من هدى القرآن - ج ١٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-21-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٠

التي جعلها خيرا من الف شهر ، ليقدروا على تمديد أعمارهم في البعد الثالث (أي بعد العمق) ولعل الخبر المأثور عن رسول الله (ص) يشير إلى ذلك ، فقد روي أن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ أري أعمار الأمم قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمر مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر ، وجعلها خيرا من ألف شهر. (١)

وفي حديث آخر : أنه ذكر لرسول الله رجل من بني إسرائيل أنه حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر ، فعجب من ذلك رسول الله عجبا شديدا ، وتمنّى أن يكون ذلك في أمته ، فقال : «يا رب! جعلت أمتي أقصر الناس أعمارا ، وأقلها أعمالا ، فأعطاه الله ليلة القدر ، وقال : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) الذي حمل الاسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولامتك من بعدك الى يوم القيامة في كل رمضان» (٢)

إنك قد تحيي ليلة القدر بالطّاعة فيكتب الله اسمك في السعداء ، ويحرم جسدك على نار جهنم أبدا ، وذلك بما يوفقك له من إصلاح الذات إصلاحا شاملا ، من هنا جاء في الدعاة المأثور في ليالي شهر رمضان مجموعة من البصائر التي تتحول بتكرار تلاوتها إلى أهداف وتطلعات يسعى نحوها المؤمن بجد ومثابرة ، ويجتهد في طلبها من ربه.

«اللهم أعطني السعة في الرزق ، والأمن في الوطن ، وقرّة العين في الأهل والمال والولد ، والمقام في نعمك عندي والصحة في الجسم ، والقوة في البدن ، والسلامة في الدين ، واستعملني بطاعتك وطاعة رسولك محمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ أبدا ما استعمرتني ، واجعلني من أوفر عبادك عندك نصيبا

__________________

(١) القرطبي / ج ٢٠ ـ ص ١٣٣

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٦١٥

٢٤١

في كلّ خير أنزلته وتنزله في شهر رمضان في ليلة القدر» (١)

وهكذا ينبغي أن يكون هدفك في ليلة القدر تحقيق تحوّل جذري في نفسك ، تحاسب نفسك بل تحاكمها أمام قاضي العقل ، وتسجل ثغراتها السابقة ، وانحرافاتها الراهنة ، وتعقد العزم على تجاوز كل ذلك بالندم من ارتكاب الاخطاء ، والعزم على تركها والالتجاء الى الله ليغفر لك ما مضى ويوفقك فيما يأتي.

وقد جاء في تأويل هذه الاية : انها نزلت في دولة الرسول التي كانت خير من دول الظالمين من بني أمية ، حيث نقل الترمذي عن الحسن بن علي عليهما السلام : «أن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أري بني أمية على منبره فساءه ذلك ، فنزلت (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) يعني نهرا في الجنة ، ونزلت (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) يملكها بعدك بنو امية» (٢) وكانت حكومة بني أمية الف شهر لا تزيد ولا تنقص.

وهكذا فضيلة حكومة العدل وأثرها العظيم في مستقبل البشرية أكثر من ألف شهر من حكومة الجور.

(٤) لماذا أمست ليلة القدر خيرا من ألف شهر؟ لأنها ملتقى أهل السماء بأهل الأرض ، حيث يجددون ذكرى الوحي ، ويستعرضون ما قدر الله للناس في كل أمر.

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ)

والكلمة أصلها تتنزل ، وصيغتها مضارع تدل على الاستمرار ، فنستوحي منها :

__________________

(١) كلمات من دعاء أبي حمزة الثمالي المأثور لاسحار شهر رمضان / انظر مفاتيح الجنان ـ ص ١٩٦

(٢) القرطبي / ج ٢٠ ـ ص ١٣٣

٢٤٢

أن ليلة القدر لم تكن ليلة واحدة في الدهر ، وإنما هي في كل عام مرة واحدة ، ولذلك أمرنا النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بإحيائها.

