من هدى القرآن - ج ١٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-21-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٠

سورة القارعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

٣٠١

وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ

بينات من الآيات :

(١) (الْقارِعَةُ)

تلك هي الساعة تقرع الخلائق بأهوالها ، وتقول العرب قرعتهم القارعة ، إذا نزل بهم أمر فظيع.

(٢) وكل داهية قارعة ولكن قارعة الساعة أمر عظيم ، لا يبلغ وعي الإنسان مدى فظاعتها.

(مَا الْقارِعَةُ)

(٣) وانى كانت عظمتها فعلينا أن نقترب من وعيها ، لاننا بذلك نستطيع مقاومة لغفلة والجهالة والفوضى في أنفسنا.

(وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ)

٣٠٢

ان النفس البشرية شديدة الميل إلى الانفلات والتحلل والفوضى ، لو لا قرعها بنصائح الاخرة ، وما فيها من أهوال تجعل الولدان شيبا ، ولذلك جاءت آيات الذكر شديدة الإنذار ، بالغة التحذير ، لعلنا نعقل أو نسمع ، ونوقظ عقولنا من السبات العميق.

(٤) الألقاب التي نخدع أنفسنا بها اليوم ، والأسماء العريضة ، والمفاخر والأمجاد تتلاشى ذلك اليوم ، ويحشر عشرات الألوف من بلايين البشر كما الهمج الطائر ، الذي يكثر أيام الصيف ، فتراه كالسحابة من شدة تراكمها فوق بعضها ، أو الجراد الكثيف الذي يتداخل في بعضه كأنه غبار كثيف ، فما قيمة بعوضة في الهمج ، أو جرادة في سيل الجراد ، انا وأنت نصبح هكذا بين من يحشر من أبناء آدم ، منذ كان آدم وإلى قيام الساعة.

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ)

قالوا : الفراش : الطير الذي يتساقط في النار والسراج ، وقيل : كل همج طائر يسمى فراشا ، ومنه الجراد ، وروي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها ، وهو يذبهن عنها ، وأنا آخذ بحجركم عن النار ، وأنتم تفلتون من يدي» (١).

حالات مختلفة ومتدرجة في ذلك يذكرنا السياق بواحدة منها ، كما سبق في آيات مشابهة.

قالوا : المبثوث المنتشر المتفرق.

(٥) أكثر ما في الدنيا وهم ، ويتلاشى الوهم في الاخرة ، بل حتى حقائق الدنيا تتلاشى يومئذ ، فترى الجبال التي تحسبها قوّة ثابتة كما الصوف المتفرق ، تحركها

__________________

(١) القرطبي ج ٢٠ ص ١٦٥.

٣٠٣

الرياح.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)

قالوا : أي الصوف الذي ينفش باليد ، أي نعيدها هباء ، ويبدو أن للجبال حالات مختلفة ومتدرجة في ذلك يذكرنا السياق بواحدة منها ، كما سبق في آيات مشابهة.

(٦) بلى. ينتفع الإنسان يومئذ بشيء واحد ، يعطيه قيمة بين الناس ، إنه عمله الصالح الذي لو رجحت كفته في الميزان حسنت عيشته.

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ)

يبدو ان الموازين تعني الأفعال التي توزن وليست ذات الكفتين واللسان ، وقال بعضهم : الموازين : الحجج ، واستشهدوا بقول الشاعر :

قد كنت قبل لقائكم ذا مرة

عندي لكل مخاصم ميزانه

وقد سبق الحديث في سورة الرحمن : أن الميزان هو الامام الناطق ، الذي جسد قيم الوحي في حياته ، وكان حجة على عباد الله.

(٧) وإذا كانت عاقبة الإنسان رهينة رجحان حسناته ، وإذا كان حتى مثقال ذرة من أفعاله محسوبة له أو عليه ، فينبغي ألّا يقصر الإنسان فيها ، فلعل حسنة واحدة ترجح كفة الحسنات ، وتجعلك من أهل الجنة حيث العيشة التي ترضاها.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ)

وحين تكون العيشة راضية ، فإن كل جوانب حياتك تجلب رضاك وتكون في

٣٠٤

مستوى طموحك ، وقالوا : معناها عيشة مرضيّة ، وقيل : بل عيشة ليّنة منقادة.

(٨) والويل لمن أضاع فرصة العمر ، وقصّر في استغلال فرص الخير ، واستهان بالذنوب حتى تراكمت في ميزانه ، واستخف بالحسنات حتى خفت موازينها عنده.

