من هدى القرآن - ج ١٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-21-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٠

معاني المعبود ، الذي يتحير فيه الناس ، ويلجأ اليه المتحيرون.

]أحد[

بالرغم من ان كلمة «أحد» مشتقة من واحد كما قالوا ، إلّا أنها أبلغ دلالة على معنى الوحدانية ، وانه سبحانه لا نظير له ولا شريك ، ولا أعضاء فيه ولا أجزاء ، لا في الواقع ولا في العقل والوهم سبحانه ، وليس معنى الأحد والواحد أنه ثاني اثنين ، أو أنه نوع من الأنواع ، كلا .. إنه الواحد بلا عدد ، الأحد بلا مثل ولا شبه.

هكذا جاء في حديث مأثور عن الامام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ عند ما سأله اعرابي في يوم الجمل عن معنى واحد ، فحمل الناس علي وقالوا : يا إعرابي! أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب ـ أي تشتته ـ فقال أمير المؤمنين : «دعوه ، فإن الذي يريده الاعرابي هو الذي نريده من القوم» (من توحيد الله ومعرفته حقّا المراد ، من القوم اعداؤه) ثم قال :

«إن القول في أن الله واحد على اربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوز ان على الله ـ عزّ وجلّ ـ ووجهان يثبتان فيه ، فأما اللذان لا يجوز ان عليه فقول القائل : واحد يقصد به باب الاعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لان ما لا ثاني له لا يدخل في باب الاعداد ، أما إنّه كفر من قال : انه ثالث ثلاثة ، وقول القائل : هو واحد من الناس ، يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز ، لان تشبيه ، وجل ربنا وتعالى عن ذلك ، واما الوجهان اللذان يثبتان فيه : فقول القائل : إنه عزّ وجلّ أحديّ المعنى ، يعني به : انه لا ينقسم في وجود ، ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربنا عزّ وجلّ» (١)

__________________

(١) المصدر / ص ٢٠٧

٤٤١

وهكذا تشترك الكلمة بيننا وبين ربنا ، فنقول : هذا واحد من الناس ، ونقول : الله واحد ، ولكن هيهات ما بينهما التقاء ، فأحدية ربنا ليست كخلقه. إنها أحدية شاملة ، بينما خلقه متكثر متشابه ، تعال نستمع في توضيح هذه البصيرة الى حديث عن الامام أبي الحسن ـ عليه السلام ـ وهو يحدد التشابه المستحيل. إنه في المعاني لا في الأسماء فانها مشتركة ، قال :

«انما التشبيه في المعاني ، فأما في الأسماء فهي واحدة ، وهي دلالة على المسمّى ، وذلك أن الإنسان وإن قيل واحد فانه يخبر أنّه جثة واحدة وليس باثنين ، والإنسان نفسه ليس بواحد لان أعضاءه مختلفة ، وألوانه مختلفة ، ومن ألوانه مختلفة غير واحد ، وهو أجزاء مجزأة ليست بسواء ، دمه غير لحمه ، ولحمه غير دمه ، وعصبه غير عروقه ، وشعره غير بشره ، وسواده غير بياضه ، وكذلك سائر جميع الخلق ، فالإنسان واحد في الاسم ولا واحد في المعنى ، والله جل جلاله هو واحد لا واحد غيره ، لا اختلاف فيه ، ولا تفاوت ، ولا زيادة ، ولا نقصان ، فأما الإنسان المخلوق المصنوع المؤلف من أجزاء مختلفة وجواهر شتى ، غير أنه بالاجتماع شيء واحد» (١)

وتتجلى أحديّة الله في معرفة هيمنته الشاملة على كل شيء ، وانه الفعال لما يريد ، وان له العبادة ، وأنّ ما يعبد من دونه ليس بشيء.

اما خرافات الجاهلية التي تزعم : ان هناك قوة اخرى مستقلة غير قوة الخالق فهي ناشئة من الجهل بالله ، وبأن خالق الكائنات يستحيل عليه العجز ، والحد ، والقيد ، فكيف يكون ربنا مثلا عاجزا عن التخلص من إبليس ـ حتى انه انما خلق الخلق حتى يتخلص من الطينة الخبيثة التي لا زالت معه منذ الأزل ، والتي هي طينة إبليس؟! كلا .. انه سبحانه هو خالق إبليس ، ومهيمن عليه ، فلا يجوز لنا عقلا

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٧١٠.

