مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-037-4
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٣٧٢

فمن تخلّف عنه فبعيد عن الشرف ، ولا يدلّنا التاريخ منذ خلق الله الدنيا على أنّ حكما نفذ بسرعة في جميع طبقات الناس كبيرا كان أو صغيرا ، رجالا أو نساء ، مؤمنا أو منافقا ، مسلما أو كافرا ، عاليا كان أو دانيا مثل هذا الحكم ، فانتشر في العالم الإسلامي وامتنع المسلمون عن شربه بسرعة بالطوع والرغبة ، ويرون ذلك فخرا لأنفسهم ، وقد دلّنا التاريخ من أحوال الأنبياء عليهم‌السلام أنّهم بعد سنين متطاولة من تبليغهم أحكام الله وتحمّلهم المذلّة والأذى في ذلك يتبعهم شرذمة قليلة وعظمة نفوذ هذا الحكم الشريف بلغت درجة لا يمكن وصفها لأنّا نرى بالعيان ونسمع بالآذان أنّه قلّ ما يوجد اتفاق جميع العلماء في جميع البلدان في حكم يتعلّق بالمصلحة العامّة وهذا الحكم الشريف لمّا صدر عن مصدره خضع له جميع العلماء واستقبلوه بكلّ ارتياح وقبول ، وانقادوا إليه بكلّ ابتهاج وسرور. ولعمري أنّ هذا من النوادر الغريبة التي قلّ ما تتفق في عصر من العصور كما يدلّنا سير التواريخ لا سيّما تواريخ العظماء المصلحين.

ثمّ إنّ أصحاب الامتياز أصبحوا حيارى مبهوتين كأنّ على رؤوسهم الطير ، فكتبوا إلى لندن بهذا المضمون : «إنّه قد وقعت داهية عظمى لا يدلّنا التاريخ على مثلها في إيران وهي أنّ شرب التنباك والأنفية التي كانت عادتهم استعمالها في الليل والنهار وأهمّ لوازمهم بل كانوا يعدّونه من الواجبات في بيوتهم تركوه ثباتا حين وصلت إليهم فتوى رئيسهم بالحرمة ، ومن حين صدور الحكم من رجل واحد تركوا أعظم ما كانوا متعوّدين به منذ سنين متطاولة من غير كره ولا إجبار ، وعامّة المسلمين خضعوا لفتوى رئيسهم حتّى دوائر الحكومة الإيرانيّة ، وصار استعمال التنباك عندهم من أنكر المنكرات ولم يزالوا يكسرون الشطب والغليان ويرمون بخزفه وأخشابه إلى دائرة الامتياز» ومثل ذلك كتب السفراء إلى ممالك أوربا.

فاجتمع أصحاب الامتياز إلى السلطان واستغاثوا به فوعدهم بالعلاج وكان

٨١

السلطان فرحا بهذا الحكم الشريف بالباطن غير أنّه لم يكن له بدّ من المماشاة مع أصحاب الامتياز فعقد حفلة عظيمة دعا فيها مشاهير علماء دار الخلافة منهم الميرزا الآشتياني والمولى السيّد علي أكبر التفرشي والشيخ فضل الله النوري وشريعت مدار إمام الجمعة وشريعت مدار السيّد محمّد رضا والآخوند ملّا محمّد تقي القاشاني ، ومن طرف الدولة أحضر السيّد عبد الله البهبهاني ونائب السلطنة وأمين السلطان وأمين الدولة ومشير الدولة وقوام الدولة ومخبر الدولة ، فلمّا اجتمعوا أحضر السلطان صورة ما قرّر بينه وبين أصحاب الامتياز وخاطب العلماء وقال : هذا ما قرّر بين الدولة وبين أصحاب الامتياز فانظروا فيه فما كان فيه مخالفا لحكم الشرع المطاع نأمر بتغييره ، وأمّا أصل المسألة فإبطاله محال ، فلمّا قرأوا فإذا في صدر الدفتر كلمة (مينويل) فسأل العلماء عن تفسير هذه الكلمة فقيل لهم أنّ هذه الكلمة معناها بالانكليزيّة الامتياز والانحصار يعني أنّ التنباك لا يجوز بيعه ولا شراؤه إلّا بإجازة أصحاب الامتياز ، وهذا حقّ يختصّ به فقط.

فقال العلماء : هذا أوّل ما يجب تغييره أو إسقاطه لأنّه خلاف ما قرّر في شريعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن الأصول المقرّرة الثابتة قاعدة (الناس مسلّطون على أموالهم) فعلى هذا الأصل كلّ واحد من الناس مسلّط على ماله يفعل فيه ما يشاء فهو مختار على بيعه وإدّخاره بأيّ نحو كان ، وقاعدتكم هذه مخالفة لحكم الشرع المطاع حيث أنّكم أمرتم بأنّ الرعيّة لا تبيع إلّا لشخص معيّن بثمن معيّن في وقت معيّن في مكان معيّن وهو مجبور مسلوب الاختيار في جميع ذلك والشارع لا يرضى بذلك أبدا ، فبهتوا وأفحموا ، وكلّ واحد من أركان الدولة لم يحر جوابا.

فقال الوزير للآشتياني أنّ السيّد ميرزا محمّد حسن الشيرازي مجتهد وجنابك أيضا مجتهد فيمكنك أن تفتي بالإباحة كما أنّه أفتى بالحرمة ، فأجابه الآشتياني بكلمات قارصة وقال : إنّ مولانا الميرزا الكبير سيّد الشريعة وإمام الشيعة ، ملاذ

٨٢

الأمّة نائب الأئمّة ، حكمه مطاع وأمره لازم الاتباع ، ونحن عبيده ومطيعوه في كلّ ما يقول ؛ لأنّ الرادّ عليه على حدّ الشرك ، فيئس الوزير الأعظم من إقناع العلماء ووعدهم برفع الامتياز. فلمّا مضى أسبوع على عقد المجلس المشار إليه عقدوا مجلسا آخر وأحضروا المذكورين وحضر السلطان ناصر الدين وقالوا : قد أبطلنا الامتياز عن داخل إيران فآحاد الرعيّة مختار في بيع التنباك بأيّ وجه يريد وبأيّ ثمن وفي أيّ وقت يشاء لا إجبار في البيع غير أنّ الامتياز باق بحاله في خارج المملكة والتنباك من إيران يحمل إلى المملكة العثمانيّة فقط ومعلوم عندكم أنّ اختيار الخارج ليس بأيدينا فنستدعى من العلماء أن يصعدوا المنابر ويعلنوا بالإباحة.

