مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-037-4
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٣٧٢

حدّثني السيّد السند والحبر المعتمد العالم الزاهد والناسك العابد السيّد محمّد هادي العاملي المجاور لمشهد الكاظمين عليهما‌السلام ، عن الشيخ زين العابدين السلماسي قال : كنت أصلّي يوما في داخل الحضرة الشريفة للعسكريّين عليهما‌السلام ولم يكن فيها أحد غيري وإذا برجل من الأتراك دخل الحضرة الشريفة وخاطب الإمام بعد الزيارة وقال بلسان التركيّة ما معناه : إنّي أريد منك نفقتي التي ضاعت منّي وأنت تعلم أنّه ليس لي شيء أبلغ به وطني وكان زادي منحصرا فيها ، ولا أفارقك حتّى آخذها منك ، ثمّ خاطب الإمام عليه‌السلام بكلمات عامية فيها نوع من الجسارة التي ربّما تصدر من أمثال البسطاء السذج ضعفاء القول.

قال رحمه‌الله : فلمّا سمعت مقالاته المنكرة وكان يظنّ أنّي لا أفهم لسانه فقمت إليه وقلت : ما هذه الإسائة في الأدب والتجرّي على الإمام عليه‌السلام؟ فنهرته ورددته عن مقالته. فقال : مالك والدخول بيني وبين إمامي ، اذهب إلى شغلك الذي كنت عليه فإنّي أعرف به وبحقّه منك ولا أفارقه حتّى أقضي منه مرادي ، فرجعت إلى مكاني في الزاوية التي تلي جهة الرأس والرجل عاد إلى كلامه ويطوف حول الشبّاك وكنت متفكّرا في أمره إذا بصوت كوقع السلسلة على الطست ، فنظرت فرأيت كيسا قد طرح على الأرض بجنب الشبّاك من سمت الرأس ، وكان الرجل حينئذ فيما يلي الرجلين ، فلمّا سمع الصوت رجع إلى جهته فرأى كيسه فتناوله مبتهجا مسرورا واستقبلني وقال : أرأيت كيف أخذت كيسي منهما عليهما‌السلام بمقالاتي التي أنكرتها واستوحشت منها ، ولولاها لم يلتفتوا إليّ.

فقلت له : أين ضاع كيسك؟ قال : بين المسيّب وكربلا ، ولم أعلم به إلّا هنا ، فتعجّبت من يقينه وإخلاصه وشكرت الله تعالى بما أراني من آيات حججه عليهم‌السلام.

١٤١

مآثر السلماسي (١)

وبما أنّ الشيخ زين العابدين السلماسي وأباه الميرزا محمّد وابنه الميرزا إسماعيل والميرزا باقر وابن ابنه الميرزا إبراهيم بذلوا جهدهم في عمارة العسكريّين عليهما‌السلام ينبغي لنا أن نشير إلى نبذة من مآثرهم الجميلة تقديرا لآثارهم الخالدة التي هي غرّة في وجه الدهر.

أمّا المولى الميرزا محمّد السلماسي

فهو أوّل من انتقل من هذه الأسرة الميمونة إلى العراق كما صرّح بذلك العلّامة الخبير السيّد محسن العاملي في أعيان الشيعة في ترجمة إبراهيم بن إسماعيل بن الشيخ زين العابدين المولى الميرزا محمّد السلماسي ، وترجمه صاحب الذريعة في كتابه «الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة» وجعل من آثاره الخالدة عمارة قبّة العسكريّين ورواقها وقبّة السرداب المطهّر وصحنه وغير ذلك بنفقة العبد الصالح أحمد خان الدنبلي وابنه الحسين قلي خان. قال : وكان من تلامذة الوحيد البهبهاني وله نوادر وكرامات.

وأمّا ولده الأجل

العالم الروحاني مثال الزهد والصلاح الشيخ زين العابدين بن الميرزا محمّد السلماسي فإنّه من أخصّاء آية الله السيّد بحر العلوم رحمه‌الله ووكيلا من قبل السيّد صاحب الضوابط في عمارة سور سامرّاء ، وله كرامات ومكاشفات سنشير إلى قليل منها ، ذكره العلّامة الخبير الميرزا حسين النوري في دار السلام وأثنى عليه

__________________

(١) سلماسي ـ بفتح السين المهملة واللام ـ نسبة إلى سلماس مدينة مشهورة بأذربيجان.

١٤٢

وجعله من الذين يمزج العلم بالحلم ، والقول بالعمل ، فأذاقه الله لذّة العبادة وحلاوة الطاعة إلى أن توفّي في الكاظميّة ليلة الحادي عشر من ذي الحجّة سنة ست وستّين ومأتين بعد الألف ودفن في الصفة المحاذية لمقبرة الشيخ المفيد قدس‌سره.

وأمّا ولده الأجل

الميرزا إسماعيل بن الشيخ زين العابدين السلماسي فقد كان من المبرّزين ، جمّ العلم ، متوقّد الذكاء ، من أعلام تلاميذه آية الله المجدّد الشيرازي رحمه‌الله ، توفّي سنة ١٣١٨ ودفن عند والده الأجل الشيخ زين العابدين السلماسي.

وأمّا العالم

العلم المحقّق الميرزا إبراهيم بن الميرزا إسماعيل بن الشيخ زين العابدين السلماسي المتوفّى سنة ١٣٤٢ المدفون بجنب جدّه وأبيه وعمّه ، فقد ذكره العلّامة الأمين المحسن العاملي في أعيان الشيعة ، قال : ولد في ثامن عشر ذي الحجّة سنة ١٢٧٤ في الكاظميّة وتوفّي فيها سنة ١٣٤٢ وشيّع تشييعا عظيما ، وصلّى عليه الشيخ راضي الخالصي الكاظمي ، وأرّخ وفاته الشيخ محمّد السماوي النجفي بقوله :

يا لبحر من العلوم غزير

ترتوي ورده العطاش الهيم

رضي‌الله‌عنه فاستأثرته

رحمات وجنّة ونعيم

فهنيئا له رهينا وأرّخ

ت (رضا الله حاز إبراهيم)

قال : كان عالما فاضلا عارفا بالفروع والأصول ، والمعقول والمنقول ، جيّد التقرير ، صالحا ورعا حسن السريرة والخلق ، صريحا في الرأي ، ثابتا على المبدأ ، ناصرا للحقّ وأهله ، وكان يؤمّ الناس في صحن الكاظميّة ويصلّي خلفه خلق كثير ، قرأ في الكاظميّة عند علمائها ثمّ سافر إلى سامرّاء فحضر درس المجدّد الشيرازي رحمه‌الله ثمّ عاد إلى الكاظميّة بأمر والده قبل وفاة السيّد بعشر سنين وتصدّى

١٤٣

التدريس والقيام بصلاة الجماعة بعد وفاة أبيه ، رأيته ورأيت أباه في الكاظميّة.

