من هدى القرآن - ج ١٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-21-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٠

(بِذَنْبِهِمْ)

فلم يفعل بهم ظلما. حاشاه ، وانما جزاء لأفعالهم ، وكل من يذنب يهيء نفسه لمثل تلك الدمدمة.

(فَسَوَّاها)

كما يسوي القبر بعد ان يهال التراب عليه طبقا بعد طبق.

(١٥) وهل سأل الله أحدا في أولئك الهلكى لماذا اهلكهم؟! كلا ..

(وَلا يَخافُ عُقْباها)

سبحان الله وتعالى كيف يخاف عقبى دمدمة وهو جبار السموات والأرض؟!

وهكذا لم تنفعهم الشركاء والأنداد ، ولم تنقذهم الأعذار والتبريرات. أفلا نرتدع بمصيرهم ، كذلك كانت عاقبة قوم دسّوا أنفسهم فخابوا أشد الخيبة ، وكذلك تكون عاقبة كل من ضيّع نفسه ودسها ، إنها الخيبة والندم أعاذنا الله منهما.

١٤١
١٤٢

سورة الليّل

١٤٣
١٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال «من أكثر قراءة ... والليل إذا يغشى ... في يوم أو ليلة لم يبق شيء بحضرته إلّا شهد له يوم القيامة ، حتى شعره وبشره ولحمه ودمه وعروقه وعصبه وعظامه ، وجميع ما أقلّت الأرض منه ، ويقول الرب تبارك وتعالى : قبلت شهادتكم لعبدي وأجزتها له انطلقوا به الى جنّاتي حتى يتخيّر منها حيث ما أحبّ ، فأعطوه من غير منّ ولكن رحمة مني وفضلا عليه ، وهنيئا لعبدي».

تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٥٨٥

١٤٥

الإطار العام

ليس الذكر والأنثى سواء ، ولا الليل والنهار ، كذلك فعل الخيرات وارتكاب المآثم ليسا بسواء. أو يحصد الشعير من زرع القمح ، وهل يحصد من زرع الريح سوى العاصفة؟!

النفس البشرية تهوى الخلط بين الحقّ والباطل لتتهرب من المسؤولية ولكن هيهات ، وتتواصل آيات الذكر وسوره للفصل الحاسم بينهما ، ويبدو أن محور هذه السورة التذكرة بهذه البصيرة ، وأن من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فإن الله يوفقه للحياة اليسرى ، بينما الذي كذب بالحسنى فيدفعه الله للحياة العسرى.

ونتائج التكذيب تمتد من الدنيا حتى الاخرة ، حيث النار الملتهبة تنتظر المكذبين ، أما الذين يتقون ربهم ، ويؤتون أموالهم سعيا وراء التزكية فإن عاقبتهم الحسنى ، ولأنهم ابتغوا رضوان ربهم فان الله يعطيهم من النعم حتى يبلغون الرضا.

١٤٦

سورة الليل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

١٤٧

إنّ سعيكم لشتى

بينات من الآيات :

(١) لا يحس الأعمى باختلاف الألوان والابعاد ، ولا يشعر من عطب ذوقه أو شمّه بتفاوت الاطعمة والروائح ، كذلك الجاهل لا يعرف اختلاف الأشياء ، وكلما ازداد الإنسان علما ازداد معرفة بحدود الأشياء واختلافها ، وميزات كل واحد على الاخر ، مثلا : الخبير بالاقمشة يميز بين نوع وآخر ، أما الجاهل فلا يشعر لماذا تتفاوت قيمة أنواعها. أليس كذلك؟

الحق والباطل هما صبغتا الطبيعة ، لا يفرق بينهما إلّا العالمون ، وليست المشكلة في هذه القضية عقلية فقط إذ الهوى أيضا يخالف التمييز بين الحق والباطل ، فهي إذا مشكلة نفسية أيضا ، وآيات القرآن تترى في تحذير الإنسان من خلط الأمور ، فكما أن الليل غير النهار ، والذكر غير الأنثى ، كذلك يختلف سعي الخير عن سعي الشر.

