من هدى القرآن - ج ١٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-21-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٠

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «من قرأ ويل لكل همزة في فريضة من فرائض الله بعد عنه الفقر ، وجلب عليه الرزق ، ويدفع عنه ميتة السوء».

تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٦٦٧

٣٤١

الإطار العام

في تسع آيات مباركات تبين سورة الهمزة حالة المتكبر الخاسر التي تخالف المؤمن المتواصي بالحق والصبر ، حيث تتجلى صفة الخسارة ، فمن يزعم أنه قد ربح الدنيا يجمع مالها وتعدادها. والاستكبار على الناس بهمزهم ولمزهم ، وأيّة خسارة أعظم من نبذه في النار تحطم عظامه ، أو ليست تتقد وتتطلع على الافئدة؟ إنها حقّا سجن مغلق في صورة أعمدة ممددة.

٣٤٢

سورة الهمزة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

٣٤٣

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ

بينات من الآيات :

(١) كما صفات الخير تتداعى صفات السوء في أصحابها ، لانّها تنبعث من جذر واحد ، وهكذا ترى القرآن الكريم يذكرها معا ، لكي نعرف الناس ونقيّمهم على مجمل سلوكهم وليس ببعض ما تبدر منهم من صفات شاردة وشاذة.

إنّه الويل واللعنة لكلّ أولئك الذين يهمزون الناس في وجوههم علوّا في الأرض واستكبارا ، ويلمزونهم ـ إذا غابوا عنهم ـ إفسادا في الأرض وفتنة ، لا فرق بين من يتجاهر منهم بالكفر أو يدّعي الايمان ، فليست هذه صفات المؤمنين ، وليست بين الله وبين أحد من خلقه صلة قرابة أو رحم يمنعه عن عقابه بمثل هذه الأفعال الاجرامية.

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)

قالوا : معنى الويل الخزي والعار ، وقالوا : إنه واد في جهنم ، ولا تناقض بينهما.

وقالوا : أصل الهمز الدفع أو الكسر ، يقال : همزت الجوز بكفّي أي كسرته ،

٣٤٤

وقيل لاعرابي : أتهمزون (الفارة) اي هل تجعلون فوق ألف لفظة الفارة همزة وتقرأونها فأرة. فقال : إنما تهمزها الهرّة ، اي الهرة تكسر الفأرة وتأكلها ، ومن هنا انشدوا لشاعر قوله :

ومن همزنا رأسه تهشّما

وانه هنا يعني أن يطعن المرء في وجهه ، وانشدوا لحسان قوله :

همزتك فاختضعت بذلّ نفس

بقافية تأجّج كالشواظ

وقال بعضهم : ان الهمز هو الاغتياب بالقول ، بينما اللّمز : هو الاغتياب بالاشارة ، وانهما معا بالتالي نوع من الحديث عن غائب ، وانشدوا لشاعر قوله :

تدلّى بودّي إذا لاقيتني كذبا

وإن أغيّب فأنت الهامز اللمزة

اما اللمز فقال بعضهم : إنه الاغتياب ، أو ذكر معايب الناس ، والمشيء بالنميمة.

ويبدو أن الهمز أشد من اللمز ، فاذا كان الهمز بالوجه فاللمز بالغيبة ، وان كان الهمز بالنطق فاللمز بالاشارة ، وإذا كان الهمز يهدف العلو في الأرض ، فان اللمز يبقي الفساد فيها. الاول سمة التكبر والتجبر ، والثاني علامة المكر والاحتيال ، وقطع الأرحام ، واثارة الفتن.

وجاء في الحديث المأثور عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «شرار عباد الله : المشّاؤون بالنّميمة ، المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبراء العيب» (١).

(٢) هؤلاء الهمازون اللمازون يحسون بنقص في أنفسهم ، حيث جاء في

__________________

(١) القرطبي ج ٢٠ ص ١٨١.

٣٤٥

الحديث المأثور عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «أذلّ الناس من أهان الناس» (١).

وهذا الاحساس يجعلهم يستكبرون على الناس ، ويبحثون عما يجبر نقص أنفسهم بجمع المال وتعداده ، والافتخار به ، والتعالي على الناس بسببه.

(الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ)

يبدو ان معنى «عدّده» أحصاه وعدّده المرة بعد الاخرى مباهاة به ، واعتمادا عليه ، ولكي يرى هل بلغ مستوى طموحه أم لا؟ أرايت الأطفال كيف يحسبون دراهمهم باستمرار فرحا وفخرا.

(٣) ما الذي يبعثه نحو جمع المال وعده؟ هل مجرد المباهاة به. والاستكبار عبره على الآخرين؟ لا بل وأيضا رغبة جامحة في الخلود ، تلك الرغبة التي كانت وراء أكل أبينا آدم ـ عليه السلام ـ من الشجرة المحرمة ، تلك الرغبة التي تدفع الملوك لبسط سلطانهم والبطش بمن يخالفهم ، وتلك الرغبة التي تبعثنا نحو أكثر أفعالنا وأعمالنا.

ولكن هل المال يخلد الإنسان في الدنيا؟ هيهات.

(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ)

فأين قارون بكنوزه التي أرهقت مفاتحه الأشداء من الرجال؟! واين فرعون الذي استبد بملك مصر ، وافتخر بالانهر التي تجري من تحته؟! واين القياصرة والاكاسرة؟! اين من ملك مليارات الدولارات؟! كلهم أحبوا البقاء وولهوا

__________________

(١) تفسير نمونه نقلا عن موسوعة البحار ج ٧ ص ١٤٢.

٣٤٦

بالخلود ، ولكنهم لم يحملوا معهم الى قبورهم سوى الكفن ، وذهبوا الى غير رجعة.

(٤) تنعم الآخرون بجهدهم ، بينما هم يعودون إلى ربهم محاسبون على كل درهم درهم من أموالهم ، من اين اكتسبوه وفيم صرفوه.

(كَلَّا)

لا يخلّد المال أحدا ، بل قد يعجل في وفاته ، وإننا نسمع كلّ يوم عن بعض المعمرين الذين تجاوزا المائة عام فلا نجد فيهم الا عادة البسطاء من الناس ، ولو كانت الثروة سببا للخلود لكانت أعمار الناس تقاس بقدر أموالهم بينما قد نجد العكس.

ثم إن جمع المال بكميّة كبيرة لا يكون الا بالحرام مما يجعل صاحبه أكبر خاسر ، يجمع المال بكدح بالغ ثم يكون وبالا عليه ، جاء في الحديث المأثور عن الامام علي بن موسى الرضا ـ عليه السلام ـ : «لا يجتمع المال الا بخمس خصال : بخل شديد. وأمل طويل ، وحرص غالب ، وقطيعة رحم ، وإيثار الدنيا على الاخرة» (١).

(لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ)

لقد أهانوا الناس بهمزهم ، وسخروا منهم بلمزهم ، فاليوم يلقون نبذا في نار جهنم التي تحطمهم.

(٥) وهل تدري ما هي الحطمة؟ اننا نعرف أن التحطيم من شأن ارتطام شيء خشن بمثله ، بينما النار سيالة فكيف تحطم؟

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٦٨.

٣٤٧

(وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ)

ان علم البشر بحقائق الاخرة محدود جدّا ، وعليه ان يتزود بمقاييس جديدة ليعرف ابعاد الحقائق فيها.

(٦) مثلا النار ذات طبيعة سيالة في الدنيا لأنها هنا مخففّة سبعين مرة عنها هناك ، أما نار الله التي أوقدها جبّار السموات والأرض تجليا لغضبه فانها ـ حسبما يبدو ـ تتفجر وتفجّر مما تجعل كل شيء فيها عظيما.

(نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ)

وكفى بك أن تعرف أنها نار الله بعظمته وجلاله ، وشديد سطواته ، وعريض كبريائه ، ونسبتها الى الله بسبب أن ربها هو الذي أوقدها ، ولعل إيقاد النار غير إشعالها ، بل الهابها وتشديدها ، قالوا : ان الله عز اسمه قد أوقد عليها ألف عام ، وألف عام ، وألف عام حتى اسودت ، انتظارا لأعداء الله. أعاذنا الله منها.

