مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-037-4
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٣٧٢

الأجلّ الأعظم الشيخ زين العابدين السلماسي ـ المتقدّم ـ قال : لمّا اشتدّ بالسيّد مرضه الذي توفّي فيه قال لنا ـ وكنّا جماعة ـ : أحبّ أن يصلّي عليّ الشيخ الجليل الشيخ حسين نجف الذي يضرب بكثرة زهده وعبادته وتقواه المثل ، ولكن لا يصلّي عليّ إلّا جناب العالم الربّاني الميرزا مهدي الشهرستاني وكان له صداقة تامّة مع السيّد رحمه‌الله.

فتعجّبنا من هذه الإخبار ، لأنّ الميرزا الشهرستاني كان حينئذ في كربلا ، فتوفّي السيّد رحمه‌الله بعد هذه الإخبار بزمان قليل واشتغلنا بتجهيزه ، وليس عن الميرزا المزبور خبر ولا أثر ، وكنت متفكّرا لأنّي لم أسمع مدّة مصاحبتي معه قدس‌سره كلاما غير محقّق ، ولا خبرا غير مطابق ، فتحيّرت في وجه المخالفة إلى أن غسلناه وكفنّاه وحملناه وأتينا به إلى الصحن الشريف للصلاة والطواف ، ومعنا وجوه المشايخ وأجلّة الفقهاء كالبدر الأبرز الشيخ جعفر الكبير ، والشيخ حسين المذكور وغيرهما ، وحان وقت الصلاة ، فضاق صدري بما سمعت.

فبينما نحن كذلك وإذا بالناس ينفرجون عن الباب الشرقي ، فنظرت فرأيت السيّد الأجل الشهرستاني قد دخل الصحن الشريف وعليه لباس المسافر وآثار تعب الطريق ، فلمّا وافى الجنازة قدّمه المشايخ لاجتماع أسباب التقدّم فيه ، فصلّى عليه وصلّينا معه مسرور الخاطر ، منشرح الصدر ، شاكرا لله تعالى بإزالة الريب عن قلوبنا ثمّ ذكر لنا أنّه صلّى الظهر في مشهد الحسين عليه‌السلام وفي رجوعه إلى بيته في وقت الظهيرة وصل إليه كتاب من النجف يخبره بيأس الناس عن حياة السيّد رحمه‌الله. قال : فدخلت البيت وركبت بغلة كانت لي من غير مكث فيه وفي الطريق إلى أن صادف دخولي في البلد حمل جنازته قدّس الله سرّه.

قال : وحدّثني بهذه الحكاية الأخ الصالح المتقدّم عن المولى المذكور.

١٦١

نبذة من حياة بحر العلوم رحمه‌الله

وبما أنّه قد تكرّر اسمه المقدّس في كتابنا هذا أحببت أن أتبرّك بذكر نبذة من حياته الطيّبة لتتّضح لبعض الغافلين شخصيّته الفذّة وآثاره الخالدة وخدماته الجليلة العلميّة ، وإن اشتهرت كالشمس في رابعة النهار.

ولادته :

ولد قدّس الله نفسه في كربلا ليلة الجمعة في شهر شوّال المكرّم سنة ١١٥٥ ه‍ وتوفّي في النجف الأشرف سنة ١٢١٢ ودفن بجنب باب المسجد الطوسي في مقبرة خاصّة به وبأولاده وأحفاده ، وهي مشهورة معروفة تزار ويتبرّك بها ، وجاء في مادّة تاريخ ولادته (لنصرة آي الحقّ قد ولد المهدي) وفي تاريخ وفاته من أبيات يخاطب به الأرض التي دفن بها:

وقدّست أرضا قلت فيك مؤرّخا

(يغيب بها مهدي آل محمّد)

قال أبو علي الحائري في رجاله منتهى المقال : رأى والده الماجد قدس‌سره ليلة ولادته أنّ مولانا الرضا عليه‌السلام أرسل شمعة مع محمّد بن إسماعيل بن بزيع وأشعلها على سطح دارهم فعلا سناها ولم يدرك مداها ، يتحيّر عند رؤيته النظر ، ويقول لسان حاله ما هذا بشر.

نسبه الشريف :

السيّد محمّد المهدي بن السيّد مرتضى بن السيّد محمّد الطباطبائي الحسني الحسيني النجفي. ينتهي نسبه الشريف إلى إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

قال ابن خلّكان : وكان إبراهيم بن إسماعيل يلتغ فيجعل القاف طاء ، وطلب

١٦٢

يوما ثيابه ، فقال له غلامه : أجيء بدراعة؟ فقال : لا ، طباطبا ، يريد قباقبا ، فبقي عليه لقبا واشتهر به.

ونقل أبو نصر البخاري في سرّ السلسلة العلويّة أنّ أهل السواد لقّبوه بذلك (وطباطبا بلسان النبطيّة سيّد السادات) وهو جدّ السادات الطباطبائيّين. وإبراهيم طباطبا هو ابن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنّى.

وقال ابن عنبة في عمدة الطالب : إنّ إبراهيم بن الحسن ملقّب بالغمر ، ولقّب بهذا لكثرة جوده ، ويكنى أبا إسماعيل ، وكان سيّدا شريفا ، روى الحديث ، قبض عليه أبو جعفر المنصور مع أخيه ، وتوفّي في حبسه سنة ١٤٥ وله تسع وستّون سنة ، وهو أوّل من مات في الحبس من بني الحسن ، وتوفّي في ربيع الأوّل ، وكانت أمّه فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام.

وذكره الخطيب في تاريخه وقال : إنّه كان أشبه الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال العلّامة الخبير السيّد محسن العاملي في أعيان الشيعة : وإبراهيم الغمر هذا هو المدفون بين الكوفة والنجف على يسار الذاهب من النجف إلى الكوفة بعد الخندق في سمت مسجد السهلة وعليه قبّة.