١٤٨

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى)

أي يغطي الطبيعة بظلامه وهدوئه.

(٢) قسما بالليل إذ يحيط بالأشياء ، وبالنهار إذ يتجلى بنوره ونشاطه ودفئه.

(وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى)

(٣) منذ نعومة أظفارها تحب الطفلة اللعب بتماثيل تزعم أنها أولادها ، ومنذ نعومة أظفاره يحب الطفل ما يزعم أنه سلاحه ، ما الذي فرق بين مشاعرهما؟ وتنمو الطفلة وتتميز عن الطفل أكثر فأكثر بيولوجيا وسيكلوجيا ، وكما يتميز الجنسان عند البشر كذلك في سائر الأحياء والنباتات ، فسبحان الذي خلق الزوجين ، يتكامل أحدهما بالآخر!

(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى)

(٤) وكما اختلف الذكر عن الأنثى ، والليل عن النهار ، كذلك يختلف سعي الإنسان.

لو نظرت إلى خلية هل تستطيع أن تتنبأ بأنها سوف تتفتق عن مولود ذكر أم أنثى؟ كلا .. ولكن الله يقدر لها ذلك حسبما يرى من حكمة بالغة ، كذلك حين تنظر الى فعلة يرتكبها شخص قد لا تعرف أنها ستكون وسيلة لانشاء حضارة أو تدمير حضارة ولكن الله يعلم ذلك ويهدينا اليه بفضله. هناك إنفاق في سبيل الله ينمي المال ، ويزكي القلب ، وينشط الدورة المالية في المجتمع ، وهناك إنفاق يماثله في الظاهر ، ويناقضه في المحتوى ، يوقف مسيرة التكامل في المجتمع. هناك قتال في سبيل الله يكون بمثابة عملية جراحية ناجحة ، وآخر يكون في

١٤٩

سبيل الطاغوت ، يهدم المجتمع ، ويبيد الحضارة ، والناس لا يرون إلّا ظاهر القتال دون ان يعرفوا هدفه ووجهته ونفعه وضره .. ولكن الله يهدينا الى ان هذا سعي حسن وأن ذاك سعي هدام.

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)

(٥) كل ابن أنثى يكدح في حياته ، ويسعى ، ويصارع الأقدار ، ولكن الذي يعطي ماله في سبيل الله ، ويتقي الحرام هو الذي ينتفع بعطائه.

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى)

انه يختلف عمن يعطي ويمن أو يعطي مما سرقه من الناس ، أو يختار أفسد ما عنده للعطاء ، أو يضعه في غير محلّه للمدّاحين والمتملقين من حوله ، أو يهدف من عطائه رياء وسمعة وسيطرة على المستضعفين ؛ فان عمله لا يتقبل منه لان الله يقول : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) بل يكون وبالا عليه يوم القيامة ، وضيقا وحرجا في الدنيا.

(٦) ما الذي يجعل سعي الإنسان وعطاءه زكيّا نقيّا مرضيّا؟ إيمانه بالله ، وتصديقه برسالاته ورسله.

(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى)

لان الايمان بالله يحدد وجهة الإنسان ، فليس سواء من يسعى الى المسجد ومن يسعى الى الملهى! ثم هناك من يريد المسجد ولا يعرف السبيل اليه ، فمن يحدد لنا سبل السلام ، ويضعنا على المحجة البيضاء حتى نصل الى حيث الخيرات؟ الرسل. فمن كذّب بهم ضل السبيل ، وكان كمن يريد مكة ولكنه

١٥٠

يضل طريقه فيصل الى اليمن.

وسميت الرسالة بالحسنى لأنها تهدينا إلى أحسن السبل لأحسن الاهداف.

