مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-037-4
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٣٧٢

ترجمة شيخ العراقين

ذكره تلميذه العلّامة الخبير الميرزا حسين النوري في خاتمة مستدرك الوسائل (١) وقال : شيخي وأستاذي ومن إليه في العلوم الشرعيّة استنادي ، أفقه الفقهاء وأفضل العلماء ، العالم الربّاني الشيخ عبد الحسين بن علي الطهراني أسكنه الله تعالى بحبوحة جنّته ، كان نادرة الدهر وأعجوبة الزمان في الدقّة والتحقيق وجودة الفهم وسرعة الانتقال وحسن الضبط والاتقان وكثرة الحفظ في الفقه والحديث والرجال واللغة ، حامي الدين ودافع شبه الملحدين ، وجاهد في الله في محو صولة المبدعين ، أقام أعلام الشعائر في القبّات العاليات ، وبالغ مجهوده في عمارة القباب الساميات ، صاحبته زمانا طويلا إلى ان نعق بيني وبينه الغراب ، واتخذ المضجع تحت التراب في اليوم الثاني والعشرين من شهر رمضان سنة ١٢٨٤ ، له كتاب في طبقات الرواة في جدول لطيف غير أنّه ناقص ، انتهى.

وذكره شيخنا الأستاذ الشيخ آقا بزرك صاحب الذريعة في كتابه نقباء البشر وقال : كان من أجلّ تلاميذ صاحب الجواهر ومجازا منه وله آثار خالدة في غرّة الدهر ، منها مدرسة الصدر بطهران ، ومنها مسجد أعاليا المعروف بمسجد شيخ العراقين إلى اليوم ، ومنها تذهيب قبّة العسكريّين عليهما‌السلام بسامرّاء ، ومنها تعميرات في كربلاء بالروضة الحسينيّة ، ولمّا فرغ من تذهيب قبّة العسكريّين عليهما‌السلام رجع إلى الكاظميّة وتوفّي فيها وحمل جثمانه الشريف إلى كربلاء ودفن في بعض حجرات الصحن الشريف قرب مدرسة الصدر في مقبرة بناها هناك من ثلث الميرزا تقي خان الملقّب بصدر أعظم.

وله رسالة عمليّة طبعت في سنة ١٢٨٥ ، وله ترجمة نجاة العباد مطبوع أيضا ،

__________________

(١) خاتمة مستدرك الوسائل : ٣٩٧.

٢١

وله حواش وتعليقات رسائل ، وكتب في علم الرجال طبقات الرواة.

وخلّف من الأولاد الذكور خمسة : العلّامة الشيخ علي ، والعلّامة الشيخ أحمد ، والعلّامة الشيخ مهدي ، والشيخ شريف ، والشيخ عيسى ، ولولده الشيخ علي كتاب معراج المحبّة في رثاء الحسين مطبوع ، انتهى.

وكان المترجم على ما في «مآثر الآثار والتكملة» جمّ العلم ، متوقّد الذكاء ، طيّب الأخلاق ، طويل الباع ، كثير الحفظ والاطّلاع ، نافذ الكلمة ، وكان رئيسا مطاعا يعارض السلطان ناصر الدين شاه ولا تأخذه في الله لومة لائم ، ولا يمسك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد ضاق المخرج على ناصر الدين شاه فأراد إجلاءه من إيران بصورة حسنة وكان يخضع له في الغاية فاستدعى منه أن يذهب إلى سامرّاء لتذهيب قبّة العسكريّين عليهما‌السلام وجعله من قبل نفسه وكيلا مطلقا في مصارف العمارة في سامرّاء وكربلا فأنعم بالقبول وعمل ما هو غرّة في جبهة الدهر.

وحدّثني بعض الأجلّة من علماء طهران فقال : إنّ مصارف تذهيب قبّة العسكريّين عليهما‌السلام كان من ثلث مال الأمير الكبير الميرزا تقي خان الملقّب بصدر أعظم ، والسبب في ذلك أنّه أوصى إلى العلّامة الحجّة الشيخ عبد الحسين شيخ العراقين بثلثه فلمّا توفّي مدّت إلى أموال المشار إليه يد عادية فأخبر بذلك الشيخ عبد الحسين فذهب إلى السلطان ناصر الدين شاه وأخبره بذلك ورغّبه بتذهيب قبّة العسكريّين عليهما‌السلام من ثلث الصدر فأنعم بالقبول وفرح بذلك فأرسله إلى سامرّاء مع مصارف التذهيب.

نبذة من أخبار الأمير الكبير

الميرزا تقي خان ولد في هراوة من قرى فراهان من أعمال سلطان آباد ، وكان

٢٢

أبوه طبّاخا يقال له كربلائي قربان ، فأظهر من أيّام صباه شهامة وإقداما فترقّت أحواله إلى أن تزوّج بأخت السلطان ناصر الدين شاه فصار من الطراز الأوّل من رجال الدنيا وهو أوّل من حاز السياسة والرياسة في قارّة آسيا ، وأوّل من لقّب بلقب أتابيك الأعظم ، وأوّل من بنى مدرسة دار الفنون في طهران ونشر فيها الجرائد وأنواع العلوم وأصلح ما أفسده المترفون من نظم الجنديّة والخراج والتجارة ، وفتح هرات ونواحيها وبنى في طهران وغيرها أبنية جليلة فعلا شأنه وعظم قدره وكثرت حسّاده واتهموه عند السلطان ناصر الدين شاه بأنّه يطلب الملك وكثر الواشون فعزله السلطان عن الصدارة بعد أن لقّبه بصدر أعظم ، وأرسله إلى كاشان حاكما في سنة ١٢٦٨ ثمّ أدخلوه حمّاما وقتلوه بالفصد في الثاني عشر من ربيع الأوّل في السنة المذكورة.