٤٤٢

عبادة إبليس واحدا من إلهين.

واسطورة النور والظلمة ، وأنهما إلهان قديمان ، وان الظلمة دخلت في النور ، أو ان النور دخلها وجاء هذا الخلق من تركيبها كما تقول المانويّة. انها هي الاخرى ناشئة من الجهل بالله وبقدرته التي لا تحد ولا تقيد ، وكيف يعجز رب يوصف بالقدرة ، وتتجلى قدرته في هذه الكائنات العجيبة ، كيف يعجز عن السيطرة على الظلام سبحانه؟! بل هو الذي جعل النور والظلمات بقدرته؟

وهكذا الأساطير التي كانت وراء عبادة غير الله ، والتي دخلت في الديانات السماوية أيضا مثل : الاعتقاد بأن للكائنات آلهة صغارا ولدها الإله الأكبر ، هم بمثابة ابنائه وبناته سبحانه ، بعضهم أقرب اليه من بعض ، وأن على الناس التقرب إليهم ، واقامة تماثيل لهم ، ولتحل فيها أرواحهم ، وهذه هي منشأ خرافة عبادة الأصنام منذ كانت والى عصرنا الحالي.

إن كل هذه الأساطير نشأت من الجهل بمقام الالوهية وأن خالق السموات والأرض ، وما فيهن وما بينهن لن يكون عاجزا أو محدودا سبحانه!

وانه لو كانت معه طينة أبدية لكانت تلك هي الاخرى في مقام الربوبية ، مقتدرة عالمة ، ولكن كيف تجتمع قدرتان مطلقتان متضادتان ، لا تستطيع إحداهما القضاء على الثانية.

وبالتفكر في صنع الله وعظيم قدرته تتلاشى هذه الأساطير الزائفة ، وتتجلى للإنسان قدرة الله غير المحدودة ، التي تظهر في خلقه وفي النظام الذي أجراه في العالم ، كما يظهر بوضوح أن هذا النظام وهذا الخلق ليسا بالالهين من دونه ، يعبدان ، كما فعلت الجاهلية الحديثة التي استسلمت وعبدت المادة وقوانينها ، وهما من خلق

٤٤٣

الله ، وتتجلى بهما عظمته وقدرته سبحانه.

(٢) ومن مظاهر الاحدية ، الصمدية التي تشير إلى حقائق شتى تجمعها بصيرة واحدة هي أن الله بلا أعضاء وأجزاء ، ولا حالات تطرأ عليه سبحانه :

(اللهُ الصَّمَدُ)

هكذا فسر الامام الحسين بن علي ـ عليهما السلام ـ كلمة الصمد حين قال : «الصمد : الذي لا جوف له ، والصمد : الذي قد انتهى سودده ، والصمد : الذي لا يأكل ولا يشرب ، والصمد : الذي لا ينام ، والصمد : الدائم الذي لم يزل ولا يزال» (١)

وروي عن الامام الباقر ـ عليه السلام ـ انه قال : «كان محمد بن الحنفية ـ رضي الله عنه ـ يقول : الصمد : القائم بنفسه ، الغني عن غيره» (٢).

وقد ذكر لكلمة الصمد زهاء عشرين معنى. إلّا أن أمثلها الذي ترجع اليه سائرها : المصمت ، الذي لا جوف له ، ومنه الصمود والصامد ، ولان السيد العظيم يوصف بالشجاعة فإنه يسمى بالصمد لأنه لا يتزلزل.

ولان صفات الدوام والاحدية والقيمومة وما أشبه ناشئة من صفة الصمد ؛ فانها ذكرت من معاني الصمد ، كما جاء في حديث مأثور عن الامام زين العابدين ـ عليه السلام ـ حينما سئل عن معنى الصمد فقال : «الذي لا شريك له ، ولا يؤوده حفظ شيء ، ولا يعزب عنه شيء» (٣).