ويروى أنّ السفّاح كان كثيرا ما يسأل عبد الله المحض عن ابنيه محمّد وإبراهيم ، فشكا عبد الله ذلك إلى أخيه إبراهيم الغمر ، فقال له إبراهيم : إذا سألك عنهما فقل : عمّهما إبراهيم أعلم بهما. فقال له عبد الله : وترضى بذلك؟ قال : نعم. فسأله السفّاح عن ابنه ذات يوم ، فقال : لا علم لي بهما وعلمهما عند عمّهما إبراهيم ، فسكت عنه ثمّ خلا بإبراهيم فسأله عن ابني أخيه ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، أكلّمك كما يكلّم الرجل سلطانه أو كما يكلّم ابن عمّه؟ فقال : بل كما يكلّم الرجل ابن عمّه. فقال : يا أمير المؤمنين ، أرأيت إن كان الله قد قدّر لمحمّد وإبراهيم أن يكون لهذا الأمر شيء أتقدر وجميع من في الأرض على دفع ذلك؟ قال : لا والله. قال : فما لك تنغّص على

١٦٣

هذا الشيخ النعمة التي تنعمها عليه؟ فقال السفّاح : والله لا أذكرهما بعد هذا ، فلم يذكر شيئا من أمرهما حتّى مضى لسبيله.

والعقب من إبراهيم الغمر في إسماعيل الديباج وحده ، وإسماعيل هذا يكنى أبا إبراهيم ، والشريف ، والخالص ، وشهد فخّا ، والعقب منه في رجلين : الحسن التجّ وإبراهيم طباطبا.

ولأحد أحفاد المترجم العلّامة البارع السيّد محمّد صادق آل بحر العلوم أرجوزة في نسب بيتهم الرفيع آثرنا ذكرها ، يقول أدامه الله وجوده ونفع به :

قال الفتى الصادق أحقر الورى

وإن زكا أصلا وطاب عنصرا

نسل الأطايب الهداة النجبا

نسل الكرام الغرّ من طباطبا

أحمد بمن أبرزنا من العدم

لطفا بنا شرّفنا على الأمم

مصلّيا على النبيّ الأكمل

وصهره الإمام بعده (علي)

وأهل بيت الوحي والقرآن

ومعدن الحكمة والتبيان

أئمّة الدين لسان الحقّ

خزائن العلم أمان الخلق

أرجو بهم نجاة هو المحشر

لي ولمن قفاهم في الأثر

وبعد جاء في الصحيح المسند

عن النبيّ المصطفى (محمّد)

بأنّ كلّ سبب أو نسب

ينبت إلّا سببي أو نسبي

فاستمعن يا أهل الخلّ الوفي

نظم الحقير الفاطميّ الأشرف

أرجوزة سمت على الجوزاء

إذ قد حوت لنسب الآباء

أنهيت فيها لعليّ نسبي

أربعة بعد ثلاثين أبي

مبتدئا بوالدي المهذّب

وفّقه الباري لنيل الإرب

وهو سمّي المجتبى الزاكي الحسن

ذا شبل إبراهيم صاحب المنن

نسل الحسين بن الرضا بن المهدي

حليف سؤدد ربيب المجد

١٦٤

(بحر العلوم) صاحب المناقب

سيّد أهل الفضل ذي التجارب

محقّق المعقول والمنقول

مدقّق الفروع والأصول

برّ تقيّ ورع إمام

بمثله لم تسمح الأيّام

وفضله في سائر الأقطار

كالشمس في رابعة النهار

فكم كرامات له مشتهره

وقد غدت في عصره مزدهره

كآية الحجاز والغمامه

فإنّها لفضله علامه

وآية السهلة والأعرابي

وآية التشييع والسرداب

وآية الرؤية للإمام

في حالة النهوض للقيام

وآية الضمّ دليل مرتضى

لشبل حجّة الأنام المرتضى

نسل محمّد سمّي المصطفى

وهو التقيّ المتعالي شرفا

نسل الفتى عبد الكريم الفاضل

نسل مراد نسل شاه الكامل

ذا أسد الله حليف السؤدد

نسل جلال الدين نسل الأوحدي

وهو ربيب المكرمات الحسن

قامت فروضها به والسنن

نسل حليف المجد مجد الدين

نسل فتى العليا قوام الدين

سليل إسماعيل نسب الأنجب

عباد نسل الفذّ عالي الرتب

وهو المكنّى بأبي المكارم

سليل عباد ابن خير عالم

وهو أبو المجد بن عباد السنن

نسل عليّ القدر صاحب المنن

نسل الزكيّ حمزة بن طاهر

نسل عليّ وهو ذو المفاخر

نسل محمّد سليل أحمد

نسل محمّد الهمام الأمجد

نسل الرئيس أحمد النبيل

فخر الورى ذي الشرف الأصيل

سليل إبراهيم أزكى النجبا

وهو الذي لقّب في (طباطبا)

سليل إسماعيل الديباج

من فضله كالكوكب الوهّاج

١٦٥

سليل إبراهيم نسل الحسن

وهو المثنّى ابن الإمام الحسن

نسل الإمام صاحب الفضل الجلي

أمير أهل الحقّ مولانا (علي)

أبي الإمامين الحسين والحسن

صلى عليه الله في مدى الزمن

ما طلعت شمس وما ضاء قمر

وغرّد القمريّ في أعلى الشجر

أولئك الآباء والأعاظم

آبائي الأماجد الأكارم

فأحمد الله على النعماء

إذ خصّنا بأشرف الآباء

وأختم المقال بالصلاة

على النبيّ سيّد الهداة

وآله المنتخبين النجبا

أئمّة الحقّ وهم أهل العبا

فهذه خلاصة المنظومة

فها كها لئآلئا منظومة

وله دام وجوده أيضا ترجمة طويلة لسيّدنا المترجم بأسلوب بديع نشرها تباعا في أعداد مجلّة الهدى العمارية تحت عنوان (أكبر زعيم زهت به أوليات القرن الغابر) كما أنّ لأحد أحفاده العلّامة الجليل السيّد علي ابن السيّد هاي آل بحر العلوم أدام الله وجوده رسالة كبيرة في ترجمة جدّه سمّاها «اللؤلؤ المنظوم في حياة السيّد بحر العلوم) لا تزال مخطوطة.