(٧) ولشدة النار تراها تطّلع على الافئدة أن تحرق الجلود واللحم والعظام ، قالوا : فاذا بلغت الفؤاد عاد إليهم جلودهم واللحم والعظام ، فيعذبون من جديد.

(الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)

قال بعضهم : ان نار جهنم تتجه رأسا الى لب الإنسان فتحرقه ، وقال بعضهم : بل انها شاعرة ، تعرف ماذا في قلوب المجرمين فتعذبهم بقدر ما فيها من كفر ونكد.

(٨) وبعد ان ينبذوا في نار جهنم تطبق عليهم ، وتوصد أبوابها ، فلا روح ، ولا نسيم ، ولا شكوى ، ولا كلام. انما هي شهيق ، وزفير ، وآهات ، وأنّات ، وعذاب شديد.

٣٤٨

(إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ)

اي مطبقة عليهم مغلقة أبوابها.

(٩) جاء في الحديث المأثور عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : ثم إن الله يبعث إليهم ملائكة بأطباق من نار ، ومسامير من نار ، وعمد من نار ، فتطبق عليهم بتلك الاطباق ، وتشدّ عليهم بتلك المسامير ، وتمد بتلك العمد ، فلا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح ، ولا يخرج منه غم ، وينساهم الرحمن على عرشه ، ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم ، ولا يستغيثون بعدها أبدا ، وينقطع الكلام ، فيكون كلامهم زفيرا وشهيقا ، فذلك قوله تعالى : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) (١).

(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)

اختلفوا في هذه العمد الممدة ماذا تكون؟

هل هي أغلال في أعناقهم ، أم قيود في أرجلهم ، أم هي الأوتاد التي تشد الاطباق بها أم ماذا؟ وقال بعضهم : انها كناية عن الدهر. فهي في دهور متطاولة وقال ابو عبيدة : العمود كل مستطيل من خشب أو حديد ، وهو أصل للبناء مثل العماد.

ويحتمل ان تكون في النار أسطوانات يدخل أهلها فيها ، فهم في هذه العمد أي وسطها والله العالم.

وانى كان فان نهاية فظيعة تنتظر كل مستكبر في الأرض ، هماز لماز ، ولكي لا يغرنا الشيطان بما نملك من أموال وبنين نقرأ معا حديثا مفصلا عن الامام الباقر ـ عليه السلام ـ يحذرنا بما في النار من عذاب رهيب ، ونكتفي بذكر بعض مقاطع

__________________

(١) القرطبي ج ٢٠ ص ١٨٦.

٣٤٩

الحديث اختصارا.

ويغضب الحي القيوم فيقول : يا مالك! قل لهم : ذوقوا فلن نزيدكم الا عذابا ، يا ملك! سعرّ سعرّ فقد اشتد غضبي على من شتمني على عرشي ، واستخف بحقّي ، وانا الملك الجبّار ، فينادي مالك : يا أهل الضلال والاستكبار والنعمة في دار الدنيا! كيف تجدون مس سقر؟! فيقولون : قد أنضجت قلوبنا ، وأكلت لحومنا ، وحطّمت عظامنا ، فليس لنا مستغيث ، ولا لنا معين ، فيقول مالك : وعزة ربي لا أزيدكم الّا عذابا ، فيقولون : إن عذبنا ربنا لم يظلمنا شيئا ، فيقول مالك : «فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» يعني بعدا لأصحاب السعير ، ثم يغضب الجبار فيقول : يا مالك! سعرّ سعرّ ، فيغضب مالك ، فيبعث عليهم سحابة سوداء يظل أهل النار كلّهم ، ثم يناديهم ـ فيسمعها أولهم وآخرهم ، وأفضلهم وأدناهم ـ فيقول : ماذا تريدون ان أمطركم؟ فيقولون : الماء البارد ، وا عطشاه! وأطول هواناه! فيمطرهم حجارة وكلاليبا وخطاطيفا ، وغسلينا ، وديدانا من نار ، فينضج وجوههم وجباههم ، ويغض أبصارهم ، ويحطم عظامهم ، فعند ذلك ينادون : وا ثبوراه! فاذا بقيت العظام عواري من اللحوم اشتد غضب الله ، فيقول : يا مالك! اسجرها عليهم كالحطب في النار ، ثم يضرب أمواجها أرواحهم سبعين خريفا في النار ، ثم يطبق عليهم أبوابها من الباب الى الباب مسيرة خمسمائة عام ، وغلظ الباب مسيرة خمسمائة عام ، ثم يجعل كل رجل منهم في ثلاث توابيت من حديد من نار بعضها في بعض ، فلا يسمع لهم كلام أبدا إلّا ان لهم شهيق كشهيق البغال ، وزفير مثل نهيق الحمير ، وعواء كعواء الكلاب ، صم بكم عمي فليس لهم فيها كلام إلا أنين ، فيطبق عليهم أبوابها ، ويسد (يمدّد خ ل) عليهم عمدها ، فلا يدخل عليهم روح أبدا ، ولا يخرج منهم الغم أبدا ، فهي «عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ» يعني مطبقة ، ليس لهم من الملائكة شافعون ، ولا من أهل الجنة صديق حميم ، وينساهم الرب ، ويمحو ذكرهم من قلوب العباد ، فلا يذكرون أبدا (١).