نبذة من أخبار ناصر الدين شاه

ولد في شهر صفر سنة ١٢٤٧ وجلس على عرش الملك في الثامن عشر من شوّال سنة ١٢٦٤ وقتل يوم الجمعة السابع عشر من ذي القعدة سنة ١٣١٣ في مشهد عبد العظيم ، قتله رجل يدعى بميرزا رضا الكرماني ، وكان عمره ستّا وستّين سنة ، وملك إحدى وأربعين سنة ، ودفن في جوار قبر الشاه عبد العظيم الحسني وعلى قبره رخام أصفر صقيل من أثمن الأحجار محفور عليه رسمه في غاية اللطافة ، وأرّخ عام قتله الشاعر المفلق السيّد مهدي البغدادي النجفي بقوله :

إنّ دين الله أضحى باكيا

مذ رأى ناصره في اللحد يقبر

قال من بعدك من ينصرنا

قال بعدي أرّخوا (نجلّي مظفّر)

ورثاه الشعراء بمراث عديدة باللغتين العربيّة والفارسيّة منها القصيدة البليغة

٢٣

للسيّد مهدي البغدادي النجفي ، ومنها القصيدة الطويلة للخطيب البارع الشيخ كاظم ابن الحسن السبتي النجفي ، ومنها مرثية الميرزا عبد الكريم إمام جمعة تبريز على ما ذكره العلّامة البحّاثة الشيخ عبد الحسين الأميني التبريزي في كتاب شهداء الفضيلة في ترجمة إمام الجمعة المذكور التبريزي قال فيها :

نصر الله ناصر الدين أنتم

بيته المستقيم وهو العماد

رفعت فيكم القواعد منه

وحمته منه الصفاح الحداد

حيّ ذاك اللواء يخفق نصرا

من إله السما له أمداد

طود عزّ الإسلام حامي حماه

عصمة المسلمين وهو السناد

هو رمح بكفّه وحسام

وهو أمن لثغره وسداد

وهو في الحرب ليث غاب

وفي الجدب محياه كوكب وقّاد

أيّد الله ملكه بمليك

فيه يحمي الهدى وتحمى العباد

وكفاه مظفّر الدين عضوا

منه في الحرب إذ يقوم الجلاد

وكان ناصر الدين شاه يحبّ المعارف ، وألّفت باسمه كتب كثيرة مثل مرآة البلدان ونامه دانشوران في مجلّدات ضخمة ، وناسخ التواريخ كذلك ، وسعادات ناصري ، وأسرار الحكم للسبزواري ، وخيرات حسان ، وألّف فرهاد ميرزا كتبا متعدّدة نحو زنبيل وجام وجم ، وقمقام ، وغيرها ، وألّفوا في مآثره كتبا مطوّلة ممتعة منها مجلّدان ضخمان من مجلّدات ناسخ التواريخ ، ومطلع الشمس ، وسفر نامه ناصري ، وكتاب منتظم ناصري ، وكتاب مآثر الآثار كلّها منتشرة بفضل المطابع.

وقال العلّامة الخبير السيّد محسن العاملي في أعيان الشيعة : كان السلطان ناصر الدين شاه أديبا شاعرا له ديوان شعر بالفارسيّة ، وكان خطّه في غاية الجودة ، وفي مكتبة طهران نسخة من ديوانه مخطوطة في غاية الجودة مذهّبة مجدولة ، كتبها محمّد حسين الشيرازي في جمادى الأولى سنة ١٢٧٢ ، وقد صعد مرّة مع شاعره

٢٤

إلى سطح داره ليرى هلال شوّال فرأى امرأة بارعة الجمال ، فقال :

* در شب عيد آن پرى رخ بى نقاب آمد برون*

ثمّ طلب من شاعره إجازته فقال بلا تأمّل :

* ماه مى جستند مردم آفتاب آمد برون*

ومرّ يوما على صفّار فرأى غلاما بديع الجمال على وجهه غبار الفحم ، فقال :

* بدور عارض ماهش ببين كه گرد ذغال است*

ثمّ طلب من شاعره إجازته ، فقال بلا تأمّل :

* صداى مس بفلك مى رود كه ماه گرفته است*

وفيه من المناسبة ما لا يخفى لأنّ عادة الناس يضربون بالعود على النحاس حين انخساف القمر.

وفي المنتظم الناصري (١) ما ترجمته : وفي سنة ١٢٨٧ في شهر رمضان في الثالث منه ورد السلطان ناصر الدين شاه زائرا النجف وخرج يوم العشرين منه عائدا إلى كربلا وأنعم على المجاورين للروضة المطهّرة ، وقدّم لأعتاب تلك الحضرة المقدّسة فصّ ألماس مكتوب عليه سورة الملك على يد متولّي الحضرة الشريفة وارتجل بيتين عند دخوله بباب الروضة الحيدريّة فأنشأ :

بر درگه تو اى شاهد معبود صفات

اسكندر ومن صرف نموديم اوقات

بر همّت من كجا رسد همّت او

من خاك درت جستم واو آب حيات

ومن شعر السلطان ناصر الدين شاه مرثيته في القاسم بن الحسن عليهما‌السلام على ما ذكره الخياباني في المجلّد الثاني من وقايع الأيّام الصفحة ٥٢٨ التي مطلعها :

چو اعدا ديد قاسم را كه در گردن كفن دارد

همى گفت از ره تحسين عجب وجه حسن دارد

__________________

(١) المنتظم الناصري ٣ : ٣١٥.