فقالوا : ما أفتينا بتحريمه حتّى نفتي بإباحته ولا ربط لنا في المسألة ، إنّما القول قول السيّد الكبير الميرزا الشيرازي منه الأمر ومنّا الإطاعة والانقياد فراجعوه أنتم في المسألة حتّى يتبيّن لكم الأمر ، كتبوا صورة برقيّة وختموها بخواتيم العلماء وأرسلوها إلى سامرّاء وكانوا في انتظار الحكم بالإباحة فإذا بالجواب من سامرّاء مفادّه التشكّر من السلطان والرجاء بقطع أيدي الأجانب من إيران ، فلم يبق مجال للسلطان على علماء دار الخلافة فبقي حكم الحرمة بحاله.

فلمّا مضى أسبوع رأى الناس في صبيحة يوم الاثنين إعلانا على حائط شمس العمارة مفادّه أنّ يوم الاثنين الآتي نحن مأمورون بالجهاد فمن كان مسلما فيجب عليه الجهاد بفتوى الإمام الشيرازي مدّ ظلّه ، فولول الناس فهاجوا وماجوا وانتشر الخبر إلى تمام دار الخلافة وخاف الأجانب على أنفسهم فجعلوا ينهزمون خفية حتّى أنّ كثيرا منهم خرجوا من إيران لا بسي ثياب النساء وكانت قلوبهم مملوءة رعبا من الحكم بحرمة الدخان وقالوا : إنّ المسلمين مستميتون ونرى أنّ رئيسهم الديني لو أمرهم بإحراق أنفسهم بالنار لا يتخلّفون عن أمره فالإقامة في إيران فيها خطر عظيم. وأمّا أصحاب الامتياز فلجئوا إلى شمس العمارة واستغاثوا

٨٣

بالسلطان ناصر الدين شاه فأرسل السلطان إلى الآشتياني واستخبر منه ، فحلفه أنّه لا علم له بذلك ، ووعد السلطان بتسكين الناس.

وكان كثير من الناس يبتاعون الأسلحة ويجدّدون العهد والوصيّة وعلت أصوات البكاء من دورهم وكانوا يودّعون نساءهم وصبيانهم ، فلم تزل هذه الأمور تتضاعف ويشتدّ خوف الأجانب وأصحاب الامتياز ، فدعا الآشتياني أصحاب المنابر والمحاريب وأمرهم بتسكيت الناس وأنّ هذا الإعلان لا أصل له ، فهدأت فورة الناس غير أنّ سفراء أوربا خافوا عاقبة الأمر وزعموا أنّ هذه الهدنة من المسلمين سياسة وإغفال للخصم فاحتفلوا قبل مضي أسبوع وأحضروا أصحاب الامتياز والسلطان ناصر الدين شاه وكثيرا من الأكابر والأشراف وكان المتكلّم السفير الروسي وخاطب الحضّار وقال : «زنده باد اتفاق مسلمان ها» أي اتفاق كلمة الإسلام على السلامة. فتعجّب السفراء من هذه الكلمة ، فلمّا رأس السفير الروسي تعجّبهم قال : أحضرت هذه الحفلة حتّى أقول لكم الكلمة وإن شئتم أشرح لكم؟ قيل له : قل.

قال : اليوم مقدار مائتي ألف من رؤوس الغليان وكيزان البلور للغليان وغيرهما ممّا يتعلّق بالدخان وقفت تجارتها عن روسيا ولا يدرى إلى ما يصير مآلها وكان السبب في ذلك أنّ «آرسن» رئيس أصحاب الامتياز وضع حكما في إيران يخالف قوانينهم الإسلاميّة فأفتى رئيسهم المطاع بحرمة استعمال الدخان فأطاعوه وتركوا عادة كانوا متعوّدين عليها منذ خمسمائة سنة ومنشأ هذه الخسائر ليس إلّا آرسن رئيس الامتياز ، أليس من الواجب عليه رفع يده عن هذه المعاملة قبل حدوث حادثة أكبر من هذه؟ قالوا بأجمعهم : نعم.

ثمّ قال : هذا سهل يمكن تحمّله ، ولو فرضنا أنّ رئيس الامتياز لم يرفع يده عن هذه المعاملة ورئيس الإسلام يشدّد في الحكم لقطع يد الأجنبي ويفتي بحرمة شرب

٨٤

«الشاي» ومن المعلوم أنّ تأثيره في قلوب المسلمين ليس بأقلّ من تأثير حرمة الدخان فعنده هل يمكن إحصاء الخسائر التي ترد إلينا وإلى سائر دول أوربا لأنّ ذلك يعطّل تجارة السكّر بأنواعه وتجارة جميع الآلات التي يتوقّف عليها استعمال «الشاي» وقد يكون ذلك سهلا لو فرض ولكن لو أصدر سيّدهم المطاع فتوى بحرمة استعمال جميع ما يرد من البلاد الخارجيّة إلى إيران لعمّت الخسائر والأضرار جميع الدول ، ولو فرضنا مع ذلك سهولة هذه الخسائر العظيمة ولكن لو أصدر فتواه الحاسمة بوجوب قتل جميع المسيحين الذين هم منتشرون في بلاد إيران وتنزيهها عن الأجانب فما تفعلون؟ فقالوا بأجمعهم : لا شبهة أنّه لو أفتى بذلك لقتلونا لأنّهم يرون الجهاد واجبا عليهم ومن قتل منهم يكون شهيدا فعند ذلك نكون مسئولين تجاه صاحبنا لأنّ التبعة الخارجيّة كثيرة في بلاد إيران وتلك داهية عظيمة.

فقال السفير الروسي لهم : فانظروا عندئذ عواقب المسألة. فقالوا بأجمعهم : الحقّ ما تقول ويجب على «آرسن» رئيس الامتياز فسخ المعاملة وإبطالها.

فقال آرسن : كيف أفسخ هذه المعاملة وإنّي منذ دخلت إيران إلى يومي هذا أنفقت أربعة كرور من الليرات في الرسومات والعمارات والآلات والوظائف وغيرها؟!

فقال السفير الروسي : هذا الخسائر التي وردت عليك كنت قد أقدمت عليها لعلمك بأنّ ذلك خلاف القوانين الإسلاميّة ورؤساؤهم الدينيّون لم يرضوا بذلك.