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ)

(٩) (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)

أي مصيره الجحيم ، قالوا : الام ما يأوي إليها الإنسان ، كما يأوي إلى الام وانشدوا :

فالأرض معقلنا وكانت أمنا

فيها مقابرنا وفيها نولد

ولكن يبدو أن كملة الامّ من أم أي قصد ، والامّ هو المقصد الذي يعيد اليه الإنسان باختياره وقيل الام : هي أم الرأس ، من قولهم : سقط على أم رأسه وقالوا عن الهاوية : انها المهواة ، أو الوادي بين جبلين ، لان قعر جهنم بعيد ، قد يهوون فيها مئات السنين.

(١٠ ـ ١١) أو تدري ما الهاوية ، انها ليست مجرد مهواة يسقط الإنسان فيها فيموت ، وينتهي كل شيء ، كلا .. انها النار المشتعلة.

(وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ* نارٌ حامِيَةٌ)

انها شديدة الحرارة ، حتى أن نار الدنيا جزء من سبعين جزء منها ، نستجير بالله منها.

٣٠٥
٣٠٦

سورة التكاثر

٣٠٧
٣٠٨

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ : «من قرأ سورة التكاثر في فريضة كتب الله له ثواب أجر مائة شهيد ، ومن قرأها في نافلة كتب له ثواب خمسين شهيدا ، وصلّى معه في فريضة أربعون صفّا من الملائكة إنشاء الله»

وفي أصول الكافي باسناده عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : «قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ من قرأ ألهاكم التكاثر عند النوم وقي فتنة القبر».

تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٦٦٠

٣٠٩

الإطار العام

بين حاجة الإنسان وحرصه مسافة كبيرة ، وما يلهيه عن ذكر الله وعن المكارم ليست حاجته ، بل حرصه الذي يبعثه يحرضه على التكاثر في الأموال والأولاد ، حتى إذا زار قبره لم ينفعه ماله وولده شيئا ، وحوسب على نعيم الله ، وتلاشى عنه ما يلهيه ، لأنه سوف يرى الجحيم عين اليقين. وهكذا تعالج السورة حالة التلهّي بالدنيا عبر التذكرة بالموت ثم العقاب والحساب

٣١٠

سورة التكاثر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

٣١١

أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ

بينات من الآيات :

(١) جاء في حديث شريف : «يا ابن آدم! إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فأيسر ما فيها يكفيك ، وإن كنت تريد ما لا يكفيك فكلّ ما فيها لا يكفيك» ، وجاء في حديث آخر عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «يقول ابن آدم : مالي مالي ، ومالك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت» (١).

وهكذا الذي يسعى نحو إشباع حرصه وطموحه يزور قبره قبل أن يحقق معشار حرصه ، هل سمعت بقصة أصحاب البلايين؟ ألا فكرت في سبب اجتهادهم في الحصول على المزيد من حطام الدنيا وهم يملكون أضعاف ما قد يحتاجونه؟! انهم لا يزالون ـ حسب ظنّهم ـ في وسط الطريق ، لأنهم يبحثون دوما عن أعلى رقم ، والأرقام لا تنتهي ، وقد قال لي أحدهم : انه لا يحصي ما يملك ، وقال آخر : ان سبب

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٦٦٠.

٣١٢

جهده البالغ ليس الحصول على الثروة ، بل استباق غيره فيها ، ولما سألته : والى متى؟ قال هناك دائما من هو أغنى مني ، فأنا في بحث دائم!

وهذا هو التكاثر الذي يستبد بمشاعر الإنسان ولا يدع متّسعا للتفكير في الاخرة.

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ)

أي شغلكم الاهتمام بالتكاثر فأنساكم الاخرة ، وقد اختلف المفسرون في الذي ألهاهم هل هو المفاخرة والمباهاة حسبما يأتي في بيان شأن النزول ، أم التجارة والتشاغل بأمر المعاش حسبما جاء في رواية ابن عباس عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ انه قرأ : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) وقال : «التكاثر : الأموال التي جمعها من غير حقّها ، ومنعها من حقها ، وشدّها في الاوعية» (١).

يبدو ان الدافع النفسي إلى التكاثر ، والتنافس في الأموال والأولاد هو الذي ألهاهم ، سواء تجسد في السعي نحوهما أو في المباهاة بهما ، لان هذا الدافع موجود بالتالي هنا وهناك.

ولذلك لا أجد تناقضا بين ما يظهر من معنى اللفظ من التشاغل بالتجارة وبشؤون الأولاد ، وما ذكر في قصة نزول السورة من المباهاة والمفاخرة بذلك ، لأنهما يدخلان تحت عموم اللفظ ، وينتهيان إلى الدافع ذاته.

