من هدى القرآن - ج ١٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-21-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٠

السماء اخشعي ، ويا أرض قرّي ، ويا أيّها الإنسان استعد لتلقّي رسالة الله إليك والتسليم للرسول الكريم.

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى)

أولم يأتك نبأ حراء حيث هبط الروح جبرئيل على محمّد الصادق الأمين فقال له اقرأ .. وتواصلت آيات الله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) .. ، هكذا أقرأ الله نبيّه قراءة واضحة مبيّنة ، فلم تكن وساوس في صدره ، ولا أفكار بقلبه ، ولم تكن حقائق مجرّدة يعرف بعضها ويجهل الكثير ، كلّا .. إنّها كلمات واضحة تلقّاها الرسول ، ونطق بها بوضوح ، وهذا هو معنى إقراء الله له جملة بجملة وكلمة بكلمة وحرفا بحرف.

وحين يكون المقرئ هو الله والمتلقّي من اختاره بعلم لحمل رسالته المهيمنة على كلّ الرسالات فإنّ الرسول لا ينسى بإذن الله ، ليس لانّه يخرج من حدّ البشر الذي يجوز له النسيان ، بل لانّ ربّه أبى أن ينسى ، فالضمانة هنا من عند الله ، ومن كان الله ضامنا له كيف ينسى؟! إنّها حقيقة العصمة كما يفهمها أهل البصائر ، أن يقي الله عبدا من عوامل الانحراف ومزالق الضعف ومراكز الهوى والشهوات.

(٧) ولكي لا يزعم البسطاء من الناس أنّ الرسول يصبح بالرسالة إلها أو نصف إله لم يدع كتاب الله هذه التذكرة .. في أغلب ما حدّثنا عن رسله الكرام إنّه إمّا بيّن نقاط ضعفهم التي يجبرها الله بعصمته أو حالتهم البشرية أو أنّ لله المشيئة في أمرهم حتى عند وعده إيّاهم ، فلا يقدر أحد أن يحتّم عليهم أمرا ، بلى. إنّ الله صادق الوعد ولن يخلف وعده أبدا ، ولكن فرق واسع بين أن يكون كذلك وأن يحتّم عليه أحد من خارج إطار فضله ورحمته ومشيئته شيئا.

هكذا نستوحي من الاية الكريمة هذه التذكرة.

٤١

(إِلَّا ما شاءَ اللهُ)

كما قال ربنا سبحانه في قصة شعيب : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ* قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (١).

فهل يشاء الله أن يعود المؤمنون إلى ملّة الكفر؟ وكما قال ربنا سبحانه في أصحاب الجنة : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (٢).

ويتساءل القارئ : إذا ما هي علاقة علم الله بالسرّ والعلن بهذا الاستثناء؟ حيث يقول ربنا :

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى)

والجواب : إنّنا نجد مثل هذه العلاقة في آية الأعراف في قصة شعيب إذ أنّه قال : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) ، ذلك أنّ من بيده المشيئة والقدرة على الاستثناء هو العليم الذي لا ينسى ، وهو الذي يحفظ النبي من النسيان ، حسب حكمته البالغة.

ولعلّ هذه الكلمة تتصل بقوله «سنقرؤك» فهو يقرئ ما يشاء لانّه عالم الجهر وما يخفى.

__________________

(١) الأعراف / ٨٨ ـ ٨٩.

(٢) هود / ١٠٨.

٤٢

وقد فصّل المفسّرون القول في هذه الكلمة ، وذهب بعضهم مذاهب بعيدة حيث أنّه قال : إنّ المراد بما شاء الله نسيانه هو ما نسخ من الكتاب نصّا. ولكنّ الاية لا تدلّ عليه ، ولم يثبت تاريخيّا أنّ في القرآن آية منسوخة (بهذا المعنى من النسخ) ، بل وسياق آيات القرآن وهذه الاية بالذات ينفي ذلك تماما. كيف؟

أولا : إنّ الله سبحانه يصف كتابه بأنّه كتاب عظيم ، وأنّه هدى للعالمين ، وأنّه نور مبين ، وأنّه أخر رسالة إلهية إلى خلقه ، فكيف يسمح ربنا لمثل هذا الكتاب أن يتعرّض للدس والتزوير والتحريف والنسيان؟

ثانيا : إنّ النبي آمن بهذا الكتاب وآمن به المؤمنون وآمنوا جميعا بهذه الصفات التي نجدها فيه فكيف تركوه عرضة للنسيان والتحريف ، علما بأنّهم أصبحوا بنّاء حضارة رائدة ، فلم يتعرض المسلمون ـ كمجموع ـ لحرب إبادة حتى يمكن الافتراض أنّ ظروف العمل السري أنستهم بعض ما في كتابهم.