فبهت آرسن ولم يحر جوابا ثمّ استمهل السفراء لينظروا في أمره ، فكان كلّما فكّر في الأمر لم تطب نفسه إلى ترك المعاملة ، فكتب إليه السفراء بأن لا تقم في إيران أو تأخذ الإجازة باستعمال الدخان من علماء الإسلام.

ثمّ إنّ آرسن جعل يسأل عن أحوال علماء دار الخلافة ومراتب زهدهم

٨٥

وتقواهم إلى أن وجد فيهم من كان يطلبه ، فدخل داره خفية ورشاه بثلاثة آلاف تومان له وخمسمائة تومان لكاتبه ، فقبل تلك الرشوة ، فقال لرئيس الامتياز : أنا أفتيت بالحرمة لجهات اقتضت والساعة أفتي بالإباحة ، فشرب في الوقت الدخان ، فلمّا رأى ذلك آرسن فرح بذلك وزعم أنّه نال مرامه من هذا الفاسق المتهتّك ، فقال المرتشي : أنا متعهّد بإبقاء معاملة الامتياز على حالها واستعمال الشعب الدخان ولكن يجب عليك أن تواجه السلطان وتستدعي منه إخراج من هو معارض لنا من طهران.

فقام آرسن وأتى إلى السلطان وقال : ما جئنا إلى إيران إلّا معتمدين عليك لتزيل عنّا كلّ غائلة حدثت ، واليوم أصابتنا خسائر فادحة وفيها مسئوليّة عند السفراء فنسدعي من حضرتكم إمّا أن تتحمّل خسائرنا لنرجع إلى بلادنا أو تأخذ لنا الإجازة من العلماء. ولمّا كان الأوّل غير ممكن للسلطان وعده بالثاني اضطرارا ، ثمّ حدّثه بالقصّة وما وقع الاتفاق عليه مع المرتشي المذكور ، فبقي السلطان متحيّرا فكتب إلى الآشتياني بما مضمونه أنّ جنابك مخيّر بين أن تعلن بإباحة استعمال الدخان أو تسافر مدّة قليلة من طهران فإنّ الأمر كذا وكذا ، فكتب إليه الآشتياني : أمّا نقض حكم الإمام الشيرازي فمحال ، وأمّا المسافرة فأسافر من الغد إن شاء الله.

فانتشر نبأ المسافرة في تمام البلدة بسرعة هائلة فعظم ذلك الأمر عند العلماء فاجتمعوا من كلّ محلّة وقصدوا دار الآشتياني واجتمع من طبقات الناس خلق كثير فملئت الشوارع والأسواق ورفعوا أصواتهم بالبكاء والنحيب مستنكرين ذلك أشدّ الإستنكار ، وكان الأمر كذلك إلى قريب من الظهر ، فبينماهم كذلك إذا بأفواج النساء صارخات باكيات يهرعن إلى الأسواق ، فكلّما رأين دكّانا مفتوحا أمرن بسدّه ، فعطّلت الأسواق وملئت الشوارع والسكك من الرجال والنساء ، وجعلوا يسبّون أصحاب الامتياز وكلّ من ينصرهم ويعينهم ، وتارة يصرّحون

٨٦

بأسماء الوزراء الكبار بحيث خاف أركان الدولة على أنفسهم فسدّوا أبواب شمس العمارة ونصبوا المدافع على سطوحها وأمروا الجيش بإطلاق نيران بنادقهم ، فخالف الجيش أوامر الضبّاط وكانوا يبكون لبكاء النساء ، وعلت أصوات البكاء من حرم السلطان وجواريها وكنّ يشتمن بعض الوزراء الذي تعهّد ببقاء الامتياز وهتفن بالسبّ الشنيع والشتم الفظيع ، فأرسل السلطان نائب السلطنة ليسكّت الناس ، فلمّا صادف الناس صاحوا في وجهه وضربوه ضربا مبرحا فأطلق بعض حواشي السلطان بندقيّته فقتل نفرا من الرجال فكثر الضجيج ، فسكّتهم الآشتياني وقال : السلطان استدعى منّي أن لا أخرج منّي دار الخلافة فامضوا إلى مساكنكم.

فهدأت فورة الناس فدخل عضد الدولة دار الآشتياني بعد تفرّق الناس مع جماعة من وجوه حواشي الدولة واعتذر منه بكلّ لسان وقال له : رفعنا الامتياز عن الخارجيّة فضلا عن الداخليّة وقطعنا أيدي الأجانب بالكلّيّة من إيران ، فنرجوا من فضلكم الآن أن تبرقوا إلى سامرّاء وتشرحوا للإمام الشيرازي حقيقة الأمر ليصدروا فتواه بجواز استعمال الدخان ، فأجابه الآشتياني لذلك فأبرق برقيّة مفادّها أنّ امتياز الدخانيّة رفع بيمن بركاتكم ومساعيكم الجميلة من داخل إيران وخارجها وبطلت المعاملة الجائرة وعاد الأمر كما كان وقطعت أيدي الأجانب من إيران ، فالناس منتظرون أمركم في جواز استعمال الدخان ، وبهذا المضمون أرسل سائر العلماء برقيّات إلى سامرّاء ، فجاء الجواب للآشتياني مفادّه أنّ برقيّات العلماء وصلت إليّ وأنا أشكر مساعيكم وأصدّق أقوالكم غير أنّي لا أعتمد على طريق الوصول وهي البرقيّة فإن كتبتم إليّ تفصيل ما في البرقيّات بقطع يد الأجنبي عن إيران بتاتا وعود أمر الدخانية إلى ما كان سابقا فالترخيص يجيئكم إن شاء الله.