٢٥

وقال البحّاثة الخبير الشيخ جعفر آل محبوبة في ماضي النجف وحاضرها (١) : وفي سنة ١٢٨٧ يوم الأربعاء ثالث عشر شهر رمضان تشرّف السلطان ناصر الدين القاجاري مع عياله وخدمه بالحرم العلوي واحتفلت الدولة العثمانيّة احتفالا عظيما وبقي في النجف سبعة أيّام وكان مقرّه خارج البلدة فقد ضرب أخبيته بالقرب من مقام المهدي عليه‌السلام وأنعم على كافّة الطبقات والمجاورين بالإنعامات الملوكيّة خصوصا العلماء ، وأهدى للعلّامة الفقيه السيّد علي آل بحر العلوم صاحب كتاب «البرهان القاطع» ألف أشرفي ذهبا وأتحفه بتحفة مرصّعة بالجواهر وأرسل إليه بعد عوده إلى مقرّ سلطنته عصا وعبا ، وقد مدح الشاعر الكبير السيّد صالح القزويني البغدادي العلّامة السيّد علي المذكور بأبيات تعرّض فيها للهديّة المذكورة يقول فيها :

أيدي (عليّ) ناصر الدين لم له

عصا وعبا لله أهدى تقرّبا

رأى يده البيضا فأهدى له العصا

ومذ كان من أهل العبا أرسل العبا

فكل لعمري ناصر الدين منهما

ففي علمه هذا وذلك بالظبا

وقد أرّخ بعض الشعراء زيارته هذه ، منهم صاحب فصوص اليواقيت ، فقال :

ملك الفرس ناصر الدين لمّا

قد سعى محرما إلى العتبات

برجال أعزّة وجنود

خافقات الأعلام والرايات

ونساء ما أبرزت قطّ يوما

من خدور وخرد خفرات

ليزوروا الأطهار من أهل بيت

المصطفى بالعراق والطاهرات

ويحوزوا سعادة الدين والد

نيا ينالوا شرائف الدرجات

مخلص الحبّ في الولاء مليك

مثله ما أتى ولا هو آت

__________________

(١) ماضي النجف وحاضرها : ١٥٣.

٢٦

شكّر الله سعيه حين وافى

مستجيرا من طارق الحادثات

وأتاه النداء أهلا فأرّخ

«بمليك سعى إلى العتبات»

وقيل عن لسانه هذه الكلمة وهي تاريخ لعام زيارته هذه «تشرّفنا بالزيارة».

وقال العلّامة الكبير السيّد محسن العاملي في أعيان الشيعة : كان السلطان ناصر الدين شاه مكرما للعلماء والأشراف والأدباء ، ويحبّ المعارف ، وربّما كانت تقع بينه وبين بعض العلماء منازعات لمداخلتهم في أمور المملكة فيخرجه إلى خارجها بصورة جميلة بأن يقول له : صار لك مدّة لم تحجّ أو لم تزر المشاهد المشرّفة بالعراق فيعطيه نفقة السفر ، فإذا خرج لا يعود إلّا بإذنه. وله مع العلماء المخالفين لما ينبغي لهم نوادر وحكايات ظريفة :

منها أنّه زار بعض العلماء فأجلسه العالم في المكتبة ودخل عليه وعلم الشاه أنّ ذلك لأجل أن لا يقوم للشاه ولينظر إلى مكتبته العظيمة ، فلمّا دخل قاله له الشاه : ما هذه الكتب؟ فجعل يعدّد له أصنافها ، فقال الشاه : أما فيها كتاب أدب؟ فخجل العالم.

وزار بعضهم مرّة فرأى الدار البرّانيّة في حالة رثّة شعار الزهد وقد علم أنّ الدار الداخلانيّة بخلاف ذلك ، فقال له : لو وافق الظاهر الباطن لكان جيّدا.

وأرسل مرّة في شهر رمضان إلى جماعة من العلماء ليرسل له كلّ واحد منهم من فطوره ليتبرّك بأكله وكلّ منهم لا يعلم أنّه أرسل إلى غيره وقد وضع جواسيس يخبرونه بطعام كلّ منهم الحقيقي ، فمنهم من أرسل له من طعامه الواقعي جيّدا أو رديئا ، ومنهم من ترك الجيّد وأرسل له طعاما رديّا إظهارا للزهد في الدنيا فعلم بذلك المخلص منهم من المرائي.

وكان هو أوّل من أسّس في إيران إدارة الضرب وإدارة البرق والبريد ، ومعمل البنادق ، ومجمع الصنائع ، ومدرسة دار الفنون ، ونظم دوائر الجند ، ورتّب الوزارة ،

٢٧

وأذن بنشر الصحف لكن لم يمنحها الحرّيّة بنشريّاتها ، وأنشأ بيمارستانات أي مستشفيات لكن الجنديّة ، وإدارات الحكومة الداخليّة والخارجيّة كانت في حالة منحطّة جدّا وكانت الجنديّة اسما بلا مسمّى ، والاستبداد في الأحكام والجور ضارب أطنابه ، والصدر الأعظم هو المتصرّف في جميع أمور المملكة بلا معارض ولا مراقب ، والسلطان لم يكن متمكّنا من تنظيمها أكثر من ذلك ، وأعطى امتياز حصر التنباك إلى دولة انكلترة مقابل مبلغ من المال غير أنّه لم يتمكّن من إجراء هذه المعاملة كما سيأتي تفصيل ذلك في العمارة الرابعة عشرة.

وتقدّم أنّ من آثاره الباقية تذهيب قبّة العسكريّين عليهما‌السلام كما أنّ تذهيب أيوان المشهد الرضوي وتذهيب قبّه السيّد عبد العظيم الحسني المدفون في الري منها ، وكذا له آثار في صحن النجف وكربلا والكاظميين وقم وغيرها ، وكان كثير البذل والعطاء وينفق الألوف لمجالس التعزية التي تقام لذكرى سيّد الشهداء الإمام السبط الحسين بن علي عليه‌السلام في أيّام المحرّم.

أهمّ ما وقع في عصره

ذكر العلّامة السيّد محسن العاملي في أعيان الشيعة أنّه كانت عادة الملوك القاجاريّة أن يكون وليّ عهد السلطنة حاكما على تبريز مقيما بها ، فلمّا توفّي محمّد شاه كان ولده ناصر الدين في تبريز فجلس على سرير الملك في التاريخ المتقدّم ، وفي ٢٢ ذي القعدة ورد طهران وكان قد صحبه ميرزا تقي خان وزير نظام فجعله الصدر الأعظم ولقّبه ب «أتابك أعظم أمير نظام» وكان الحاج ميرزا آغاسي الصدر الأعظم لوالده محمّد شاه قد تحصّن بعد وفاة محمّد شاه بمشهد السيّد عبد العظيم قرب طهران خوفا من أعدائه وتولّت إدارة المملكة «مهد عليا» والدة ناصر الدين شاه حتّى دخل طهران.