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٣ ص ٢٢٣.

(٢) المصدر.

(٣) المصدر.

٤٤٤

وصفة الصمدية تتجلى أيضا في أنه لم يلد ولم يولد ، إذ ولادته دليل إضافة جزء اليه لم يكن فيه ، أو انفصال جزء منه كان فيه ، والصمد الذي لا أجزاء له ، لا بتصور فيه زيادة (بالتولد) ولا نقيصة (بالايلاد).

من هنا فسر الامام الحسين ـ عليه السلام ـ معنى الصمد في السورة بالاية التالية فقال : (اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ) ثم فسره فقال : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ لَمْ يَلِدْ) لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شيء لطيف كالنفس ولا يتشعب منه البداوات (١) كالسّنة والنوم ، والخطرة والهم ، والحزن والبهجة ، والضحك والبكاء ، والخوف والرجاء ، والرغبة والسامة ، والجوع والشبع ، تعالى أن يخرج منه شيء ، وأن يتولد منه شيء كثيف أو لطيف.

(وَلَمْ يُولَدْ) لم يتولد من شيء ولم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها ، كالشيء من الشيء ، والدابة من الدابة ، والنبات من الأرض ، والماء من الينابيع ، والثمار من الأشجار ، ولا كما تخرج الأشياء اللّطيفة من مراكزها كالبصر من العين ، والسمع من الاذن ، والشم من الأنف ، والذوق من الفم ، والكلام من اللسان ، والمعرفة والتمييز من القلب ، وكالنار من الحجر.

لا. بل هو الله الصمد ، الذي لا من شيء ، ولا في شيء ، ولا على شيء ، مبدع الأشياء وخالقها ، ومنشئ الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته ، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه.

فذلكم الله الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، عالم الغيب والشهادة ، الكبير المتعال ، ولم يكن له كفوا أحد (٢).

__________________

(١) لعل معناها الطوارئ من الحالات المختلفة.

(٢) المصدر / ص ٢٢٤.

٤٤٥

وهكذا استوحى الامام الحسين ـ عليه السلام ـ من كلمة الصمد معان لطيفة في التوحيد ، ولو تدبرنا في معنى الصمد اللغوي الذي قلنا : بأنه المصمت الذي لا جوف له عرفنا كيف أنها صفة يتمايز فيها الخلق عن الخالق ، فلا شيء من الخلق إلّا وهو مركّب من أجزاء في الواقع ، وفي العقل ، وفي الوهم ، والتصور إلّا الله الذي جل عن تركيب الصفات في اي أفق من تلك الافاق.

اننا حسب معلوماتنا المحدودة عن الجسم نعرف أن كل شيء مركّب من ذرأت صغيرة ، وأن في هذه الذرات فراغات هائلة ، بحيث لو تصورنا طنّا من الخشب يقع في مساحة عدة أمتار مربعة ، ثم افترضنا أننا أعدمنا الفراغات في ذراتها لأصبحت في حجم صغير لا يقاس مع حجمها السابق ، ولكنها سوف تحتفظ بوزنها السابق أي الف كيلو غرام ، ويدل على ذلك ان المواد الثقيلة كاليورانيوم تحتوي على مثل ذرأت الخشب والقطن إلّا أن هذه الفراغات تردم ، فتثقل المعادن حتى أن ما مقدار عشرين سانتيمترا مكعبا من اليورانيوم يقدر وزنه بطن. ومحدود أيضا بأنه ليس بنافذ في كل أبعاد الشيء أليس كذلك؟

بينما رب العزة لا يزيد أو ينقص لأنه كامل ، ولو افترضنا فيه نقصا إذا ما الفرق بينه وبين الكائنات التي خلقها ، وإذا تساوى الخالق والمخلوق فلما ذا أساسا نبحث عن خالق؟ أليس إنما هدانا العقل الى الخالق لما رأينا من النقص والحاجة في المخلوقين ، وأظهر مصاديق النقص : التركيب والتأليف ، والزيادة والنقصان. فكيف نزعم وجود ذلك أيضا في الخالق؟

من هنا ذكر الامام الباقر ـ عليه السلام ـ معاني عديدة استوحاها من كلمة الصمد ثم قال : «لو وجدت لعلمي الذي أتاني الله ـ عز وجل ـ حملة لنشرت التوحيد والإسلام والايمان والدين والشرائع من الصمد» (١).