فقد جاء في الأثر عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنه لما حضر شهر رمضان ـ وذلك في ثلاث بقين من شعبان ـ قال لبلال : «ناد في الناس» فجمع الناس ، ثم صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أيها الناس! إن هذا الشهر قد خصكم الله به ، وحضركم ، وهو سيد الشهور ، ليلة فيه خير من ألف شهر» (١)

وروي عن الامام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لابن العباس : «ان ليلة القدر في كلّ سنة وانه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ، ولذلك الأمر ولاه بعد رسول الله» فقال ابن عباس من هم؟ قال (عليه السلام) «أنا وأحد عشر من صلبي» (٢)

(وَالرُّوحُ)

ما هو الروح؟ هل هو جبرائيل ـ عليه السلام ـ أم هم أشراف الملائكة؟ أم هم صنف أعلى منهم وهم من خلق الله ، أم هو ملك عظيم يؤيد به أنبياءه؟

استفاد بعضهم من الاية التالية : أن الروح هو جبرئيل ـ عليه السلام ـ حيث قال (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (٣)

واستظهر البعض من الاية التالية : أن الروح هي الوحي ، فان الملائكة يهبطون

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٦١٨

(٢) المصدر / ص ٦١٩

(٣) الشعراء / ١٩٣

٢٤٣

في ليلة القدر به قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (١)

وجاء في حديث شريف ما يدل على أن الروح أعظم من الملائكة ، فقد روى عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ أنه سئل هل الروح جبرئيل (ع)؟ فقال : جبرئيل من الملائكة ، والروح أعظم من الملائكة ، أليس أن الله عز وجل يقول : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) (٢)

وقد قال ربنا سبحانه : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) مما يدل على أن الروح هو ما يؤيد الله به أنبياءه.

ويبدو أن الروح خلق نوراني عظيم الشأن عند الله ، وأن الله ليس يؤيد أنبياءه ـ عليهم السلام ـ به فقط ، وإنما حتى الملائكة ومنهم جبرائيل يؤيدهم به ، وبهذا نجمع بين مختلف الاحتمالات والادلة ، والله العالم.

(فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)

عظيمة تلك الليلة التي تتنزل الملائكة فيها ، وعظيمة لان الأعظم منهم وهو الروح يتنزل أيضا ، ولكن لا ينبغي أن نتوجه الى عظمة الروح بعيدا عن عظمة الخالق سبحانه ، فإنهم عباد مكرمون ، مخلوقون مربوبون ، وليسوا أبدا بأنصاف آلهة ، وليس لهم من الأمر أي شيء ولذلك فإن تنزّلهم ليس باختيارهم وإنما بإذن ربهم.

(مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)

قالوا : معناه لأجل كلّ أمر ، أو بكل أمر ، فالملائكة ـ حسب هذا التفسير ـ يأتون لتقدير كل أمر ، ولكن أليس الله قد قدر لكل أمر منذ خلق اللوح وأجرى عليه

__________________

(١) الشورى / ٥٢

(٢) تفسير نمونه / ج ٢٦ ـ ص ١٨٤ نقلا عن تفسير البرهان / ج ٤ ـ ص ٤١٨

٢٤٤

القلم؟ بلى. إذا فما الذي يتنزل به الملائكة في ليلة القدر؟ يبدو أن التقديرات الحكيمة قد تمت في شؤون الخلق ، ولكن بقيت أمور لم تحسم وهي تقدر في كل ليلة قدر لايام عام واحد ، فيكون التقدير خاصّا ببعض جوانب الأمور ، وليس كل جوانبها ، بلى. تشمل التقديرات جميع الأمور ، ولكن من كلّ أمر جانبا ، وهكذا يكون حرف «من» للتبعيض وهو معناه الاصلي ، وهو أيضا ما يستفاد من النصوص المأثورة في هذا الحقل :

سأل سليمان المروزي الامام الرضا ـ عليه السلام ـ وقال : ألا تخبرني عن (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) في أي شيء نزلت ، قال : «يا سليمان! ليلة القدر يقدر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة الى السنة ، من حياة أو موت ، أو خير أو شر أو رزق ، فما قدره الله في تلك الليلة فهو من المحتوم» (١)

وهكذا تختلف بصائر الوحي عن تصورات البشر ، فبينما يزعم الإنسان أنه مجبور لا اثر لمشيئته في حياته يعطيه الوحي قيمة سامية ، حيث يجعله قادرا على تغيير مجمل حياته : من سعادة وشقاء ، وخير وشر ، ونفع وضر ، كل ذلك بإذن الله ، وعبر الدعاء الى الله في ليلة القدر.