٢٨

وكان الاختلال قد ساد في داخليّة إيران ونار الفتن مستعرة في نواحيها وأعظمها فتنة «سالار بن اللهيار خان» في خراسان فإنّ اللهيار خان آصف الدولة كان الصدر الأعظم على عهد فتحعلي شاه وفي عهد محمّد شاه جعل حاكما لخراسان فجلبه ميرزا آغاسي وزير محمّد شاه إلى طهران سنة ١٢٦٣ فحشد ولده سالار بن اللهيار القبائل واستولى على خراسان فوجّه محمّد شاه البرنس حمزة ميرزا لإخماد الثورة فلم يتقدّم واضطرّ إلى التحصّن في القلاع المتاخمة للبلد ثمّ توفّي محمّد شاه ففرّ حمزة ميرزا بمساعدة يار محمّد خان الأفغاني إلى هراة وعظم خطب سالار.

فلمّا ملك ناصر الدين أنفذ إلى سالار سلطان مراد أخاه حمزة ميرزا بجيش كثيف وقاومه سالار مرارا وضجر الأهالي فاضطرّوا إلى التسليم فدخل سلطان مراد البلد وقبض على سالار وقتله وأخذ أمير نظام في توطين البلاد وتأمين السبل وبدت منه الكفاءة التامّة في تنظيم الجند وإصلاح ماليّة الدولة فزادت الواردات على الصادرات بعد أن كانت أقلّ منها أيّام آقاسي ، ونشر العلوم الجديدة وزاد في أبهّة الدولة وتقدّمت إيران في عهده خطوات إلى التمدّن الحديث ولكن الأعداء سعوا به عند الشاه بأنّه يطلب الملك لنفسه فعزله ونفاه إلى قاشان ثمّ قتله بالفصد سنة ١٢٦٨ واستوزر اعتماد الدولة ميرزا آقا خان النوري وهو من بيت رفيع ، وكان وزير الحربيّة.

وفي سنة ١٢٧٣ أرسل ناصر الدين اعتماد الدولة إلى هراة فحاصرها وفتحها فغاظ ذلك انكلتره لأنّها كانت تتظاهر بمساعدة الأفغان جريا على سياستها المعروفة فأرسلت بوارجها الحربيّة على ساحل خليج فارس وملكت جزيرة خارك وبوشهر فقاومها مهر علي خان قائد الجنود في فارس وغلب عليها في السواحل ثمّ ملكت المحمّرة وعقد الصلح مع سفيرها في باريس سفير الدولة الإيرانيّة وتخلّت إيران عن هراة وسحبت انكلترا جنودها من بوشهر وخارك والمحمّرة.

٢٩

وفي سنة ١٢٧٥ عزل الشاه اعتماد الدولة عن الصدارة وارتأى أن لا يمنح أحدا رتبة الصدارة بل يوزع إدارة الشؤون الملكيّة على ستّة وزراء : الداخليّة والخارجيّة والحربيّة والماليّة والعدليّة والوظائف.

وفي سنة ١٢٧٦ استولى التركمان على مرو وعاثوا في أطراف خراسان وضربوا الضرائب على البلاد فتجهّز لتدميرهم حشمة الدولة حاكم خراسان وحمى وطيس الحرب بينهم وحدث النفاق في قوّاده فانحلّ نظام جيشه وانتصر عليه التركمان وعاد بالفشل واليأس من النصرة عليهم بعد ذلك.

وفي سنة ١٢٨١ ولي الصدارة محمّد خان القاجاري ولقّبه ب «سپه سالار أعظم» ثمّ عزله.

وفي سنة ١٢٨٧ زار مشاهد الأئمّة عليهم‌السلام بالعراق فاحتلفت به الدولة العثمانيّة وعظّمته كثيرا وسمحت له بأن يستصحب معه عددا من الجنود والبنادق وبعض المدافع ، وكان الوالي على بغداد من قبلها مدحت باشا الشهير فاستقبله إلى الحدود وكان في صحبته دائما ، والتقى به ميرزا حسين خان مشير الدولة القزويني سفير الدولة الإيرانيّة في اسلامبول فكان في خدمته بالعراق فأتى به إلى طهران وفوّض إليه وزارة الوظائف والأوقاف ووزارة العدليّة ولقّبه أوّلا ب «سبه سالار» ثمّ ب «صدر أعظم» ولمّا ورد كربلا تلقّاه علماؤها وفيهم الشيخ زين العابدين المازندراني قدس‌سره المجتهد الشهير إلى المسيّب ووقفوا له في الطريق فسلّم عليهم وسار متوجّها إلى كربلاء ، ولمّا ورد النجف تلقّاه علماؤها بعضهم إلى خان الحمّاد منتصف الطريق ، وبعضهم إلى خان المصلّى فكان منه معهم ما كان مع علماء كربلا.

فلمّا دخل النجف الأشرف زاره العلماء كلّهم إلّا الإمام الكبير الشيرازي قدس‌سره فإنّه لم يخرج للقائه ولا زاره في النجف وكان في ذلك الوقت أوائل شهرته فأرسل إليه مع حسين خان مشير الدولة يسأله عن سبب تأخّره ويطلب منه تدارك ما فات ،

٣٠

فأجابه : أنا رجل درويش مالي وللملوك ، فقال : لا يمكن إلّا أن يراك الشاه ، فقال : لا أذهب إليه ، فقال له الوزير : هل تريد أن يحضر الشاه لزيارتك؟ قال : هذا ممّا لا يمكن ، فلمّا ألحّ عليه قال : أجتمع به في الحضرة الشريفة فاجتمعا هناك وصافحه الشاه وقال : زر حتّى نزور بزيارتك ، ففعل وافترقا ، ثمّ أرسل الشاه جوائز للعلماء ومنهم الإمام الكبير الشيرازي قدس‌سره فكلّهم قبل جائزته إلّا هو فإنّه لم يقبلها فكان فعله هذا سببا لعظمته في عين الشاه وأعين الناس وكان السلطان ناصر الدين يقول : ما رأيت الميرزا محمّد حسن الشيرازي إلّا وهو مظهر الحقيقة ومثله ينبغي أن يكون إمام الأئمّة ونائب الأئمّة عليهم‌السلام.