ثالثا : شاعت القراءة والكتابة في عهد الإسلام الاول ، وقد اهتم المسلمون بكلّ تفاصيل تاريخهم ، وحتى ببعض ما يهمله عادة الكتّاب والمؤرخون ، وقد رغّب القرآن في ذلك ، وأقسم بالقلم وبما يسطرون ، فكيف ضاعت عليهم كلمات ربهم مع ذلك الاهتمام الذي أولوه لها؟

رابعا : هنا القرآن يقول للرسول ـ صلّى الله عليه واله ـ «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» فأيّة حكمة كانت وراء الأقراء وعدم النسيان؟ أليست بقاء رسالة الله التي هي خاتمة رسالاته للعالمين؟ فكيف يمكننا أن نفترض تعرّض هذه الرسالة للتحريف؟

إنني أعتقد ـ انطلاقا من هذه الشواهد وغيرها ـ أنّ القرآن الذي بلغنا هو

٤٣

الذي أنزل من عند الله وبهذا الترتيب ، وأنّ الذي جمعه هو شخص الرسول ـ صلّى الله عليه واله ـ عبر الذي كان يأمرهم بأن يضعوا الاية في موقعها من السورة حتى ولو نزلت آية في أول البعثة في مكة والاخرى في المدينة وفي أخر أيّام حياته.

لانّني لا أتصور كيف يمكن للرسول أن يترك كتاب ربه العظيم بلا ترتيب وقد أمر بإبلاغه للعالمين؟!

(٨) كما قدّر الله لكلّ شيء تقديرا وهداه إلى تقديره كذلك قدّر للإنسان تقديرا ، وجعل لحياته سننا ومناهج ثم هداه إليهما ولكن بصورة مختلفة عن سائر الأشياء والأحياء .. فلقد زوّده بالعقل واستثار عقله بالوحي ، وحمّله الارادة والمسؤولية ، حتى يكتشف ببصيرة عقله وهدى الوحي أيّ السبل تؤدّي به إلى أهدافه ، فإن سار على سبل السلام تيسّرت أهدافه ، وإذا تنكّب عنها وقع في حرج عظيم. أرأيت الذي يترك الطريق المعبّد إلى المتاهات الوعرة ، إنّه لا يبلغ أهدافه ، ولو بلغ شيئا منها فإنّما بجهد مضاعف.

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى)

لم يخلق الله الإنسان ليعذّبه ، أو ليلهو ويلعب بخلقه سبحانه ، ولكنّه خلقه ليرحمه ، وليتفضّل عليه بمنّه وكرامته ، كما لم يخلق حيّا ليعذّبه أو يلهو به ، وأمّا الذي يقع على البشر من عذاب ومن مشاكل فبما كسبت أيديهم. هكذا فسّروا اليسرى بالشريعة السمحاء التي وفّق الله النبيّ وأمّته إليها لكي يعيشوا بأمان وسكينة.

إنّها الشريعة التي تبعث رؤي وبصائر الإنسان من وجدانه ، وتتناسب مع فطرته وحاجاته ، وتنسجم مع الطبيعة من حوله.

٤٤

إنّ دين الله يختار بين مناهج المعرفة ذلك المنهج القائم على أساس استثارة الفطرة ومخاطبة الوجدان دون لفّ ودوران ، ويرغّب الإنسان للنظر بنفسه في الأشياء ، وملامسة الحقائق بالسير في الأرض والتفكر في آثار الغابرين ومراقبة ظواهر الطبيعة.

ويتبع هذا المنهج في سائر ما يحتاج إليه الإنسان من معارف ، في عقائده وأحكامه ، في معاملته مع الآخرين ، لانّ الاطمئنان والثقة والعرف وشهادة العدول ورأي الخبراء هي موازين التعامل بين الناس ، وهي إذا قيست إلى غيرها من المناهج المعقّدة في سائر الأديان سهلة وميسّرة.