فكتبوا إليه قدس‌سره ، فجاء الجواب بالترخيص ، فخرج أصحاب الامتياز من إيران خاسرين راجعين إلى أوربا بخفيّ حنين ، وكان يوم وصول الترخيص يوما مشهودا

٨٧

وفرح السلطان ناصر الدين شاه فرحا شديدا ، وقال : إنّ الميرزا الشيرازي أحيا دولة القاجاريّة وكان قدره مجهولا عندنا ، اليوم عرفنا منزلة هذا الرجل الكبير أدام الله بقاءه ، واستنسخوا ألف صورة من كتاب الإمام الشيرازي وأرسلوها إلى سائر بلاد إيران ، فعاد الأمر كما كان ، وانتشر الخبر إلى سائر آسيا وبلاد أوربا وأفريقيا وأمريكا ونشر ذلك في الجرائد الخارجيّة ، وأرسل الأمريكان إلى سفيرهم في بغداد سائلين عن هذا الرجل الكبير المطاع الديني الذي قام في قبال أربع دول كبار ونال مرامه وغلب عليهم ، وأمر الروس سفيره في بغداد بمسافرته إلى سرّ من رأى ليظهر إخلاصه فامتثل ، وكان الأجانب من كلّ جانب يسألون حاله قدس‌سره حتّى خيف عليه من اليد العادية ولكن يد الله فوق أيديهم. وكتب السلطان ناصر الدين شاه عريضة مفصّلة بديعة أظهر فيها إخلاصه الصميم ، وكذا الوزراء والحكّام حتّى اشتهر قدس‌سره بآية الله المجدّد لأنّه جدّد الدولة والملّة.

وقال سيّدنا العلّامة المهذّب البارع السيّد صادق آل بحر العلوم دام وجوده فيما كتبه إلينا من النجف الأشرف أنّه قد أورد الأستاذ الكاتب الشهير محمّد لطفي جمعة المصري صورة إجماليّة من المسألة الدخانيّة في كتابه «حياة الشرق» المطبوع بمصر.

تلاميذه رحمه‌الله

تتلمذ عليه من الأساتذة الأعلام جماهير كثيرة وجلّهم نالوا الدرجة العالية بفضل حضورهم مجلس درسه الشريف ، نورد لك فيما يلي أسماء بعضهم ، وهم : السيّد إبراهيم البهبهاني ، والشيخ إبراهيم النوري ، والميرزا إبراهيم السلماسي ، والشيخ إبراهيم الأصفهاني ، والميرزا إبراهيم المحلّاتي ، والسيّد إبراهيم الطهراني ، والسيّد أبو تراب الخونساري ، والشيخ أبو طالب السلطان آبادي ، والسيّد أبو

٨٨

طالب الشيرازي ، والميرزا أبو الفضل صاحب شفاء الصدور ، والميرزا أبو القاسم النوري ، والسيّد أحمد الكربلائي ، والمولى حسينقلي الهمداني ، والشيخ إسماعيل القراباغي ، والميرزا إسماعيل السلماسي ، والسيّد إسماعيل الصدر.

والشيخ إسماعيل المحلّاتي ، والشيخ باقر الاصطهباناتي الشهيد ، والشيخ محمّد باقر البيرجندي ، والميرزا باقر السلماسي ، والسيّد محمّد باقر اليزدي ، والشيخ محمّد تقي القمي ، والإمام الشيرازي الميرزا محمّد تقي ، والشيخ جواد الطارمي صاحب الحاشية على الرسائل ، والميرزا حبيب المشهدي ، والسيّد حسن الصدر الكاظمي ، والميرزا محمّد حسين السبزواري ، والحاج الميرزا حسين النوري ، والشيخ محمّد حسين الكرهرودي ، والآقا رضا الهمداني الفقيه صاحب المصباح ، والشيخ زين العابدين المرندي والشيخ إسماعيل الترشيزي ، والسيّد إسماعيل ابن عمّه الشيرازي ، والشيخ شريف الجواهري ، والشيخ فضل الله النوري الشهيد ، والشيخ فضل الله الفيروزآبادي ، والميرزا محسن المحلّاتي ، والشيخ عبد المجيد الكروسي ، والشيخ عبد النبي الطهراني ، والسيّد محمّد الهندي وغيرهم ممّن لا يقلّ عددهم عن ثلاثمائة فقيه.

وقد جمع شيخنا الأستاذ العلّامة الحجّة صاحب الذريعة أسماءهم في كتابه هدية الرازي وذكر تراجمهم في كتابه نقباء البشر ، وقد نال أكثرهم المرجعيّة العامّه بعد وفاته كالمولى محمّد كاظم الخراساني ، والفقيه الأعظم السيّد محمّد كاظم اليزدي ، والإمام الشيخ محمّد تقي الشيرازي ، والسيّد إسماعيل الصدر ، والسيّد حسن الصدر ، والسيّد أبو تراب الخونساري ، والآقا رضا الهمداني الفقيه ، والعلّامة الحجّة السيّد محمّد الأصفهاني وغيرهم.

٨٩

مشايخه

أمّا أساتذته الذين تتلمذ عليهم وأخذ العلم منهم فهم كثيرون نورد لك أسماء بعضهم ، وهم : الشيخ محمّد تقي الأصفهاني صاحب الحاشية على المعالم ، والسيّد حسن البيد آبادي الشهير بالمدرّس ، والمولى محمّد إبراهيم الكلباسي ، والعلّامة الفقيه الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر ، والفقيه الشيخ حسن كاشف الغطاء صاحب أنوار الفقاهة ، والشيخ مشكور الحولاوي الكبير ، والسيّد علي التستري ، والسيّد إبراهيم القزويني صاحب الضوابط ، وآخرهم الشيخ الإمام المرتضى الأنصاري صاحب الرسائل الذي كان عمدة تلمذته عليه وجلّ استفادته منه ، رحمهم‌الله جميعا وقدّس أسرارهم.

نبذة من حكاياته قدس‌سره تجري مجرى الكرامات

أورد شيخنا العلّامة الشيخ آقا بزرك في هدية الرازي جملة وافية من كراماته وقال : هي كثيرة وما لم يبلغني منها أكثر ، وأنا أنقل لك من كتابه المذكور يسيرا منها ليكون أنموذجا كافيا لعظمة هذه الشخصيّة الفذّة ، وبذلك تعرف ما أتيح لهذه النفس القدسيّة ما لم يتهيّأ لغيرها من عظماء العالم وفطاحل العلماء ، فما أحوجنا إلى أمثال هؤلاء المصلحين الأفذاذ في هذه الأوقات الحرجة لينيروا السبل ويدلّوا على واجبات الأمّة الإسلاميّة فهل يا ترى يقيّض الله لهم من يرتاحون به في هذا العصر المتكهرب بالعناصر الموبوءة والميكروبات القتّالة.