وطلب مدحت باشا رؤية الخزانة للمشهد الشريف الغروي ففتحت له ورأى ما فيها من الجواهر والنفائس.

وفي سنة ١٢٩٠ رحل الشاه إلى أروبا وبعد رجوعه عزل الصدر الأعظم وقلّده وزارة الخارجيّة.

وفي سنة ١٢٩٥ رحل ثانيا إلى أروبا وألّف رحلة بالفارسيّة مطوّلة ذكر جميع ما جرى له وهي مطبوعة.

وفي سنة ١٢٩٧ خرج الشيخ عبيد الله الكردي في حدود كردستان وتفاقم أمره فتوجّه إلى حسين خان مشير الدولة من طريق آذربيجان وحاربه حتّى رضخ لأوامر الشاه.

وفي سنة ١٣٠١ فوّض الشاه رتبة الصدارة العظمى إلى شيخ الوزراء مستوفي الممالك الميرزا يوسف الاشتياني وكان غيورا على شؤون الملّة والدولة ودامت صدارته زهاء سنتين وكان ظلّ السلطان ابن ناصر الدين شاه حاكم أصبهان وقد نفذت كلمته وقويت شوكته وامتدّ حكمه على غالب أقطار المملكة وكان جبّارا.

وفي سنة ١٣٠٢ قصد الشاه زيارة مشهد الرضا عليه‌السلام في خراسان وكان في

٣١

خدمته ميرزا إبراهيم خان أمين السلطان فتوفّي في الطريق فمنح الشاه وساماته الدوليّة وهي ٤٣ وساما لولده ميرزا علي أصغر خان أمين الملك ولقّبه ب «أمين السلطان».

وفي سنة ١٣٠٣ توفّي ميرزا يوسف الصدر الأعظم وتمكّن أمين السلطان من خطير الأمور وحقيرها.

وفي سنة ١٠٦ رحل ثالثا إلى أوربا.

وفي سنة ١٣١٠ تقلّد أمين السلطان الصدارة العظمى.

قتل ناصر الدين شاه

وفي سنة ١٣١٣ يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة زار ناصر الدين شاه على عادته مشهد السيّد عبد العظيم الحسني فتقدّم اليه داخل المشهد رجل من البهائيّة عرف بميرزا رضا الكرماني وأطلق عليه مسدّسه فأصاب فؤاده ومات من فوره. لأنّ ظهور مذهب البابيّة كان في عصره فأمر الشاه بقتل مخترع مذهبهم علي محمّد الشيرازي الملقّب ب «الباب» بعد ما أفتى العلماء بقتله وأمر بقتل قرّة العين التي أتبعته على ذلك وكانت من مثيري تلك الفتنة وحنقوا على الشاه حتّى قتلوه وقبض على قاتله ثمّ قتل ، وأخفى وزيره موته خوفا من حدوث الفتنة لو عرف الناس وفاته فأخرجه من المشهد وأركبه في العرّبة بصورة الأحياء وأدخله منزله في البلاط وجعل يحضر له الأطبّاء ومنعهم من الخروج وأبرق لوقته إلى وليّ عهده مظفّر الدين في تبريز على سرير الملك في تبريز ثاني يوم قتل والده وأبرق بذلك إلى طهران ، فاجتمع الناس في مسجد الشاه وقرأ عليهم ميرزا علي أصغر خان صورة البرقيّة فعرفوا موته.

٣٢

ثمّ أخذ في تجهيز الشاه بعد ما ختم جميع بيت القصر واحتاط على ما فيها. ويقال : إنّه لمّا أرادوا تغسيله احتاجوا إلى ستّارة يضعونها على باب الغرفة التي غسل فيها فلم يجدوا لأنّ غرف القصر كانت كلّها مختومة فأخذوا ستّارة باب المطبخ ووضعوها على باب الغرفة ودفنه في غرفة خاصّة قرب مرقد السيّد عبد العظيم ووضعت على قبره صخرة كبيرة من الرخام منحوت عليها مثاله.

وأعقب ناصر الدين سبعة عشر ولدا ذكرا وعشرين بنتا ، ومن مشاهير أولاده ظلّ السلطان مسعود ميرزا ومظفّر الدين شاه وليّ عهده ونائب السلطنة كامران ميرزا.

وممّا وقع في عصره المسألة الدخانيّة التي ستقرأ قصّتها ،

[السيّد جمال الدين الأفغاني]

وكان ممّن عارض السلطان ناصر الدين شاه وشدّد النكير عليه في إعطائه امتياز التنباك لا نكلترا السيّد جمال الدين الأفغاني فأخرجه ناصر الدين شاه من ايران ، فلمّا وصل إلى البصرة في سنة ١٣٠٨ كتب إلى سيّدنا الإمام الكبير الشيرازي قدس‌سره كتابا بليغا يستفزّه في ذلك ويستصرخه ويستنجد به بأنواع العبارات المهيّجة والمؤثّرة في النفوس ، وقد شاع هذا الكتاب في وقته ووصلت نسخته إلى النجف.

قال العلّامة السيّد محسن العاملي : كنت في النجف وقرأناه وقرأه الناس وقد نشرت صورة الكتاب في بعض أعداد العرفان الصيداويّة ولكن الإمام الشيرازي لم يظهر منه شيء في هذا الباب من أجل هذا الكتاب ، وهذه صورته :

كتاب السيّد جمال الدين الأفغاني لسيّدنا الإمام الكبير الشيرازي رحمه‌الله

بسم الله الرحمن الرحيم ، حقّا أقول أنّ هذا الكتاب خطاب إلى روح الشريعة المحمّديّة أينما وجدت وحيثما حلّت ، وضراعة تعرضها الأمّة على نفوس زكيّة

٣٣

تحقّقت شؤونها كيفما نشأت ، وفي أيّ قطر نبعت ، ألا وهم العلماء ، فأحببت عرضه على الكلّ وإن كان عنوانه خاصّا.