إن البشرية في ضلال بعيد عن حقيقة المشيئة ، فهم بين من ظنّ أنه صاحب القرار ، وقد فوض الله الأمور إليه تفويضا مطلقا ، فلا ثواب ولا عقاب ولا مسئولية ولا أخلاق ، وبين من زعم أنه مضطرّ تسوقه الأقدار بلا حرية منه ولا اختيار.

ولكن الحق هو أمر بين أمرين : فلا جبر لاننا نعلم يقينا أن قرارنا يؤثر في حياتنا ، أو لست تأكل وتشرب وتروح وتأتي حسب مشيئتك وقرارك؟ وكذلك لا تفويض لان هناك أشياء كثيرة لا صنع لنا فيها : كيف ولدت ، واين تموت ،

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٦٣٠

٢٤٥

وماذا تفعل غدا ، وكم حال القضاء بينك وبين ما كنت تتمناه ، وكم حجزك القدر عن خططك التي عقدت العزمات على تطبيقها؟

بلى. إن الله منح الإنسان قدرا من المشيئة لكي يكون مصيره بيده ، إما إلى الجنة وإما إلى النار ، ولكن ذلك لا يعني أنه سيدخل الجنة بقوته الذاتية أو النار بأقدامه ، وإنما الله سبحانه هو الذي يدخله الجنة بأفعاله الصالحة ، أو يدخله النار بأفعاله الطالحة.

إذا الإنسان يختار ، ولكن الله سبحانه هو الذي يحقق ما اختاره من سعادة وشقاء ، وأن (اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) ، وهاهنا تتركز أهمية الدعاء وبالذات في ليلة القدر التي هي ربيع الدعاء ، وقد تتغير حياة الإنسان في تلك الليلة تماما ، فكم يكون الإنسان محروما وشقيا إن مرت عليه هذه الليلة دون أن يستفيد منها شيئا.

ويتساءل البعض : أليس هذا يعني الجبر بذاته؟ فإذا كانت ليلة تحدد مصير الإنسان فلما ذا العزم والسعي والاجتهاد في سائر أيام السنة؟!

كلا .. ليس هذا من الجبر في شيء ، ونعرف ذلك جيّدا إذا وعينا البصائر التالية :

البصيرة الاولى : يبدو أن التقدير في هذه الليلة لا يطال كل جوانب الحياة ، فهناك ثلاثة أنواع من القضايا : نوع قدر في ليلة واحدة في تاريخ الكون ، فقد روي عن الامام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قال : «قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : أتدري ما معنى ليلة القدر؟ فقلت : لا يا رسول الله! فقال : إن الله تبارك وتعالى قدّر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فكان فيما

٢٤٦

قدّر ـ عزّ وجل ـ ولايتك وولاية الائمة من ولدك الى يوم القيامة» (١)

والنوع الثاني : تقديرات تتم في السنة التي يعيشها الإنسان ، بينما النوع الثالث : تبقى مفتوحة تخضع لمشيئة الإنسان وهي الفتنة ، مثلا : إن الله يقدر للإنسان في ليلة القدر الثروة ، أما كيف يتعامل الإنسان مع الثروة هل ينفق منها أم يبخل بها ويطغى ، فان ذلك يخضع لمشيئة الإنسان وبه يتم الابتلاء ، كذلك يقدر الله للإنسان المرض أما صبر المريض أو جزعه فانه يتصل بإرادته.

ومع ذلك فإن لله البداء ، إذ لا شيء يحتّم على ربنا سبحانه ، وقد قال سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٢) وقد جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق عليه السلام قال : «إذا كانت ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة الى السماء الدنيا ، فيكتبون ما يكون من قضاء الله في تلك السنة ، فإذا أراد الله أن يقدّم شيئا أو يؤخره ، أو ينقص أمر الملك أن يمحو ما شاء ، ثم أثبت الذي أراد» قلت : وكل شيء هو عنده ومثبت في كتاب؟ قال : «نعم» قلت فأيّ شيء يكون بعده؟ قال : «سبحان الله! ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى» (٣).

هكذا تبقى كلمة الله هي العليا ، ومشيئته هي النافذة ، ولكن الاتكال على البداء ، وتفويت فرصة ليلة القدر نوع من السذاجة ، بل من السفه والخسران.