اما شأن النزول فإن المفسرين اختلفوا فيه كثيرا ، مما يدل على أن مراد السابقين من شأن النزول أن السورة تنطبق على ما يقولون ، ولا تدل بالضرورة أنها نزلت فيهم حقّا ، وهكذا قال بعضهم : إنها نزلت في اليهود ، حيث تفاخرت قبائلهم على بعضهم ، وقال البعض : بل في قبيلتين من الأنصار ، وقال ابن عباس : بل في حييّن

__________________

(١) المصدر / ٦٦٢.

٣١٣

من قريش وهما بنو عبد مناف وبنو سهم. وأضاف : تعادوا وتكاثروا بالسادة والاشراف في الإسلام ، فقال : كل حيّ منهم : نحن أكثر سيّدا ، وأعز عزيزا ، فكثر بنو عبد مناف سهما ، ثم تكاثروا بالأموات فكثرتهم سهم ، فنزلت (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) بأحيائكم ، فلم ترضوا حتى (زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) مفتخرين بالأموات.

بلى. لا يزال الناس يفتخرون بأمجاد الغابرين ، ويتكاثرون بمن أمسوا ترابا ، وكأنهم يغنون عنهم شيئا من أمور دينهم أو دنياهم ، هيهات. يقول الامام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وقد تلا هذه الآيات :

«يا له مراما ما أبعده! وزورا ما أغفله! وخطرا ما أفظعه! لقد استخلوا منهم أيّ مدّكر ، وتناوشوهم من مكان بعيد! أفبمصارع آبائهم يفخرون ، أم بعديد الهلكى يتكاثرون! يرتجعون منهم أجسادا خوت ، وحركات سكنت ، ولان يكونوا عبرا أحق من أن يكونوا مفتخرا ، ولان يهبطونهم جناب ذلّة أحجى من ان يقوموا بهم مقام عزّة لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة ، وضربوا منهم في غمرة جهالة» (١).

من عبر التاريخ ما ينقله الرواة عن مصير هؤلاء المتكاثرين المتفاخرين ، يقول قتادة : كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان ، ونحن أعز من بني فلان ، وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم ، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم (٢).

وكلمة أخيرة : إنّ الإنسان لا يني يكافح حتى يزداد مالا وولدا ، حتى إذا انهارت قواه ، ولما يبلغ مناه تراه يتفاخر بالغابرين ، ويتكاثر بأهل القبور البالية. ما أكفر الإنسان ، وما أبعده في الضلال! أفلا يعتبر بمن هلك من قومه ، ويقول : اني من

__________________

(١) المصدر / ص ٦٦١ نقلا عن نهج البلاغة.

(٢) القرطبي / ج ١٠ ص ١٦٩.

٣١٤

بعدهم لهالك ، أفلا ارتدع عن التلهي بالدنيا ، وأنا وارد موردهم ، ونازل بمنازلهم.

(٢) ويبقى الإنسان سادرا في غفلته ، لاهيا بالتنافس على حطام الدنيا ، حتى يزور المقابر ، ليرى بيت الوحشة مظلما لم ينوره بمصابيح الصلاح ، ولم يمهده بحميد الفعال ، فلا ينفعه يومئذ مال ولا بنون ، ولا يغنيه مجد ولا فخر.

جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ : «إذا وضع الميت في قبره مثل له شخص ، فقال له : يا هذا! كنّا ثلاثة : كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك ، وكان أهلك فخلفوك وانصرفوا عنك ، وكنت عملك فبقيت معك ، أما إنّي كنت أهون الثلاثة عليك» (١).

(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ)

ولعل التعبير ب «حتى» للدلالة على ان التكاثر الذي يضر بصاحبه هو الذي يتصل بالموت فلو تاب صاحبه من قبل نفعته توبته ، وللدلالة أيضا على أن التكاثر يبقى يلهي صاحبه حتى الموت ، فعلينا ألّا نسترسل معه ، ولا ينظر بعضنا إلى ما أنعم الله على الاخر من أزواج واموال وأولاد ، بل ينظر في أمور الدنيا إلى من دونه ، وفي شؤون الاخرة إلى من هو فوقه ، قال تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى).

والسؤال : لماذا قال : (زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أجابوا : لان العرب يقولون لمن مات قد زار قبره ، ويبدو أن التعبير يوحي أيضا بأن من يموت لا يفنى ، إنّما ينتقل من عالم لاخر فهو كالزائر.