منها ما حكاه تلميذه العلّامة المهذّب البارع المولى الحجّة السيّد إسماعيل الصدر الذي انتهت إليه رياسة الإماميّة في عصره ، قال : ورد رجل من أهل إصفهان إلى سامرّاء ومعه خطوط بعض علمائها في الشهادة بعدالة الرجل وثقته ، فأراني

٩٠

الخطوط وسألني أن أبيّن حاله عند السيّد الأستاذ ليوجره للصوم والصلاة ، فلقيت السيّد الأستاذ في الطريق ذاهبا إلى الصحن الشريف فذكرت له حالة الرجل وحاجته ، فقال : نعم أرني شخصه ، فاتفق أنّه لمّا وردنا الصحن الشريف كان الرجل جالسا في الصحن ، فلمّا رأى السيّد استقبله وقبّل يده ومضى ، فقلت له : هذا هو الرجل المعهود ، ثمّ طالبت الجواب فامتنع من استيجاره للعبادة ، فظننت أنّ له معرفة سابقة بحال الرجل ولذا يمتنع من قضاء حاجته ، فقلت له : فهل عرفته؟ قال : لا. فذكرت له توثيقات العلماء في حقّه ، فقال بعد الإصرار : لا أعطيه شيئا ، فيئس الرجل فرجع إلى أصفهان ، وكنت متحيّرا في أمره حتّى لقيت بعد مدّة جملة من الثقات العارفين بحاله فذكروا لي أنّ الرجل كان من البابيّة وكانوا يعرفونه بذلك فعلمت أنّ السيّد الأستاذ كان ينظر بنور الله.

ومنها ما حدّثني به تلميذه العلّامة الخبير السيّد حسن الصدر الكاظمي ، قال : كان الشيخ ثامر النجفي من الثقات الأبرار وكان وكيل السيّد الأستاذ في النجف سنين ، فلمّا توفّي زار ولد الشيخ ثامر النجفي سامرّاء وكان معه رجل آخر في ضيافته واتفق أنّه نزل مع جمع من الزوّار من أهل جبل عامل في خان واحد وذكر لي أنّ مالية ابن الشيخ ثامر قد نفدت في السفر ويخاف أن يخجل عند ضيفه ، فذكرت حاله عند السيّد الأستاذ فلمّا كانت الليلة الأخيرة التي يريدون الرجوع في صبيحتها أعطاني السيّد الأستاذ مالا كثيرا لأفرّقه على الزوّار العامليين ثمّ أعطاني ثلاثة أنصاف (القران) وقال : إنّها لابن الشيخ ثامر. فقلت : سيّدنا هو وضيفه؟! فقال بالفارسيّة (همين بس است) يعنى يكفيه هذا ، فتحيّرت في جوابه وكنت أخجل من دفع المقدار إلى ابن الشيخ ثامر لما أعرف من حاله ولا أتمكّن من مخالفة أمر السيّد ، فرأيت أن أعطيه المبلغ وأذكر له كثرة إلحاحي بالزيادة وجواب السيّد لي ، فلمّا ذكرت القصّة له حلّفني على جواب السيّد ، فحلفت له ثانية وثالثة ، فقال :

٩١

صدق والله السيّد فإنّ هذا يكفيني لعبور الشطّ فقط وإنّ لي مالا أودعته بالكاظميّة عند أحد معاريفي فلا أحتاج شيئا إذا وصلت إليها ، وإمّا كراء الطريق فكنّا قد سلّمناها إلى المكاري ذهابا وإيابا وعندنا من الطعام ما يكفينا إلى أن نصل إلى الكاظميّة.

ومنها ما حدّثني به العلّامة المحقّق الشيخ حسن الأصفهاني الشهير بالحائري وكان من تلاميذه رحمه‌الله أيضا قال : حدّثني الشيخ الفاضل العالم الشيخ محمّد تقي القزويني قال : كنت كثير الاشتياق إلى زيارة العتبات المقدّسة وكنت مأيوسا بحسب العادة عن نيل المقصود لعدم تهيأة الأسباب ، فبينما أنا كذلك إذ رأيت في بعض الليالي فيما يرى النائم أنّي زرت العتبات المقدّسة وتشرّفت في سامرّاء بخدمة الإمام الأستاذ فقال لي : تريد الرواح أو الإقامة عندنا؟ فإن كنت تريد البقاء عندنا فأنا أعطيك كلّ شهر مبلغ كذا ، فانتبهت من النوم فما مضت الأيّام إلّا وهيّأ الله لي أسباب التشرّف إلى العتبات الشريفة ، فلمّا تشرّفت بزيارة العسكريّين عليهما‌السلام زرت آية الله المجدّد في داره فبعد أداء مراسيم التحيّة والسلام قال لي : تريد الرواح أو الإقامة؟ فإن كنت تريد الإقامة عندنا فقد قلت لك. فلمّا سمعت منه هذا تذكّرت الرؤيا وعلمت أنّ السيّد أشار إلى ما قاله وعيّنه في المنام ، فبقيت في سامرّاء فيأتي خادمه في أوّل كلّ شهر بالمبلغ الذي عيّنه في النوم.

ومنها ما حدّثني به السيّد الجليل المعمّر الشهير السيّد جعفر آل ثابت الحائري قال : كنت حاضرا في بعض المجالس الأستاذ في سامرّاء إذ دخل عليه ثلاثة رجال من فقراء الزوّار وطلبوا منه زاد السفر ، فأعطى لواحد منهم عشرين قرانا ، ولواحد آخر خمسة قرانات ، ولم يعط الثالث منهم شيئا ، فألحّ الذي أخذ خمسة قرانات بالزيادة وكذا الثالث المحروم حتّى قالا له : كلّنا رفقة سواء فلما ذا تفرق بيننا مع أنّنا كلّنا نحتاج الأكل والشرب وما عندنا شيء؟ فقال الأستاذ : الذي فعلته هو

٩٢

التسوية التي تريدونها فأمسكوا عن الإلحاح قبل فضيحتكم ، وما انتفعا بلين الكلام وزادا في الإلحاح ، فأمر الأستاذ بعض الخدمة بأن يفتّشهم فلمّا فتّشوا أخرج من كيس من أعطاه العشرين خمس قرانات ، ومن كيس من أعطاه الخمسة عشرين قرانا ، ومن كيس الثالث خمسة وعشرين قرانا ، فتبيّن حقيقة التسوية بينهم.