كما أنّ أحكام الدين في المواقيت والمكيال والميزان تتصل بالحالة الطبيعية للإنسان. أرأيت كيف أوجب الصلاة قبل طلوع الشمس وبعد الغروب وعند دلوكها ، وأوجب الصيام مع الهلال الذي يشهده الجميع؟

ولم يهمل أيّ حاجة من حوائج البشر ، فلا حرّم الزواج ، ولا نهى عن زينة الحياة الدنيا ، ولا ضيّع العواطف ، ولا أهمل تطلّعات الروح .. وأيّ شريعة أيسر من التي تتناسب وحاجات البشر؟

ولعلّ هذا هو سر انتشار الإسلام عبر القرون بصورة مطّردة ، ولا يزال الدين الاسلامي هو الاول في نسبة زيادة عدد المنتمين إليه كل عام.

وقد وفّق الله رسوله ـ صلّى الله عليه واله ـ لتقبّل الوحي ، ويسّره له ، ويسّر معارف القرآن لمن أراد بتوفيق منه ، ولو لا أنّ الله يسّر ذلك لما استطاع العقل معرفة كلمة واحدة من كلمات الرب.

(٩) لانّ الله يسّر شريعته للناس ، ويسّر الحياة لهم بها ، أمر بالدعوة إليها عبر

٤٥

المنهاج الميسّر المتمثل في التذكرة. أليست التذكرة تستهدف إثارة العقل وإيقاظ الضمير ليبصر الإنسان الحقيقة بنفسه ومن دون حجاب أو وسيط؟

[فذكّر]

ولكن هل التذكرة تنفع الناس جميعا شاؤوا الانتفاع بها أم أبوا؟ كلّا .. إنّها لن تنفع من لا يخشى ، لأنّها إثارة العقل من داخل الإنسان ، وشرط نفعها استعداد الإنسان للتأثّر بها ، أمّا القلب الجامد الجاحد المتصلّب فإنّه أشد من الصم الصياخيد ، وهكذا قال ربنا :

(إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى)

يعني أنّ تذكرتك نافعة مع وجود الشروط الموضوعية لها ، أمّا بدونها فهي لا تنفع ، لا لنقص فيها وإنّما للصدّ من قبلهم ، وهذا لا يعني الكف عن التذكرة إن لم تنفع إذ لا يفهم نفعها أو عدم نفعها إلّا بعدها ، وهذا مثل أن نقول : طلعت الشمس إن رأيتها ، هذا واضح إن فكّرت.

وقد اختلف المفسرون في معنى الاية ، قال الجرجاني : التذكير واجب وإن لم ينفع ، والمعنى : فذكّر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع فحذف ، كما قال : «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ..» ، وقال ابن عباس : تنفع أوليائي ولا تنفع أعدائي ، وقال البعض : «إن» هنا بمعنى إذ كقوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

والأقرب : أنّ كلمة «إن» هنا الشرطية في الظاهر ، ولكنّ المراد منها هنا ليس ظاهرها ، كما أنّ أداة الاستفهام تطلق ويراد بها التقرير أو الإنكار أو ما أشبه ، ولأنّ الذكرى تسبق معرفة نفعها وعدم نفعها فإنّ الشرط إنّما هو لبيان فائدة التذكرة لا أصلها ، ويستفاد ذلك من السياق الآتي.

٤٦

(١٠) التذكرة للجميع. إنّها موعظة للمؤمن ، وحجة بالغة على الكافر ، والدليل أنّ المؤمن يتذكّر بها ، بينما الأشقى يتجنبها.

(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى)

الخشية ميراث المعرفة ، فمن لم يفكّر في المستقبل ولم يعش وعيه لا يستعدّ له ، فلا يبحث عمّا ينفعه فيه ، ولا يتحذّر ما يضره فيه.

وهكذا جعلت الخشية التي هي فعل الإنسان نفسه شرطا لنفع الذكرى. لنعرف أنّ علينا ألّا ننتظر الهدى من دون سعي منّا إليه ، بلى. لو تقدّمت إلى الله شبرا تلقّاك رب الرحمة بفضله مترا وأكثر.

(١١) أمّا الكافر الذي بلغ من الشقوة درجة سدّت أبواب المعرفة أمامه فإنّه يتجنبّ التذكرة.

(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى)

فهو يهرب منها كما لو أنّها تضره ، ويضع أمامه حواجز لكي لا تصل إليه ، ويلفّق حول صاحبها التهم عساه يقنع نفسه بأنّه على حق ، وهو الأشقى لأنّه لا يرجى له علاج ، فقد يكون الأقل منه شقوة ينتفع بالذكرى في بعض ساعات حياته.