حبر الأمّة ، وبارقة أنوار الأئمّة ، دعامة عرش الدين ، واللسان الناطق عن الشرع المبين ، الحاج ميرزا محمّد حسن الشيرازي صان الله به حوزة الإسلام ، وردّ به كيد الزنادقة اللئام ، ولقد خصّك الله بالنيابة العظمى عن الحجّة الكبرى ، واختارك من العصابة الحقّة وجعل بيدك أزمّة سياسة الأمّة بالشريعة الغرّاء ، وحراسة حقوقها بها ، وصيانة قلوبها عن الزيغ والارتياب فيها ، وأحال إليك من بين الأنام وأنت وارث الأنبياء مهامّ أمور تسعد بها الملّة في دارها الدنيا ، وتحظى بها في العقبى ، ووضع لك أريكة الرياسة العامّة على الأفئدة والنهى ، إقامة لدعامة العدل ، وإنارة لحجّة الهدى ، وكتب عليك بما أولاك به من السيادة على خلقه حفظ الحوزة والذود عنها والشهادة دونها على سنن من مضى ، وإنّ الأمّه من قاصيها ودانيها ، وحاضرها وباديها ، ووضيعها وعاليها ، قد أذعنت لك بهذه الرياسة السامية الربّانيّة جاثية على الركب ، خارة على الأذقان ، تطمح نفوسها إليك في كلّ حادثة تعروها ، وتطل بصائرها إليك في كلّ مصيبة تمسّها ، وهي ترى أنّ خيرها وسعدها منك ، وأنّ فوزها ونجاتها بك ، وإنّ أمنها وأمانيّها فيك ، فإذا لمح منك غضّ نظر ، أو نأيت بجانبك لحظة ، وأهملتها وشأنها لمحة ، ارتجفت أفئدتها ، وانتكثت عقائدها ، وزاغت أبصارها ، وانهدّت دعائم إيمانها.

نعم ، لا برهان للامّه فيما دانوا إلّا الاستقامة الخاصّة فيما أمروا ، فإن وهن هؤلاء في فريضة أو قعد بهم الضعف عن إماطة منكر اعتور أولئك الظنون والأوهام ، ونكص كلّ على عقبه مارقا عن الدين القويم ، حائدا عن الصراط المستقيم.

وبعد هذا وذاك وذلك أقول : إنّ الأمّة الإيرانيّة بما دهمها من عراقيل الحوادث التي آذنت باستيلاء الضلال على بيت الدين وتطاول الأجانب على حقوق

٣٤

المسلمين ، ووجوم الحجّة الحقّ ـ إيّاك أعني ـ عن القيام بناصرها وهو حامل الأمانة ، والمسئول عنها يوم القيامة ، قد طارت نفوسها شعاعا ، وطاشت عقولها ، وتاهت أفكارها ، ووقفت موقف الحيرة ، وهي بين إنكار وإذعان ، وجحود وإيقان ، لا تهدي سبيلا ، وهامت في بيداء الهواجس في عتمة الوساوس ضالّة عن رشدها لا تجد إليه دليلا ، وأخذ القنوط بمجامع قلوبها ، وسدّ دونها أبواب رجائها ، وكادت تختار بأسا منها الضلالة على الهدى ، وتعرض عن محجّة الحقّ وتتبع الهوى.

وإنّ آحاد الأمّة لا يزالون يتسائلون شاخصة أبصارهم عن أسباب قضت على حجّة الإسلام ـ إيّاك أعني ـ بالسبات والسكوت وحتم عليه أن يطوي الكشح عن إقامة الدين على أساطينه واضطرّه إلى ترك الشريعة وأهلها إلى أيدي زنادقة يلعبون بها كيف ما يريدون ، ويحكمون فيها ما يشاؤون حتّى أنّ جماعة من الضعفاء زعموا أن قد كذّبوا وظنّوا في الحجّة ظنّ السوء وحسبها أنّ الأمر أحبولة الحذق وأسطورة المذق ، وذلك لأنّها ترى وهو الواقع أنّ لك الكلمة الجامعة والحجّة الساطعة وأنّ أمرك في الكلّ نافذ ، وليس لحكمك في الأمّة منابذ ، وإنّك لو أردت أن تجمع آحاد الأمّة بكلمة منك وهي كلمة تنبثق من كيان الحقّ إلى صدور أهله لترهب به عدوّ الله وعدوّهم وتكفّ عنهم شرّ الزنادقة وتزيح ما حاق بهم من العنت والشقاء وتنشلهم من ضنك العيش إلى ما هو أرغد وأهنأ فيصير الدين بأهله منيعا حريزا ، والإسلام بحجّته رفيع المقام عزيزا.

هذا هو الحقّ ، إنّك رأس العصابة الحقّة ، وإنّك الروح الساري في آحاد الأمّة فلا يقوم لهم قائم إلّا بك ، ولا تجتمع كلمتهم إلّا عليك ، لو قمت بالحقّ نهضوا جميعا ولهم الكلمة العليا ، ولو قعدت تثبّطوا وصارت كلمتهم هي السفلى ، ولربّما كان هذا السير والدوران حينما غضّ حبر الأمّة طرفه عن شؤونهم وتركهم هملا بلا راع وهمجا بلا رادع ولا داع يقيم لهم عذرا فيما ارتابوا خصوصا لمّا رأوا أنّ حجّة

٣٥

الإسلام قد ألفى فيما أطبقت الأمّة خاصّتها وعامّتها على وجوبه ، وأجمعت على خطر الاتقاء فيه خشية لغوبه ألا وهو حفظ حوزة الإسلام الذي به بعد الصيت وحسن الذكر والشرف الدائم والسعادة التامّة ، ومن يكون أليق بهذه المزايا وأحرى بها ممّن اصطفاه الله في القرن الرابع عشر وجعله برهانا لدينه وحجّة على البشر؟

أيّها الحبر الأعظم ، إنّ الملك قد وهنت مريرته فساءت سريرته وضعفت مشاعره فقبحت سيرته فعجز عن سياسة البلاد وإدارة مصالح العباد فجعل زمام الأمور كلّيّها وجزئيّها بيد أثيم غشوم ثمّ بعد ذلك يسبّ الأنبياء في المحافل جهرا ولا يقيم لشريعة الله أمرا ، ولا يرى لرؤساء الدين وقرا ، يشتم العلماء ويقذف الأتقياء ويهين السادة الكرام ويعامل الوعّاظ معاملة اللئام ، وإنّه بعد رجوعه من البلاد الأفرنجيّة قد خلع العذار وتجاهر ... وموالاة الكفّار ومعاداة الأبرار ، هذه هي أفعاله الخاصّة في نفسه.

