من هدى القرآن - ج ١٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-21-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٠

سورة الكافرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

٤٠١

لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ

بينات من الآيات :

(١) هناك حقائق تكفينا معرفتها ووعيها والعمل بها ، بينما لا يكفي ذلك في حقائق أخرى مثل نفي الشركاء إذ لا بد في مثلها من البراءة عنهم ، والكفر الصريح بهم ، وتحدي سلطانهم الثقافي والسياسي والاجتماعي حتى يخلص ايمان لعبد ، ولذلك جاءت بعض آيات التوحيد متوّجة بكلمة «قل» التي تطالبنا بموقف واضح فاصل حاسم من الشركاء ، أي من القوى الجاهلية التي تتسلط على رقاب العباد ، ومن القيم الفاسدة التي تتحس في النفس ، ومن السلوك الفاسد الذي يصبغ حياة الناس.

(قُلْ)

بكل وضوح ، لان كلمة الرفض قد تكون أشد من الرفض ذاته ، لأنها تشجع الآخرين عليه ، الا ترى كيف ان الكثيرين قد يعارضون حكومة جبار في السر ،

٤٠٢

ولكن القليل منهم يعلنون رفضهم له إعلانا. والله يأمرنا بإعلان الرفض وفي صيغة خطاب موجّه الى الكافرين جميعا ، الغائبين منهم والحاضرين.

(يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ)

انها الشهادة التي أمرنا بها ، والتي نرددها من أعلى المنابر ، في مواقيت الصلاة وعند خواتيم الفرائض ، الشهادة بالتوحيد التي تعني صراحة رفض الأنداد والشركاء ، كما تعني الحضور في ساحة المواجهة ضد هؤلاء الشركاء ثم الصراع الشامل معهم ، ذلك أن الشركاء ليسوا أشباحا أو نظريات ، انهم حقائق ثقيلة تمشي على الأرض بالجبروت والفساد ، فالشهادة على رفضهم تعني الحضور في سوح الصراع معهم.

(٢) ورفض المجتمع الجاهلي ، وهدم كيانه الظالم لا يكون الا برفض مقدساته وقيمه ، وما يعبدونه من دون الله ، رفض تقديس الاباء الذي يعني الجمود والتقليد والاسترسال ، رفض تقديس الأرض والمصالح العشائرية والطائفية والحزبية والاقليمية والقومية ، رفض الثقافات والشرائع الباطلة التي اضفوا عليها القداسة كلّا ..

(لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ)

ذكر الرواة : أن سادة قريش لقوا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فقالوا : يا محمد! هلمّ فلنعبد ما تعبد ، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله ، فان كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شاركناك فيه وأخذنا بحظّنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظّك منه ، فأنزل الله عز وجل (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (١) وأضيف ـ في رواية أخرى ـ فيئسوا منه ،

__________________

(١) القرطبي / ج ٢٠ ـ ص ٢٢٥

٤٠٣

وآذوه وآذوا أصحابه.

ومعروف : ان الاية أوسع دلالة من تلك الواقعة ، فإن نفي عبادة الرسول لما يعبدون يشمل تحديه لمجمل قيمهم الجاهلية ، وكياناتهم الظالمة.

وكلمة «ما» في قوله : (ما تَعْبُدُونَ) يشمل كل شيء يعبد من دون الله ، سواء تمثل في اشخاص أو أصنام أو قيم وهكذا كان نفي «ما» أشد وضوحا وأشمل من نفي «من» وتدل على غير العاقل.

(٣) هل يشترك الكافرون في أمر العبادة مع المؤمنين شيئا؟ كلّا .. إنهم يعبدون إلها يختلف كليا عن رب العالمين الذي يعبده المؤمنون. أولئك يعبدون ربّا عاجزا أمام قوة الشركاء ، محتاجا الى دعم الأنداد ، لا يهيمن على تدبير الكائنات ، بينما المؤمنون يعبدون ربّا قويّا مقتدرا ، لا يعجزه شيء ، ربّا جبّارا مهيمنا مدبرا.

فليس ما يعبده الكافرون هو ما يعبده المؤمنون ، بل إنه لمختلف جدّا.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ)

وأنّى لقلب واحد أن يجتمع فيه معرفة الله المتكبّر الجبّار مع الايمان بالجبت والطاغوت ، أو هل يجتمع النور والظلام؟!

(٤) والذي يعبد الجبت والطاغوت ولا يتحدى سلطة المستكبرين ، وقيم الجاهلين لا يكون عابدا لله ، وحاشا رسول الله ولمن اتّبع هداه أن يختاروا الكفر بعد الايمان ، والضلال بعد الهدى ، حتى لو تعرضوا لالوان العذاب.