__________________

(١) المصدر / ص ٢٢٥.

٤٤٦

ونختم حديثنا عن الصمد برواية شريفة عن الامام علي ـ عليه السلام ـ جمعت الكثير من معاني الصمد قال :

«تأويل الصمد : لا اسم ولا جسم ، ولا مثل ولا شبه ، ولا صورة ولا تمثال ، لا حدّ ولا حدود ، ولا موضع ولا مكان ، ولا كيف ولا أين ، ولا هنا ولا ثمة ، ولا ملاء ولا خلاء ، ولا قيام ولا قعود ، ولا سكون ولا حركة ، ولا ظلماني ولا نوراني ، ولا روحاني ولا نفساني ، ولا يخلو منه موضع ولا يسعه موضع ، ولا على لون ولا على خطر قلب ، ولا على شم رائحة ، منفي عنه هذه الأشياء» (١).

(٣) حين عرفنا استحالة التركيب في خالق السموات والأرض ، واهتدينا الى استحالة تولد شيء منه ، وكيف ينفصل عنه جزء وهو صمد لا يتصور فيه التأليف والتركيب والاجزاء والأعضاء؟!

وإذا عرفنا أنه لم يلد ، نعرف انه لم يولد ، أليس الذي يلد ينقص منه شيء ، ويحتاج الى تكميله بجزء يضاف اليه ، وربنا تعالى غني عن الاضافة فكيف بالولادة من غيره؟!

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)

لم يلد كما تلد الكائنات المخلوقة ، الكثيفة منها واللطيفة ، وقد سبق توضيح ذلك آنفا في حديث الامام الحسين عليه السلام.

وهذه الاية تنسف أسس الخرافات الجاهلية التي تمثلت وبصور شتى في المذاهب والمبادئ المختلفة ، فانما تأسست على تصور ولادة الكائنات من رحم خالقها سبحانه ، فقال بعضهم : ان الخالق تأذى من طينة خبيثة ملازمة له فدخل

__________________

(١) المصدر / ص ٢٣٠.

٤٤٧

فيها وتكونت من امتزاجها الخلائق؟ وقال آخرون : بل ان إبليس (أو الظلمة) قفزت الى النور (أي الله في ظنّهم) فأراد النور التخلص منها ، فكان كمن دخل الوحل كلما أراد الخروج منها ارتطم فيها أكثر ، فكانت الكائنات من تداخلهما.

وتطورت هذه الفلسفة عند البعض فقالوا : إن الخالق تنزل من عرشه فأصبح المخلوقات ، وقال بعضهم : ان الله سبحانه فاض بوجوده فكانت الكائنات وهكذا رققوا العبارات ولكنهم لم يغيروا من جوهر النظرية شيئا.

ان كل هذه الفلسفات قائمة على أساس التولد ، والتولد يقتضي تطورا في ذات الشيء وهو يتنافى وتعاليه سبحانه.

ولا فرق إذا ان تكون الولادة كثيفة كما الثمر من الشجر أم لطيفة كولادة الفكر من القلب ، أليس القلب يتطور حتى يفرز الفكر ، كما ينفعل الشجر حتى يخرج الثمر؟ كلا. ان الخالق سبحانه قد أنشأ الكائنات من دون كيفية ولا تعب ولا معالجة ولا تفاعلات في ذاته أو تطورات سبحانه ، وحين ينتفي التولد منه ينتفي تولده من غيره ، لان ما لا ينقص لا يزيد ، أو قل : لا يحتاج الى زيادة.

