من هدى القرآن - ج ١٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-21-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٠

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

في كتاب ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ، بإسناده عن أبي عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ أنه قال : «من قرأ «والتين» في فرائضه ونوافله أعطي من الجنّة حيث يرضى».

تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٦٠٦

٢٠١

الإطار العام

من لا يضع معلوماته في إطار علمي رصين لا ينتفع بها شيئا ، والقرآن الكريم يمنحنا ذلك الإطار. أرأيت لو لم تعرف نفسك من أنت ، من أين جئت ، والى أين تذهب ، وماذا يصلحك ، وماذا يضربك ، كيف تستطيع أن تنتفع بمعلوماتك عما حولك؟ فهل تفيدك معرفة الدواء لو لم تعرف المريض ومرضه؟

وسورة التين تهدينا الى بصيرة الذات .. والتي هي تمهيد لبصائر الحياة ، بل هي خلاصتها.

٢٠٢

سورة التين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

___________________

(طور سينين) : قيل : هو جبل الطور بسيناء ، وقيل : كل جبل ذا شجر مثمر.

(ممنون) : الممنون : المقطوع ، يقال : منّه السير يمنّه منّا إذا قطعه ، والمنين : الضعيف.

٢٠٣

أليس الله بأحكم الحاكمين

بينات من الآيات :

(١) وتفتتح هذه السورة بالقسم بما يصلح إطارا لهذه البصيرة. فما هو التين والزيتون؟

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ)

تتميز الفاكهة عن سائر الطعام بسهولة تناولها دون معالجة ، فاللحم لا يستساغ نيّا ، والحبوب بحاجة الى معالجة وإعداد ، بينما العنب مثلا يجنى ويؤكل بلا معالجة ، بينما يتميز أنواع من الطعام بامكانية تخزينه ، وبزيادة فوائده للجسم ، بيد أنّ ألوانا من الفاكهة تجمع إلى ميزاتها كفاكهة ميزات الطعام ، بإمكانية تخزينها وغناها بالمواد الضرورية للجسد ومنها التين ، فهي سهلة التناول كأنها قد صنعت بقدر فمك ، طيبّة المذاق ، جليلة الفائدة ، تجفّف لاوقات الحاجة ، وقد روي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في فضلها أنه قال : «لو قلت أن فاكهة نزلت من الجنة

٢٠٤

لقلت هذه هي ، لان فاكهة الجنة بلا عجم ، فكلوها فإنها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرس» (١).

وكذلك فاكهة الزيتون التي هي من أعظم الفواكه نفعا للجسد وبالذات لان زيتها يعتبر الدهن النادر الذي لا يضر الجسد شيئا ، وجاء في حديث مأثور عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : «كلوا الزيتون وادّهنوا به فإنه من شجرة مباركة» (٢).

(٢) في كنف جبل مشجّر تحلو الحياة لما فيه من فوائد ومنظر وحماية ، من هنا جاء ذكر الطور بعد ذكر طعام الإنسان فقال ربنا :

(وَطُورِ سِينِينَ)

وقيل في معنى «سينين» الحسن باللغة السريانية ، وقيل : ان كل جبل ذا أشجار مثمرة يسمى بسينين ، فقد قال مقاتل والكلبي : «سينين» كلّ جبل فيه شجر مثمر (٣)

(٣) وأنى كان فإن الصورة تنسجم مع القسم بالتين والزيتون من جهة وبالبلد الأمين من جهة أخرى ، حيث قال ربنا سبحانه :

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ)

ذلك أن أصول مدنيّة الإنسان : الطعام ، والأرض ، والسلام. فإذا كان التين والزيتون مثلا لارقى أنواع الطعام ، وطور سينين لأحسن الاراضي وأكثرها بركة ، فان البلد الأمين مثل لأفضل البلاد وهي بلاد الأمن ، ويتناسب هذا الإطار مع

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٠٧.

(٢) القرطبي ج ٢٠ ص ١١٢.

(٣) المصدر.

٢٠٥

محور السورة المتمثل في خلق الإنسان بأحسن تقويم ، ذلك لان تسخير الحياة له ، وإعداد طعامه وأرضه ، وتوفير الأمن ، وبالتالي توفير وسائل المدنيّة له بعض جوانب حسن صنعه إليه ، وجميل عطائه له.