ومنها ما حدّثني به تلميذه العلّامة الحجّة الميرزا حسين النائيني النجفي أوان تشرّفه إلى زيارة العسكريّين عليهما‌السلام سنة ١٣٣٨ قال : حدّثني العالم الورع التقي الشيخ إبراهيم التجريشي الطهراني سنة ١٣١٧ حين تشرّف إلى العتبات ، قال : وردت مع بعض الأفاضل يوما على العلّامة المحقّق المولى علي الكني ، فقال : ألا تحبّون أن أريكم اليوم ما هو عندي من المخزون؟ فأدخلنا في خزانة كتبه وأخرج لنا كتابا من سيّدنا الأستاذ بخطّه وخاتمه في غاية الاحترام فقبّله ودفعه إلينا وقال : إنّ له شأنا عظيما وهو عندي كأنّه صادر من الإمام أبي محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام ووصيّت ولدي أن يجعلوه في كفني عند دفني ، وفيه توصية لبعض السادة الأجلّاء لأهل قزوين ، وذلك أنّ بعض رجال الدولة غصب معظم أملاك السيّد المذكور فجاء السيّد إلى طهران مشتكيا منه عندي وأقام بها مدّة مديدة مستجيرا بي في رفع الظلم عنه ولعلمي بأنّه لا يمكنني رفع يد الغاصب عنه لعظمه في بيت السلطنة ما أقدمت على إغاثته حتّى يئس السيّد من مساعدتي فبينما هو كذلك توجّه ثلاثة من أصحابي إلى زيارة العتبات وتوجّه السيّد المتظلّم معهم وكثير ما يذكر لهم في الطريق أنّي إنّا أتشرّف بهذه الزيارة للشكوى من ظلامتي عند الإمام الشيرازي بسامرّاء.

فقال العلّامة السيّد محمّد تقي الذي كان معهم بعد رجوعه من العتبات أنّه بعد وصولنا إلى سامرّاء ما تيسّر لنا زيارة الإمام الشيرازي إلّا في الليلة الأخيرة التي

٩٣

خرجنا في صبيحتها فتشرّفنا بخدمته أوّل الليل وكان معنا السيّد المتظلّم فحكى عند الإمام الشيرازي ظلامته وذكر طول مقامه بطهران وتوسّله وإلحاحه إليّ وعدم مساعدتي له ، قالوا : فسألنا الإمام الشيرازي عن ذلك ، فقلنا له : نعم ولكنّه معذور جدّا لأنّ الغاصب من حواشي السلطان ناصر الدين شاه وشرحنا له حقيقة الحال ، فقال : إذا لم يتمكّن المولى علي الكني من استرداد هذا المغصوب فأنا أعجز لأنّي لا أكتب إلّا إليه وهو غير متمكّن وآيس من رفع الظلامة فودّعناه وخرجنا من عنده وخرج السيّد آيسا متغيّر الحال كئيبا حزينا فتشرّفنا للزيارة فأخذ السيّد الشبّاك المطهّر متوسّلا بالإمامين العسكريّين عليهما‌السلام وبالغ في التوسّل وأكثر الجزع والبكاء.

ثمّ خرجنا إلى المنزل فبات السيّد عندنا في أشدّ الكآبة والحزن ، فلمّا انتبهنا وقت السحر لتهيئة الارتحال انتبه السيّد من نومه فرحا مسرورا وقال : إنّي رأيت الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام في المنام فقال لي بالفارسيّة : «آسوده باش ما سفارش تو را به ميرزا كرديم» ، ولمّا طلع الفجر أتى الشيخ عبد الكريم آل محي الدين خادم الإمام الشيرازي بهذا الكتاب وأعطاه للسيّد فعلمنا أنّ امتناعه الشديد أوّلا عن الكتابة ثمّ مسارعته إليها وبعثها مع خادمه بين الطلوعين ما كان ذلك إلّا بإشارة الإمام الهمام العسكري عليه‌السلام.

قال العلّامة المولى الكني : فبعد ما وصل الكتاب إليّ كتبت كتابا إلى السلطان ناصر الدين شاه وجعلت كتاب الإمام الشيرازي طيّه وبعثتهما إليه ، فرّد السلطان ظلامة السيّد ببركة هذا الكتاب.

ومنها ما حدّثني به الثقة الورع الجليل الشيخ راضي بن الشيخ علي الطريحي النجفي المتوفّى حدود سنة ١٣٤٠ وهو أخو العلّامة حسين الطريحي وكان من خواصّ أصحاب شيخنا العلّامة الفقيه الشيخ محمّد طه نجف طاب ثراه ، قال :

٩٤

حدّثني الأستاذ الشيخ محمّد طه نجف وقال : حدث في ركبتي خراج عجز الأطبّاء عن معالجته فاضطررت إلى السفر لبغداد للمعالجة وكنت في غاية الفاقة والشدّة ، فلمّا دخلت بغداد بقيت سنتين فبرأ الخراج ، فلمّا أردت الرجوع إلى النجف عزمت على زيارة العسكريّين عليهما‌السلام فبعد تشرّفي إلى الروضة البهيّة خاطبتهما بقصيدة منها :

يا أباة الضيم ما هذا السكوت

عن عبيد كان من همّ يموت

وذلك لشدّة ضيق صدري في تلك الأيّام من ملاحظة حالي وأنّه قد أفنيت عمري في القيل والقال وما حصلت شيئا يفيدني وضاقت عليّ الدنيا لعدم اليسار فكأنّي أرى نفسي قد خسرت الدنيا والآخرة. فبينما أنا كذلك رأيت في بعض الليالي وأنا بين النوم واليقظة هاتفا يهتف بصوت عال ، فانتبهت من النوم فإذا هو يقول : «ونريد» فظننت أنه يتلو الآية الشريفة ويخاطبني بها عظة وتسلية لنفسي ، ثمّ غلبني النوم إلى أن انتبهت للصلاة ، وفي صبيحة تلك الليلة شرّفنا سيّدنا الإمام الشيرازي قدس‌سره بقدومه في منزلنا فجلس مقدارا نتحادث ثمّ سكت هنيئة ما يقرب من خمس أو أربع دقائق فجعل ينظر في وجهي ثمّ تلا بعد البسملة الآية الشريفة : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً)(١) إلى آخر الآية ، فعند قراءته تذكّرت ما سمعته من الصوت عند النوم ، قال الشيخ الراضي : قلت : يا شيخنا ، ما ذكرت ذلك للمرحوم؟ قال : لا.