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ)

٤٠٤

ان من علامة صدق الايمان ، وأنه وقر مستقر في فؤاد صاحبه أنه يعقد عزمات قلبه على تحدي كل الضغوط في سبيله حتى يأتيه اليقين ، فيلقى ربه بإيمان لا ظلم فيه ، وإسلام لا استكبار معه.

والا فان كل الناس حتى أسوأ الجاحدين يمرون عادة بلحظات إيمانية ، أو ليسوا يولدون على فطرة الايمان ، أو لا ترى كيف يجأرون الى ربهم في البأساء والضراء؟ بلى. ولكنهم سرعان ما يشركون بربهم بسبب الشهوات ، أو ضغط الطغاة والمجتمع الفاسد.

(٥) وكذلك يتمايز خط الايمان والشرك ولن يلتقيا على محور واحد ، فلا ترى أحدا من الكفار بالله أبدا عابدا له ، كيف وأن أول ما يأمر به الله هو الكفر بالطاغوت ومقاومة الجبت.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ)

أي أنهم حال شركهم بالله ليسوا من الله في شيء ، لان الشرك حجاب بين الإنسان وربه ، حجاب في القلب وحجاب في السلوك ، وانما تتجلى قيمة الايمان في كبح جماح التكبر في النفس ، وكبح جماح المستكبرين في المجتمع ، ليتحرر الإنسان من الجبت والطاغوت ، ويعود الى نور عقله وصفاء فطرته ، ويمضي قدما في تسخير الطبيعة في الدنيا ، وابتغاء مرضاة الله ونعيم الجنة.

أمّا المستسلم للضغوط ، المسترسل مع شهوات النفس وأهواء المتجبرين ، فانه ليس بمؤمن بالله.

أو ليس الايمان بالله يعطي الإنسان بصيرة وعزما ، وحكمة وشجاعة ، عقلا

٤٠٥

وتوكلا؟ وهل يمكن لمن أوتي تلك الصفات المثلى ان يتبع هواه ويطيع الطغاة؟

(٦) وهكذا استبان طريق الضلال عن سبيل الله ، ودين الكفار عن دين الحق.

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)

والدين هو المنهج المتكامل الذي يلتزم به الإنسان في حياته ، ولا يجتمع منهج الله مع منهج الشرك ، وقال بعضهم : الدين هنا بمعنى الجزاء ، فمعناه : ان لكل شخص جزاء عمله وعبادته. ان خيرا فخير وإن شرا فشر. والمعنى الاول أوفق مع السياق ؛ لان جوهر الدين العبادة ، فمن عبد الله دان بدينه ، ومن عبد الشركاء دان بدينهم.

وهذه البراءة الصريحة من دين الشرك هي التي ميزت دين الله عن دين الأدعياء ، وميزت عباد الله عن عبد الطاغوت ، وميزت خط الرسالة الأصيل عن سبل الضلال.

ان المشركين والمستكبرين والمترفين حاولوا عبر التاريخ التقاطع مع المؤمنين الصادقين بالترغيب والترهيب فلم يفلحوا ، وكان هدفهم استخدام اسم الدين وشعاراته لتمرير فسادهم وظلمهم ، واضفاء الشرعية على تجبرهم واستغلالهم ، ولقد بقي رجال الله المخلصون صامدين أمام تلك المحاولات بتوفيق الله ، وبالرغم من تعرضهم لشتى ألوان الأذى.

وجاءت هذه السورة التي استفاضت على اهميتها النصوص الشرعية ، ووثيقة براءة من المشركين ، وسدّا منيعا أمام محاولاتهم التأثير في التجمع الايماني.

٤٠٦

وانما تكررت آيات النفي لتأكيد هذه البراءة وذلك الفصل ، ومن عادة العرب التكرار للتأكيد وانشدوا للشاعر :

يا أقرع بن جامس يا أقرع

إنك إن يصرع أخوك تصرع

وهكذا جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ عن سبب نزولها وتكرارها : ان قريشا قالت لرسول الله تعبد الهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، وتعبد الهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فأجابهم الله بمثل ما قالوا ، فقال قالوا : تعبد آلهتنا سنة (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ). وفيما قالوا : نعبد إلهك سنة : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) وفيما قالوا تعبد آلهتنا سنة : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) وفيما قالوا : ونعبد إلهك سنة : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). (١)