اتصال سيّدنا المترجم بالمجلسيّين :

قال العلّامة المحدّث القمّي رحمه‌الله في الكنى والألقاب : ليعلم أنّ العلّامة بحر العلوم يتّصل بالمجلسيّين من بعض جدّاته ، فإنّ والده العالم الجليل السيّد مرتضى كانت أمّه بنت الأمير أبي طالب ابن أبي المعالي الكبير ، وأمّها بنت المولى محمّد نصير بن المولى عبد الله بن المولى محمّد تقي المجلسي ، وأمّ الأمير أبي طالب بنت المولى محمّد صالح المازندراني من آمنة بيكم بنت المولى محمّد تقي المجلسي الأوّل ، فنسب العلّامة بحر العلوم يتّصل إلى المجلسي الأوّل من طريقين ، فصار المجلسي الأوّل له جدّا والمجلسي الثاني خالا.

١٦٦

وتوفّي السيّد مرتضى والد بحر العلوم في سنة ١٢٠٤ ورثاه معاصروه منهم سيّد الشعراء والأدباء السيّد إبراهيم العطّار الحسني بقصيدة طويلة أرّخ فيها عام وفاته ، منها قوله :

أرأيت هذا اليوم ما صنع الورى

بدعائم التقوى وأعلام الهدى

أنظر إلى شمل المكارم والعلى

من بعد ذاك الجمع كيف بدّدا

ميت له بكت المفاخر والعلى

ونعته أندية السماحة والندى

يا آل بيت المصطفى والمرتضى

صبرا على ما نابكم وتجلّدا

ورضا بحكم الواحد الأحد الذي

هو بالدوام وبالبقاء تفرّدا

وكفى النفوس تسلّيا من بعده

بسليله مهدي أرباب الهدى

صدر الأفاضل قدوة العلماء من

بجدوده في القول والفعل اقتدى

المفرد العلم الذي بوجوده

أمسى بناء المكرمات موطّدا

فهو الذي يحيي مآثر جدّه

ويشيد من عليائه ما شيّدا

إن رمت تاريخ الشريف المرتضى

فهلمّ أرّخ (قد قضى علم الهدى)

مشايخ بحر العلوم :

قرأ عند والده الماجد والشيخ محمّد تقي الدورقي المقدّمات الأوليّة برهة من الزمان ، ثمّ انتقل إلى كربلا فحضر مجلس درس الأستاذ العلّامة الوحيد البهبهاني ، ثمّ رجع إلى النجف وأقام بها ، وكان من مشايخه الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق ، والعالم الجليل السيّد حسين القزويني ، والسيّد حسن الخوانساري ، والسيّد الأجل الميرزا عبد الباقي إمام الجمعة باصفهان ، والآغا محمّد باقر الهزار جريبي والشيخ مهدي الفتوني ، كلّ واحد منهم من الطراز الأوّل.

١٦٧

تلاميذه :

الأستاذ الأكبر الشيخ جعفر صاحب كاشف الغطاء ، والعلّامة العيلم السيّد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة ، والفاضل المحقّق المولى أحمد النراقي ، والسيّد محمّد محسن الكاظمي ، والآغا السيّد محمّد الكربلائي ، والسيّد عبد الله الشبّري الحلّي ، والسيّد أبو القاسم الخونساري جدّ صاحب روضات الجنّات ، وغيرهم من جهابذة الفقهاء والمجتهدين كما ذكره في الروضات والمستدرك ، والشيخ محمّد علي الأعسم ، وحجّة الإسلام السيّد باقر الشفتي الاصبهاني.

أقوال العلماء في حقّه :

قال أبو علي في رجاله المطبوع : السيّد السند ، والركن المعتمد ، مولانا السيّد مهدي ابن السيّد مرتضى بن السيّد محمّد الحسني الحسيني الطباطبائي النجفي أطال الله بقاه ، وأدام علوّه ونعماه ، الإمام الذي لم تسمح بمثله الأيّام ، والهمام الذي عقمت عن إنتاج شكله الأعوام ، سيّد العلماء الأعلام ، ومولى فضلاء الإسلام ، علّامة دهره وزمانه ، ووحيد عصره وأوانه ، إن تكلّم في المعقول قلت هذا الشيخ الرئيس ، وبقراط وأفلاطون وأرسطاليس ، وإن باحث في المنقول قلت هذا العلّامة المحقّق لفنون الفروع والاصول ، وما رأيته يناظر في الكلام إلّا قلت : هذا والله علم الهدى ، وإذا فسّر الكتاب المجيد وأصغيت إليه ذهلت وخلت كأنّه الذي أنزله الله عليه ، وداره الميمونة الآن محطّ رجال العلماء ، ومفزع الجهابذة والفضلاء ، وهو بعد الأستاذ البهبهاني دام علاهما إمام أئمّة العراق ، وسيّد الفضلاء على الإطلاق ، إليه يفزع علماؤها ، ومنه يأخذ عظماؤها ، وهو كعبتها التي تطوي إليها المراحل ، وبحرها الموّاج الذي لا يوجد له ساحل ، مع كرامات باهرة ، ومآثر وآيات ظاهرة ، وقد شاع وذاع وملأ الأسماع والأصقاع ، تشييعه الجمّ الغفير ، والجمع الكثير ، من

١٦٨

اليهود لما رأوا منه البراهين والإعجاز ، وناهيك بما بان له من الآيات يوم كان بالحجاز ، انتهى.