ثمّ قال : وكان مشايخه في الكاظميّة فقرأ النحو على السيّد علي من أحفاد المحقّق السيّد محسن الكاظمي ، والمنطق على السيّد موسى بن السيّد محمود الجزائري ، والبيان عند عمّه الميرزا محمّد باقر ، والأصول عند الشيخ محمّد بن الحاج كاظم الكاظمي والشيخ عبّاس الجصاني والشيخ محمّد حسين بن آقا علي الهمداني ، والفقه عند السيّد مرتضى بن السيّد أحمد بن السيّد حيدر البغدادي الكاظمي ، وحضر في الفقه والأصول خارجا عند الفقيه الشيخ محمّد حسن آل ياسين الكاظمي ، وقرأ في سامرّاء على المجدّد الشهير السيّد الشيرازي رحمه‌الله ، ويروي بالإجازة عن الميرزا إبراهيم الخوئي صاحب الدرّة النجفيّة ، انتهى.

وأمّا الشيخ باقر بن الشيخ زين العابدين السلماسي الكاظمي المتوفّى سنة ١٣٠١ ذكره شيخنا العلّامة صاحب كتاب الذريعة في كتابه نقباء البشر ، قال : كان من العلماء الأبرار الأخيار ومن تلاميذ العلّامة شيخ العراقين الشيخ عبد الحسين الطهراني ، والشيخ محمّد حسن آل ياسين الكاظمي ، وكان يتولّى عمارة العسكريّين عليهما‌السلام والكاظميّين عليهما‌السلام وتذهيبهما حسب أمر شيخه المذكور شيخ العراقين ، وله آثار باقية ، وقد تلمّذ عليه في المنطق العلّامة الفقيه السيّد حسن الصدر الكاظمي رحمه‌الله ، توفّي بالكاظميّة في سابع ربيع الثاني سنة ١٣٠١ ودفن بجنب أبيه.

وأمّا أخوه الحاج الميرزا جواد بن الشيخ زين العابدين السلماسي فقد ذكره شيخنا في نقباء البشر وعدّه من الأفاضل ، توفّي سنة ١٣٠٧ ، وهؤلاء الثلاثة يعني الميرزا إسماعيل والميرزا باقر والميرزا جواد كانوا لأمّ واحدة ، وقد توفّيت في الثاني من جمادى الثاني سنة ١٢٨٢.

١٤٤

منامان صادقان للشيخ زين العابدين السلماسي

جاء في كتاب دار السلام (١) للعلّامة الخبير الميرزا حسين النوري رحمه‌الله قال : حدّثني العالم العامل وقدوة أرباب الفضائل وزين الأقران والأماثل ، الثقة الصالح الآغا ميرزا محمّد باقر بن المولى الشيخ زين العابدين السلماسي قال : ومن المنامات الغريبة الصادقة المطابقة للواقع ما رآه والدي المرحوم وشهد جمّ غفير على صدقها ووقفوا على مطابقتها للواقع في ذلك الزمان وهو أنّه لمّا سافر من العتبات العاليات وزار الإمام الثامن عليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام ورجع ونزل في طريق المراجعة بلد طهران اجتمع عنده جمع كثير من أهل تبريز وخوي وسلماس من المحبّين والأقرباء والمخلصين فالتمسوا منه الحركة إلى سمت آذربيجان لزيارة الأحبّاء وصلة الأرحام وأن يتوقّف في كلّ بلد من تلك البلاد أيّاما قليلة يستفيض منه أهله ثمّ يرجع إلى مقرّه المعظّم مشهد الكاظمين عليهما‌السلام ، فأجاب سؤلهم بعد الإلحاح والإصرار ، فمشى معهم إلى ما دعوه إليه.

فلمّا نزل سلماس ومضى قليل من الزمان حدثت الفتنة بين الدولة العثمانيّة والدولة الإيرانيّة وكانت تأتي الأخبار في كلّ يوم بأنّ العثماني مشغول بجمع الأسلحة وآلات الحرب وتدبير الجيوش والتوجّه إلى إيران ، إلى أن تواترت الأخبار بحركة جيش جرّار يزيد على ثمانين ألف مقاتل ومعهم مدافع كثيرة ورئيسهم «چبان أوغلي» وإنّهم وصلوا قريبا من بلاد إيران وحدود آذربيجان ، فأمر والي تبريز وهو عبّاس ميرزا ابن السلطان فتحعلي شاه باجتماع كلّ الجيوش التي على الحدود والسير نحو العدوّ قبل دخولهم الحدود وإن كانوا قليلين غير متهيّئين ، فاجتمعوا فسار بهم وهم فئة قليلة نحو العدو ودخلوا بلاد آذربيجان

__________________

(١) دار السلام : ٢٦٠.

١٤٥

كتبريز وخوي وسلماس ، فنهض الأكراد الذين كانوا في أطراف تلك البلاد وانتهزوا الفرصة فغاروا على أطرافها وتوابعها حماية للعساكر الروميّة في الظاهر ظنّا منهم أنّهم يفتحون ممالك إيران ويستولون على أهلها فيكون ذلك تقرّبا منهم إليهم مع ملاحظة منفعتهم فيه وللعداوة التي كانت كامنة في صدورهم.