ونفي الولادة بكل جوانبها ومعانيها يضع المخلوق في موقع العبودية المطلقة وينفي اضفاء اي نوع من القداسة الذاتية على اي شيء أو شخص من خلق الله إلّا قيم الوحي الناشئة من دين الله ، وهكذا يتساوى الخلق امام الخالق ، وأمام دين الخالق ، ولا يجوز لأحد ان يتعالى على غيره بزعم أنه أقرب الى القدوس ذاتيا ، وتبطل كل المذاهب العنصرية الظاهرة منها والخفية.

(٤) وإذا اهتدينا إلى أن الله صمد لا جزء له ، ولا تطور ، ولا ولادة ، فقد ارتفع الحجاب الأكبر الذي بيننا وبين الله ، حجاب التشبيه الذي ينشأ من جهل الإنسان

٤٤٨

ونقص مداركه.

فلان الإنسان لا يرى إلّا نفسه والمخلوقات ، يقيس خالقه بنفسه طورا ، وبالكائنات أطوارا. غافلا عن أن هذا القياس يتنافى والاعتقاد بالخالق أصلا.

أما إذا تذكر الإنسان هذه الحقيقة فإن الشبهات تنماث من ضميره حتى يتطهر من أدرانها ، ويتهيأ قلبه لاستقبال نور المعرفة. ويبدو أن كلمات الذكر الاساسية تذكرنا بهذه الحقيقة ، أو ليس التكبير هو تعظيم الله من الوصف. «الله أكبر من أن يوصف» والتسبيح هو تقديسه عما يخطر ببال البشر. من نقص وعجز ، وشبه ونظير ، وكذلك التهليل : نفي الشريك له ، وهكذا يقول ربنا في ختام سورة الإخلاص :

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)

فاذا أردت معرفته أسقط عن نفسك حجاب قياسه بخلقه ، وتسامى عن دائرة المخلوق الى أفق الخالق ، ومن محيط الشهادة إلى أفق الغيب ، ومن البحث عن الذات الى تلقّي نور الأسماء.

ونفي المثيل والنظير نفي لكل صفة عجز وحدّ ونقص في الخالق ، كما قال الامام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ عند ما سأله بعضهم عن معاني سورة الإخلاص قال : «قل هو الله أحد بلا تأويل عدد ، الصمد بلا تبعيض بدد ، لم يلد فيكون موروثا هالكا ، ولم يولد فيكون إلها مشاركا ، ولم يكن له من خلقه كفوا أحد» (١).

وقال ـ عليه السلام ـ وهو يصف ربه لمن سأله عن ذلك وقال اين المعبود فأجابه عليه السلام :

«لا يقال له : أين؟ لانّه أيّن الاينية ، ولا يقال له : كيف؟ لأنه كيّف

__________________

(١) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٥٦٦.

٤٤٩

الكيفية ، ولا يقال له : ما هو؟ لأنه خلق الماهيّة ، سبحانه من عظيم تاهت الفطن في تيّار أمواج عظمته ، وحصرت الألباب عن ذكر أزليته ، وتحيرت العقول في أفلاك ملكوته» (١)

وقال عليه السلام «اتقوا ان تمثلوا بالرب الذي لا مثل له ، أو تشبهوه من خلقه ، أو تلقوا عليه الأوهام ، أو تعملوا فيه الفكر ، وتضربوا له الأمثال ، أو تنعتوه بنعوت المخلوقين ، فان لمن فعل ذلك نارا» (٢).

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٣ ص ٢٩٨.

(٢) المصدر.

٤٥٠

سورة الفلق

٤٥١
٤٥٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة

١ ـ في كتاب ثواب الأعمال عن أبي جعفر (ع) قال : «من أوتر بالمعوّذتين ، وقل هو الله أحد ، قيل له : يا عبد الله! أبشر ، فقد قبل الله وترك».

تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٧٢٤

٤٥٣

الإطار العام

عند ما تتزاحم الوساوس والمخاوف على فؤاد الإنسان ، ويحتاج الى جرعة شجاعة ، وومضة عزيمة ، هنالك يقرأ سورة الفلق ، لتشيع بصائرها روح السكينة في روعه ، ونور العزيمة في قلبه ، ليستعيذ عبرها بالله خالق كل شيء من شر كل ذي شر ، ومن شر طارق الليل حين يقتحم ، ونافثة العقد حين تبث الفساد والشر بكلماتها المسمومة ، وأفكارها السلبية ، وسهام سحرها ، وعينها الناضلة. وأخيرا من شر الحسد حين يعتمل في فكر الحاسد.