ثمّ إنّه باع الجزء الأعظم من البلاد الإيرانيّة ومنافعها لأعداء الدين المعادن والسبل الموصلة إليها والطرق الجامعة بينها وبين تخوم البلاد والخانات التي تبنى على جوانب تلك المسالك الشاسعة التي تنشعب فروعها إلى جميع أرجاء المملكة وما يحيط بها من البساتين والحقول نهر كارون والفنادق التي تنشأ على ضفتيه إلى المنبع وما يستتبعها من الجنائن والمروج والجادة من الأهواز إلى طهران وما على أطرافها من العمران والفنادق والبساتين والحقول والتنباك وما يتبعه من المراكز ومحلّات الحرث وبيوت المستحفظين والحاملين والبائعين أنّى وجد وحيث نبت ، وحكر العنب للخمور وما يستلزمه من الحوانيت والمعامل والمصانع في جميع أقطار البلاد والصابون والشمع والسكّر ولوازمها من المعامل والبنك وما أدراك ما البنك؟ وهو إعطاء الأهالي كليّة بيد عدوّ الإسلام واسترقاقه لهم واستملاكه إيّاهم وتسليمهم له بالرياسة والسلطان.

٣٦

ثمّ إنّ الخائن البليد أراد أن يرضي العامّة بواهي برهانه فحبق قائلا أنّ هذه معاهدات زمانيّة ومقاولات وقتيّة لا تطول مدّتها أزيد من مائة سنة! يا لله من هذا البرهان الذي سوّله خرق الخائنين ، وعرض الجزء الباقي على الدولة الروسيّة حقّا لسكوتها لو سكتت مرداب رشت وأنهر طبرستان والجادة من أنزلي إلى خراسان وما يتعلّق بها من الحدود والفنادق والحقول ولكن الدولة الروسيّة شمخت بأنفها وأعرضت عن قبول تلك الهديّة وهي عازمة على استملاك خراسان والاستيلاء على آذربيجان ومازندران إن لم تنحلّ هذه المعاهدات ولم تنفسخ هذه المقاولات القاضية بتسليم المملكة تماما بيد ذلك العدو ، هذه هي النتيجة الأولى لخيانة هذا الأخرق.

وبالجملة إنّ هذا المجرم قد عرض أقطاع البلاد الإيرانيّة على الدول ببيع المزاد وإنّه يبيع ممالك الإسلام ودور محمّد وآله عليهم‌السلام للأجانب ولكنّه لخسّة طبعه ودناءة فطرته لا يبيعها إلّا بقيمة زهيدة ودراهم بخسة معدودة. نعم هكذا يكون إذا امتزجت اللئامة والشره بالخيانة والسفه ، وإنّك ـ أيّها الحجّة ـ إن لم تقم بناصر هذه الأمّة ولم تجمع كلمتهم ولم تنزع السلطة بقوّة الشرع من يد هذا الأثيم لأصبحت حوزة الإسلام تحت سلطة الأجانب يحكمون يها ما يشاؤون ويفعلون فيها ما يريدون ، وإذا فاتتك هذه الفرصة ـ أيّها الحبر ـ ووقع الأمر وأنت حيّ لما أبقيت ذكرا جميلا بعدك في صحيفة العالم وأوراق التواريخ ، وأنت تعلم أنّ علماء إيران كافّة والعامّة بأجمعهم ينتظرون منك وقد حرجت صدورهم وضاقت قلوبهم كلمة واحدة ويرون سعادتهم بها ونجاتهم فيها ، ومن خصّه الله بقوّة كيف يسوغ له أن يفرط فيها ويتركها سدى.

ثمّ أقول للحجّة قول خبير بصير أنّ الدولة العثمانيّة تتبجّح بنهضتك على هذا الأمر وتساعدك عليه لأنّها تعلم مداخلة الأفرنج في الأقطار الإيرانيّة واستيلاءها

٣٧

عليها تجلب الضرر إلى بلادها لا محالة وأنّ وزراء إيران وأمراءها كلّهم يبتهجون لكلمة تنبض في هذا الشأن لأنّهم بأجمعهم يعافون هذه المستحدثات طبعا ، ويسخطون من هذه المقاولات جبلّة ، ويجدون بنهضتك مجالا لإبطالها وفرصة لكفّ شرّ الشره الذي رضي بها وقضى عليها.

ثمّ إنّ العلماء وإن كان كلّ صدع بالحقّ وجبه هذا الأخرق الخائن بسوء أعماله ولكن ردعهم للزور وزجرهم عن الخيانة ونهرهم المجرمين ما قرّت كسلسلة المعدّات قرارا ولا جمعتها وحدة المقصد في زمان واحد ، وهؤلاء لتماثلهم في مدارج العلوم وتشاكلهم في الرياسة وتساويهم في الرتب غالبا عند العامّة لا ينجذب بعضهم إلى بعض ولا يصير أحد منهم لصقا للآخر ولا يقع بينهم تأثير الانجذاب حتّى تتحقّق هيأة وحدانيّة وقوّة جمعة يمكن بها دفع الشرّ وصيانة الحوزة كلّ يدور على محوره وكلّ يردع الزور وهو في مركزه ، هذا هو سبب الضعف عن المقاومة ، وهذا هو سبب قوّة المنكر والبغي.