وشاع هذا الخبر في البلد وكان الحاكم في ذلك الوقت محمّد عليخان من طائفة «قره كوزلو» ولمّا كان البلد خاليا من الجيش النظامي المحافظ ، جمع الحاكم أهل الحرف والصنايع ممّن لم يكن قابلا للخروج مع نائب السلطنة وأمرهم بأن يصطحب كلّ منهم ما عنده من السلاح ويحضر غدا خارج الباب وكان سور البلد من الطين في ارتفاع قليل لا يمنع العدوّ من الدخول ، فاضطرب أهل البلد في ذلك اليوم وليله اضطرابا عظيما واشتغل كلّ نفس بدفن ما كان له من الأموال وإخفائه واجتمع في تلك الليلة جماعة من أعيان البلد وأشرافها عند الوالد المرحوم مهمومين مغمومين فتذاكروا في ما ينزل عليهم العدوّ الذي يزيد عددهم على عشرة آلاف فارس وأهل البلد كلّهم الفقراء الضعفاء الذين لا خبرة لهم بالحروب.

فتحيّروا وتفرّقوا بعد ذلك واشتغل كلّ أحد بإخفاء متاعه ورجع الوالد رحمه‌الله في البيت الذي كان ينام فيه وآوى إلى فراشه مهموما متفكّرا في عاقبة البليّة العظيمة ونام في تلك الحالة ، فرأى في المنام كأنّ الإمام سيّد الأوصياء أمير المؤمنين عليه‌السلام قد دخل البيت الذي كان فيه الوالد فلمّا وقع نظره إليه من بعد ناداه عليه‌السلام وقال : ما لي أراك مهموما مغموما متفكّرا منكسر القلب؟ فقام من حينه ومشى إليه عليه‌السلام فوافاه عند الباب فوقع على قدميه وقال : فديتك نفسي إنّك تعلم سبب همّي وغمّي وإنّ تشتّت خاطري لهذه البليّة العظمى والداهية الكبرى فإنّ جماعة الأكراد أجمعوا عزمهم على دخول البلد غدا وقتل أهلها وسبي نسائها ونهب أموالها وإنّك تعلم أنّهم أعداء للمذهب وقلوبهم محشوّة ببغض أهل هذه البلدة لما رأوا منهم الأذى

١٤٦

وسمعوا عنهم ما تنفر عنه طباعهم ولا مقاومة لهم معهم ولا طاقة لهم في مقاتلتهم فإنّ جميعهم فقراء مشغولون بالكسب والتجارة.

فقال عليه‌السلام : لا تستوحش ولا تضطرب وطب نفسا فإنّهم لا يتمكّنون من إيصال الأذى إليكم فإنّهم وإن يقصدوكم في جمّ غفير وعزم ثابت ويهجمون على البلد لكنّهم يرجعون القهقرى مغلوبين منكسرين ينقلبون خاسرين خائبين.

فلمّا سمع تلك البشارة منه عليه‌السلام استبشر وانتبه فرحا مسرورا فرأى خدمه وأقرباءه وأهل بيته بعد مشغولين بجمع الأموال وإخفائها اضطراب ووحشة ، فصاح عليهم فاجتمعوا عنده فبشّرهم بما بشّره الإمام عليه‌السلام فاطمأنّت قلوبهم وطابت نفوسهم ورفعوا الأيدي عن شغلهم وبشّروا جيرانهم وانتشرت البشارة في تلك الليلة إلى جميع البلد من بيت إلى بيت إلى أن وصلت إلى مسامع الحاج محمّد عليخان الحاكم ، ولمّا فرغ الحاكم من صلاة الصبح جمع ما كان له من الخدم والأتباع ثمّ حضر عند دار الوالد وقعد في فنائها فأخبر بذلك ، فخرج إليه ، فقال الحاكم : إنّ أهل البلد يروون لك مناما غريبا فهل له حقيقة؟ فقال : نعم هو صدق ، ففرح وقال : إنّي أرجو من جنابك أن تخرج معنا إلى خارج السور فإنّه سبب لقوّة قلوبنا وقلوب أهل البلد.

فقام الوالد وقام معه الحاكم ومن اجتمع عنده من الوجوه والسوقة وخرجوا من باب البلد واجتمعوا قبل طلوع الشمس في موضع يهجم منه العدوّ ، وأهل البلد يتطلّعون الجهة التي يهجم منها الأكراد ، فبيناهم كذلك وإذا بغمامة سوداء ظهرت مع طلوع الشمس وتوجّهت إلى البلدة ، فلمّا قربت منهم وإذا هم فرسان الأكراد وصفوف عساكرهم وقد ملئ منهم الفضاء الوسيع والصحراء العظيمة ، ولم يبق بينهم وبين البلد إلّا مقدار حضر الفرس ، فزاد اضطراب الجماعة واشتدّ خوفهم ، فصاحوا جميعا وارتفعت أصواتهم ورموا بعض البنادق إلى الهواء ، كلّ ذلك من

١٤٧

جهة الخوف والاضطراب ، فإذا بجمعة الأشقياء وهم في تلك العدّة والقوّة والهيبة والكثرة وقد وصلوا قريبا من باب السور فعطفوا عنان خيولهم واختلفت صفوفهم ورجعوا مغلوبين متفرّقين متشتّتين بحيث ظهر لجميع أهل البلد أنّ هذا الرجوع لم يكن باختيار منهم ، وأنّهم كانوا مقهورين مجبورين في قبال خصم لم يكن لهم قوّة في مقاومته ، إلى أن غابوا عن الأنظار ، وظهر صدق منام الوالد ، فخرجوا جميعا ساجدين شاكرين لله تعالى.

فلمّا رفع الحاكم رأسه عن سجدته وفرغ من البكاء لما عرض من الفرح ، أمر بدواة وقرطاس وسأل منه أن يكتب تلك الرؤيا بخطّه الشريف مع كيفيّة مطابقتها للواقع ومشاهدة صدقها في الخارج ليرسلها مع البريد إلى المعسكر عند نائب السلطنة لتتقوّى قلوبهم من تلك البشارة ، فإنّهم أيضا عدّة قليلة غير متهيّئة في مقابل عسكر عظيم مستعدّ للقتال.

فأخذ الوالد القلم وكتب صورة المنام وكيفيّة صدقه في الخارج في يومه إجمالا ، وذكر في الكتاب : إنّه يظهر من هذه الواقعة أنّ له عليه‌السلام نظرة رحيمة إلى شيعته ومحبّيه ولم يقطعها عنهم ، ونرجو منه عليه‌السلام أن ينصركم على عدوّكم كما نصر في هذه الواقعة.