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٦٨٨

٤٠٧
٤٠٨

سورة النصّر

٤٠٩
٤١٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «من قرأ إذا جاء نصر الله والفتح في نافلة أو فريضة نصره الله على جميع أعدائه ، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق ، قد أخرجه الله من جوف قبره ، فيه أمان من جسر جهنم ومن النار ومن زفير جهنم ، فلا يمرّ على شيء يوم القيامة إلّا بشّره وأخبره بكلّ خير حتى يدخل الجنة ، ويفتح له في الدنيا من أسباب الخير ما لم يتمنّ ولم يخطر على قلبه»

نور الثقلين / ج ٦ ص ٦٨٩

٤١١

الإطار العام

بعد جهاد دائب ، وانتظار طويل يأتي نصر الله والفتح ، الذي لا يبتغي المؤمنون من ورائه سوى هداية الناس إلى الحق .. وهكذا تراهم فرحين حين يجدون الناس يدخلون في دين الله أفواجا .. إنّها بشارة عظمي ولكنّها لن تدعوهم إلى الغرور ، بل يتخذونها معراجا روحيّا لنفوسهم الوالهة بحبّ الله ، فيسبّحونه ويحمدونه ويستغفرونه.

والتسبيح سبيل معرفة الله والتقرب اليه والحمد وسيلة منع الغرور والكبر عن النفس ، والاستغفار طريق تكميل النواقص .. وهكذا توجز هذه السورة الكريمة برنامج المؤمن عند النصر وعند أي فضل يصيبه من عند الله.

٤١٢

سورة النصر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

٤١٣

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ

بينات من الآيات :

(١) وتتظاهر القوى السياسية والاقتصادية والاعلامية ضد الرسالة ، ويحاصرونهم من كل صوب ، وتضيق بهم السبل ، ويلقي الشيطان وساوسه في أفئدتهم ، ويظنون بالله الظنون ، ويطول ليل الانتظار ، وينادي الجميع : متى نصر الله؟

وجاء نصر الله ، يسعى إليهم من ضمير الغيب ، حيث يعرف المؤمنون بوعيهم السياسي والحركي ، وببصائر قلوبهم العارفة انهم كانوا أعجز من اقتناص النصر بقواهم الذاتية ، وإنما هو نصر الله الذي هزم عدوهم بالرعب ، وأيدهم بالثبات والاستقامة ، وألف بين قلوبهم بالايمان.

وأتبع الله النصر بنصر آخر ، وتلاحقت الانتصارات حتى جاءهم الفتح المبين ، هناك بلغ المؤمنون أعظم أمانيهم ، حيث رأوا الناس يدخلون في دين الله

٤١٤

أفواجا.

ثم يعاني الداعية حين يرى الناس في ضلال مبين ، ويجد القوى الجاهلية تقف حاجزا دون انتشار هدى الدين الى القلوب المظلمة ، وربما بلغ الحزن ببعض الدعاة أن يموتوا كمدا ، ولهذا ينهى الله رسوله من ذلك بقوله سبحانه : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (١).

واليوم يعمهم الفرح حين يرون كيف تساقطت الحواجز وانتشر نور الهدى.

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)

قالوا عن هذا النصر : إنه نصر الله رسوله على قريش في المعارك التي دارت بينهم ، وقيل : بل نصره على سائر الكفار ، أما الفتح ، فقالوا : انه فتح مكة ، وهذا يتناسب وما جاء في وقت نزول السورة ، حيث روي : انها نزلت بعد فتح مكة ، وذكر في حديث آخر : أنّها آخر سورة نزلت على الرسول ، فقد جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ انه قال : أوّل ما نزل على رسول الله (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وآخره (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) (٢) وقيل : إنها نزلت بمنى في حجة الوداع (٣).

وقد كانت تسمى هذه السورة بسورة التوديع لأنها ـ حسب الرواية التالية ـ نعت الى الرسول نفسه ، هكذا يقول ابن عباس : لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قال ـ صلّى الله عليه وآله ـ نعيت إليّ نفسي بأنها مقبوضة في هذه السنة (٤)

__________________

(١) الكهف / ٦

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٦٦٠

(٣) المصدر نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم.

(٤) المصدر / ص ٦٨٩

٤١٥

وربما السبب في ذلك أن السورة قد أوحت اليه أن مسئولية الرسول كمبلّغ وداعية الى الله قد أكملت ، لذلك كان عليه ان يستعد للرحيل.

(٢) النصر أو الفتح ليسا هدفا بذاتهما عند المؤمنين ، إنما وسيلة الى هدف أسمى هو هداية الناس الى نور الرسالة.