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار ج ٨ ص ٣٢٣.

٣٥٠

سورة الفيل

٣٥١
٣٥٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة

عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «من قرأ في فرائضه ألم تر كيف فعل ربك شهد له يوم القيامة كل سهل وجبل ومدر بأنّه كان من المصلّين ، وينادي له يوم القيامة مناد : صدقتم على عبدي ، شهادتكم له وعليه ، أدخلوه الجنّة ولا تحاسبوه ، فإنه ممن أحبّه الله وأحبّ عمله»

نور الثقلين / ج ٥ ص ٦٦٨

وفي بحار الأنوار ، بخط الشهيد رحمه الله : ان الصادق ـ عليه السلام ـ يقرأ في وجه العدو سورة الفيل.

موسوعة بحار الأنوار ص ٣٣٨

٣٥٣

الإطار العام

تموجت الجزيرة العربية بالصراعات الدموية وبقيت مكة بلدا آمنا كمثل جزيرة ساكنة في بحر هائج ، حتى أنّ ملك اليمن (أبرهة) عند ما سعى إلى غزوها ردّ على أعقابه بفعل طير غريب رمت جيشه بحجارة من سجيل.

أليس في ذلك دليلا على حرمة البيت ، وآية لاكرام الله لأهله ، ونعمة عظيمة ينبغي أن يشكروا الله عليها بالايمان به وبرسالاته؟.

٣٥٤

سورة الفيل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

٣٥٥

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ

بِأَصْحابِ الْفِيلِ

بينات من الآيات :

(١) كثيرة عبر التاريخ التي لا تزال آياتها مرسومة على صفحات الزمن وفي ذاكرة الأجيال ، ولكن قليل هم الذين ينسلون من ضوضاء حاضرهم الى كهف التاريخ ليدرسوه بإمعان ، ويعتبروا بحوادثه ، وكانت قصة الفيل الذي أناخ بالمغمس من أطراف مكة ففزعت منه قريش ، ولاذت بالجبال فرارا ، كانت لا تزال عالقة في أذهان أهل مكة ، حتى قيل : ان بعض من رافقوا حملة أبرهة المشؤوم كانوا لا يزالون أحياء ، بيد أن قريشا التي أمنها الله من تلك الداهية كفرت بأنعم الله ، وجحدت آياته ، وجاء الوحي يذكرهم قائلا :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ)

قد تكون الحادثة التاريخية شديدة الوضوح الى درجة تكاد ترى ، ولا تحتاج منا الى ان نتوجه إليها بأعين بصيرة ، وهكذا يبدو أن الرؤية هنا جاءت بمعنى العلم

٣٥٦

بها ، والنظر الى آثارها ، وسماع أنبائها مما يجعلك كأنك قد رأيتها.