وذكر أمثال ذلك ممّا يشرح به الصدر وناول الحاكم الكتاب فأرسله إلى معسكر نائب السلطنة ولمّا فرغت قلوب أهل سلماس من همّ الأكراد وفتكهم أخذوا يتذاكرون كلّ يوم ضعف عسكر إيران وقلّة استعدادهم وجمعهم وقوّة العساكر العثمانيّة وشوكتهم وكثرة عددهم وعدّتهم ، وكان كلّ يوم يأتي الخبر بضعف هؤلاء وقوّة هؤلاء إلى أن قطع الناس بغلبتهم وفتحهم بلاد إيران فعادوا مهمومين مغمومين إلى أن اجتمع جماعة من وجوه البلد ليلة أخرى عند الوالد رحمه‌الله وتحسّروا على عدم مقاومة الجيش الإيرانيّ للجيوش العثمانيّة وأنّهم لو تغلّبوا عليهم نالوا منهم الأمرين ، فقاموا مغتمّين وعمد الوالد إلى بيت منامه وهو مغمور بفكره ، فلمّا

١٤٨

هجع رأى في المنام كأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضا قد أقبل إلى المحلّ الذي كان فيه ولمّا وقع نظره عليه‌السلام إليه قال : مالك قد غممت أيضا في الفكرة والغصص؟ فقام الوالد رحمه‌الله أيضا وأتى إليه عند الباب ووقع على يديه ورجليه وقال : فديتك نفسي ، إنّ همّي وغمّي في أن يتسلّط أعداؤك على محبّيك وشيعتك فيقتلون بعضهم ويأسرون باقيهم ، فقال عليه‌السلام : ولم ذاك؟ قال : لأنّ عسكر المخالفين في غاية من الشوكة والقوّة والاستعداد ، وعسكر الإيرانيّين في غاية من الضعف والقلّة في العدد والعدّة.

فقال له عليه‌السلام : هو كما تقول لكنّي بعثت أولادي لنصرتهم وإعانتهم. قال الوالد رحمه‌الله : فوقع في خاطري أنّه عليه‌السلام لو تعلّق رأيه بنصرة محبّيه وخذلان أعدائهم لاستغنى عن إرسال أولاده عليه‌السلام فكأنّه عليه‌السلام اطّلع على ما جرى في خاطره ، فقال له : أنا أيضا معهم في تلك الإعانة والحماية ، وإن شئت فانظر ، وأشار بإصبعه الشريف إلى سمت فرأيته صحراء عظيمة وفيها تلّ شامخ ممتدّ وخلفه فضاء في غاية الوسعة يجري فيه نهر عظيم والفضاء مملوّ من العسكر والخيم طولا وعرضا إلى مدّ البصر ، فقال عليه‌السلام : هذا معسكر العثمانيّين وجمعهم ، وأشار عليه‌السلام إلى سمت آخر وقال : ترى؟ قال : لا أرى شيئا إلّا عجاجا مرتفعا ، قال عليه‌السلام : هذا غبار عسكرنا وقد قدموا لمقاتلة العثمانيّين ، فلمّا قربوا امتازت الرجالة من الفرسان واشتغلوا بارتياد المنزل وإصلاحه على ما تقتضيه القواعد العسكريّة وقوانين المحاربة ، وصعد جماعة منهم على ذلك التلّ ، فلمّا وقع نظر عسكر العثمانيّين إلى عسكر الإيرانيّين شرعوا في رميهم بالمدافع وخرج من فرسانهم جماعة وحملوا على عسكر الإيرانيّين وقتلوا منهم أكثر من مائة نفس وقطعوا رؤوسهم ورجعوا إلى فئتهم ، فاضطرب عسكر الإيرانيّين وانضمّ بعضهم إلى بعض ورجع جماعة من الفرسان الذين كانوا على التلّ ونزلوا منه.

قال الوالد : فلمّا نظرت إلى ذلك عرضني اضطراب وتشويش عظيم ، فقال عليه‌السلام :

١٤٩

لا تضطرب ، وقال له كلاما حاصله تغلّب الجيش الإيرانيّ على العثمانيّ ، فكان ذلك في نتيجة المحاربة التي دارت بين الجيشين (١).

قال العلّامة النوريّ رحمه‌الله : هذه المحاربة العظيمة كانت في سنة ألف ومأتين وسبع وثلاثين في قرب «نوبراق» قلعة من توابع آذربيجان ، وكان عدد الجيش العثمانيّ زهاء ثمانين ألف ورئيسهم محمّد أمين رؤوف پاشا وجلال الدين محمّد پاشا چبان أوغلي ، ولم يكن الجيش الإيرانيّ أكثر من سبعة آلاف ، وقد قتلوا من الأعداء قريبا من خمسين ألف ونهبوا جميع عدّتهم وأموالهم وانقلبوا خائبين ، والحكاية مذكورة في كتب التأريخ ، ولآميرزا فضل الله الشيرازيّ المتخلّص بخاور في تأريخ هذا الفتح العجيب رباعيّة :

عبّاس شاه غازى شد سوى روم آمد

از طالع شهنشه آن مرز وبوم مفتوح

تاريخ فتح او را از پير عقل جشم

گفتا ز شاه عباس ابواب روم مفتوح(٢)

[الثانية] استشفاء السلماسي بأئمّة سامرّاء

جاء في كتاب دار السلام (٣) نقلا عن الثقة العدل الأمين آغا محمّد المجاور لمشهد العسكريّين عليهما‌السلام قال : حدّثني المولى الشيخ زين العابدين السلماسيّ قال : لمّا رجعت من زيارة مولاي أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قاصدا وطني مشهد الكاظم عليه‌السلام فمررت في رجوعي بطهران فتوقّفت فيه أيّاما وزارني من مكان لي فيه من الأخلّاء منهم السيّد المبجّل الحاج السيّد حسن الطهرانيّ فالتمس منّي التحوّل إلى بيته والسكنى معه مدّة إقامتي في البلد ، فامتنعت منه.

__________________

(١) والقصّة طويلة أنظرها في كتاب دار السلام : ٢٦٠.

(٢) مطابقة لسنة ١٢٣٧.

(٣) دار السلام : ٢٦٥.

