من هدى القرآن - ج ١٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-21-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٠

كالشمس وأعظم منها ، حتى أنّ الشمس حين تقع فيها تصيح من شدّة حرّها ، أم ماذا؟ لا نعرف ، ولكن جاء في رواية مأثورة عن أبي جعفر (الباقر) ـ عليه السلام ـ أنه قال : «لمّا نزلت هذه الاية : «وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ» سئل عن ذلك رسول الله ـ صلّى الله عليه واله ـ ، فقال : بذلك أخبرني الروح الأمين أنّ الله لا إله غيره إذا برز الخلائق وجمع الأوّلين والآخرين أتي بجهنّم يقاد بألف زمام يقودها مائة ألف ملك من الغلاظ الشداد ، لها هدّة وغضب وزفير وشهيق ، وإنّها لتزفر الزفرة فلو لا أنّ الله أخّرهم للحساب لأهلكت الجميع ، ثمّ يخرج منها عنق فيحيط بالخلائق البرّ منهم والفاجر فما خلق الله عبدا من عباد الله ملكا ولا نبيّا إلّا ينادي : ربّ نفسي نفسي ، وأنت يا نبيّ الله تنادي : أمّتي أمتي ، ثمّ يوضع عليها الصراط أدقّ من حدّ السيف ، عليها ثلاث قناطر فأمّا واحدة فعليها الأمانة والرّحم ، وثانيها فعليها الصلاة ، وأمّا الثالثة فعليها ربّ العالمين لا إله غيره ، فيكلّفون الممرّ عليهم فيحبسهم الرحم والأمانة فإن نجوا منها حبستهم الصلاة ، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين ، وهو قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) ، والناس على الصراط فمتعلّق بيد ، وتزول قدم ، ويستمسك بقدم ، والملائكة حولها ينادون : يا حليم أعف واصفح وعد بفضلك وسلّم سلّم ، والناس يتهافتون في النار كالفراش فيها ، فإذا نجا ناج برحمة الله مرّ بها فقال : الحمد لله وبنعمته تتمّ الصالحات وتزكوا الحسنات ، والحمد لله الذي نجّاني منك بعد إياس بمنّه وفضله إنّ ربّنا لغفور شكور» (١)

وفي حديث أخر إضافة رهيبة حيث يقول الرسول ـ صلّى الله عليه واله ـ : «جاء جبرئيل فأقرأني «وجيء يومئذ بجهنّم» فقلت : يجاء بها؟ قال : يجيء بها سبعون ألف يقودونها بسبعين ألف زمام ، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت

__________________

(١) بحار الأنوار / ٨٦٠ ص ١٩٣.

١٠١

أهل الجمع!!» (١)

(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى)

لا تنفعه الذكرى بعد فوات أوانها.

(٢٤) ماذا يتذكّر؟ يتذكّر طيّباته التي بدّدها فيما زالت ، يتذكر شبابه الذي أبلاه في شرّة السهو والتباعد عن الرب ، يتذكر أمواله التي جمعها من غير حلّ ، وأنفقها في غير رضا الرب ، يتذكّر أوقاته التي أفناها في اللهو والغفلة والإشتغال بالتوافه ، وكل ساعة منها كان يستطيع أن يحصل بها على ملك كبير في الاخرة!

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي)

إنّها تلك الحياة حقّ الحياة ، الحياة الخالدة التي لا تزول.

(٢٥) هنالك العذاب الإلهي الذي يتجلّى به الرب ، والوثاق الإلهي الذي يتجلّى به غضبه.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ)

لا أحد يعذّب كالله ، لأنّه الأعظم الأكبر الذي لا يقاس أيّ شيء منه بأيّ شيء من خلقه. وإنّ الإنسان ليهرب من عذاب الدنيا ولا يعرف أنّ عذاب الله في الاخرة لا يقاس ببعض الأذى في الدنيا.