ومثله في روضات الجنّات إلى أن قال : هو العلم المفضال ، والعالم المسلّم إليه في أنواع فنون الكمال ، وحبّ الدلالة على تسلّم نبالته في جميع الأقطار والتخوم ، وتلقّيه من غير المشاركة مع غيره إلى الآن بلقب بحر العلوم ، تخرّج عليه جمع كثير من أجلّة علماء هذه الأمصار والأعصار ، وتلمّذ لديه جمّ غفير من أهلّة سماء المساماة على سائر فضلاء الأدوار. ثمّ ذكر تلاميذه الذين تقدّم الإشارة إليهم.

وقال الشيخ الفاضل المحدّث الربّاني عبد العلي بن محمّد بن عبد الله الخطّي البحراني في الإجازة التي كتبها للمرحوم الحاج محمّد إبراهيم الكرباسي الخراساني : وأجزلت له دام ظلّه وزاد فضله ما أجازه لي شيخ أهل العراق بل لو شئت لقلت سيّد أهل الآفاق واحد العصر على الإطلاق ، المشتهر في الفضل كاشتهار الشمس عند الإشراق ، بحر العلم الدفّاق ، ومن لا يجازيه مجاز في مثار حلبة السباق ، وأزكى الأعراق السامي في رتبة العلم على السبع الطباق ، الأخ الصفي ، والخلّ الوفي ، والبرّ الخفي ، المظهر من علوم آبائه وأجداده ما كان يختفي ، والموقد لها بمصباح ذهنه الثاقب ولولاه لكادت تنطفي ، شيخنا ومولانا المشتهر بالسيّد المشار بالسيّد مهدي النجفي ، أفاض الله على قبره غيوث رحمته.

إلى أن قال : وهذا السيّد المشار إليه كان فقيها محدّثا صرفيّا نحويّا بيانيّا منطقيّا متكلّما حكيما فيلسوفا فلكيّا رياضيّا ، وبالجملة كلّ فنّ من فنون العلم حاز قصبه وأحرزه ، ولم يدع مشكلا إلّا بيّنه وأبرزه. قال : فأقمت في منزله مدّة تزيد على شهر ، فاستفدت منه فوائد كثيرة لا يأتي عليها الحصر ، وأمّا ما هو عليه من السخاء والكرم وحسن الأخلاق فشيء تكلّ عنه الأقلام ، وتضيق عنه الأوراق.

وقال تلميذه السيّد الفقيه الأستاذ السيّد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة

١٦٩

في بعض إجازاته : وأن يروي ما رويته عن بحر العلوم والحقايق ، وشمس سماء الغوامض والدقائق ، فخر الشيعة وبدر الشريعة ، الإمام الهمام السيّد الأكبر الأعظم السيّد مهدي حشره الله سبحانه مع أجداده الطاهرين عليهم وعليه صلوات الله ربّ العالمين ، وهذا السيّد المبرّز قد ضمّ إلى الإحاطة بالعلوم العقليّة والنقليّة نفسا زكيّة أبيّة ، وذوقا مستقيما ، وطبعا سليما ، وورعا صافيا ، وتتبّعا شافيا ، فلم يرض بالنقل عن العيان ، وبذلك ظهرت كتب القدماء في هذا الزمان ، وبان في التعويل على النقل ما بان ، وله من الكرامات والإعجاز ، بان منها لنا ما بان ، يوم تشيّع اليهود ويوم كان بالحجاز.

وقال العلّامة النوري في مستدرك الوسائل (١) : آية الله في العالمين ، بحر العلوم ، صاحب المقامات العالية والكرامات الباهرة ، العلّامة الطباطبائي السيّد مهدي بن العالم السيّد مرتضى بن العالم الجليل السيّد محمّد البروجردي ابن السيّد عبد الكريم بن السيّد مراد بن شاه أسد الله بن السيّد جلال الدين بن الأمير بن الحسن بن مجد الدين ابن قوام الدين بن إسماعيل بن عباد بن أبي المكارم بن عباد بن أبي المجد بن عباد بن عليّ بن حمزة بن طاهر بن عليّ بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن إبراهيم الملقّب بطباطبا ابن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنّى بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وقد أذعن له جميع علماء عصره ومن تأخّر عنه بعلوّ المقام والرياسة في العلوم النقليّة والعقليّة وساير الكمالات النفسانيّة حتّى أنّ الشيخ الفقيه الأكبر الشيخ جعفر النجفي مع ما هو عليه من الفقاهة والزهادة والرياسة كان يمسح تراب خفّه بحنك عمامته ، وهو من الذين تواترت عنه الكرامات ولقائه الحجّة عليه‌السلام ولم يسبقه في هذه الفضيلة أحد فيما أعلم إلّا السيّد رضي الدين عليّ بن

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٣ : ٣٨٤.

١٧٠

طاوس رحمه‌الله ، وقد ذكرنا جملة منها بالأسانيد الصحيحة في كتابنا دار السلام ، وجنّة المأوى ، والنجم الثاقب ، لو جمعت لكانت رسالة حسنة.

وقال المامقاني في رجاله بعد العنوان : هو وحيد عصره بل الأعصار ، وفريد دهره بل الدهور ، صاحب المقامات العالية ، والكرامات السامية ، ووصفه ببحر العلوم بالحقّ والاستحقاق ، لأنّه في جميع العلوم بحر موّاج ولا ساحل له ، وفارس كرّار لا فرار له ، ثمّ ساق الكلام مثل ما مرّ ، وعدّ من مشايخه الشيخ محمّد تقي الدورقي قدّس الله نفسه.