(١٢) ومثل هذا الإنسان لا يصلح إلّا للنار ، لأنّه أعدم كلّ عناصر الخير في ذاته.

(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى)

ليست كهذه النار التي نراها في الدنيا. إنّها أشد وأبقى ، وقد بيّن الحديث

٤٧

المأثور عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ مدى الفرق بينهما بالقول : «إنّ ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنم ، وقد أطفئت سبعين مرّة بالماء ثم التهبت ، ولو لا ذلك لما استطاع آدمي أن يطيقها» (١).

(١٣) والسؤال : كيف يتحمّل جسم الإنسان هذه النار العظيمة فلا يحترق ويصبح رمادا أو غازا كما أصبحت الأشياء التي احترقت بنار القنبلة الذرية ، والتي لا ريب أنّها أقل بكثير من نيران جهنم؟

بلى. ربنا يعطي الجسم المزيد من الإمكانات تمهيدا لتألّم صاحبه. أو لم يقل ربنا سبحانه : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ)؟

وهكذا يبقى الأشقى في النار بين الموت والحياة ، فكلّ أسباب الموت موجودة ، وكلّ عوامل الحياة مفقودة ، ولكنّه لا يموت بقدرة الله.

(ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى)

ومثال ذلك في الدنيا أنّ بعضهم يبتلى بعذاب الدنيا من فقر ومرض وسجن وقلق و.. و.. ولكنّه لا يموت فيستريح ، فيقول مع الشاعر :

ألا ما لنفس لا يموت فينقضي

عناها ولا تحيا حياة لها طعم؟

(١٤) تلك كانت عاقبة الذي يتجنّب التذكرة ، أمّا الذي تذكّر فإنّه يتدرج في معارج السمو حتى يبلغ الذروة ، كيف؟ إنّه بعد التذكر يزكّي نفسه من رواسب الشرك بالله ، فلا يقدّس أحدا سواه ، بل لا يخاف أحدا حقّ الخوف ولا يرجوه حقّ الرجاء ما سوى ربه الأعلى ، ويسعى لتطهير قلبه من حب الدنيا ، والتكاثر منها ، والتنافس على حطامها ، ويتحرّر من الغلّ تجاه إخوانه ومن الحسد

__________________

(١) تفسير نمونه / ج ٢٦ ـ ص ٤٠٠ نقلا عن موسوعة البحار ج ٨ ـ ص ٢٨٨.

٤٨

والحقد والعصبية ، وهكذا يبلغ الفلاح الذي يعني وصول الإنسان الى هدفه الأسمى.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)

إنّه يبحث عن الطهارة ، طهارة قلبه من رواسب الشرك وأخلاقه الرذيلة ، وتطهير ماله من الحرام ، وحقوق الفقراء (بما يسمّى زكاة بوجه عام) ، وتطهير جسده من النجاسات.

ومن هنا جاء في الحديث المأثور عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال (في تفسير الاية): «أخرج زكاة الفطر» (١).

وبهذا التفسير لكلمة التزكي نجمع بين الآراء المختلفة في تفسيرها من زكاة القلب من الشرك إلى زكاة المال من حقّ الآخرين.

(١٥) وبعد أن يتزكّى القلب يتلقّى نور ربه ، فيذكره بانشراح ، ويصلّي له بخضوع.

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)

وهنا أيضا ذكر الاسم وأريد المسمى ، أوليست الصلاة منه وليست لاسمه سبحانه.

والقلب من دون تزكية لا يتلّقى نور الذكر ، فإنّ كلّ عقدة نفسية أو ضلالة شركية أو انحراف خلقي يشكّل حجابا بين العبد وربه ، فأنّى لمن يشرك بالله أن يعرفه ، وأنّى لمن غمر قلبه بحبّ الدنيا وزينتها أن يتفرّغ لرؤية جمال الخالق ونعيمه

__________________

(١) القرطبي / ج ٢٠ ـ ص ٢١.

٤٩

في الاخرة؟! أو لم يقولوا : حبّ الشيء يعمي ويصم؟

والصلاة هنا كلّ حالة خشوع لله ولرسوله ولمن أمر الرسول. إنّها التسليم التام لله ، ولذلك جاء في بعض النصوص تأويلها بصلاة العيد ، وفي بعضها تأويلها بالصلاة على النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بلى. إنّهما معا مظهران لحالة واحدة ، فمن سلّم لله سلّم لرسوله ، ومن صلّى صلاة العيد فإنّما يصليها خلف إمام نصبه الله ، وأمر باتباعه الرسول. أليس كذلك؟

هكذا سئل الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ عن قول الله عز وجل : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال : «من أخرج الفطرة» ، قيل له : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)؟ قال : «خرج إلى الجبّانة فصلّى» (١).