وقد جاء في الحديث المأثور عن رسول الله ـ صلّى الله عليه واله ـ قال : «ما من يوم غربت شمس إلّا بعث بجنبتها ملكان يناديان ، يسمعهما خلق الله كلهم إلّا الثقلين : اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا» (١). وقد استوعب الكثير من أصحاب رسول الله هذا الدرس فتراهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وينفقون أموالهم بلا حساب ابتغاء وجه ربهم. هكذا أدبهم رسول الله ـ صلّى الله عليه واله ـ حتى تساموا على شح أنفسهم ، جاء في رواية مأثورة عن الامام الباقر ـ عليه السلام ـ : قال : «مرّ رسول الله برجل يغرس غرسا في حائط فوقف له وقال : ألا أدلك على غرس أثبت أصلا وأسرع إيناعا وأطيب ثمرا وأبقى؟ قال : بلى. دلّني يا رسول الله؟ فقال : إذا أصبحت وأمسيت فقل : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر ؛ فإن لك أن قلته بكل تسبيحة عشر شجرات في الجنة من أنواع الفاكهة ، وهو من الباقيات الصالحات قال : فقال الرجل : فاني أشهدك يا رسول الله! ان حائطي هذا صدقة مقبوضة على فقراء المسلمين أهل الصدقة» (٢).

(٧) حينما تكون النية صالحة ، والقلب زكيّا ، فان سبل الخير تحمل أصحابها إلى حيث السعادة والفلاح.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى)

أي الحياة اليسرى ، والعاقبة الحسنى ، والسؤال : كيف؟ الالكترون الصغير

__________________

(١) القرطبي ج ٢٠ ص ٨٣.

(٢) نور الثقلين ج ٢ ص ٥٩١.

١٥١

المتناهي في الصغر داخل عالم (الذرة) يسير في سبيله المحدد له ، وهكذا المجرة المتناهية في الكبر تسبح في أفلاكها المحددة ، وكذلك ما بينهما لكل شيء سبيله ، فإذا عرفت سبل الأشياء ، واستطعت ان تضبط حياتك عليها فإنك تسير لاهدافك ، وإلّا فسوف تصطدم مع سبل الحياة وسنن الله فيها ، ولا تبلغ المنى.

(٨ ـ ٩) الحياة منظمة بأدقّ مما نتصور ، وأدق مما يعرفه كبار العلماء ، حتى قال أحدهم وقد بهرته عظمة تنظيم العالم : العالم كتب بلغة رياضية. ان الجزء الواحد من مليون جزء من الثانية محسوب عند الله ، وان المثقال من ذرة خفيفة موزون عند الله ، وان اللمحة والخطفة والنية محسوبة عند الله ، ولكن بعض الناس يزعمون بجهلهم أنهم في غابة تسودها الفوضى ، فيكذبون بالحق ، ويبخلون ، ويستكبرون في الأرض ، ونهايتهم العسرى.

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى)

فلم ينفق ، وتشبّث بما يملك ، وزعم أن المال يخلده ، وينقذه من الهلكة ، واضافة على ذلك كذب برسالة ربّه.

(١٠) انه يجد طريقا سهلا الى المهالك ، كمن يسقط من علّ لا يحتاج الى وعي وإرادة وعزم واختيار. أرأيت الذي يقود سيارة سريعة في طريق جبلي لو غفل عن المقود هل يحتاج الى عزم إرادة لكي يرتطم بالصخور ، أو تهوي به في الوادي؟ انه يتيسر لمصيره.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى)

كما قال ربنا سبحانه : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (١).

__________________

(١) طه / ١٢٤.

١٥٢

(١١) من ضيق نفس البشر ومحدودية أفقه أنه يفرح بما أوتي حتى يستغني به عما لا يملك ويتملكه الغرور به ، والاستغناء والغرور يدفعانه إلى الطغيان ، كما يقول ربنا سبحانه : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (١).

ومن فرط غرور المرء بماله يزعم أن ماله يصنع له المعجزات ، وانه يمنع عنه كل سوء ، ولكن هيهات.

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى)

أي سقط في الهاوية بفعل ذنوبه! وقيل : معناه إذا مات.