١٥٠

وكنّا في بعض الأيّام في مذاكرة هذا المطلب إذ دخل عليّ العالم المؤيّد النبيل الربّاني الآميرزا خليل الطبيب الطهرانيّ ، فنظر إليّ شزرا وتفرّس في وجهي فقال لي : امدد إليّ يدك فمددتها إليه فجمعها ثمّ قال : ارى بك استعدادا قريبا للمرض الشديد ، وقال للسيّد : دعه لما به حتّى يحسن حاله ، فإنّه يمرض في اليوم أو الغد.

قال : فتغيّرت حالي بعد الظهر فمرضت مرضا شديدا فلازمني جناب الميرزا المزبور ليلا ونهارا حتّى طلبه في بعض الأيّام السلطان فتحعلي شاه فامتنع ، فعاد الرسول ثانيا أجابه بأنّي مشغول بمعالجة نفس زكيّة قدسيّة محترمة ، آليت على نفسي أن لا أفارقها حتّى يفعل الله ما يشاء.

قال : واشتدّ بي المرض ومضى على ذلك قريب من شهر حتّى بلغ اليأس منّي مبلغه ومضى عليّ يومان لم أعرف مواقيت الصلاة ولم أشعر بها ، ورتّب الآميرزا الطبيب في خياله أو كتب في موضوع دواء له سبعة أجزاء لأشربه في غد إن أخرّني الأجل إليه ، فحملوني في الليل إلى سطح الدار وكان الميرزا الطبيب يضع رأسه عند النوم على وسادتي ، فالتفتّ في تلك الحال إلى مرضي وغربتي وموتي بأرض الري فتوجّهت إلى مشهد العسكريّين عليهما‌السلام وقلت في نفسي : يا مولاي ، إنّي أتعبت بدني وصرفت عمري في عمارة قاعكم وإحكام بلدكم ، وكان الأمر كذلك ، وقد زرت أبا الحسن الرضا وقصدت العود إلى وطني في جواركم فكيف ترضون أن أموت بعد الخدمة والشيب في هذه الأرض المشومة ، وتضرّعت بأمثال هذه الكلمات ، فأخذني النوم فرأيت ثلاثة فوارس أقبلوا من ناحية المشرق وأحدهما على فرس أبلق مقدّم على الإثنين الآخرين ، وظهر لي أنّهم الحجّة وأبوه وجدّه عليهم‌السلام ، فدنوا منّي ولم ينزلوا من خيولهم ، فشكوت إليهم حالي وذكرت لهم مثل ما ذكرت في اليقظة ، فقالوا : لا تجزع ولا تضطرب فإنّ حالك حسن وليس فيك مرض وقل للميرزا خليل أن يخرج من نسخة دوائه جزئين أو ثلاثة أجزاء سمّاها ويدخل فيها جزءا آخر سمّاه أيضا واشربه.

١٥١

قال : فانتبهت فرأيت كأنّه لم يبق من مرضي شيء ، فناديت بعضهم وطلبت الماء وقلت : أنا ما صلّيت الليلة ، فانتبه جناب الميرزا خليل فلمّا رآني على هذه الحالة ظنّ أنّي ابتليت بمرض السرسام ، فقال لي : مالك؟ فحكيت له ما أريت ، فجسّ يدي فقال : ما أرى فيك مرضا ، وعاد النبض على ما كان في حال الصحّة ولا تحتاج إلى شرب دواء أبدا ، وأظنّ أنّ أمرهم بشرب هذا الدواء الذي رتّبته بعد تغييره بما أشاروا إليه لمجرّد الإحسان إليّ والتشكّر لي ، والحمد لله.

رؤيا طريفة للشيخ زين العابدين السلماسي

جاء في كتاب دار السلام (١) أنّ الشيخ زين العابدين السلماسي لا يذكر عنده السلطان الآغا محمّد خان القاجار إلّا ويسبّه ويلعنه ويقع فيه بما عرفه من أعماله الشنيعة من قتل وأسر ونهب ، فرأى ليلة في منامه كأنّه دخل الصحن الشريف العلويّ من الباب الطوسي فأراد خلع نعله ودخول الإيوان المقدّس فإذا برجل أطلس الوجه طويل الأسنان منعه من الدخول ، وأخذ بيده وأتى به إلى مقابل بعض الحجرات القريبة من باب مسجد الخضراء وإذا في الحجرة جماعة في زيّ السلاطين ، وفي آخر المجلس رجل قصير له لحية مدوّرة كثيفة ، فقال لي ذلك الرجل : يا فلان ، إنّ الله تعالى قد غفر لمن هو أشدّ منّي تكلّبا وأشار بيده إلى ذلك الرجل القصير وقال : هذا نادر شاه ، فلم تسبّني وتلعنني.

قال : فأخرج السلطان نادر شاه رأسه من الحجرة وقال : يا آغا محمّد خان ، إلى متى لا تمسك نفسك عن المزاح ، خلّ الشيخ يمشي في شغله ، إنّه راى شقاوتنا وتكلّبنا وأعمالنا الشنيعة ولم ير سعة رحمة الله وفسحة ميدان عطوفة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

__________________

(١) دار السلام : ٢٦٥.

١٥٢

قال : وكان بعد ذلك المولى السلماسيّ لا يبرح عن قبره إلّا ويقرأ له الفاتحة ويستغفر له.

صعود التربة من ضريح العسكريّين إلى السلماسي

وجاء في الكتاب المذكور أيضا قال : حدّثني منهم ولده الصالح العالم العامل الميرزا محمّد باقر بن المولى الشيخ زين العابدين السلماسي والآغا علي رضا الاصفهاني ـ واللفظ للأوّل ـ قال : كنت مع الوالد في أيّام إقامته في سرّ من رأى للخدمة المذكورة ، وكان يتعاهد المشتغلين والعمّالة بالسور في طرف النهار ، ويشتغل بالعبادة ويستريح في وسطه ، فأقيم مقامه لاستخدام الجماعة.