وقد تجلت عظمة الله في ردع أكبر حملة قادها الأعداء ضد مكة ، وبفعل خارج عن ظاهر السنن الجارية ، حيث دمرهم بطير أبابيل.

(٢) لقد عبؤوا طاقاتهم ، وجندوا اثني عشر ألفا بأفضل عتادهم ـ حسب التواريخ ـ وكان الفيل الذي استقدموه لاثارة الهيبة سلاحا جديدا في محيط الجزيرة العربية. زعمت العرب الا قبل لهم به ، ولكن الله أضل كيدهم ، وأفشل خطتهم ، فلم يحققوا به الغاية المطلوبة.

(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ)

قال بعضهم : تضليل كيدهم بمعنى فشلهم في هدم الكعبة ، وتصفية آثار الحنفية الإبراهيمية ، وتوجيه العرب الى بيت جديد كان أبرهة قد بناه في اليمن.

ولكن السؤال : كيف أضل الله كيدهم؟ هل بفعل طير الأبابيل فقط أم بأمر آخر؟ يبدو ان الاية تشير الى حادثة أخرى لم يذكرها المفسرون ، ولعلهم ابتلوا بأمراض فتاكة كالجدري ، أو وقعت بينهم الفتنة ، أو ضلوا السبل أو ما أشبه ، أو أصيب فيلهم بعاهة بسبب اختلاف المناخ ، وقد أشارت الروايات التاريخية الى بعض هذه القضايا.

(٣) ولا ريب أن اخطر ما أصابهم وقضى على حملتهم ، كانت الطير التي قدمت عليهم ـ حسب التاريخ ـ من ناحية البحر لم تعرفها المنطقة ، فرمتهم بحجارة قاتلة.

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ)

٣٥٧

لم تخطأهم الطير بل اتجهت مباشرة إليهم ، وكانت تتلاحق عليهم أسرابا فأسرابا ، وهذا ما فسرت به كلمة أبابيل ، قالوا : تعني مجتمعة ، وقيل : متتابعة ، وقيل : متفرقة ، تأتي من كلّ ناحية ، وأصل الكلمة من قولهم : فلان يؤبل على فلان أي يعظم عليه ويكثر ، واشتقاقها من الإبل.

(٤) بعد ان انتشرت فوقهم الطير كسحابة سوداء ، أخذت تمطرهم بحجارة قاتلة ، قالوا : كان كل طير يحمل ثلاث أحجار : واحدة في منقاره واثنتان بين أرجلها ، وكانت الحجارة إذا أصابت جانبا من أبدانهم فرقته وخرجت من الطرف الاخر ، فاذا أصابت بيضة الرأس اخترقت الدماغ وخرجت من الدبر ، وقال بعضهم : إذا أصاب الحجر أحدهم خرج من الجدري لم ير قبل ذلك ، وقال ابن عباس : كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده ، فكان ذلك أوّل الجدري.

(تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ)

قالوا : حجارة من طين ، طبخت بنار جهنم ، وقال بعضهم : السجيل : أصله السجين ، وأبدلت النون لاما ، ولا يبعد ذلك إذا كانت الكلمة معرّبة للتساهل فيما عربت من الكلمات ، وقال بعضهم : بل السجيل من السجل حيث كتب عليهم ذلك ، والاول أقرب.

ولعل الحجارة كانت مسمومة أو تحمل جراثيم أمراض فتاكة كالجدري ، حسبما نقرء في التفاسير كما جاء في حديث مأثور عن الامام الباقر ـ عليه السلام ـ عن قوم كانوا يقطعون السبيل ، ويأتون المنكر : «... مع كل طير ثلاثة أحجار : حجران في مخالبه ، وحجر في منقاره ، فجعلت ترميهم بها حتى جدرت أجسادهم ، فقتلهم الله عزّ وجلّ بها ، وما كانوا قبل ذلك رأوا شيئا من

٣٥٨

ذلك الطير ولا من الجدر» (١).

(٥) يبدو ان مرض الجدري قضى على خلايا جسدهم ، حتى غدوا كالقشور البالية.