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٦ ص ٢٦٥.

٣١٥

وقيل : ان معنى زيارة المقابر : التفاخر بالأموات ، والتكاثر بعددهم ، حسبما سبق في بيان نزول السورة ، وقلنا هناك : أن الاية تتسع لهذا المعنى أيضا ، ولذلك ذكر بعض المفسرين أهمية زيارة القبور وانها تذكر الإنسان بالموت ، وتزهده في الدنيا ، وذكروا نصّا مأثورا عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنه قال : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروا القبور ، فإنها تزهد في الدنيا ، وتذكّر الاخرة» (١).

وقد حث الإسلام على ذكر الموت ، والذي يتم بعضه بزيارة القبور ، حتى جاء في حديث مأثور عن الامام الباقر ـ عليه السلام ـ : «ما أكثر ذكر الموت إنسان الا زهد في الدنيا» (٢) وحينما سئل النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ عن أكيس المؤمنين من هو؟ قال ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «أكثرهم ذكرا للموت ، وأشدّهم استعدادا» (٣).

(٣) والذي يردع النفس من التلهي بالتكاثر خشيته من لقاء ربه عند ما يزور قبره ، ويواجه عمله.

(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)

والعلم ينقض الشك ، كما ينقض الإنذار التلهي ، وهذه الاية إنذار من رب العالمين بأن هذا التكاثر سوف يعلم ان من جمعه لم ينفعه.

(٤) ولان نزعة التكاثر عميقة النفاذ في النفس ، بالغة الأثر في قرار الإنسان ، وما أهلك الإنسان مثل الفخر ، ولا أضله مثل التكاثر ، لذلك عاد السياق وأكّد

__________________

(١) القرطبي / ج ٢٠ ص ١٧٠.

(٢) بحار الأنوار / ج ١٢٦.

(٣) المصدر.

٣١٦

الإنذار تلو الإنذار.

(ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)

وعلى الإنسان ان يشتغل بإصلاح نفسه عن لهو التكاثر بذكر الموت هادم اللذات ومفرق الجماعات ، حتى لا يفاجئه ملك الموت وهو لاه ساه.

وقد ذكر البعض : ان هذه الاية مجرد تأكيد للآية السابقة ، بينما ذهب البعض الى أن هذه الاية تذكرنا بعذاب الاخرة ، بينما الاولى تنذر بعذاب الدنيا الذي يجري حين الموت وبعده في القبر على امتداد أيام البرزخ وإلى حين يبعثون ، وقد ورد نصّ مأثور عن الامام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في ذلك ، حيث روى زر بن حبيش عنه ، قال : «ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) الى قوله (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يريد في القبر (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) بعد البعث» (١).

وهكذا حذرنا أولياء الله من فتنة القبر وعذابه ، فهذا الامام علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ يكتب لمحمد بن أبي بكر : «يا عباد الله! ما بعد الموت ـ لمن لا يغفر له ـ أشدّ من الموت ، القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته ، إن القبر يقول كل يوم : أنا بيت الغربة ، أنا بيت التراب ، انا بيت الوحشة ، أنا بيت الدود والهوام. والقبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار. إن العبد المؤمن إذا دفن قالت له الأرض : مرحبا وأهلا ، قد كنت ممن أحب أن تمشي على ظهري فاذا ولّيتك فستعلم كيف صنيعي بك ، فيتّسع له مدّ البصر ، وأن الكافر إذا دفن قالت له الأرض : لا مرحبا بك ولا أهلا ، لقد كنت من أبغض من يمشي على ظهري فإذا ولّيتك فستعلم كيف صنيعي بك ، فتضمه حتى تلتقي

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٦٦١.

٣١٧

أضلاعه» (١).

(٥) لو علم الإنسان ما يصير اليه لما ألهاه التكاثر لان المعرفة تورث الخشية ، هكذا قال ربنا سبحانه : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ولكن حجب الشك والغفلة والشهوات تمنع عنه بصائر العلم واليقين.

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ)

إذا أسلمت النفس البشرية لهدى الله آمنت ، وإذا طهرت من الشكوك والظنون أوتيت اليقين ، ولليقين درجات ، وما أوتي الإنسان أشرف من اليقين ، هكذا جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر ـ عليه السلام ـ حيث قال : «إنّما هو الإسلام ، والايمان فوقه بدرجة ، والتقوى فوق الايمان بدرجة ، واليقين فوق التقوى بدرجة ، ولم يقسم بين الناس شيء أقل من اليقين» قال الراوي : قلت : فأي شيء اليقين؟ قال : «التوكل على الله ، والتسليم الله ، والرضا بقضاء الله ، والتفويض إلى الله» (٢).