وقد فسرت هذه الكلمات تفسيرات أخرى لا تتنافي وسعة كلمات القرآن وتخومها المتعددة ، فقالوا : (الْبَلَدِ الْأَمِينِ) : مكة شرفها الله (وَطُورِ سِينِينَ) : الجبل الذي نادى الله جل ثناؤه فيه موسى ـ عليه السلام ـ أما (التِّينِ) فقيل : انه البيت المقدس أو المسجد الحرام أو مسجد دمشق ، بينما الزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس ، أو ان التين هو مهبط سفينة نوح حيث جبل الجودي.

وجاء في رواية مأثورة عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : ان الله تبارك وتعالى اختار من كل شيء أربعة. إلى أن قال : واختار من البلدان أربعة : فقال تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) فالتين : المدينة ، والزيتون : بيت المقدس ، وطور سينين : الكوفة ، وهذا البلد : مكة (١).

(٤) قسما بتلك الديار المقدسة. وقسما بتلك النعم التي تصنع حضارة البشر إن الإنسان قد خلق خلقا سويّا حسنا.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)

تتجلى قدرة الله في صنع جسده ، من استقامة قامته ، إلى شبكة أعصابه ، الى قدرات مخه ، الى مرونة جسمه وما فيه من قدرة احتمال للظروف المختلفة ، مما يدل على أنه قد اعدّ لدور أعظم من مجرد دوره الحياتي أو البنائي ؛ إنه ليس مجرد فرد متطوّر ، أنه مخلوق مكرّم ، سخر الله له الأحياء والنباتات والطبيعة ، فاذا دوره

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٠٦.

٢٠٦

الحقيقي ليس في جسمه وإنما في روحه ، في تلك الومضة المباركة من نور المشيئة التي منح من دون سائر الأحياء ، في ذلك القبس من نور العقل والعلم والمعرفة الذي زود به وميز به عن سائر الخلائق.

وهذا المعنى هو الذي ينسجم مع سياق السورة ، فالقوام الحسن الذي منّ الله به على الإنسان ليس تقويم جسده فقط ؛ لان هذا التقويم مقدمة لما هو أهم وهو قوام روحه ؛ ولان المؤمن والكافر يشتر كان فيه ، ولا معنى لردّ الكفار وحدهم إلى أسفل سافلين.

إن الإنسان قد خلق ليكون ضيف ربه الأعلى في جنان الخلد ، ليكون جليس مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ليكون مثل ربه العظيم يقول : للشيء كن فيكون ، ليكون في خطّ ذلك الإنسان الذي يعرج الى ربه ويعرج حتى يكون قاب قوسين أو أدنى.

(٥) ولكن هذه الفرصة المباركة التي منحت له تنعكس تماما عند ما لا يستفيد منها ، فيكون كالمتسلق جبلا عظيما ان زلت قدمه هوى إلى الوادي السحيق.

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ)

إلى اين؟ إلى جهنم وساءت مصيرا ، حيث يتمنى لو يكون ترابا.

(٦) ما دام الإنسان قد خلق في أحسن تقويم فليترك نفسه مع الأقدار تحمله أنى اتجهت؟ كلا .. إذ أن ذلك يؤدي به الى أسفل سافلين ، لا بد من الوعي والنشاط حتى لا يهبط الى الدّرك الأسفل ، ومثله في ذلك مثل الذي يوضع في قمة جبل سامق ، فتهب عليه عاصفة شديدة ان لم يستخدم كل وعيه وقوته وعزمه لطوّحت به الى الوادي.

٢٠٧

هكذا استثنى الذكر (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فقط ، وهم الذين يبقون في القمة حيث وجعلهم الله.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)

لا ينقطع أجرهم ، وتتواتر عليهم نعم الله ، أو ليس ربّنا لا تزيده كثرة العطاء إلّا جودا وكرما.

(٧) لا يحتاج أي حيوان إلى العناية في أمور حياته بقدر ما يحتاج الإنسان ، فالطفل البشري تتضاءل احتمالات بقائه من دون عناية مناسبة قد يظل يعتمد على والديه فترة طويلة ، كما أن الإنسان نفسه لا يملك وسائل دفاعية كافية في مقاومة سائر الاخطار ، بينما أوتي كل حيوان أدوات كافية للدفاع ، بينما أوكل هذا الأمر بالنسبة إلى الإنسان الى عقله وذكائه ، كل ذلك يدل على أنه مخلوق متحضّر ، يحتاج في وجوده وفي تكامله الى النظام.