أقول : وقد نال الفقيه الشيخ محمّد طه درجة سامية في الرياسة العلميّة وصار مرجعا عامّا في التقليد تصديقا للآية الشريفة ، هكذا فليكن ورثة الأئمّة عليهم‌السلام ودعاة الدين وناشروا ألوية شريعة سيّد المرسلين.

ومنها ما حدّثني به العلّامة الورع الشيخ حسين بن الشيخ حسن الفرطوسي

__________________

(١) القصص : ٥.

٩٥

النجفي قال : مكثت في سامرّاء زهاء خمس سنين آخذ العلم من أستاذي العلّامة الشيخ باقر بن الشيخ حيدر الذي هو من تلامذة الإمام الشيرازي الذي كان يلاطفني كثيرا وفي السنة الأخيرة طلبت الرخصة من الإمام الشيرازي للتزويج فأعطاني مقدارا وافيا للزواج وقال : إذهب إلى النجف وتزوّج ثمّ ارجع إلى سامرّاء ، فأخذت المقدار وذهبت إلى النجف الأشرف وتزوّجت فبقيت فيها أشهرا ثمّ رجعت إلى سامرّاء منفردا للزيارة وطالبا للإذن منه لجلب العيال إلى سامرّاء ، فلمّا تشرّفت عنده استبشر في أمر الزواج كثيرا ولكنّه منعني عن حمل العيال إلى سامرّاء ، فرجعت إلى النجف متحيّرا في سبب تغيير حاله بالنسبة إليّ حيث أنّه كان مصرّا قبل ذلك ببقائي بسامرّاء حتّى أنّه هيّأ لي أسباب الزواج مقدّمة للبقاء واليوم يمنعني عنه ، فلم تمض إلّا أشهر قليلة حتّى جاءنا نعيه طاب ثراه ، فزال تحيّري علمت أنّه يمنعه عن بقائي أخبار عن عاقبة أمره وأنا ما فهمت مرامه.

ومنها ما حدّثني الشيخ المذكور عن شيخ الشيخ باقر بن الشيخ علي بن حيدر الشروقي المجاهد المتوفّي سنة ١٣٣٣ قال : إنّ في آخر سنة توقّفي بسامرّاء تشرّف السيّد حبيب جيثوم النجفي التاجر المعتبر المعروف لزيارة العسكريّين عليهما‌السلام ومكث في سامرّاء مدّة. قال الشيخ باقر : فاستربنا من طول بقائه فاستعلمنا منه السبب فأبى أن يذكره لنا ، فأصرّ عليه كلّ واحد من أصدقائه حتّى اضطرّ فقال لنا : إنّ عليه ستمائة ليرة دينا لا يقدر على أدائها. فأخبرنا الإمام الشيرازي بذلك وكان يعرفه حقّ المعرفة وفي غاية العفّة والتستّر عن كلّ أحد حتّى عن خاصّته فكتب له الحوالة ستّمائة ليرة إلى بندر كنجه إلى السيّد محمّد شرف الدين وقال : قل للسيّد حبيب أن يعجّل في الرواح فإنّ الأمر لا يجوز تأخيره ، فأعطيناه الحوالة وقلنا له أنّ السيّد أمر بالتعجيل لكن السيّد حبيب كان يبطئ في الحركة وبعد أيّام سألنا السيّد عن حال السيّد حبيب ، فقلنا له : بعد ما رجع وهو بطيء الحركة ، فقال : الخير في

٩٦

عجلته فقل له أن يعجل في الرواح إلى بندر كنجة ، فذكرت للسيّد حبيب فذهب إلى الكاظميّة وتوقّف هناك مدّة إلى أن سألني السيّد رحمه‌الله عن حاله ، فقلت : هو بعد بالكاظميّة ، فقال السيّد : أكتب له في التعجيل ، فكتبت إليه ، فذهب السيّد حبيب إلى النجف وأتاني خبره بعد مدّة فسألني السيّد أيضا عن حاله فقلت : بعد بالنجف ، فقال السيّد : لا أظنّ أنّه ينال بعد هذا التأنّي من أمره شيئا ، وكان الأمر كما ظنّه لأنّه أخبر بذلك أواخر أيّامه فتوفّي السيّد طاب ثراه والسيّد حبيب بعد بالنجف فباع دكّانه وأدّى دينه.

ومنها ما حدّثني به تلميذه العلّامة الحبر الخبير السيّد الأجل السيّد حسن الصدر الكاظمي قال : حدّثني الشيخ عبد الكريم آل محي الدين قال : قالت لي والدتي يوما من الأيّام : إنّي رأيت في المنام أنّ الإمام صاحب الزمان صلوات الله عليه أرسل إليك وأخذك معه إلى حجّ بيت الله الحرام.

قال الشيخ عبد الكريم : فمضت مدّة وأنا نسيت المنام حتّى بعث إليّ السيّد طاب ثراه يوما فأتيته وهو واقف بباب داره وبعد السلام والتحيّة قال لي : يا شيخ ، إذا أنا تشرّفت للحجّ تصاحبني في السفر؟ قلت : نعم لا مانع لي ، فدفع إليّ قائمة كتب فيها حوائج المسافرة وأعطاني دراهم لشراء الحوائج فحججت معه فلمّا رجعت عن الحجّ ذكرت منام والدتي فعظم عندي مقام السيّد.

ومنها ما حدّثني به أيضا العلّامة الحجّة السيّد حسن الصدر قال : حدّثني الشيخ عبد الكريم المذكور قال : قالت لي والدتي أنّي رأيت لك مناما حسنا. قلت : خيرا إن شاء الله. قالت : رأيت أنّ الإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه أرسل إليك يطلب منك أن تعمر له دارا في الغري ، فذهبت واشتغلت بعمارتها حتّى فرغت منها.

قال الشيخ عبد الكريم : فما مضت أيّام إلّا وقد أرسل إليّ السيّد طاب ثراه وقال

٩٧

لي : ألتمسك على مسألة مهمّة عندي وهي أن تعمر لنا هذه الدار التي في النجف فأجبته واشتغلت بذلك حتّى فرغت منها وهي الدار التي بقرب دار العلّامة الأنصاري في النجف ، فتذكّرت ما رأيت بالطيف فازداد إخلاصي وعظم في عيني.