٤٥٤

سورة الفلق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥))

٤٥٥

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ

بينات من الآيات :

(١) كلمات نطلقها ونتعامل معها ولكنها تبقى غامضة لو لم نتخيل معانيها الخارجية ومصاديقها الواقعية ، أليست العبارات جسور المعاني ، والكلمات إشارات الى الحقائق ، وكلمة الاستعاذة واحدة منها ، فمتى يستعيذ الإنسان بشيء؟ عند ما يفقد ثقته بنفسه في مواجهة خطر داهم ، ويظن أنّ ما يستعيذ به قادر على ان ينجيه مما هو فيه ، فيلجأ اليه كمن يلجأ الذي يطارده الوحش الى كهف أو حصن منيع.

وقد تكون الاخطار التي يخشى منها الناس مجرد أوهام وظنون ووساوس شيطانية ، وقد دفعت الحاجة البشر الى التعوذ بالجن والسحر والأصنام ، وكان عليهم الاستعاذة بالله الخالق كل شيء.

وهكذا امر الله بأن نستعيذ بالله وحده ، نرفض الالتجاء بالأنداد والشركاء ،

٤٥٦

ونعلن ذلك صراحة ، وقال :

]قل[

إذا كنتم أيها الكافرون تستعيذون بالناس وبالأنداد ، بالسحرة والكهنة والجن وما أشبه ، فانني

(أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)

ونتساءل اولا : ما هي مفردات الاستعاذة وشروطها؟ ثانيا : ما هو الفلق؟ الاستعاذة حالة نفسية ، قوامها الخشية من الخطر ، والثقة بمن يستعاذ به ، وهي الى ذلك ممارسة عملية بابتغاء مرضاة من نستعيذ به ، وهي ـ فوق ذلك ـ الثقة بأنه وحده القادر على درء الخطر ، وإنقاذ الإنسان.

اما الفلق فقد اختلفوا فيه اختلافا كبيرا ، فمن قائل : انه بئر في جهنم تحترق جهنم بناره. ـ أعوذ بالله منه ـ الى قائل : بأنه الصبح ، أو ما اطمأن من الأرض ، أو الجبال والصخور ولكن القول الأمثل هو القول الاشمل الذي يقول : ان الفلق هو كل ما خلق الله ، لان الله يقول : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) (١)

ورب الفلق : هو الذي فلق الحبة ، وفلق الصباح ، وفلق الجبال بأنهر ، وفلق السموات والأرض وكل شيء.

(٢) هل ما خلق الله خير مطلق أم شر مطلق ، أم في كل شيء نسبة من هذا وذاك؟

__________________

(١) الأنبياء / ٣٠

٤٥٧

قال بعضهم : كيف يخلق الله شرا وهو سبحانه خير واسع؟!

وقال آخرون : الوجود حالة غضب إلهي فهو شرّ مطلق! وكلا القولين هراء ، يخالف وجداننا وفطرتنا.

صحيح أن الله سبحانه خلق الكائنات برحمته وخلق البشر ليرحمه ، ولكن المخلوق يبقى ذاته عدما وعجزا ونقصا ، ومن ذلك العجز تعزيز السلبيات ، ولكن يبقى فيه جانب الخير ، حيث تتعلق به تجليات الرب وعطاءه يبقى غالبا جانب الشر ، لان رحمة الله أوسع من غضبه ، وفضله أعظم من عدله سبحانه.

وقد زود الله كل حي بما يجعله يختار جانب الخير ، ويحاذر جانب الشر من نفسه ومن الخلق المحيط به ، والإنسان بدوره مزود بالوحي والعقل والغريزة لكي يتجنب الشر ، والاستعاذة بالله صورة من صور الحذر من الشرور.

(مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ)

ولا ريب أن تنفيذ واجبات الشريعة أحد أهمّ وأبرز صور الفرار من الشر ، لأنها تهدينا الى سبل السلام ووسائل النجاة.

(٣) الليل يهبط بظلامه ووسواسه وطوارقه ، ويتحرك في جنحه الهوام وبعض الوحوش ، وينشط المجرمون والكائدون ، ويستولي المرض والهم على البعض ، وتشتد الغرائز والشهوات في غيبة من الرقابة الاجتماعية ، ويحتاج الإنسان إلى مضاء عزيمة وثقة ، حتى يتغلب عليه وعلى أخطاره ، وهكذا يستعيذ بالله منه.

(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ)

قالوا : الغسق : شدّة الظلام ، والغاسق : هو الليل أو من يتحرك في جوفه ،

٤٥٨

والوقب : الدخول.

وقال بعضهم : الليل غاسق لأنه أبرد من النهار ، ولان في الليل تخرج السباع من آجامها ، والهوام من أماكنها ، وينبعث أهل الشر على العبث والفساد.

(٤) هل للسحر حقيقة وما حقيقته؟ يبدو أن للسحر حقيقة ، وأن حقيقته غير معروفة تماما بالرغم من عوامل مختلفة تتداخل فيه مثلا بعض القوانين الطبيعية غير المعروفة للناس ، قد يكون وسيلة السحر تماما ، كالزئبق الذي وضعه سحرة فرعون فيما يشبه الحبال فتحركت بحرارة الشمس ، وقد تكون حقيقته قوة الروح عند الساحر ، أو استخدامه للأرواح الشريرة ، وأنى كان فان الاستسلام للسحر ولتأثيراته لا يجوز ، بل ينبغي تحدّيه بالتوكل على الله والاستعاذة منه.

(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ)

قديما كانت العجائز يمتهنّ السحر ، ويخدعن الناس وبالذات النساء ، وكانت هذه الحالة تبعث الخشية في نفوس الكثير مما اقتضى الاستعاذة بالله منهن.

وقد قال بعض المفسرين : ان المراد بالنفّاثات في العقد : اللاتي ينفثن بأفكارهن السلبية في عقد العزيمة للرجال.

إلّا أن أكثر المفسرين رأوا ان المراد بها الساحرات ، وهذا قريب من سبب النزول المذكور لهذه السورة ، على أن ما ورد من روايات في ذلك غير مؤكدة ، لأنها تخالف نزول السورة في مكة ، كما انها تخالف عصمة الرسول ، وأنه بريء من السحر.

(٥) قد تكون للأخطار التي تتوجه إلى الإنسان أسباب معقولة لو تنبه لها استطاع أن يتجنبها ، الا الحسد فإن سببه حالة في نفس صاحبه ، ومن الصعب تجنبه

٤٥٩

في الوقت الذي يشكل سببا رئيسيا لمشاكل الإنسان وللاخطار التي تحدق به ، ولكن هل يعني ذلك التراجع عن العمل وعن الانتفاع بنعم الله والتقدم والرقي لمجرد أن هناك من يحسدني. كلا .. بل ينبغي الاستعاذة بالله سبحانه وتعالى من الحاسد وبالذات عند ما يحسد.

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)

فقد يصرف الله الحاسد عن تحويل حسده الى عمل عدائي ، لان الحسد مرفوع عن الإنسان إن لم يظهره بقول أو بفعل ولا يخلو الإنسان من حسد ، إلّا أن أغلب الناس ينصرفون عن الحسد الى الغبطة والتنافس لما يعلمونه من ضرر الحسد على أنفسهم قبل من يحسدون ، حتى قيل : «ما رأيت ظالما أشبه بالمظلوم من الحاسد»(١)

وقد روي عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «إذا حسدت فلا تبغ» (٢)

والحسد كان سبب رفض إبليس السجود لادم ، كما أنه كان سبب أول جريمة وقعت على الأرض إذ قتل قابيل أخاه هابيل حسدا.

نستعيذ الله من شره وشر من يحمله.

__________________

(١) وهو مضمون رواية.

(٢) القرطبي / ج ٢٠ ص ٢٥٩

٤٦٠