قال : واشتدّ الحرّ في بعض الأيّام فرجعت إلى المنزل لأستريح ساعة ، فرأيت الوالد وبيده خيط وإبرة وقطعة ثوب يخيطه ، فتعجّبت من ذلك وقلت : هذا شغل النسوان وهنّ موجودات مستعدّات لذلك ، فقال : أريد أن أجعله وعاء لشيء له شأن وأحبّ أن يكون من عمل يدي ، فسألته عنه ، فقال : دخلت الظهيرة في الروضة البهيّة للعسكريّين عليهما‌السلام ولم يكن فيها غيري ، فاشتغلت بالصلاة ، ولمّا رفعت رأسي عن الركوع أدخلت رأسي في شقاق عمّامتي لأخرج التربة الزكيّة الحسينيّة على مشرّفها آلاف السلام والتحيّة فافتقدتها فتحيّرت في تحصيل ما يصحّ عليه السجود إذ لم يكن معي غيرها ، فبينا أنا كذلك وإذا بتربة معمولة مثل ما يعمل في مشهد الحسين عليه‌السلام قد صعدت من داخل الضريح المقدّس إلى الهواء منحرفة إلى جانبي إلى أن وضعت قدّامي في محلّ السجود ، فسجدت حامدا شاكرا مسرورا بهذه النعمة العظيمة ، ثمّ أوصى بأن نجعلها في كفنه.

قال الأخ التقي الآغا علي رضا ـ المتقدّم ذكره ـ : وزرت تلك التربة الزكيّة عند المولى المذكور ، وكانت مثمّنة الشكل.

١٥٣

تشرف السلماسي بلقاء الحجّة عليه‌السلام

وجاء أيضا في الكتاب المذكور (١) قال : حدّثني الثقة العدل الأمين آغا محمّد المجاور لمشهد العسكريّين عليهما‌السلام عن أمّه ـ وهي من الصالحات العابدات ـ قالت : كنت يوما في السرداب الشريف مع أهل بيت المولى المذكور في يوم الجمعة وهو يدعو دعاء الندبة ونتبعه في دعائه ، وكان يبكي بكاء الواله الحزين ، ويضجّ ضجيج المستصرخين ، وكنّا نبكي ببكائه ولم يكن معنا غيرنا ، فبينا نحن في هذه الحالة فإذا برائحة طيّبة انتشرت في السرداب وملأت فضاءه ورجعنا إلى ما عكفنا عليه من الدعاء. فلمّا رجعنا إلى البيت وسألت المولى السلماسي عن سبب ذاك الطيب ، فقال : مالك والسؤال عن هذا ، وأعرض عن جوابي.

وحدّثني الأخ الصفي والعالم الوفي مصباح السالكين الآغا علي رضا الاصبهاني قال : سألت المولى المعظّم السلماسي عن لقائه الحجّة عجّل الله تعالى فرجه وكنت أظنّ في حقّه ذلك كشيخه الأعظم العلّامة الطباطبائي رحمه‌الله ، فأجابني بتلك الواقعة حرفا بحرف ، والحمد لله أوّلا وآخرا.

تشرّف السلماسي بلقاء الحجّة في الرؤيا

وجاء أيضا في الكتاب المذكور (٢) قال : حدّثني العالم العامل وقدوة أرباب الفضائل ، وزين الأقران والأماثل ، الثقة الصالح الآميرزا محمّد باقر ولد المولى السلماسي قال : كان المولى الصالح الوفي الميرزا محمّد علي القزويني رجلا زاهدا ناسكا وثقة عابدا ، وكان له ميل شديد وحبّ مفرط في تحصيل علم الجفر

__________________

(١) دار السلام : ٢٦٤.

(٢) نفسه : ٢٥٩.

١٥٤

والحروف ، ويجول لتحصيله في البلاد والفيافي والقفار ، وكان بينه وبين الوالد صداقة تامّة ، فأتى إلى سرّ من رأى حين اشتغال الوالد في عمارة مشهد العسكريّين عليهما‌السلام فنزل في دارنا فبقي عندنا إلى أن رجعنا إلى مشهد الكاظميّين عليهما‌السلام ، ومضى من ذلك ثلاث سنين ، وكان في تلك المدّة ضيفا عندنا.

فقال لي يوما : قد ضاق صدري وانقضى صبري ولي إليك حاجة ورسالة تؤدّيها إلى والدك المعظّم.

فقلت : وما هي؟

قال : رأيت في النوم في تلك الأيّام التي كنّا بسامرّا مولانا الحجّة عجّل الله فرجه ، فسألت عنه الكشف عن العلم الذي صرت له عمري وحبست في تحصيله نفسي ، فقال : هو عند صاحبك ، وأشار إلى والدك ، فقلت : هو يستر عليّ سرّه ولا يكشف حقيقته ، قال عليه‌السلام : ليس كذلك ، أطلب منه فإنّه لا يمنعك منه. فانتبهت فقمت إليه فوافيته مقبلا إليّ في بعض أطراف الصحن المقدّس ، فلمّا رآني ناداني قبل أن أتفوّه بالكلام ، فقال : لم شكوتني عند الحجّة عليه‌السلام؟ متى سألتني شيئا كان عندي فبخلت به؟ فطأطأت رأسي خجلا ولم أكن أعتقد أنّه نظر في هذا العلم شيئا ولم أسمع منه في مدّة مصاحبتي معه من هذا العلم حرفا ، ولم أقدر على الجواب بعد ما ونجني عليه ، وإلى الآن ثلاث سنين وقد وقفت نفسي على ملازمته ومصاحبته لا هو يسألني عن مقصدي ويعطيني ما أحاله الإمام عليه‌السلام عليه ، ولا أنا أقدر على السؤال منه ، وإلى الآن ما ذكرت ذلك لأحد ، فإن رأيت أن تكشف كربي ولو باليأس من المرام فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين.

قال سلّمه الله : فبقيت متعجّبا من تلك القضيّة ومن جميل ما سمعت ، وقلت : من أين علمت أنّه شكا في النوم إلى الإمام عليه‌السلام؟ فقال هو عليه‌السلام : قال لي في النوم ، ولم يذكر تفصيل نومه. فقلت : ولم لا تقضي حاجته؟ قال : وأنا متعجّب من تلك

١٥٥

الحوالة ، إذ ليس عندي ما أحاله عليه‌السلام عليّ. فزاد تعجّبي فرجعت وذكرت له الجواب ، فمضى في شغله وسيره إلى أن وقف في بهبهان على كتاب فيه كشف مهمّاته وطريق تبيين مجهولاته فرجع وكان ذلك بعد وفاة الوالد ، فقال : إنّ لأبيك عليّ حقوقا رأيت أن أوقفك على ما وقفت عليه أداء لحقوقه ، فإذا قدمت المشهد الغروي نكتب هذا الكتاب في نسختين مرموزا ونتلف الأصل ولك واحدة منهما نرجع إليك ونعلّمك مسائله إن شاء الله في مدّة قليلة.