(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ)

ما الذي يدعوك إلى تكذيب الجزاء أيها الإنسان! ومن دون الايمان بالجزاء لا يمكن أن يبقى الإنسان حيث جعله الله في قمة الخلائق ، كما أنّه من دون الايمان بالجزاء لا معنى للالتزام بالدين (الشريعة) بينما الدين ضرورة عقلية يهتدي إليها الإنسان ، أليس الإنسان قد خلق اجتماعيا فهو بحاجة الى نظام ، وأفضل نظام هو الذي يوحي به الرب ، أو ليس في الإنسان فرص التكامل الروحي والتقرب إلى الله ، فهو إذا بحاجة الى رسل ورسالات ينجزون له هذه الفرص ، ومن جهة أخرى : الا تجدون الإنسان كيف ينهار إلى منتهى الوحشية والفساد من دون روادع ، فيستخدم ذكاءه وقدراته في تدمير نفسه ، ألم تر كيف نشر الفساد في البر والبحر؟ ألم تسمع أنباء الحروب العالمية ، أو لم تقرأ عما يعده لنفسه من وسائل التدمير؟! كل

٢٠٨

ذلك يشهد على أن هذا الكائن العظيم لا يتكامل إلا بنظام إلهي عظيم .. إنه من دون الدين سفينة جبارة بلا ربّان ، طائرة كبيرة بلا طيّار ، فما هو مصيره يا ترى؟!

(٨) ولو لا الجزاء الموعود لكان خلق الإنسان عبثا أو حتى ظلما سبحان الله!

فكيف يتساوى عند الله من يهبط إلى أسفل سافلين فينشر الفساد في الأرض ، ومن يتسامى الى قمة الخير والإحسان؟ إن ايات الله في الخليقة تهدينا الى أن ربنا هو أحكم الحاكمين ، فتشهد ذلك على أنه جعل لهذا الإنسان جزاء يبلغه في يوم الدين.

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)

جاء في الحديث عن قتادة : وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إذا ختم هذه السورة قال : بلى. وأنا على ذلك من الشاهدين (١).

__________________

(١) مجمع البيان / ج ١٠ ص ٥١٢.

٢٠٩

سورة العلق

٢١٠
٢١١
٢١٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

عن أبي عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ قال : «من قرأ في يومه أو ليلته اقرأ باسم ربك ثم مات في يومه أو ليلته مات شهيدا ، وبعثه الله شهيدا ، وأحياه شهيدا ، وكان كمن ضرب بسيفه في سبيل الله عزّ وجل مع رسول الله صلّى الله عليه وآله».

تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٦٠٨

٢١٣

الإطار العام

في نفس ابن آدم كبر دفين ، يستثيره شعوره بالغنى ، ويذهب به إحساسه بالحاجة ، وإذا لم ينتبه الإنسان الى هذا الداء العضال فإن نعم الله عليه لا تزيده إلّا طغيانا ، والطغيان مطية الهلاك.

وأما إذا تذكر الإنسان ، وعرف أنه بذاته جاهل فقير مسكين مستكين ، وأنّ الله هو الذي علّم بالقلم ، وأنّه حينما يقرأ فإنّ الله هو الأكرم ، أهل الحمد والكبرياء وليس هذا المتعلّم الذي يطغى بعلمه وعرف أنّ الثروة نعمة من الله لا بدّ من حمد الله عليها وشكره لا الطغيان بها ، ومواجهة الحق بها ، وكذلك الجاه والعشيرة.

لو عرف ذلك اطمأنت نفسه ، بل استطاع أن يعالج بإذن الله كبر ذاته عبر نعم ربه ، فكلّما زادت النعم ازداد شكرا لله وتواضعا لعباد الله ، وأداء لحقوق الله.

هكذا يبدو محور سورة العلق : معالجة طغيان الإنسان عند ما يحظى بنعمة العلم أو المال والجاه. معالجته بالمزيد من التعبد ، وهكذا تختم السورة بالأمر بالسجود الذي هو معراج الإنسان إلى ربه.

٢١٤

سورة العلق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

٢١٥

إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى

بينات من الآيات :

(١) لم تكن المرة الاولى للوحي ولكنها كانت الاخيرة ، وكانت العظمى حيث جلجل الوحي في جبال مكة ، وهبط الأمين جبرئيل ، وحمل معه نورا يتألق سناه عبر الزمن.