البصيرة الثانية : أن الله يقدر لعباده تبعا لحكمته البالغة ولقضائه العدل ، فلا يقضي لمؤمن صالح متبتل ما يقدر لكافر طالح ، وما ربك بظلام للعبيد. وهكذا

__________________

(١) المصدر / ص ٦٢٩

(٢) الرعد / ٣٩

(٣) تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٦٣١

٢٤٧

يؤثّر الإنسان في مصير نفسه بما فعله خلال العام الماضي ، وما يفعله عند التقدير في ليلة القدر ، وما يعلمه الله من سوء اختياره خلال السنة ، مثلا : يقدر الله لطاغوت يعلم أن لا يتوب بالعذاب في هذه السنة لأنه سوف يظلم الناس خلالها ، ولو افترضنا أنه وفّق للتوبة ولم يظلم الناس خلالها ، فان لله البداء في أمره ، ويمحو عنه السقوط ويمد في ملكه ، وقد قال ربنا سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (١)

البصيرة الثالثة : أن الناس يزعمون أن هناك احداثا تجري عليهم ، لا صنع لهم فيها كموت عزيز ، والاصابة بمرض عضال ، والابتلاء بسلطان جائر ، أو بالتخلف ، أو بالجفاف ، ولكن الأمر ليس كذلك إذ أن حتى هذه الظواهر التي تبدو أنها خارج إطار مشيئة الإنسان انّما تقع بإذن الله وتقديره وقضائه ، وأن الله لا يقضي بشيء إلّا حسبما تقتضيه حكمته وعدالته ، ومن عدله أن يكون قضاؤه وتقديره حسب ما يكسبه العباد ، أو لم يقل ربنا سبحانه : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (٢)

وان في ذلك لكرامة بالغة لمشيئة الإنسان أن يجعل الله تقديره وفق قرار ما ، أليس كذلك.

(٥) السلام كلمة مضيئة تغمر الفؤاد نورا وبهجة ، لأنها تتسع لما تصبو إليه النفس ، وتتطلع نحوه الروح ، ويبتغيه العقل ، فلا يكون الإنسان في سلام عند ما يشكو من نقص في أعضاء بدنه ، أو شروط معيشته ، أو تطلعات روحه ، فهل للمريض سلام ، أم للمسكين عافية ، أم للحسود أمن؟ كلّا .. إنّما السلام يتحقق

__________________

(١) الرعد / ١١

(٢) الروم / ٤١

٢٤٨

بتوافر الكثير الكثير من نعم الله التي لو افتقرنا إلى واحدة منها فقدنا السلام. أو لم تعلم كم مليون نعمة تتزاحم على بدنك حتى يكون في عافية ، وكم مليون نعمة تحيط بمجمل حياتك وتشكلان معا سلامتها ، وليلة القدر ليلة السلام ، حيث يقول ربنا سبحانه :

(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)

حينما تنسب هذه الموهبة الالهية الى الزمن نعرف أنها تستوعبه حتى لتكاد تفيض منه ، فالليل السلام كل لحظاته سلام لكل الأنام ، كما اليوم السعيد كله هناء وفلاح ، بينما اليوم النحس تتفجر النحوسة من أطرافه.

فما ذا يجري في ليلة القدر حتى تصبح سلاما الى مطلع الفجر؟

لا ريب أن الله سبحانه يغفر في تلك الليلة لفئام من المستغفرين ، وينقذهم ـ بذلك ـ من نار جهنم ، وأي سلام أعظم من سلامة الإنسان من عواقب ذنوبه في الدنيا والاخرة.

من هنا يجتهد المؤمنون في هذه الليلة لبلوغ هذه الامنية وهي العتق من نار جهنم ، ويقولون بعد ان ينشروا المصحف أمامهم : «اللهم إني أسألك بكتابك المنزل وما فيه ، وفيه أسمك الأكبر ، وأسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار» (١)

كذلك يقدر الله للإنسان العافية فيها ، وإتمام نعم الله عليه ، وقد سأل أحدهم النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : أي شيء يطلبه من الله في هذه الليلة فأجابه ـ حسب الرواية ـ «العافية» (٢)

__________________

(١) مفاتيح الجنان / ص ٢٢٥

(٢) المصدر / ص ٢٢٦

٢٤٩

وقد تدخل على فرد هذه الليلة وهو من الأشقياء فيخرج منها سعيدا ، أو ليست الليلة سلاما؟ من هنا ينبغي للإنسان أن يدعو فيها بهذه الكلمات الشريفة :

اللهم امدد لي في عمري ، وأوسع لي في رزقي ، وأصح لي جسمي ، وبلّغني أملي ، وإن كنت من الأشقياء فامحني من الأشقياء ، واكتبني من السعداء ، فانك قلت في كتابك المنزل على نبيك المرسل ـ صلواتك عليه وآله ـ : «يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» (١)

وفي هذه الليلة يقدر الله الرزق لعباده ، وهو جزء من السلام والأمن ، وعلى الإنسان أن يطلب منه سبحانه التوسعة في رزقه.