وجاء في حديث مأثور عن الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ أنّه قال (في تفسير الاية): «كلّما ذكر اسم ربه صلّى على محمّد وآله» (٢).

(١٦) ما الذي يمنع الإنسان من تواصل ذكر اسم الله والصلاة له والدعاء إليه؟ أليس الله أقرب شيء إليه؟ أو ليس أرحم الراحمين؟ أو لم يدعه إلى نفسه ورغّبه في نعيمه؟ بلى. ولكنّ حبّ الدنيا رأس كل خطيئة ، والدنيا قد أحضرت له بكلّ زينتها وشهواتها وغرورها وأمانيها ، بينما الاخرة قد غيّبت عنه وادّارك علمه فيها فنسيها وأقبل على ضرتها.

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا)

فهذه طبيعة بني آدم جميعا إلّا من عصمه الله ، وأقلع نفسه من جاذبية الدنيا ،

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٥٥٦ (والجبّانة : الصحراء لأنّ صلاة العيد تصلى فيها).

(٢) المصدر.

٥٠

وحلّق في سماء المعرفة .. وإنّما ذكّرنا القرآن بهذه الحقيقة لنعرف أين مكمن الخطر في أمرنا ، وكيف يمكننا تجنّبه؟

جاء في حديث جامع مأثور عن الإمام السجّاد ـ عليه السلام ـ أنّه قال بعد أن سئل : أيّ الأعمال أفضل عند الله؟

«ما من عمل بعد معرفة الله عزّ وجلّ ومعرفة رسول الله ـ صلّى الله عليه واله ـ أفضل من بغض الدنيا ، فإنّ لذلك شعبا كثيرة وللمعاصي شعب ، فأوّل ما عصي الله به الكبر معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين ، ثم الحرص وهي معصية آدم وحوّا ـ عليهما السلام ـ حين قال الله عزّ وجلّ لهما : (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) فأخذا ما لا حاجة بهما إليه ، فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة. وذلك أنّ أكثر ما يطلب ابن آدم مالا حاجة به إليه. ثم الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله ، فتشعّب من ذلك حبّ النساء وحبّ الدنيا وحبّ الرياسة وحبّ الراحة وحبّ الكلام وحبّ العلو والثروة ، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهنّ في حبّ الدنيا ، فقالت الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك : حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة ، والدنيا دنيائان : دنيا بلاغ ، ودنيا ملعونة وأمل لا يدرك ورجاء لا ينال» (١).

(١٧) بلى. إنّما نتسلّى عن الدنيا وزبرجها بذكر الاخرة ونعيمها ، فإذا دعتك إلى الجنس الحرام شهوة وشبق فتذكّر الحور العين فإنّهنّ خير وأبقى ، وإذا استطبت مالا حراما أو طعاما ضارّا فتذكّر فواكه الجنّة ولحومها فإنّها خير لك وأبقى.

(وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى)

إنّها الأكمل ، وقدرة الإنسان يومئذ كاملة. إنّك لا تستطيع أن تستمرّ في

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٥٥٧.

٥١

الأكل إلّا ريثما يمتلأ بطنك ، وإذا أسرفت فسوف تصاب بالتخمة والغثيان ، ولكنّ أهل الجنة يجلسون على كلّ مائدة أربعمائة عام لا يملّون ولا يسأمون.

وإنّ شبق الجنس محدود عند البشر ، فإذا قضوا منه الوطر عافوه ، بينما لكلّ واحد من أهل الجنة عشرات بل مئات النساء وأكثر ويعطى القوّة لإيتائهنّ بلا تعب ولا كلل.

وإنّ المرض والهرم والكسل والضجر والموت يهدّد أهل الدنيا ، بينما الاخرة باقية مع الأبد.