كان النبي محمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ يقلّب وجهه في السماء ينتظر ساعة الانطلاق الكبير ، كان يعلم أنه رسول الله ولكن متى يتنزل عليه الوحي ليأمره بأن يصدع بالحق؟ هذا الذي كان يبحث عنه بشوق كبير.

كانت الكعبة تستصرخه لينقذها من الصخور الصمّاء التي نصبت من حولها وعبدت من دون الله جهارا ، وكانت تستنجد به لانّها حوّلت من بيت الله الذي وضعه للناس جميعا ، إلى عاصمة مستكبري قريش ، يفرضون باسمها على الجزيرة سيادتهم الظالمة.

٢١٦

وكانت الانسانية المعذّبة في أرجاء الجزيرة تنتظره بفارغ الصبر ، فهنا البنات يقتلن بغير ذنب ، وهناك يقتلون الأولاد أيضا ، والحقوق تنتهك ، والزنا يتفشى ، والفقر والمسكنة والتخلف أصبحت سمة المجتمع أنّى يمّمت شطرك.

وأمّا الثقافة فقد أصبحت في خدمة الطغاة والمترفين ، على أنّها كانت ركاما من الأساطير والخرافات ، ووسيلة لاثارة النعرات العشائرية ، والعصبيات التافهة ، والمفاخر الكاذبة ، وأداة لتكريس الأحقاد والضغائن ، والعلاقات الاقتصادية أصبحت مجموعة أغلال وقيود على نشاط الإنسان ، على انها كانت قائمة على أساس الظلم والقهر والطبقية المقيتة.

وكانت الأوضاع خارج الجزيرة ليست بأحسن أبدا ، حيث جرف التحريف والنفاق اتباع موسى وعيسى ـ عليهما السلام ـ الى أبعد حدود الضلال.

وكانت الثقافة ربّانية إلى هذا الإنسان الغارق في أوحال الجهل والتخلف ، وبعث الله أعظم ملائكته الروح القدس ليؤدب مصطفاه من خلقه ، المختار محمد ، وبعث جبرئيل الأمين ليلقي في روعه الوحي.

وإليك بعض ما جاء عن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة :

«وأشهد ان محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالدين المشهور ، والعلم المأثور ، والكتاب المسطور ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، والأمر الصادع. إزاحة للشبهات ، واحتجاجا بالبينات ، وتحذيرا بالآيات ، وتخويفا بالمثلات والناس في فتن انجذم فيها حبل الدين وتزعزعت سواري اليقين ، واختلف النجر ، وتشتت الأمر ، وضاق المخرج ، وعمي المصدر ، فالهدى خامل ، والعمى شامل. عصى الرحمن ، ونصر الشيطان ، وخذل الايمان فانهارت دعائمه ، وتنكرت معالمه ، ودرست سبله ، وعفت شركه ، أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه ، ووردوا مناهله.

٢١٧

بهم سارت أعلامه وقام لواؤه. في فتن داستهم بأخفافها ، ووطئتهم بأظلافها. وقامت على سنابكها .. فهم فيها تائهون حائرون ، جاهلون مفتونون. في خير دار وشر جيران. نومهم سهود ، وكحلهم دموع. بأرض عالمها ملجم ، وجاهلها مكرم». (١)

وقال : «ان الله بعث محمدا ـ صلّى الله عليه وآله ـ نذيرا للعالمين ، وأمينا على التنزيل ، وأنتم معشر العرب على شر دين ، وفي شر دار ، منيخون بين حجارة خشن ، وحيّات صم. تشربون الكدر ، وتأكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم. الأصنام فيكم منصوبة ، والاثام بكم معصوبة» (٢).

وقال : «أرسله على حين فترة من الرسل ، وطول هجعة من الأمم ، واعتزام من الفتن ، وانتشار من الأمور ، وتلظ من الحروب. والدنيا كاسفة النور ، ظاهرة الغرور. على حين اصفرار من ورقها ، وإياس من ثمرها ، واغوار من مائها. قد درست منار الهدى ، وظهرت أعلام الردى ، فهي متجهمة لأهلها. عابسة في وجه طالبها. ثمرها الفتنة ، وطعامها الجيفة ، وشعارها الخوف ، ودثارها السيف» (٣).