وقال العلّامة السيّد حسن الصدر : كان الشيخ عبد الكريم هذا من أفراد الدهر والوحيد في الأمانة والزهد والتقوى ولذا صارت أمور سيّدنا الأستاذ كلّها بيده وكان صاحب أسراره وأمينه على ماله وأهله وعياله وما عاش بعد سيّدنا الأستاذ إلّا شهرا واحدا وتوفّي بعده.

ومنها ما حدّثني به الرجل الصالح الثقة الميرزا محمود الخراساني المعروف بالعطّار نزيل سامرّاء قال : إنّ رجلا صالحا من تجّار همدان نزل عندي في سامرّاء وكانت مدّة إقامته في سامرّاء عشرين يوما ، فلمّا أراد الرجوع رأيته كثير الابتهاج والسرور ، فقلت في نفسي : رجل صالح يشكر الله على التوفيق لزيارة الأئمّة عليهم‌السلام ، فقال لي : إنّي رأيت كرامة من سيّدنا ـ يعني به آية الله الشيرازي رحمه‌الله ـ. قلت : وما هي؟ قال : لمّا خرجت من همدان كان لي صديق من التجّار سألني والتمس منّي أن آخذ من آية الله السيّد له شيئا قليلا من المال للتبرّك ، فقبلت منه ، فلمّا دخلت سامرّاء وذهبنا لزيارة السيّد استحيت أن أطلب منه شيئا للبركة ومع ذلك تجلّدت وقلت له : يا سيّدي ، لو أكرمتني بشيء للبركة ، فأخرج من تحت سجّادته قرانا وأعطانيه فأخذته منه ورجعت حتّى وصلت باب الحجرة فناداني فرجعت فقال: لم لا تطلب لصديقك شيئا ، فلمّا سمعت منه أخذتني الرعدة فوقعت على رجله أقبّلها وأعطاني نصف قران وقال : أعطه لصديقك ، فخرجت من عنده غير مرتاب بأنّ هذا الإخبار لي كرامة منه رحمه‌الله.

٩٨

الفتنة بين أهالي سامرّاء والمجاورين

في سنة ١٣١١ ثارت فتنة بين أهالي سامرّاء والمجاورين ممّا أدّى إلى تهديد المجاورين بالقتل ، وقد أثارها بعض الدسّاسين الذين يريدون الوقيعة بالمسلمين وإثارة الفتنة بين الطائفتين وتفريق جمعهم وتشتيت شملهم ، فكان من جرّاء ذلك الحادث أن تعصّب لكلّ طائفة فرقة من العشائر المقيمين خارج البلدة وكادت الواقعة أن تقع وكادت الفتنة أن يندلع نارها فتحرق الحرث والنسل والأخضر واليابس ، لو لا أن يتلافاها الإمام المجدّد الشيرازي رحمه‌الله برأيه الصائب وحنكته المشهودة وسياسته القويّة وحكمته الباهرة.

بلغ نبأ الحادثة عاصمة بغداد والبلدان العراقيّة فاستعظموا ذلك النبأ الفظيع وحسبوا له ألف حساب ، وسافر إلى سامرّاء جماعات كثيرة من العلماء والأشراف كما وأنّه سافر إليها القنصل الإيراني من بغداد وكلّهم يرى ضرورة مغادرة الإمام الشيرازي ومن تبعه من طلّاب العلم والمجاورين سامرّاء ، ولكن الإمام الشيرازي رحمه‌الله بما أوتيه من العقل الرزين والحكمة الباهرة يستمهلهم ولا يبثّ بشيء ، وقد اطّلع القنصل الإنكليزي ووالي بغداد العثماني على وقوع الحادثة فقصدا سامرّاء ، فأرسل إليهما الإمام الشيرازي من يبلغهما بأنّ الحادثة هيّنة وأنّه يصلح الأمور من غير حاجة إلى مداخلة السلطات الحكوميّة في الأمر ، فرجعوا ، وقد أطفئت النائرة وعادت الأمور إلى مجاريها الطبيعيّة ، وقد أظهر أهالي سامرّاء الندم على ما وقع منهم وقدّموا يد الطاعة إلى الإمام الشيرازي معتذرين بأنّ ما صدر إنّما هو من بعض الجهّال الذين لا يفهمون مغبّه الأمر وسوء العاقبة راجين من الإمام الشيرازي العفو عنهم فعفا عنهم شأن الكرام ، وإلى هذه الحادثة أشار العلّامة الخبير السماوي في وشائح السرّاء بقوله :

٩٩

وسادس الأحداث من جدال

بين المجاورين والأهالي

حتّى لقد ساءت به الظنون

وكاد أن يكون ما يكون

وجاءت الولاة والقناصل

ليرفعوا ما هو فيهم نازل

فأصلح الحال محمّد الحسن

برايه الواري وخلقه الحسن

وذاك لإحدى عشر سنينا

بعد ثلاث عشرة مئينا

العمارة الخامسة عشرة

وقعت في أيّام الإمام المجاهد الميرزا محمّد تقي الشيرازي قدس‌سره وهي المرايا الكبيرة المنصوبة فوق الرخام وتحت الكتيبة حول الحضرة المقدّسة ، وكان الباذل للمصاريف الشهم الهمام الحاج مخلف أحد زعماء الفرات والمعروف بالتقى والصلاح والجود والسماح ، وله مبرات كثيرة في العتبات المقدّسة ممّا تقدر له وتشكر رحمه‌الله رحمة واسعة ، وكان قد تشرّف بسامرّاء زائرا ولمّا زار الإمام الشيرازي أمره بعمارة ما ذكرناه ، وبنى ميضاة خارج الصحن الشريف للزائرين فلمّا غلب الخراب عليها أصلحها العلّامة الحجّة الميرزا محمّد الطهراني نزيل سامرّاء إلى أن رفعتها البلديّة فأمرت بهدمها وجعلها دكّانا كما هو اليوم ، وبنى أيضا مغسلا للأموات للرجال ، ومغسلا للنساء.

وبمناسبة ذكر الإمام الميرزا محمّد تقي وماله من المآثر والآثار الخالدة التي سجّلها له التأريخ نورد لك نبذة يسيرة من حياته وأخباره.

حياة الإمام الشيرازي الميرزا محمّد تقي رحمه‌الله

ولد بشيراز وتوفّي بكربلا ليلة الأربعاء الثالث من ذي الحجّة سنة ١٣٣٨ ودفن

١٠٠