أخباره ونوادر كراماته :

أوّل من انتقل من هذه الأسرة الميمونة إلى العتبات المقدّسة جدّ بحر العلوم السيّد محمّد الطباطبائي ، وكان قاطنا ببروجرد من بلاد إيران فانتقل منها بأهله وحشمه إلى العتبات العاليات ، وصرف في خدمة أجداده هنالك كثيرا من الأوقات ، ثمّ استقرّ رأيه الشريف على المعاودة إلى وطنه القديم ، فلمّا وصل إلى مدينة كرمانشاه عرض عليه أهلها الإقامة عندهم للاستنارة بأنوار علومه ، فأجابهم إلى ذلك وقطن هناك بقيّة أيّام حياته ، ثمّ حضرته المنيّة فيها عند استيفاء أجله المحتوم فانتقل أهله وولده إلى بلده القديم بروجرد فكانوا به إلى زمن طلوع كوكب صاحب الترجمة من كربلا ، ثمّ توفّي والده فيها فانتقل إلى النجف الأشرف وقضى فيها برهة من الزمان مجدّا في العلم والتدريس ثمّ عاد إلى كربلا وتلمّذ على الأستاذ المحقّق الوحيد البهبهاني. ثمّ لمّا ترك الوحيد البحث لكبر سنّه ونهاية عجزه انتقل إلى النجف الأشرف وأقام بها فصار محطّ رحال العلماء.

ثمّ سافر إلى مكّة المعظّمة وجاورها مدّة طويلة ، وصار الناس يزدلفون إليه كما يزدلفون إلى عرفة والمزدلفة ، وكان يدرّس هناك في المذاهب الأربعة فقصده

١٧١

المقتبسون من علومه من كلّ فجّ عميق من كلّ مكان مسرعة وأيّ سرعة لتعرض عليه ما أشكل عليهم ، وكان قدس‌سره يجيب عن مطالبهم ، وتقدّم في صدر العنوان الكرامات التي ظهرت منه في مكّة المشرّفة.

وكان سبب مقامه في مكّة هذه المدّة الطويلة أنّه قدس‌سره تأخّر عن موسم الحاجّ تلك السنة فبقي هناك إلى العام القابل لإدراك الحجّ فاشتغل بالتدريس في المذاهب الأربعة على سبيل الإلزام والإفحام حتّى أنّه قال في حقّه بعض أولئك الأقوام : لو كان حقّا ما يقوله الشيعة الإماميّة في مهدويّة ولد الإمام العسكري عليه‌السلام لكان هذا السيّد المهدي هو ذلك الإمام.

ثمّ إنّه قدس‌سره مع كتمان إيمان عن المخالف بما لا مزيد عليه يتوقّع إن لم يظهروا على حاله اليوم سيظهرون عليه غدا ، فأوقع الله في روعه : (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)(١) فخرج إلى مسكنه بالعراق في المشهد الغروي.

ومن طريف ما نقل عنه قدس‌سره أنّه سافر إلى المشهد الرضوي في جمع كثير من الإيرانيّين والعراقيّين ، فبينما هم سائرون فإذا بجماعة التركمان هجموا على الزوّار وأخذوا بالنهب والأسر ، فإذا برجل منهم نظر إلى بحر العلوم فصاح بأعلا صوته : يا جماعة ، أمسكوا عن النهب والأسر وردّوا أموالهم وكلّ ما أخذتم ، وأكرموا هذا الركب لأنّ فيهم أستاذي بحر العلوم الذي لا يجوّز سبّ السلف ، وجاء وقبّل رجل بحر العلوم وأمر أتباعه بإكرام الزائرين وإيصالهم إلى المأمون.

فنظر بحر العلوم إليه فعرفه وكان من قصّته أنّ الرجل التركماني كان يتلمّذ برهة من الزمان عند بحر العلوم في النجف الأشرف واتفق أنّه ناظر واحدا من طلبة العلم

__________________

(١) الكهف : ٢٠.

١٧٢

في كون الصلاة على النبيّ أفضل أم البراءة من ظالمي آل محمّد ، فقال في جوابه : بل البراءة من ظالمي آل محمّد أفضل ، فجعل يقيم له البراهين والأدلّة ، والعالم التركماني يردّ عليه بما عنده من الأدلّة ، فكلّ واحد منهما يريد إفحام صاحبه ، فحكّما السيّد بحر العلوم في ذلك فأتياه إلى باب داره قدس‌سره فسألاه ما جرى بينهما ، فتغيّر بحر العلوم ونظر إليهما شزرا وتكلّم نحو كلام رجل مغضب وقال : من يجوّز لكم السبّ والبراءة؟ قالها ثلاثا ودخل الدار وسدّ الباب وطردهما.

أقول : ولعمري هذه كرامة باهرة.

وحدّث العلّامة النوري في مستدرك الوسائل (١) قال : حدّثني العالم الصالح الثقة السيّد محمّد بن العالم السيّد هاشم الهندي المجاور في المشهد الغروي ، عن العالم الصفي الشيخ باقر بن الشيخ هادي ، عن العالم التقي الورع الشيخ تقي ملّا كتاب تلميذ السيّد بحر العلوم ، قال : سافر السيّد إلى كربلا ومعه جماعة يتبعونه غالبا في أسفاره منهم الشيخ تقي حاكي القصّة ، قال : وكانت القافلة التي فيها السيّد تمشي في ناحية ورجل آخر يمشي لنفسه ، وكلّما نزل السيّد في موضع نزل ذلك الرجل في موضع منفردا ، وكلّما رحل السيّد رحل ذلك الرجل.

فالتفت السيّد إليه ونحن سائرون ، فأومأ إليه ، فقدم الرجل وقبّل يدي السيّد ، وجعل السيّد يسأله عن رجال وصبية ونساء يسمّيهم كلّهم بأسمائهم من أهل بيت ذلك الرجل ومن جيرانه حتّى سأله عمّن يقرب من أربعين نفسا والرجل يجيبه عنهم مستبشرا وهو غريب ليس من شكل أهل العراق ولا من لهجتهم في اللسان ، فسألنا السيّد ، فقال : هو من أهل اليمن ، فقلنا : متى سكنت في اليمن حتّى عرفت هؤلاء؟ فأطرق رأسه فقال : سبحان الله! لو سألتني عن الأرض شبرا شبرا لأخبرتك بها.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٣ : ٣٨٤.

