أي ظهور الحجّة عليه‌السلام)

وعن الرضا عليه‌السلام : التقيّة في دار التقيّة واجبة ، ولا حنث على من حلف تقيّة يدفع بها ظلما عن نفسه.

__________________

(١) فصّلت : ٣٤.

٢٣٦

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا تمتدحوا بنا عند عدوّنا معلنين بإظهار حبّنا فتذلّلوا أنفسكم عند سلطانكم.

وعن الباقر عليه‌السلام : إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدماء فإذا بلغ الدم فلا تقيّة.

وعن النبيّ : مثل المؤمن الذي لا تقيّة له كمثل جسد لا رأس له.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : والله لو ناديت في عسكري هذا بالحقّ الذي أنزل الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأظهرته ودعوت إليه وشرحته وفسّرته على ما سمعت من نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه ما بقي من عسكري إلّا أقلّه وأذلّة وأرذلة ، ولا ستوحشوا منه ، ولتفرّقوا عنّي ، ولو لا ما عهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليّ وسمعته منه لفعلت ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال : كلّما اضطرّ إليه العبد فقد أحلّه الله له وأباحه إيّاه.

وسمعته يقول : إنّ التقيّة من دين الله ولا دين لمن لا تقيّة له.

وعن الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام : لو قلت إنّ تارك التقيّة كتارك الصلاة لكنت صادقا ، والتقيّة في كلّ شيء حتّى يبلغ الدم فإذا بلغ الدم فلا تقيّة.

وروى الكليني في الكافي بسنده عن هشام الكندي قال : سمعت أبا عبد الله يقول : إيّاكم أن تعملوا عملا تعيّروا به فإنّ ولد السوء يعيّر والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم إليه زينا ولا تكونوا علينا شينا ، صلوا عشائرهم وعودوا مرضاهم وأشهدوا جنائزهم ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم ، والله ما عبد الله بشيء أحبّ إليه من الخبأ.

فقلت : وما الخبأ؟

قال : التقيّة ، وإنّ تسعة أعشار الدين التقيّة.

وعن الإمام العسكري عليه‌السلام ـ على ما في الاحتجاج ـ عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام إنّه قال لليوناني الذي أراه المعجزات الباهرة بعد ما أسلم : وآمرك أن تصون دينك وعلمنا الذي أودعناك ، وأسرارنا الذي حمّلناك ، فلا تبد علومنا

٢٣٧

لمن يقابلها بالفساد ويقابلك من أجلها بالشتم واللعن والتناول من العرض والبدن ، ولا تفش سرّنا إلى من يشنّع علينا عند الجاهلين بأحوالنا ، ويعرض أوليائنا لبوادر الجهّال.

وآمرك أن تستعمل التقيّة في دينك فإنّ الله يقول : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)(١) وقد أذنت لك في تفضيل أعدائنا إن ألجأك الخوف ، وفي إظهار البرائة منّا إن حملك الوجل ، وفي ترك الصلوات المكتوبات إذا خشيت على حشاشتك الآفات والعاهات ، فإنّ تفضيلك أعدائنا علينا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرّنا ، وإنّ إظهارك البرائة منّا عند تقيّتك لا تقدح فينا ولا تنقصنا ، وإن أنت تبرأ منّا بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها ، وجاهها الذي به تماسكها ، فإنّ ذلك أفضل من أن تتعرّض للهلاك ، وتنقطع به عن العمل في الدين وإصلاح إخوانك المؤمنين.

وإيّاك ثمّ إيّاك أن تتعرّض للهلاك أن تترك التقيّة التي أمرتك بها ، فإنّك إن خالفت وصيّتي كان ضررك على نفسك وإخوانك أشدّ من ضرر الناصب لنا الكافر بنا ، انتهى ما أوردنا ذكره من البحار بحذف الإسناد.

وذكر المحدّث القمّي في ترجمة أبي القاسم الروحي : إنّ الحسين بن روح النوبختي أحد النواب الأربعة رضوان الله تعالى عليه ، كان من أعقل الناس عند المخالف والموافق ، ويستعمل التقيّة ، وكانت العامّة تعظّمه ، وقد تناظر اثنان فزعم واحد أنّ أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ عمر ثمّ عليّ عليه‌السلام ، وقال الآخر : بل عليّ عليه‌السلام أفضل من عمر ، فدار الكلام بينهما ، فقال أبو القاسم رضى الله عنه : الذي اجتمعت

__________________

(١) آل عمران : ٢٨.