وقد جاء في حديث مأثور عن الامام الرضا ـ عليه السلام ـ في تفسير هذه الاية : انها نزلت في أبي الدحداح ، قال : ان رجلا من الأنصار كان لرجل في حائطه نخلة ، فكان يضربّه ، فشكا ذلك إلى رسول الله فدعاه ، فقال : أعطني نخلتك بنخلة في الجنة ، فأبى ، فسمع ذلك رجل من الأنصار يكنّى أبا الدحداح ، فجاء الى صاحب النخلة فقال : بعني نخلتك بحائطي ، فباعه فجاء إلى رسول الله ، فقال : يا رسول الله! قد اشتريت نخلة فلان بحائطي ، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه واله ـ تلك بدلها نخلة في الجنة ، فأنزل الله تعالى على نبيه : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ... الآيات (٢)

(١٢) من المسؤول عن عملك أنت أم ربك؟ كلّ منا يجيب بفطرته وبلا تردد أنه هو الذي اختار نوع عمله ، فهو إذا مسئول عنه ، ومجزي به ؛ إنما يوفر الله سبحانه له فرص الهداية كاملة ، فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها ، وهكذا أتم السياق بيان مسئولية الإنسان عن أفعاله ، وأن سعيه شتى ، فمن اختار العطاء

__________________

(١) العلق / ٦.

(٢) نور الثقلين ج ٥ ص ٥٨٩.

١٥٣

والتصديق يسّره الله للحسنى ، ومن اختار البخل والتكذيب يسّره الله للعسرى. أقول : أكمل هذه البصيرة ببيان : أن الهدى عليه ، والسعي علينا ، ولذلك فالإنسان هو الذي يتحمل مسئولية سعيه.

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى)

وقال سبحانه : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) وقال (إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) وعلى الإنسان ان ينتظر هدى الله وبيانه. فإذا هداه بادر باتباع هداه وتنفيذ بيانه.

(١٣) وإن الرب الجبار هو المسيطر على شؤون الاخرة والدنيا ، فإذا اتبع أحد هداه فبتوفيقه وتيسيره ، وإذا ضلّ وعصى ففي اطار قدرته ، فلا يعصي الله عن غلبة أو ضعف ، ولا يتهرب العصاة عن حدود مملكته.

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى)

ان العصاة يتّكلون على أنفسهم ، ويزعمون أن هامش الاختيار والامتلاك الذي أوتوا يوفر لهم إمكانية تحدي مالكهم ومليك السموات والأرض ، ولكنهم في ضلال بعيد ، فالله هو مالك الدنيا كما هو ملك الاخرة ، ولذلك فبيده أمرهم وجزاؤهم في الدارين جميعا.

(١٤) ولذلك فهو يعاقبهم في الدنيا بتسهيل سبيل العسر لهم ، واستدراجهم فيه بسوء اختيارهم له ، ويعاقبهم في الاخرة بنار تتقد وتبتلع الأشقياء.

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى)

انها نار ملتهبة ، تنتظر كلّ الأشقياء ، وعلينا الحذر منها ، لان الله قد أنذرنا جميعا ، فلا يقولن أحد : أنا بعيد عنها لاني أملك مالا ، أو جاها ، أو انتمي

١٥٤

ـ ظاهرا ـ الى دين الإسلام ، وأوالي الرسول وآل بيته. كلا .. إنما يتقي النار من اتقى الله في الدنيا.

(١٥) أما الأشقى فانه يحترق بلهيبها ، ويصطلي بحرها لانّه لم يصنع لنفسه من دونها سترا من الايمان وصالح الأعمال.

(لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى)

(١٦) وعلامة الأشقى الكفر بالرسالة ، وعصيان الشريعة.

(الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى)

يبدو أن التكذيب حالة نفسية وعقلية ، بينما التولي حالة عملية ، أي كذب بقلبه ولسانه ، وتولى بعمله ومواقفه.