١٧٣

وقال أيضا : وحدّثني العالم الصالح الثقة السيّد محمّد بن العالم السيّد هاشم الهندي ، عن العبد الصالح الزاهد الورع العابد الحاج محمّد الخزعلي وكان ممّن أدرك السيّد رحمه‌الله قال : كان العالم الجليل السيّد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة يتعشّى ليلة فإذا بطارق طرق الباب عليه ، فعرف أنّه خادم السيّد بحر العلوم ، فقام إلى الباب عجلا ، فقال له : إنّ السيّد قد وضع بين يديه عشاؤه وهو ينتظرك ، فذهب إليه عجلا ، فلمّا وصل إليه قال له بحر العلوم : أما تخاف الله؟ أما تراقبه؟ أما تستحي منه؟

فقال : ما الذي حدث؟ فقال : إنّ رجلا من إخوانك كان يأخذ من البقّال قرضا لعياله كلّ يوم وليلة قسبا (تمر يابس) ليس يجد غير ذلك ، وهم سبعة أيّام لم يذوقوا الحنطة والأرز ، ولا أكلوا غير القسب ، وفي هذا اليوم ذهب ليأخذ قسبا لعشائهم فقال له البقّال : بلغ دينك كذا وكذا ، فاستحى من البقّال ولم يأخذ منه شيئا وقد بات هو وعياله بغير عشاء ، وأنت تتنعّم وتأكل ، وهو ممّن يصل إلى دارك وتعرفه وهو فلان.

فقال : والله مالي علم بحاله.

فقال السيّد : لو علمت بحاله وتعشّيت ولم تلتفت إليه لكنت يهوديّا أو كافرا ، وإنّما أغضبني عليك عدم تجسّسك عن إخوانك وعدم علمك بأحوالهم ، فخذ هذه الصينيّة يحملها لك خادمي يسلّمها إليك عند باب داره وقل له : أحببت أن أتعشّى معك الليلة ، وضع هذه الصرّة تحت فراشه أو بوريائه أو حصيره وأبق له الصينيّة فلا ترجعها ، وكانت كبيرة فيها عشاء وعليها من اللحم والمطبوخ النفيس ما هو مأكل أهل التنعّم والرفاهيّة. وقال السيّد : اعلم أنّي لا أتعشّى حتّى ترجع إليّ فتخبرني إنّه قد تعشّى وشبع.

فذهب السيّد جواد ومعه الخادم حتّى وصلوا إلى دار المؤمن ، فأخذ من يد

١٧٤

الخادم ما حمله ورجع الخادم ، وطرق الباب فخرج الرجل ، فقال له السيّد : أحببت أن أتعشّى معك الليلة ، فلمّا أرادا الأكل قال له المؤمن : ليس هذا زادك لأنّه مطبوخ نفيس لا يصلحه العرب ولا نأكله حتّى تخبرني بأمره ، فأصرّ عليه السيّد جواد بالأكل ، وأصرّ هو بالامتناع ، فذكر له القصّة ، فقال : والله ما اطّلع عليه أحد من جيرتنا فضلا عمّن بعد ، وإنّ هذا السيّد لشيء عجيب.

قال : وحدّث بهذه القضيّة ثقة أخرى غيره وزاد فيه اسم الرجل وهو الشيخ محمّد نجم العاملي ، وإنّ ما في الصرّة كان ستّين شوشيّا ، كلّ شوشيّ يزيد على قرانين بقليل.

تشرّف بحر العلوم بلقاء الحجّة عليه‌السلام في السرداب :

قال العلّامة المحدّث الميرزا محمّد حسين النوري في دار السلام : حدّثني السيّد السند والعالم المعتمد المحقّق الخبير والمضطلع البصير السيّد علي حفيد بحر العلوم أعلى الله مقامه وكان عالما مبرّزا له شرح النافع حسن نافع جدّا وغيره ، عن الورع التقي النقي الوفي الصفي السيّد مرتضى صهر السيّد بحر العلوم على بنت أخته وكان مصاحبا له في السفر والحضر مواظبا لخدماته في السرّ والعلانية ، قال : كنت معه في سرّ من راى في بعض أسفار زيارته ، وكان السيّد ينام في حجرة وحده ، وكان لي حجرة بجنب حجرته ، وكنت في نهايه المواظبة في أوقات خدماته ، بالليل والنهار ، وكان يجتمع إليه الناس في أوّل الليل إلى أن يذهب شطر منه في أكثر الليالي.

فاتفق أنّه في بعض الليالي قعد على عادته والناس يجتمعون فرأيته كأنّه يكره الاجتماع ويحبّ الخلوة ويتكلّم مع كلّ واحد بكلام فيه إشارة إلى تعجيله بالخروج من عنده ، فتفرّق الناس ولم يبق غيري ، فأمرني بالخروج ، فخرجت إلى حجرتي متفكّرا في حالته في تلك الليلة ، فمنعني الرقاد ، فصبرت زمانا فخرجت متخفّيا

١٧٥

لأتفقّد حاله ، فرأيت باب الحجرة مغلقا ، فنظرت من شقّ الباب وإذا السراج بحاله وليس فيه أحد ، فدخلت الحجرة فعرفت من وضعها أنّه ما نام في تلك الليلة.