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً)

فعند ما تهاوت حجب الضلال ورأى الناس نور الدين فوجدوه دين الفطرة والعقل ، دين الحكمة والسماحة دخلوا فيه فوجا بعد فوج ، يقود كل فوج إمامهم وداعيتهم ، والسابق منهم اليه ، وقد قال المفسرون : انها نزلت في أهل اليمن الذين توافدوا على النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ أفواجا ، تقول الرواية المأثورة عن ابن عباس : ان النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قرأ (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) وجاء أهل اليمن رقيقة أفئدتهم ، لينة طباعهم ، سخيّة قلوبهم ، عظيمة خشيتهم ، فدخلوا في دين الله أفواجا. (١)

وهكذا انتشر نور الإسلام بعد فتح مكة في كافة أرجاء الجزيرة العربية ، وبدأ المسلمون يتحفزون للانبعاث الكبير في أرجاء الأرض.

وتهدينا بصائر هذه السورة وهدى سيرة النبي وعبر تاريخ الحركات الدينية : أن علينا أن نعقد العزم على تحطيم قلاع الكفر المتقدمة قبل نشر الرسالة ، فما دامت تلك القلاع تدافع عن قيم الجهل والتخلف ، وتمنع الناس بالترهيب والتضليل والترغيب عن التغيير والإصلاح ، لا ينفع التبليغ والتبشير كثيرا ، ومن أجل هذا قاتل كثير من الأنبياء والربانيون ، ومن أجل هذا جاهد الرسول الأكرم ، ومن

__________________

(١) القرطبي / ج ٢٠ ـ ص ٢٣٠

٤١٦

أجل هذا ينبغي أن يجاهد ويقاتل كل مبلّغ وداعية من يقف دون انتشار الدين.

(٣) لان النصر من عند الله ينبغي ان نشكر الله عليه ، ونسبحه ونقدسه ، ونطهر بذلك أفئدتنا من تلك الوساوس الشيطانية التي أصابتها أيام المحنة ، فزعم البعض : ان الله تعالى قد أخلف وعده ، أو انه سبحانه لم يقدر على النصر أو ما أشبه ، مما يعبر عنه القرآن الكريم بالزلزلة حين يقول : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (١)

وها هو النصر قد أقدم ، فلنغسل بمياهه المتدفقة آثار الهزيمة ، ولنسبح الله.

ثم ان للنصر كما للهزيمة آثارا سلبية كالغرور والتكبر والتعالي والتطرف ، وعبر الايمان بالله ، والمزيد من اليقين يمكن السيطرة على تلك الصفات .. من هنا أمر الله بالتسبيح والحمد وقال :

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)

ثم إن المؤمن يتخذ من كل حادثة أو ظاهرة معراجا لروحه ، ووسيلة لتكامل نفسه ، وتنامي صفات الخير فيها ، والنصر واحد من أشد الحوادث أثرا في النفس البشرية ، ولذلك يتخذه المؤمن وسيلة للتعرف على ربه ، والتقرب اليه.

والتسبيح تقديس الله عن صفات المخلوقين وعن احاطة علمهم به ، بينما الحمد نعت لله بالأسماء الحسنى وما فيها من صفات الجلال والجمال ، ويقدم التسبيح على الحمد لان إثبات صفة لله قد يوحي ببعض آثاره السلبية ، فاثبات القدرة قد توحي بالظلم ، وإثبات الرحمة قد توحي بتجاوز الحكمة ، بينما ربنا مقتدر عدل ورحيم حكيم.

__________________

(١) البقرة / ٢١٤

٤١٧

(وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)

ويبقى طريق الكمال مفتوحا أمام الإنسان ، وتبقى تطلّعاته الى التسامي مشروعة ، والاستغفار أقرب وسيلة الى تحقيقها ؛ لأنه يوقف الإنسان على نقاط ضعفه ، ومواقع عجزه ، ويحسسه من جهة بمدى حاجته الى الكمال. ومن جهة أخرى بإمكانية ذلك.

وحينما يحس الإنسان بضعفه وعجزه ودرجات قصوره وتقصيره يعتريه شعور عميق باليأس من إصلاح نفسه لولا التوجه الى الله ، والتذكر بأنه توّاب رحيم.

وحينما يستغفر المنتصر ربه لا يخضع لحب الانتقام من أعدائه الذين انتصر عليهم ، بل يتحلّى بروح التسامح والعفو ، أوليس يطلب الغفران من ربه والعفو ، إذا فليعفو وليغفر للمذنبين حتى يعفو عنه الله ويغفر له.

٤١٨

سورة المسد

٤١٩
٤٢٠