(١٧) أما الذي اتقى الله ـ فقد اتقى نار غضبه. صلاته تقيه ، صومه يجنبه ، إنفاقه يستره ، نيته الصالحة تحميه من تلك النار المتقدة.

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى)

ولماذا لم يقل ربنا : التقي ، ربما لان التقي الذي لم يبلغ مستوى «الأتقى» كان قد ارتكب بعض الخطايا فاستحق به لهبا من النار بقدرها ان لم يغفرها الله له ، وقد قال ربنا سبحانه : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١).

وهكذا الذي شقي ببعض الموبقات قد يغفر الله له كما قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى

__________________

(١) التوبة / ١٠٦.

١٥٥

إِثْماً عَظِيماً) (١)

وإلى ذلك تشيرالرواية المأثورة عن الامام الباقر عليه السلام : «النيران بعضها دون بعض» (٢).

وهكذا يبين السياق حالتين متقابلتين تماما لتكونا ـ كما الليل يقابل النهار ـ مثلا لاختلاف السعي.

(١٨) ومن أبرز صفات : «الأتقى» التصدّق بماله لكي يطهر قلبه من الشح والبخل وحب الدنيا.

(الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى)

كل من يملك مالا ينفقه ، ولكن أكثرهم ينفقون أموالهم ، ثم تكون عليهم حسرة ؛ لأنهم لا يبحثون عن الزكاة ، ونقاوة القلب بقدر ما يبحثون عن الذات وتكريس الانانية ، إلّا المتّقون الذين يعرفون أن حب الدنيا أصل كل انحراف ، فيطهرون بالزكاة قلوبهم من حبها.

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى)

فلم ينفق ماله جزاء على نعمة سبقت إليه من المنفق عليه ، ولم يطلب لانفاقه جزاء حتى ولو كان من نوع طلب الشكر ، أو محاولة إخضاع الفقير لسلطته ، وتكريس حالة الطبقية بهذا الإنفاق ، كإنفاق الكثير من المترفين والمسرفين.

(٢٠) كلّا .. إنما ينفق لوجه الله ، وابتغاء مرضاته ، وسعيا وراء الجنة التي

__________________

(١) النساء / ٤٨.

(٢) نور الثقلين ج ٥ ص ٥٩٢.

١٥٦

وعد الله المنفقين.

(إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى)

ووجه الله رضاه وما أمر به ، ومما أمر به طاعة أوليائه.

(٢١) لأنه ابتغى رضوان الله فإن الله يرضيه بفضله.

(وَلَسَوْفَ يَرْضى)

وهل هناك غاية أسمى من الرضا؟ أليس الإنسان دائم التطلع عريض الطموح ، فكيف يرضى؟ بلى. أنّى كانت رغبات الإنسان عظيمة فإن الجنة أعظم ، وفضل الله أكبر.

وهذه السورة بمجملها ولا سيما خاتمتها تكرس في الإنسان حس المسؤولية ، بيد أن بعض القدرية حاولوا تفسيرها بما يتناسب ونظرية الجبر التي تنتزع حس المسؤولية عن القلب ، فإذا كان كلّ شيء كتب بالقلم وحتى عمل الإنسان فأين مسئولية؟ ولماذا يحرضنا الله على العطاء ولا نملك من أنفسنا شيئا ، ولماذا يحذرنا النار ولسنا الذين نقرر الدخول فيها أو اجتنابها؟ هكذا جاء في صحيح مسلم عن أبي الأسود الدؤلي قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أين قضي ومضى عليهم من قدر سبق ، أو فيما يستقبلون مما آتاهم به نبيهم. وثبتت الحجة عليهم؟! فقلت : بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم ، قال : فقال : أفلا يكون ظلما؟ ففزعت من ذلك فزعا شديدا ، وقلت : كل شيء خلق الله وملك يده ، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، فقال لي : يرحمك الله. إني لم أرد فيما سألتك إلّا لاحرز عقلك.