فخرجت حافيا متخفّيا أطلب خبره وأقفوا أثره ، فدخلت الصحن الشريف فرأيت أبواب قبّة العسكريّين عليهما‌السلام مغلقة ، فتفقّدت أطراف خارجها فلم أجد منه أثرا ، فدخلت الصحن الأخير الذي فيه السرداب فرأيته مفتّح الأبواب ، فنزلت من الدرج حافيا متخفّيا متأنّيا بحيث لا يسمع منّي حسّ ولا حركة ، فسمعت همهمة من صفة السرداب كأنّ أحدا يتكلّم مع الآخر ، ولم أميّز الكلمات إلى أن بقيت مقدار أن سمعت أربع كلمات ، وكان دبيبي كدبيب النملة على الصخرة ، فإذا بالسيّد قد نادى من مكانه : ما تصنع هناك يا سيّد مرتضى؟ ولم خرجت من المنزل؟ فبقيت متحيّرا ساكنا كالخشب المسندة ، فعزمت على الرجوع قبل الجواب ، ثمّ قلت في نفسي : كيف يخفى حالك على من عرفك من غير طريق الحواس؟ فأجبته معتذرا نادما ، ونزلت في خلال الاعتذار إلى حيث شاهدت الصفة فرأيته وحده واقفا تجاه القبلة ليس لغيره هناك أثر ، فعرفت أنّه يناجي الغائب عن الأبصار ، سلام الله عليه ، فرجعت حريّا لكلّ ملامة ، غريقا في بحار الندامة.

احتجاجه مع اليهود في ذي الكفل (١) :

رأيت بخطّ العلّامة الحجّة الميرزا محمّد الطهراني في الجزء الرابع من مستدركه على البحار ما هذا لفظه :

__________________

(١) جمع هذه الرسالة بعض تلامذة السيّد بحر العلوم رحمه‌الله العلّامة السيّد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة ، كان معه في ذي الكفل حين وقوع الاحتجاج ، ورأيت عند حفيده العلّامة السيّد محمّد صادق آل بحر العلوم نسخة من هذه الرسالة بخطّه أدرجها في ضمن مجموعته (السلاسل الذهبيّة) وكانت مصحّحة بقلم العلّامة الحجّة الشيخ محمّد جواد البلاغي رحمه‌الله. (المؤلّف)

١٧٦

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ربّ العالمين ، الذي بعث محمّدا سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما لرسله أجمعين ، بأوضح الدلائل وأقوى البراهين ، وأيّده بابن عمّه عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وجعل في ذرّيّته الخلافة إلى يوم الدين ، وصلّى الله على محمّد وأهل بيته الطيّبين الطاهرين.

أمّا بعد ؛ فممّا اتفق في أيّام علّامة العلماء العاملين وفهّامة الفضلاء المتبحّرين خاتمة المجتهدين وفذلكة المؤيّدين المسدّدين ، أعلم العلماء من أرباب المعقول والمنقول ، وأفضل الفضلاء من أهل الفروع والأصول ، حامي الإسلام ، كهف المسلمين ، مؤيّد الإيمان وظهر المؤمنين ، شمس الملّة والدين ، مبيد بدع المبتدعين الضالّين ، العالم الربّاني ، والهيكل الصمداني ، فريد الأوان ، وحيد الزمان ، نادرة الدوران ، في العلم والعمل وحلّ المشكل وكشف كلّ معضل ، من لا تعدّ فضائله على تمادي الأيّام والدهور ، ولا تحصى مزاياه على تتابع الأزمنة والشهور ، السيّد السند والركن المعتمد ، الحبيب النسيب ، السيّد محمّد المهدي نجل السيّد المرتضى بن السيّد محمّد الحسني الحسيني الطباطبائي.

نسب كأنّ عليه من شمس الضحى نورا

ومن فلق الصباح عمودا

متّع الله تعالى بوجوده الوجود ، ورفع الله بدوام سعوده ألوية السعود ، ولا زال كاسمه مهديّا ، وأبقاه الله تعالى حتّى يلقى له من الأئمّة سميّا ، وذلك حين سفره من المشهد الغروي إلى زيارة أبي عبد الله على آبائه وأبنائه سلام الله ، في شهر ذي الحجّة الحرام من السنة الحادية عشرة بعد المائتين والألف من الهجرة النبويّة على مشرّفها ألف ألف صلاة وألف ألف تحيّة.

وكان معه يومئذ جماعة من تلامذته من الطلبة المحصّلين ، فعبر بهم الطريق على محمل ذي الكفل ، وكان يومئذ به جماعة من اليهود زهاء ثلاثة آلاف نفس ، فبلغهم مروره أيّده الله تعالى عليهم ، وقد سمعوا ما سمعوا من شايع فضله ، وبلغهم ما بلغهم

١٧٧

من ساطع شرفه ونبله ، وفيهم من يدّعي العرفان ، ويظنّ أنّه على بيّنه ممّا هو عليه وبرهان ، فلحقه جماعة من عرفائهم للسير مجدّين ، ولأثره للمناظرة تابعين ، حتّى وصل إلى الرباط الذي أمر سلّمه الله ببنائه للزائرين والمتردّدين ، فوردوا ثمّة ساحة جلاله ، وجلسوا متأدّبين بين يديه وعن يمينه وعن شماله ، وكانوا كالخفافيش في الشمس إذ لا قرار لهم إلّا في ظلمة الدمس ، فرحّب بهم كما هو من عاداته وأخلاقه المرضيّة المستقيمة ، وقال لهم قولا ليّنا عسى أن يتذكّر أحد منهم أو يخشى ، وكان فيهم رجلان يدّعيان المعرفة : أحدهما داود والآخر عزير.

فابتدأ داود بالكلام وقال : نحن ومعاشر الإسلام من دون سائر الملل موحّدون ، وعن الشرك مبرّؤون ، وباقي الفرق كالمجوس والنصارى بربّهم مشركون ، وللأصنام والأوثان عابدون ، ولم يبق على التوحيد سوى هاتين الطائفتين.