قال : فلمّا قدم المشهد توفّي رحمه‌الله ودخل بعض الطلّاب حجرته وأخذ تلك النسخة ولم يعرف لها خبر بعد ذلك.

قال العلّامة النوري رحمه‌الله بعد نقله لهذه الحكاية : حدّثني الأخ الصفي الغريق في ولاء آل الله الآغا علي رضا بلّغه الله ما يتمنّاه قال : كان الرجل المذكور من أهل الصلاح والسداد والورع والتقوى. حدّثني بعض الثقات وقد طعن في السنّ ، قال : كنت مصاحبا له في بعض أسفارنا من كربلا إلى النجف ، فنفد زادنا ، فاشتدّ بي الجوع ، فشكوت إليه ، فنهرني ، فمشيت قليلا ثمّ أعدت عليه القول ، فقال مثل ذلك ، فضاق بي الأمر ، فكرّرت عليه المقال ، فلمّا رأى قلّة صبري قال : إذهب إلى هنا وأشار إلى بعض الأشجار التي كانت في ناحية الطريق ، فذهبت إليها فوجدت خلفها ظرفا فيه طعام مطبوخ من الأرز ، عليه دجاجة كأنّه صنع في هذه الساعة ، فأخذته وقضيت حاجتي منه.

رؤيا له فيها موعظة

وجاء في الكتاب المذكور أيضا قال : حدّثني الأخ الصفي الوفي المشفق الروحاني الآغا علي رضا الاصبهاني ، عن العالم الجليل المبرور المولى زين العابدين

١٥٦

السلماسي قال : رأيت في المنام بيتا عاليا رفيعا منيعا ، له باب كبير واسع ، عليه وعلى حيطانه مسامير من ذهب تسرّ الناظرين ، فسألت عن صاحبه ، فقيل لي : إنّه للسيّد محسن الكاظمي ، وهو المحقّق المدقّق الجليل الزاهد الورع النبيل ، جمّ العلوم والفضائل ، صاحب المحصول والوافي والوسائل ، فتعجّبت من ذلك وقلت : كانت داره التي في مشهد الكاظمين عليهما‌السلام صغيرة حقيرة ضيّقة الباب والفناء ، فمن أين أوتي هذا البناء؟ فقالوا : لمّا دخل من ذاك الباب الحقير أعطاه الله تعالى هذا البيت العالي الكبير ، وكان بيته كما ذكره رحمه‌الله في النوم في غاية الحقارة ، وبلغ من زهده ما حدّثني به جماعة أنّه لم يكن له من المتاع ما يضع سراجه فيه وكان يوقد الشمعة على الطابوق والمدر ، شكر الله تعالى سعيه.

نقل السلماسي نبذة من كرامات بحر العلوم

منها : ما ذكره العلّامة الخبير الميرزا حسين النوري قدس‌سره في دار السلام بإسناده عن المولى الشيخ زين العابدين السلماسي الذي هو من تلاميذ آية الله بحر العلوم وصاحب سرّه أنّه قال : كنت حاضرا في مجلسه في النجف إذ دخل عليه لزيارته المحقّق القمّي صاحب القوانين في السنة التي رجع من البلاد زائرا أئمّة العراق وحاجّا لبيت الله الحرام ، فتفرّق من كان في المجلس وحضر للاستفادة منه وكانوا أزيد من مائة ، وبقيت أنا وثلاثة من أصحابه أرباب الورع والسداد البالغين إلى رتبة الاجتهاد ، فتوجّه المحقّق الأيّد إلى جناب السيّد رحمه‌الله وقال : إنّكم فزتم وحزتم مرتبة الولادة الروحانيّة والجسمانيّة وقرب المكان الظاهري والباطني فتصدّقوا علينا بذكر عائدة من موائد تلك الخوان ، وثمرة من الثمار التي جنيتم من هذه الجنان كي تنشرح به الصدور وتطمئن به القلوب.

١٥٧

فأجاب السيّد رحمه‌الله من غير تأمّل وقال : إنّي كنت في الليلة الماضية قبل ليلتين أو أقلّ ـ والترديد من الراوي ـ في المسجد الأعظم بالكوفة لأداء نافلة الليل عازما للرجوع إلى النجف في أوّل الصبح لئلّا يتعطّل أمر البحث والمذاكرة ـ وهكذا كان دأبه في سنين عديدة ـ فلمّا خرجت من المسجد ألقي في روعي شوق إلى مسجد السهلة فصرفت خيالي عنه خوفا من عدم الوصول إلى البلد قبل الصبح فيفوت البحث في اليوم ، ولكن الشوق يزيد في كلّ آن ويميل القلب إلى ذاك المكان ، فبينما أقدّم رجلا وأؤخّر أخرى وإذا بريح فيها غبار كثير فهاجت وأمالت بي عن الطريق ، فكأنّها التوفيق الذي هو خير رفيق إلى أن ألقتني إلى باب المسجد ، فدخلت فإذا به خاليا من العباد والزوّار إلّا شخصا جليلا مشغولا بالمناجاة مع الجبّار بكلمات ترقّ القلوب القاسية وتسحّ الدم من العيون الجامدة ، فتطيّر بالي وتغيّرت حالي ورجفت ركبتي وهملت دمعتي من استماع تلك الكلمات التي لم تسمعها أذني ولم ترها عيني ممّا وصلت إليه من الأدعيه المأثورة ، وعرفت أنّ المناجي ينشئها في الحال لا أنّه ينشد بما أودعه في البال.

فوقفت في مكاني مستمعا متلذّذا إلى أن فرغ من مناجاته ، فالتفت إليّ وصاح فيّ باللغة الإيرانيّة : (مهدي بيا) أي هلمّ يا مهدي ، فتقدّمت إليه بخطوات فوقفت فأمرني بالتقدّم فمشيت قليلا ثمّ وقفت ، فأمرني بالتقدّم وقال : إنّ الأدب في الامتثال ، فتقدّمت إليه بحيث تصل يدي إليه ويده الشريفة إليّ وتكلّم بكلمة.