كما يقدّر الأمن والعافية والصحة والذريّة وكلها من شروط السلام.

حقا .. إن المحروم هو الذي يحرم خيرها كما جاء في حديث مأثور عن فاطمة الزهراء ـ عليها السلام ـ أنها كانت تأمر أهلها بالاستعداد ، لاستقبال ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان المبارك بأن يناموا في النهار لئلا يغلب عليهم النعاس ليلا وتقول : «محروم من حرم خيرها» (٢)

وقال البعض : أن معنى السلام في هذه الاية : أن الملائكة يسلمون فيها على المؤمنين والمتهجدين في المساجد ، وأن بعضهم يسلم على البعض ، وقيل : لأنهم يسلمون على إمام العصر ـ عليه السلام ـ وهم يهبطون عليه.

ليلة القدر متى هي؟

إذا كان القرآن قد نزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر حسب آيتين في القرآن ،

__________________

(١) المصدر / ص ٢٣٥

(٢) المصدر / ص ٢٣٦

٢٥٠

فإن ليلة القدر تقع في هذا الشهر الكريم ، ولكن متى؟ جاء في بعض الأحاديث : «التمسوها في العشر الأواخر» (١)

وروى عن الامام الباقر ـ عليه السلام ـ أنه قال في تفسير (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) قال : «نعم. ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر ، فلم ينزل القرآن إلّا في ليلة القدر» (٢)

وجاء في حديث آخر تحديد واحدة من ليلتين : أحدى وعشرين وثلاث وعشرين ، فقد روى ابو حمزة الثمالي ، قال : كنت عند أبي عبد الله الامام الصادق ـ عليه السلام ـ فقال له أبو بصير : جعلت فداك! الليلة التي يرجى فيها ما يرجى؟ فقال : «في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين» قال : فإن لم أقو على كلتيهما؟ فقال : «ما أيسر ليلتين فيما تطلب؟» قلت فربما رأينا الهلال عندنا وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من أرض أخرى؟ قال : «ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها؟» قلت : جعلت فداك! ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني؟ (٣) فقال : «ان ذلك ليقال» ثم قال : «فاطلبها في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين ، وصلّ في كلّ واحدة منهما مائة ركعة ، وأحيهما ـ إن استطعت ـ إلى النور ، واغتسل فيهما» قال قلت : فان لم أقدر على ذلك وأنا قائم ، قال : «فصل وأنت جالس» قال : قلت فان لم أستطع ، قال : «فعلى فراشك ، ولا عليك أن تكحل أول الليل بشيء من النوم ، إن أبواب السماء تفتح في رمضان ، وتصفد الشياطين ، وتقبل أعمال المؤمنين ، نعم الشهر رمضان كان يسمى على عهد رسول الله : المرزوق» (٤)

__________________

(١) حسب رواية عن رسول الله (ص) تفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٦٢٩

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٦٢٥.

(٣) سوف نذكره إنشاء الله.

(٤) المصدر / ص ٦٢٥.

٢٥١

وقد استفاضت أحاديث النبي وأهل بيته في إحياء هاتين الليلتين ، إلا أن حديثا يروي عن رسول الله يحددّه في ليلة ثلاث وعشرين ، حيث يرجى أن تكون هي ليلة القدر حيث قال عبد الله بن أنيس الانصاري المعروف بالجهني لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : أن منزلي ناء عن المدينة فمرني بليلة أدخل فيها فأمره بليلة ثلاث وعشرين. (١)

ويبدو من بعض الأحاديث : أن ليلة القدر الحقيقة هي ليلة ثلاث وعشرين ، بينما ليلة التاسع عشر وواحد وعشرين هما وسيلتان إليها ، من وفّق للعبادة فيهما نشط في الثالثة ، وكان أقرب الى رحمة الله فيها.