(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)

قالوا : جعلهم الله كورق الزرع إذا أكلته الدواب فرمت به من أسفل ، ذلك أن العصف عندهم : ورق الزرع ، كجلب القمح والشعير ، وقال بعضهم : العصف المأكول : الورق الذي أكل لبه ورمي قشره.

قصة أصحاب الفيل :

اهتمت قريش بقصة أصحاب الفيل ، حيث أنها كانت تتخذ من هذه الواقعة ذريعة لسيطرتها على أهل الجزيرة ، ولذلك جعلوها بداية لتاريخهم ، وقد كانت ولادة النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ في ذات السنة حسب أشهر الروايات ، فأضفى عليها صبغة شرعية ، وقد ذكروا تفاصيل كثيرة فيها اختلافا واسعا ، ونذكرها : جاء في مجمع البيان ما نصفه

أجمعت الرواة على أن ملك اليمن الذي قصد هدم الكعبة هو أبرهة بن الصباح الاشرم ، وقيل : أن كنيته ابو يكسوم ، ثم ان أبرهة بني كعبة باليمن ، وجعل فيها قبابا من ذهب ، فأمر أهل مملكته بالحجر إليها يضاهي بذلك البيت الحرام ، وأن رجلا من بني كنانة خرج ، حتى قدم اليمن ، فنظر إليها ، ثم قعد فيها ـ يعني لحاجة الإنسان ـ فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها ، فقال : من اجترأ علي بهذا ونصرانيتي ، لأهدمن ذلك البيت حتى لا يحجه حاج أبدا ، ودعا بالفيل ، وأذّن قومه

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٦٧٢

٣٥٩

بالخروج ومن اتبعه من أهل اليمن ، وكان أكثر من اتبعه منهم عكّ والأشعرون وخثعم ، ثم خرج يسير حتى إذا كان ببعض طريقه بعث رجلا من بني سليم ليدعو الناس الى حج الذي بناه ، فتلقاه أيضا رجل من الحمس من بني كنانة فقتله ، فازداد بذلك حنقا ، وحث السير والانطلاق ، وطلب من أهل الطائف دليلا ، فبعثوا معه رجلا من هذيل يقال له : نفيل : فخرج بهم يهديهم ، حتى إذا كانوا بالمغمس نزلوه وهو من مكة على ستة أميال ، فبعثوا مقدماتهم الى مكة ، فخرجت قريش عباديد في رؤوس الجبال ، وقالوا : لا طاقة لنا بقتال هؤلاء ، ولم يبق بمكة غير عبد المطلب بن هاشم أقام على سقايته ، وغير شيبة بن عثمان بن عبد الدار أقام على حجابة البيت ، فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي الباب ثم يقول :

لاهمّ ان المرء يمنع رحله فامنع حلالك

لا يغلبو بصليبهم ومحالهم عدوا محالك (١)

لا يدخلوا البلد الحرام إذا فأمر ما بدا لك ثم ان مقدمات أبرهة أصابت نعما لقريش فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، فلما بلغه ذلك خرج حتى أتى القوم ـ وكان حاجب أبرهة رجلا من الاشعرين وكانت له بعبد المطلب معرفة ـ فاستأذن له على الملك ، وقال له : إيها الملك! جاءك سيد قريش الذي يطعم إنسها في الحي ووحشها في الجبل ، فقال له : ائذن له ـ وكان عبد المطلب رجلا جسيما جميلا ـ فلما رآه أبو يكسوم أعظمه ان يجلسه تحته ، وكره ان يجلسه معه على سريره ، فنزل من سريره ، فجلس على الأرض ، وأجلس عبد المطلب معه ، ثم قال : ما حاجتك ، قال : حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدمتك ، فقال أبو يكسوم : والله لقد رأيتك فاعجبتني ، ثم تكلمت فزهدت فيك ، فقال : ولم أيها الملك؟ قال : لاني جئت الى بيت عزكم ومنعتكم

__________________

(١) الحلال : القوم الحالون في المكان والمحال : التدبير والقوة.

٣٦٠