٢٣٨

عليه الصحابة هو تقديم الصدّيق ثمّ بعده الفاروق بعده عثان ذو النورين ثمّ عليّ الوصيّ ، وأصحاب الحديث على ذلك ، وهو الصحيح عندنا ، فبقي من حضر المجلس متعجّبا من هذا القول ، وكانت العامّة الحضور يرفعونه على رؤوسهم وكثر الدعاء له والطعن على من يرميه بالرفض.

وبلغ الشيخ أبا القاسم أنّ بوّابا على الباب الأوّل قد لعن معاوية وشتمه ، فأمر بطرده وصرفه عن خدمته ، فبقي مدّة طويلة يسال في أمره فلا والله ما ردّه إلى خدمته ، كلّ ذلك للتقيّة.

أقول : وسيأتي في ترجمة الحسين بن روح هذه الحكاية بوجه أبسط من ذلك.

فقال : التقيّة فريضة واجبة علينا في دولة الظالمين ، فمن تركها فقد خالف دين الإماميّة وفارقه ، والروايات في التقيّة أكثر من أن تذكر ، فروي أنّ التقيّة ترس المؤمن ، والإيمان لا تقيّة له ، وإنّ تسعة أعشار الدين في التقيّة ، ولا دين لمن لا تقيّة له.

وقال الصادق عليه‌السلام لنعمان بن سعيد : من استعمل التقيّة في دين الله فقد تسنّم الذروة العليا من العزّ ، وإنّ عزّ المؤمن في حفظ لسانه ، ومن لم يملك لسانه ندم.

حكم العقل بوجوب التقيّة وأنّها لا تختصّ بالشيعة :

جاء في كتاب أصل الشيعة وأصولها للعلّامة الحجّة سماحة الإمام الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء دام وجوده (١) : إنّ من الأمور التي يشنّع بها بعض الناس على الشيعة ويزدري عليهم بها قولهم بالتقيّة جهلا منهم أيضا بمعناها وبموقعها وحقيقة مغزاها ، ولو تثبّتوا في الأمر وتريّثوا في الحكم وصبروا لعرفوا أنّ التقيّة التي تقوم

__________________

(١) أصل الشيعة وأصولها : ١٨٨ الطبعة الرابعة ، النجف ـ المطبعة الحيدرية.

٢٣٩

بها الشيعة لا تختصّ بهم ولم ينفردوا بها بل هو أمر من ضرورة العقول وعليه جبلّة الطباع وغرايز البشر وشريعة الإسلام في أسس أحكامها وجوهريّات مشروعيّاتها تماشي العقل والعلم جنبا إلى جنب ، وكتفا إلى كتف ، رائدها العلم ، وقائدها العقل ، ولا تنفكّ عنهما قيد شعرة.

ومن ضروريّات العقول وغرائز النفوس أنّ كلّ إنسان مجبول على الدفاع عن نفسه المحافظة على حياته وهي أعزّ الأشياء عليه وأحبّها إليه ، نعم قد يهون بذلها في سبيل الشرف وحفظ الكرامة وصيانة الحقّ ومهانة الباطل ، أمّا في غير أمثال هذه المقاصد الشريفة والغايات المقدّسة فالتغرير بها وإلقاؤها في مظانّ الهلكة ومواطن الخطر سفه وحماقة لا يرتضيه عقل ولا شرع ، وقد أجازت شريعة الإسلام المقدّسة للمسلم في مواطن الخوف على نفسه أو عرضه إخفاء الحقّ والعمل به سرّا ريثما تنصر دولة الحقّ وتغلب على الباطل كما أشار إليه جلّ شأنه بقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)(١) وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(٢) ، وقصّة عمّار وأبويه وتعذيب المشركين لهم ولجماعة من الصحابة وحملهم لهم على الشرك وإظهارهم الكفر مشهورة.

والعمل بالتقيّة له أحكام ثلاثة : فتارة يجب كما إذا كان تركها يستوجب تلف النفس من غير فائدة ، وأخرى يكون رخصة كما لو كان في تركها والتظاهر بالحقّ نوع تقوية له فله أن يضحّ بنفسه وله أن يحافظ عليها ، وثالثة يحرم العمل بها كما لو كان ذلك موجبا لرواج الباطل وإضلال الحقّ وإحياء الظلم والجور.

ومن هنا تنصاع لك شمس الحقيقة ضاحية ، وتعرف أنّ اللوم والتعيير بالتقيّة إن

__________________

(١) آل عمران : ٢٨.

(٢) النحل : ١٠٦.

٢٤٠