هكذا روي عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ أنه قال لمن سأله عن ليلة القدر : «اطلبها في تسع عشر وإحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين» (٢)

وجاء في حديث آخر : أن لكل ليلة من هذه الثلاث فضيلة وقدرا ، فقد روي عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ أنه قال : «التقدير في ليلة القدر تسعة عشر ، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين ، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين» (٣)

وجاء في علامات ليلة القدر : «أن تطيب ريحها ، وان كانت في برد دفئت ، وإن كانت في حرّ بردت فطابت» (٤)

وعن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «أنها ليلة سمحة ، لا حارة ولا باردة ، تطلع الشمس في صبيحتها ليس لها شعاع» (٥)

نسأل الله أن يوفقنا لهذه الليلة الكريمة ويقدر لنا السعادة فيها.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٦٢٦.

(٢) المصدر / ص ٦٢٨.

(٣) المصدر / ٦٢٧.

(٤) المصدر / ٦٢٣.

(٥) المصدر.

٢٥٢

سورة البينّة

٢٥٣
٢٥٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

عن أبي عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ قال : «من قرأ سورة لم يكن الذين كان بريئا من الشرك ، وأدخل في دين محمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ وبعثه الله ـ عز وجل ـ مؤمنا ، وحاسبه حسابا يسيرا»

وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «لو يعلم الناس ما في لم يكن الذين كفروا لعطّلوا الأهل والمال وتعلموها» فقال رجل

٢٥٥

من خزاعة : ما فيها من الأجر يا رسول الله؟ قال : «لا يقرأها منافق أبدا ، ولا عبد في قلبه شك في الله عز وجل ، والله إن الملائكة المقربين ليقرءونها منذ خلق الله السموات والأرض لا يفترون من قراءتها ، وما من عبد يقرأها بليل الا بعث الله ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه ، ويدعون له بالمغفرة والرحمة ، فإن قرأها نهارا أعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليها النهار ، وأظلم عليه الليل».

تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٦٤٢

٢٥٦

الإطار العام

كلا .. لن يقدر الإنسان الخروج من نفق الضلال بغير هدى من الله (البتة) ، ولا يكره الله الناس على اتباع البيّنة حينما تأتيهم ، فترى بعضهم يهتدون بها ، وأكثرهم يضلون عنها بأهوائهم وهكذا اختلفوا.

كلا .. ليست خلافاتهم في البيّنة ، لان البينة قد أمرتهم بعبادة الله وحده بعيدا عن أيّ خلاف.

حول هذه المحاور الثلاث جاءت آيات سورة البينة التي خصت بصائر كثيرة فصلت في الكتاب الكريم ، وأوضحت كذلك صفات البينة : انها تتمثل في رسول يحمل من الله كتابا طاهرا من أي زيف أو باطل ، وهو يدعو الى توحيد الله الخالص من أي شائبة مادّية.

وهذا الخلاف الذي انتشر بينهم يرجع الى القرآن ، وهو يحكم بأن شر البرية الذي يكفر برسالات الله ، سواء كان من أهل الكتاب أو من المشركين ، وأن خير

٢٥٧

البرية هم المؤمنون الذين يجزيهم الله بجنات عدن ، ويرضى عنهم ، ويرزقهم الرضا عنه ، كل ذلك لخشيتهم من الله.

٢٥٨

سورة البينة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

٢٥٩

أولئك هم خير البريّة

بينات من الآيات :

(١) لقد أنعم الله على الإنسان بالعقل ، وفطر نفسه على الايمان ، بيد أنّه ينفلت عن ظلال وغيّ ، ولا يكفيه ما لديه من فطرة وعقل ، بل يحتاج الى تذكرة الوحي ودعوة الرسول ، وأنى له ذلك وهو يتعرض لتيار عنيف من شهوات نفسه ، ووساوس شيطانه ، وتضليل أدعياء الدين ، وقمع أولي السلطة والثروة. ألا ترى كيف لا يؤمن إلّا نفر قليل بالرغم من أن الله ينزل الوحي ، ويدعوهم إليه داعي الفلاح ، ويخوض الرسول والمؤمنون صراعا شاملا في سبيل الدعوة.

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)

ويبدو أن الاية هذه التي صعبت على فهم بعض المفسرين حتى اعتبرها أعتد آية ، إنما تذكرنا وبعبارات بسيطة وبيّنة بضرورة الرسالة الالهية ، فمن دون رسالة

٢٦٠