فقال له السيّد الأيّد أدامه الله تعالى : كيف ذلك وقد اتخذ اليهود العجل وعبدوه ولم يبرحوا عليه عاكفين إلى أن رجع موسى من مقيات ربّه ، وأمرهم في ذلك أشهر من أن يذكر وأعرف من أن ينكر ، ثمّ إنّهم عبدوا الأصنام في زمن (يربعام بن نباط) وهو أحد غلمان سليمان بن داود ، ومن قصّته أنّ سليمان بن داود وقد كان تفرّس منه طلب الملك ، وتوسّم فيه علامات الرياسة والسلطنة ، وقد كان (أخبالشيلوني) قد أخبر يربعام بذلك وشقّ عليه ثوبا جديدا كان عليه وقطعه اثنتي عشرة قطعة وأعطاه منها عشر قطع وقال له : إنّ لك بعدد هذه القطع من بني إسرائيل عشرة أسباط تملّكهم ولا يبقى منها بعد سليمان مع ابنه (رحبعام) غير سبطين وهما يهوذا وبنيامين ، فهمّ سليمان بقتل يربعام فهرب يربعام بن نباط من سليمان واتصل ب (شيشقاق) عزيز مصر وبقي عنده حتّى توفّي سليمان عليه‌السلام فرجع إلى الشام وأجمع رأيه ورأي بني إسرائيل جميعا على نصب رحبعام بن سليمان ملكا فملّكوه عليهم ، واستعطفوه في وضع الآصار والمثاق التي كانت عليهم في أيّام سليمان عليه‌السلام فقال لهم

١٧٨

رحبعام : إنّ خنصرني أمتن من خنصر أبي ، لئن كان أبي وضع عليكم أمورا صعبة وحمّلكم التكاليف الشاقّة فأنا أحمّلكم وأضع عليكم ما هو أشقّ وأصعب.

فتفرّقوا عنه ونصبوا يربعام بن نباط وملّكوه عليهم ، فاجتمعت عليه عشرة أسباط من بني إسرائيل ، وانفرد رحبعام بن سليمان عليهما‌السلام بسبطين منهم في بيت المقدس ، ولمّا كان بنو إسرائيل يحجّون في كلّ سنة إلى بيت المقدس خاف يربعام على ملكه إن أذن لهم في الحجّ إليه من رحبعام وأتباعه أن يصرفوهم عنه أو أن يميلوا إليه ، فصنع لهم عجلين من ذهب ووضعهما في «دان» وبيت إيل ، وقال : هو ذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر وأمر الناس بعبادتهما والحجّ إليهما ، فأطاعوه وصاروا بذلك مشركين شركا آخر بعد عبادة العجل ، فكيف يا أخا اليهود تقول إنّ اليهود لم يشركوا بالله وما اتخذوا إلها غير الله تعالى وإنّهم كانا موحّدين وعن غير الله معرضين؟!

فأقرّوا حينئذ بما ذكر من عبادتهم الأصنام بنحو ما ذكر لهم وعجبوا من اطّلاعه على ما لم يطّلع عليه أحد من أمرهم.

ثمّ قال أيّده الله : كيف جاز لسليمان أن يهمّ بقتل يربعام قبل جنايته وليس ذلك جائزا في شريعة موسى عليه‌السلام ولا في شريعة غيره من الأنبياء؟ وكان سليمان عليه‌السلام على شريعة موسى عليه‌السلام ولو جاز له ما لم يكن جائزا في شريعة موسى عليه‌السلام كان النسخ جائزا وأنتم تنكرون النسخ؟

فسكتوا ، وقال كبيرهم داود : كلامكم يا سيّدنا على العين وفوق الرأس!

فقال لهم أيّده الله تعالى : أخبروني يا معاشر اليهود ، هل كان بينكم خلاف أو في كتبكم تباين واختلاف؟

فقالوا : لا.

فقال لهم : كيف ذلك وقد افترقتم على ثلاث فرق تشعب منها إحدى وسبعون

١٧٩

فرقة ، وهذه السامرة طائفة عظيمة من اليهود تخالف اليهود في أشياء كثيرة ، والتوراة التي في أيديهم مغايرة لما في أيدي باقي اليهود؟

فقالوا : لا ندري لم وقع هذا الاختلاف ولكن نعلم بمخالفة كتاب السامرة لكتابنا ، وكذلك مخالفتهم لنا في أمور كثيرة.

فقال لهم أيّده الله : فكيف تنكرون الاختلاف وتدّعون اتفاقكم على شيء واحد؟ ثمّ قال لهم سلّمه الله تعالى : هل زيد في التوراة التي أنزل الله تعالى على موسى عليه‌السلام شيء أم نقص منه شيء؟

فقالا : هي على حالها إلى الآن لا زيادة فيها ولا نقصان لها.

فقال لهم أيّده الله تعالى : كيف يكون ذلك وفي هذه التوراة التي في أيديكم أشياء منكرة ظاهرة القبح والشناعة ، منها ما وقع في قصّة العجل من نسبة اتخاذه إلها لبني إسرائيل إلى هارون النبيّ عليه‌السلام وهذه ترجمة التوراة في فصل نزول الألواح واتخاذ العجل وهو الفصل العشرون من السفر الثاني : ولمّا رأى القوم أنّ موسى قد أبطأ عن النزول عن الجبل تحرّفوا إلى هارون وقالوا : قم فاصنع لنا آلهة يسيرون قدّامنا ، فإنّ ذلك الرجل موسى الذي أصعدنا من بلد مصر لا نعلم ما كان منه. فقال لهم هارون : فكّوا شنوف الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وآتوني بها ، ففعل ذلك جميع القوم ونزعوا الأقراط التي كانت في آذانهم وأتوا بها إلى هارون ، فأخذها منهم وصوّرها بقالب وجعلها عجلا مسبوكا فاتخذوه آلها وعبدوه ، فلمّا جاء موسى من ميقات ربّه ورأى ما صنع هارون وقومه أنكر ذلك ووبّخ هارون ، فاعتذر إليه فقال : لا تلمني على ذلك فما فعلته إلّا خشية تفرّق بني إسرائيل ، فهذا دليل قاطع وبرهان ساطع على أنّ التوراة التي عندكم محرّفة وإنّ فيها زيادة على التوراة التي أنزلت على موسى عليه‌السلام ؛ لأنّ مثل هذا العمل لا يصدر من جاهل غبيّ فكيف يصدر من مثل هارون النبيّ! وكيف تأتي له ذلك الاعتذار

١٨٠