هكذا جعل الامام أسمى درجات الايمان وأشرفها اليقين ، مما يدلّ على أن اليقين هو : طهارة القلب من دنس الشرك والشك والظنون ، وسائر وساوس إبليس وهمزاته.

وجاء في حديث آخر تفسير اليقين بالتغلب على خوف المخلوق ، قال الامام الصادق ـ عليه السلام ـ : «ليس شيء إلّا وله حدّ» فقال الراوي : فما حدّ التوكل؟ قال الامام ـ عليه السلام ـ : «اليقين» فقال السائل : فما حدّ اليقين؟

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٦ ص ٢١٩.

(٢) بحار الأنوار / ج ٦ ص ٢١٨.

٣١٨

قال الامام ـ عليه السلام ـ : «ألّا تخاف مع الله شيئا» (١).

واليقين يجعل عمل المؤمن مقبولا ، بل ويعظم ثوابه ، يقول الامام الصادق ـ عليه السلام ـ : «ان العمل الدائم القليل مع اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير اليقين» (٢).

أرأيت الذي يصلي وقلبه متصل بنور الله ، ونفسه طاهرة من الرياء ، والعجب ، والاستكبار ، ويجاهد ، ونيته لله وحده ، كمن يصلي وقلبه مليء بالوسواس ، ويزكي رياء ، ويجاهد للاستعلاء في الأرض؟!

لذلك كان أئمة الهدى ـ عليهم السلام ـ يجأرون إلى الله في طلب الزيادة من اليقين ، ويحثّون اتباعهم على مثل ذلك ، هكذا جاء في الحديث : كان علي بن الحسين (الامام زين العابدين عليه السلام) يطيل القعود بعد المغرب يسأل الله اليقين. (٣)

وروي عن الامام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ انه قال في خطبة له : «أيها الناس! سلوا الله اليقين ، وارغبوا اليه في العافية ، فإن أجل النعمة العافية ، وخير ما دام في القلب اليقين ، والمغبون من غبن دينه ، والمغبوط من غبط يقينه» (٤).

ولا يبلغ الإنسان درجة اليقين الا بعد العروج في درجات التسليم والايمان والتقوى وكلها تقتضي المزيد من العمل الصالح والخالص لوجه الله والمنبث على سائر جوارح البدن ، وجوانح النفس ، وحتى بعد الحصول على اليقين عليه ان يسعى جاهدا حتى يتجاوز عقد الشك والارتياب بالتفكر والتعلم والدعاء. الا ترى كيف

__________________

(١) المصدر / ج ٧٠ ص ١٤٢.

(٢) المصدر / ص ١٤٧.

(٣) المصدر / ص ١٧٦.

(٤) المصدر.

٣١٩

سعى إبراهيم نحو اليقين حين سأله ربه سبحانه قائلا : «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى». فلما قال له ربه : «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي». ولم يكن في قلبه ذرة شك ولكنه حسب حديث مأثور عن الامام الرضا ـ عليه السلام ـ «أراد من الله الزيادة في يقينه» (١).

وعلامة صدق اليقين دوام الاستقامة على صراط الحق ، وألّا يتخذ الإنسان وليجة من دون الله ورسوله ، ويكون مستعدّا لكلّ تضحية وفي كل موقع. اولا سمعت قصة الاعرابي الذي جاء إلى رسول الله وقال : يا رسول الله بايعني على الإسلام فقال له الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ :

«على ان تقتل أباك».

فكفّ الاعرابي يده ، واقبل رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ على القوم يحدثهم.

وقد بين بعضهم درجات اليقين حسب فهمه بثلاث :

(الف) : علم اليقين ، وضرب مثلا له كمن يعلم بوجود النار لما يراه من ضوئها أو دخانها.

(باء) : حق اليقين ومثله كمن يرى النار بعينه مشاهدة.

(جيم) : عين اليقين مثل الذي يلامس النار فيحس حرارتها.

وهذا ـ حسبما يبدو لي ـ مجرد أمثلة ، وإلّا فقد يكون يقين من يعلم بوجود النار بسبب علائمها أشد من الذي يلامسها ؛ لان قلبه أوعى لحقيقتها من صاحبه. أرأيت

__________________

(١) المصدر / ص ١٧٧.

٣٢٠