وقال (ع) عن بعثة النبي (ص) : «بعثه والناس ضلّال في حيرة ، وخابطون في فتنة. قد استهوتهم الأهواء ، واستزلتهم الكبرياء ، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء. حيارى في زلزال من الأمر ، وبلاء من الجهل. فبالغ ـ صلّى الله عليه وآله ـ في النصيحة ، ومضى على الطريقة ، ودعا الى الحكمة والموعظة الحسنة» (٤).

لم يشك محمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ ان هذا وحي يوحى إليه ، لان الله

__________________

(١) نهج البلاغة خ ٢ ص ٤٦.

(٢) المصدر خ ٢٦ ص ٦٨.

(٣) المصدر خ ٨٩ ص ١٢١.

(٤) المصدر خ ٩٥ ص ١٤٠.

٢١٨

لا يختار من رسله من يشك في وحيه ، لم يشك إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن رؤياه حق فبادر ليقتل ابنه ، ولم يشك موسى ـ عليه السلام ـ أن الذي يكلمه عند الشجرة هو الله ، فأخذ يناديه بكل جوارحه ، ولم تشك مريم أن الله قد رزقها غلاما زكيا ، كما لم يشك عيسى بن مريم ـ عليهما السلام ـ أنه عبد الله ورسول الله الى بني إسرائيل ، فهل من المعقول أن يشك خاتم النبيين في ذلك وهو أشرفهم وأعظمهم؟!

نور الشمس دليلها ، ونور العلم دليله ، واطمئنان اليقين هو ذاته شاهد صدق عليه ، والوحي أشد وضوحا من الشمس ، وأبهى ضياء من العلم ، وأكبر سكينة واطمئنان من اليقين.

أو ليس الوحي من الله والله شاهد عليه ، فكيف يرتاب رسول الله فيه ، أو ليس الله بقادر على أن يري رسوله ما يجعله على يقين من أمره ، أو يبعث الى الناس من لا يزال يشك في الوحي حاشا لله!!

وأني لا يمكنني أن اصدق بتلك الروايات التي تنقل حول الرسول ، وأنه قال لخديجة بعد ان نزل عليه الوحي : ما لي يا خديجة! وأخبرها الخبر ، وقال : خشيت على نفسي ، فقالت له : كلا .. أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكلّ وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الدهر.

بلى. لا أستطيع أن أفهم هذا النوع من النصوص التي تخالف ظاهر القرآن ، وتكون ذريعة للمستشرقين للنيل من رسول الإسلام ، وأعتقد أن الرسول كان ينتظر الوحي بفارغ الصبر ، فلما نزل عليه جبرئيل عرّفه الله بصدقه ، فلما نودي :

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)

قرأ : باسم الله الرحمن الرحيم ، وكانت تلك بداية الرسالة بالرغم من أن فاتحة

٢١٩

الكتاب هي سورة الحمد ، إلّا أنّها كانت فاتحة الكتاب حسب ما قدر الله له ان يكون في صورته النهائية ، بينما كانت الآيات الخمس الأوائل في سورة العلق فاتحة التنزيل. ومن المعروف أن هناك فرقا بين ما أنزل في ليلة القدر حين أنزل الكتاب كله وبين ما نزل منجّما خلال ثلاث وعشرين عاما من دعوة الرسول صلّى الله عليه وآله.

من هنا جاء في الحديث : عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ : «أول ما نزل على رسول الله (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وآخره (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)» (١).

والسؤال : ما هي دلالات هذه الكلمة الاولى من الوحي؟

لعل الوحي كان يفتتح على البشرية عهد القراءة باعتبارها ظاهرة ملازمة للإنسان بعد عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وفعلا وبالرغم من وجود ظاهرة الكتابة منذ مئات السنين قبل الإسلام إلا أنّها انتشرت بالإسلام بصورة مطردة حتى أصبحت اليوم سمة الإنسان الظاهرة.

والقراءة أشد وضوحا من الاستماع ، لانّها تفرض التفاعل بين الإنسان والنص الذي يتلى عليه أكثر من مجرد الاستماع إليه ، وربما سمي لذلك كتاب ربنا بالقرآن.

ولكن القراءة ليست مطلوبة بصفة عامة إنّما التي تكون باسم الله ، لماذا؟ لان اسم الله يحدد الهدف من القراءة. لا يكون من أجل التعالي على الناس ، وخدمة الطغاة وتضليل السذّج من الناس ، بل تكون من أجل تزكية النفس ، وخدمة الناس وهدايتهم.

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٠٩.

٢٢٠