قال المولى السلماسي رحمه‌الله : ولمّا بلغ كلام السيّد السند إلى هنا أضرب عنه صفحا وطوى عنه كشحا وشرع في الجواب عمّا سأله المحقّق المذكور قبل ذلك عن سرّ قلّة تصانيفه مع طول باعه في العلوم ، فذكر له وجوها ، فعاد المحقّق القمّي فسأل عن هذا الكلام الخفي ، فأشار بيده شبه المنكر بأنّ هذا سرّ لا يذكر.

قال : ومنها : ما حدّثني الأخ الصفي المذكور عن المولى السلماسي رحمه‌الله قال : كنت

١٥٨

حاضرا في محفل إفادته فسأله رجل عن إمكان رؤية الطلعة الغرّاء في الغيبة الكبرى ، وكان بيده الآلة المعدّة لشرب الدخان المسمّاة عند الإيرانيّين بالغليان ، فسكت عن جوابه وطأطأ رأسه وخاطب نفسه بكلام خفيّ أسمعه ، فقال ما معناه : ما أقول في جوابه وقد ضمّني صلوات الله عليه وآله إلى صدره ، وورد أيضا في الخبر تكذيب مدّعي الرؤية في أيّام الغيبة ، فكرّر هذا الكلام ثمّ قال في جواب السائل أنّه قد ورد في أخبار أهل بيت العصمة عليهم‌السلام تكذيب من ادّعى رؤية الحجّة عجّل الله فرجه ، واقتصر في جوابه عليه من غير إشارة إلى ما أشار إليه.

قال : ومنها : بهذا السند عن المولى المذكور قال : صلّينا مع جنابه في داخل حرم العسكريّين عليهما‌السلام فلمّا أراد النهوض من التشهّد إلى الركعة الثالثة عرضته حالة فوقف هنيئة ثمّ قام ، ولمّا فرغنا تعجّبنا كلّنا ولم نفهم ما كان وجهه ولم يجترئ أحد منّا على السؤال منه إلى أن أتينا المنزل وأحضرت المائدة ، فأشار إليّ بعض السادة من أصحابنا أن أسأل منه ، فقلت : لا وأنت أقرب منّا ، فالتفت رحمه‌الله إليّ وقال : فيم تقاولون؟ قلت ـ وكنت أجسر الناس على مكالمته ـ : إنّهم يريدون الكشف عمّا عرض بكم في الصلاة؟ فقال : إنّ الحجّة عجّل الله تعالى فرجه دخل الروضة للسلام على أبيه عليه‌السلام فعرضني ما رأيتم من مشاهدة جماله الأنور إلى أن خرج منها.

قال : ومنها : بهذا السند عن ناظر أموره في أيّام مجاورته بمكّة المعظّمة قال : كان رحمه‌الله مع كونه في بلد الغربة منقطعا عن الأهل والإخوة ، قويّ القلب في البذل والعطاء ، غير مكترث بكثرة المصارف ، فاتفق في بعض الأيّام أن لم نجد إلى درهم سبيلا ، فعرّفته الحال وكثرة المؤونة وانعدام المال ، فلم يقل شيئا ، وكان دأبه أن يطوف بالبيت بعد الصبح ويأتي إلى الدار فيجلس في القبّة المختصّة به ونأتي إليه بغليان فيشربه ثمّ يخرج إلى قبّة أخرى اجتمع فيه تلامذته من كلّ المذاهب فيدرس لكلّ على مذهب.

١٥٩

فلمّا رجع عن الطواف في اليوم الذي شكوت في أمسه نفوذ النفقة وأحضرت الغليان على العادة فإذا بالباب يدقّه أحد ، فاضطرب رحمه‌الله أشدّ الأضطراب وقال لي : خذ الغليان وأخرجه من هذا المكان ، وقام مسرعا إلى الباب خارجا عن الوقار والسكينة والآداب ، ففتح الباب ودخل شخص جليل في هيئة الأعراب وجلس في تلك القبّة وقعد السيّد رحمه‌الله عند بابها في نهاية الذلّة والمسكنة ، وأشار إليّ أن لا أقرّب عليه الغليان ، فقعدا ساعة يتحدّثان ، ثمّ قام فقام السيّد رحمه‌الله مسرعا وفتح الباب وقبّل يده وأركبه على جمله الذي أناخه عنده ومضى لشأنه ورجع السيّد رحمه‌الله متغيّر اللون وناولني براءة وقال : هذه حوالة على رجل صرّاف قاعد في جبل الصفا فاذهب إليه وخذ منه ما أحيل عليه.

قال : فأخذتها وأتيت بها إلى الرجل الموصوف ، فلمّا نظر إليها قبّلها وقال : عليّ بالحماميل ، فذهبت وأتيت بأربعة حماميل ، فجاء من الدراهم من الصنف الذي يقال له ريال فرانسة يزيد كلّ واحد على خمسة قرانات العجم ما كانوا يقدرون على حمله ، فحملوها على أكتافهم وأتينا بها إلى الدار ، ولمّا كان في بعض الأيّام ذهبت عند الصرّاف لأسأل منه حاله وممّن كانت تلك الحوالة ، فلم أر صرّافا ولا دكّانا ، فسألت من بعض من حضر في هذا المكان عن الصرّاف ، فقال : ما عهدنا في هذا المكان صرّافا أبدا وإنّما يقعد فيه فلان ، فعرفت أنّه من أسرار الملك المنّان ، وألطاف وليّ الرحمان.

قال : وحدّثني بهذه الحكاية الشيخ العالم الفقيه والنحرير المحقّق الوجيه ، صاحب التصانيف الرائعة والمناقب الفائقة الشيخ محمّد حسين الكاظمي المجاور بالغري عمّن حدّثه من الثقات عن الشخص المذكور.

قال : ومنها : ما حدّثني به العالم المحقّق النحرير ، أسوة العلماء وقدوة الفقهاء السند ، والحبر المعتمد ، السيّد علي حفيد السيّد المؤيّد بحر العلوم قدس‌سره عن المولى

١٦٠