وأن رجلين من مزينة أتيا رسول الله ـ صلّى الله عليه واله ـ فقالا : يا

١٥٧

رسول الله! أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه. أشيء قضى عليهم ومضى ، من قدر قد سبق ، أو فيما يستقبلون به مما آتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال : «لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم ، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (١).

ويبدو لي أن هناك خلطا فظيعا حدث عند البعض بين الايمان بالقضاء والقدر ، وبين الأخذ بنظرية الجبر اليهودية التي زعموا فيها : أن يد الله مغلولة ، وأن الله لا يقدر على تغيير شيء مما قدّر سبحانه ، وأن العباد مكرهون على ما يفعلون ، وأن الله يجازيهم بغير صنع منهم في أفعالهم أو مشيئته.

ومنشأ هذا الخلط تطرف بعض المؤمنين ضد نظرية التفويض للقدرية التي زعمت أن الله ترك عباده لشأنهم ، دون أن يأمر أو ينهى أو يقدّر شيئا.

والنظرية القاصدة هي الوسطى التي فاتت الكثير من المفسرين ، وهي التي تصرح بها آيات الله ، والتي هي لب الشريعة وخلاصة الرسالات الالهية وهي : أن الله قضى وقدّر ، وكان مما قضى حرية الإنسان في حدود مشيئته ، ومسئوليتهم عن أفعالهم ، وأنه سبحانه هو الذي منح العبادة قدرة المشيئة ، كما أعطاهم سائر القدرات ليفتنهم فيها ، وبيّن لهم الخير والشر وألهمهم الفجور والتقوى.

والرسول ـ صلّى الله عليه واله ـ بيّن ذلك ، ولكن الناس فسّروا كلام الرسول بالخطإ كما فسروا القرآن كذلك ، فالرواية السابقة ـ مثلا ـ لا تخطأ القرآن في مدلولها ، إذ أن الرسول بين أن الله قد قضى عليهم ما ألهمهم من الفجور والتقوى ، فإن فجروا فبإذنه (لا بأمره ولا بفعله) وإن اتقوا فبإذن وبأمره (لا بفعله).

__________________

(١) أنظر القرطبي ج ٢٠ ص ٧٦.

١٥٨

وكذلك النص التالي انما يدل على أن الله سبحانه لم يترك عباده سدى. وفي النص ـ كما نقرأه ـ تصريح بضرورة السعي والكدح ، وإذا كان كل شيء قد تم فلم السعي ، ولماذا الكدح؟

جاء في الصحيحين والترمذي عن علي ـ عليه السلام ـ قال : «كنا في جنازة بالبقيع ، فأتى النبي ـ صلّى اله عليه واله ـ فجلس وجلسنا معه ، ومعه عود ينكت به في الأرض. فرفع رأسه الى السماء فقال : ما من نفس منفوسة إلّا قد كتب مدخلها» فقال القوم : يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا ، فمن كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة. ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء؟ قال : اعملوا فكل ميّسر. أما من كان من أهل السعادة فإنّه ييسّر لعمل السعادة ، وأمّا من كان من أهل الشقاء فإنه ييسّر لعمل الشقاء» ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (١).

ماذا نفهم من هذا الحديث؟ هل الجبر أم المسؤولية؟ إن تلاوة الرسول للآية تدل على أنه ـ صلّى الله عليه واله ـ حرّضنا للعطاء والبذل ، ولكنه ربط العاقبة بأمر الله ، بلى. لسنا نحن الذين نقرر السعادة والشقاء ، وإنما الله سبحانه ولكن بأعمالنا وبما نختاره ، أولم يقل سبحانه : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٢) وقال : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) فنسب السعي الى الإنسان ، والرسول رفض فكرة الجبر ، والاتكال على الكتاب الذي لا يفيد فيه حسب زعمهم.

__________________

(١) القرطبي ج ٢٠ ص ٨٤.

(٢) المدّثر / ٣٨.

١٥٩

سورة الضّحى

١٦٠