وأنت وحدك ـ أيّها الحجّة ـ بما أوتيت من الدرجة السامية والمنزلة الرفيعة علّة فعّالة في نفوسهم وقوّة جامعة لقلوبهم ، وبك تنتظم القوى المتفرّقة الشاردة ، وتلتئم القدر المتشتّتة الشاذّة ، وإنّ كلمة تأتي منك بوحدانيّة تامّة يحقّ لها أن تدفع الشرّ المحدق بالبلاد وتحفظ حوزة الدين وتصون بيضة الإسلام فالكلّ منك وبك وإليك وأنت المسئول عن الكلّ عند الله وعند الناس.

ثمّ أقول : إنّ العلماء والصلحاء في دفاعهم فرادى عن الدين وحوزته قد قاسوا من ذلك شدائد ما سبق لها منذ قرون ، وتحمّلوا لصيانة بلاد المسلمين عن الضياع وحفظ حقوقهم عن التلف كلّ هوان وكلّ صغار وكلّ فضيحة ، ولا شكّ أنّ حبر الأمّه قد سمع ما فعله أدلّاء الكفر وأعوان الشرك بالعالم الفاضل الصالح الواعظ الحاج ملّا فيض الله الدربندي وستسمع قريبا ما فعله الطغاة الجفاة بالعالم المجتهد

٣٨

النقي البار الحاج السيّد علي أكبر الشيرازي ، وستحيط علما بما فعله بحماة الملّة والأمّة من قتل وكي وضرب وحبس ومن جملتهم الشاب الصالح الميرزا محمّد رضا الكرماني الذي قتله ذلك .. في الحبس والفاضل الكامل البار الحاج سيّاح ، والفاضل الأديب النجيب الميرزا محمّد علي خان ، والفاضل المتفنن اعتماد السلطنة وغيرهم.

وأمّا قصّتي وما فعله ذلك الظلوم معي فممّا يفتّت أكباد أهل الإيمان ، ويقطع قلوب ذوي الإيقان ، ويقضي بالدهشة على أهل الكفر وعبدة الأوثان ، إنّ ذلك .. أمر بسحبي وأنا متحصّن بحضرة عبد العظيم عليه‌السلام في شدّة المرض على الثلج إلى دار الحكومة بهوان وصغار وفضيحة لا يمكن أن يتصوّر مثلها في الشناعة ، هذا كلّه بعد النهب والغارة ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون. ثمّ حملني زبانيته الأوغاد ـ وأنا مريض ـ على برذون مسلسلا وفي فصل الشتاء وتراكم الثلوج والرياح الزمهريريّة وساقتني جحفلة من الفرسان إلى خانقين وصحبني جمع من الشرطة إلى بغداد ، ولقد كاتب الوالي من قبل والتمس منه أن يبعّدني إلى البصرة علما منه أنّه لو تركني ونفسي لأتيتك ـ أيّها الحبر ـ وبثثت لك شأنه وشأن الأمّة ، وشرحت لك ما حاق ببلاد الإسلام من شرّ هذا ... ودعوتك ـ أيّها الحجّة ـ إلى عون الدين وحملتك على إغاثة المسلمين ، وكان على يقين أنّي لو اجتمعت بك لا يمكنه أن يبقى على دست الوزارة المؤسّسة على خراب البلاد وإهلاك العباد ، وإعلاء كلمة الكفر.

وممّا زاد لوما على لومه ودناءة على دناءته أنّه دفعا لثرثرة العامّة وتسكيتا لهياج الناس نسب تلك العصابة التي ساقتها غيرة الدين وحميّة الوطن إلى المدافعة عن حوزة الإسلام وحقوق الأهالي بقدر الطاقة والإمكان إلى الطائفة البابيّة كما أشاع بين الناس أوّلا بأنّي مجنون ، وا إسلاماه! ما هذا الضعف؟ ما هذا الوهن؟ كيف أمكن أنّ صعلوكا دنيّ النسب ووغدا خسيس الحسب قدر أن يبيع المسلمين

٣٩

وبلادهم بثمن بخس دراهم معدودة ويزدري العلماء ويهين السلالة المصطفويّة ويبهت السادة المرتضويّة بالبهتان العظيم ، ولا يد قادرة تستأصل هذا الجذر الخبيث شفاء لقلوب المؤمنين ، وانتقاما لآل سيّد المرسلين عليه‌السلام.

ثمّ لمّا رأيت نفسي بعيدا عن تلك الحضرة أمسكت عن بثّ الشكوى ، ولمّا قدم العالم المجتهد القدوة الحاج السيّد علي أكبر إلى البصرة طلب منّي إلى الحبر الأعظم كتابا أبثّ فيه هذه الغوائل والحوادث والكوارث فبادرت إليه امتثالا وعلمت أنّ الله تعالى سيحدث بيدك أمرا ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

يقول الأمير شكيب أرسلان في تعليقه على حاضر العالم الإسلامي : فكان هذا النداء من السيّد الحسيني من أعظم أسباب الفتوى التي أفتاها ذلك الإمام ببطلان هذا الامتياز واضطرّت الحكومة الفارسيّة خوف انتفاض العامّة إلى إلغائه ، انتهى.

وقال العلّامة السيّد محسن العاملي : ولكن الحقيقة أنّ الإمام الشيرازي أفتى بتحريم تدخين التنباك حينما بلغه إعطاء الامتياز إلى الدولة البريطانيّة قبل أن يرسل له السيّد جمال الدين هذا الكتاب ولم يكن إفتاؤه بتأثير كتاب السيّد جمال الدين ، ولو لم يكن له مؤثر ديني من نفسه عظيم لم يؤثّر فيه كتاب جمال الدين ولكن الناس اعتادوا إذا مالوا إلى شخص أن يسندوا كلّ وقائع العالم إليه.

نبذة من حياة السيّد جمال الدين الأفغاني

وبمناسبة ذكر جمال الدين نورد لك يسيرا من حياته الطيّبة كي تعلم أنّه من أعيان الشيعة ، وقد اشتهر بالسيّد جمال الدين الأفغاني ويقال له أيضا محمّد جمال الدين ابن السيّد صفدر الحسيني الهمداني الأسد آبادي.

ولد في شعبان سنة ١٢٥٤ في أسد آباد من توابع همدان ، وتوفّي في شوّال سنة

٤٠