روي عن أبي جعفر الباقر ـ عليه السلام ـ أنّه قال : «إنّ أهل الجنّة يحيون فلا يموتون أبدا ، ويستيقظون فلا ينامون أبدا ، ويستغنون فلا يفتقرون أبدا ، ويفرحون فلا يحزنون أبدا ، ويضحكون فلا يبكون أبدا ، ويكرمون فلا يهانون أبدا ، ويفكهون ولا يقطبون أبدا ، ويحبرون ويسرّون أبدا ، ويأكلون فلا يجوعون أبدا ، ويروون فلا يظمؤون أبدا ، ويكسون فلا يعرون أبدا ، ويركبون ويتزاورون أبدا ويسلّم عليهم الولدان المخلدون أبدا ، بأيديهم أباريق الفضة وآنية الذهب أبدا ، متّكئين على سرر أبدا ، على الأرائك ينظرون أبدا ، تأتيهم التحيّة والتسليم من الله أبدا ، نسأل الله الجنّة برحمته إنّه على كل شيء قدير (١).

(١٨) وهذه الحقائق وبالذات حقيقة الدنيا ، وأنّها ليست بدار بقاء ، وأنّ الاخرة خير منها وأبقى ، إنّها لا تخصّ رسالة النبي بل هي في صحف الأنبياء جميعا ، ولا سيما صحف إبراهيم ـ عليه السلام ـ الذي يحترمه العرب كما اليهود والنصارى ، وموسى ـ عليه السلام ـ الذي يزعم اليهود أنّهم أنصاره ثم ترى العرب واليهود يعبدون الدنيا ، ويزعمون أنّ ذلك من دين الله.

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار ج ٨ ص ٢٢٠.

٥٢

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى)

فلم يكن الرسول بدعا بين إخوانه.

(١٩) (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)

وقد روي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه واله ـ بعض ما في هذه الصحف.

جاء في كتاب الخصال : عن أبي ذر ـ رحمه الله ـ قال : دخلت على رسول الله ـ صلّى الله عليه واله ـ وهو في المسجد جالس وحده فاغتنمت خلوته .. ، قلت : يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال : مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة ، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، قلت : يا رسول الله وما كانت صحف إبراهيم؟ قال : كانت أمثالا كلها ، وكان فيها : أيّها الملك المبتلى المغرور إنّي لم أبعثك تجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكنّي بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم فإنّي لا أردّها وإن كانت من كافر ، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتفكّر فيها صنع عزّ وجلّ إليه ، وساعة يخلو فيها لحظّ نفسه من الحلال ، فإنّ هذه الساعة عون لتلك الساعات ، واستحمام للقلوب وتوديع لها ، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ، فإنّه من حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلّا فيما يعنيه ، وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث : مرمّة لمعاش ، أو تزوّد لمعاد ، أو تلذّذ في غير محرّم قلت : يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال : كانت عبرا كلها ، عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟ ولمن أيقن بالنار كيف يضحك؟ ولمن يرى الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، ولمن يؤمن بالقدر كيف ينصب؟ ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل؟» (١).

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٥٦١.

٥٣
٥٤

سورة الغاشية

٥٥
٥٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «من أدمن قراءة «هل أتاك حديث الغاشية» في فريضة أو نافلة غشّاه الله برحمته في الدنيا والاخرة ، وآتاه الأمن يوم القيامة من عذاب النار»

نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٥٦٢

٥٧

الإطار العام

الدنيا والاخرة مثل كفّتي ميزان ما رجحت إحداهما إلّا على حساب الثانية ، خصوصا إذا فسّرنا الدنيا بأنّها الحياة الفارغة عن القيم الإلهية ، فمن اختارها ، وترك الفرائض ، وتهرّب من المسؤوليات ، وكفر بالرسالة ، فإنّ له وجها خاشعا في الاخرة ، وعملا ناصبا ، وكدحا متواصلا ، شرابهم في النار من عين آنية ، وطعامهم من ضريع.

ومن اختار الاخرة فإنّ وجهه هناك ناعم ، وقلبه راض ، وعيشته في الجنة ذات سلام وأمن وعين جارية ، وسرر مرفوعة ، وأكواب موضوعة ، ونمارق مصفوفة ، وزرابي مبثوثة.

يبدو أنّ هذا هو محور سورة الغاشية التي تختم بذكر الحساب الإلهي الذي ينتظر الناس بعد إيابهم.

٥٨

سورة الغاشية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ

___________________

١ [الغاشية] : هو يوم القيامة لأنّها تغشي الناس بأهوالها.

٥ [آنية] : بالغة النهاية في شدّة الحر.

١٥ [ونمارق] : أي وسائد.

١٦ [وزرابي] : هي البسط الفاخرة.

٥٩

رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

٦٠