جاء في دعاء أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ : «وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها وما يجري فيها من المكاره على أهلها ، على أنّ ذلك

__________________

(١) تفسير نور الثقلين / ج ٥ ص ٥٧٦.

١٠٢

بلاء ومكروه قليل مكثه ، يسير بقاؤه ، قصير مدّته ، فكيف احتمالي لبلاء الاخرة وجليل وقوع المكاره فيها؟! وهو بلاء تطول مدّته ، ويدوم مقامه ، ولا يخفّف عن أهله ، لأنّه لا يكون إلّا عن غضبك وانتقامك وسخطك ، وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض ، يا سيدي فكيف بي وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين؟!» (١)

(٢٦) كما لا شيء يشبه سجن الله ووثاقه.

(وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ)

أي لا يشدّ أحد وثاقا بذات الشدة التي يشدّ الله وثاق الكفّار.

(٢٧) أهذا خير أم مصير المؤمنين الذين قدّموا لحياتهم فعمروا آخرتهم ، فاطمأنت نفوسهم بسكينة الإيمان ، وتساموا فوق مؤثّرات المادة ، فربما ملكوها ولكنّها لم تمتلكهم أبدا ، فعاشوا أحرارا ، وماتوا سعداء ، إذا استقبلهم ملك الموت فبترحاب ، ونودوا في أوّل ساعة من حياتهم الأبدية بالبشرى.

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ)

يعيش المؤمن بين الخوف والرجاء ، فإن دعاه إلى الخوف إحساسه بالتفريط في جنب الله ، فقد دعاه إلى الرجاء يقينه بعظيم عفو الله وواسع رحمته. وكل خوفه من العاقبة السوئى ، ومن ألّا يتقبّل الله حسناته ، ولا يتجاوز عن سيئاته ، ومن أن يتبيّن في ساعة الرحيل أنّ حساباته كانت خاطئة ، وأنّه ليس كما كان يرجو من أصحاب الجنة. أو لم تسمع مناجاة الإمام السجّاد علي بن الحسين ـ عليه السلام ـ : «ليت شعري  أللشقاء ولدتني أمّي أم للعناء ربّتني ، فليتها لم تلدني ولم

__________________

(١) مفاتيح الجنان / دعاء كميل.

١٠٣

تربّني ، وليتني علمت أمن أهل السعادة جعلتني وبقربك وجوارك خصصتني فتقر بذلك عيني وتطمئنّ له نفسي» (١)

(٢٨) فإذا جاءه النداء الإلهي عند وفاته : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) استراح ، وشملته البشرى ، وعمّه الفرح .. هنالك يستطيب الموت لأنّه عودة العبد الكريم إلى الربّ الرحيم الذي يستضيفه بالقول :

(ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً)

لقد اطمأنت أنفسهم إلى بارئها ، وتوكّلوا على الله ، وسلّموا لقدره وقضائه ، ولم يبطرهم الغنى ، وما اعتبروه صكّ الغفران ، ولم يهزمهم الفقر ، وما اعتبروه لعنة إلهية .. لذلك فإنّ الله يرضيهم بنعيم الأبد ، وينبّؤهم بأنّهم مرضيّون ، وما أحلى ساعة اللقاء بحبيبهم وأنيسهم ، وما أروع كلمات الودّ المتبادلة ، جاء في الحديث القدسي عن الله عزّ وجلّ أنّه قال في حقّ الزاهدين وأهل الخير وأهل الاخرة : «فو عزّتي وجلالي لأحيينّهم حياة طيّبة إذا فارقت أرواحهم أجسادهم ، لا أسلط عليهم ملك الموت ، ولا يلي قبض روحهم غيري ، ولأفتحنّ لروحهم أبواب السماء كلّها ، ولأرفعنّ الحجب كلّها دوني ، ولامرنّ الجنان فلتزيّننّ ، والحور فلتزفّنّ ، والملائكة فلتصلّينّ ، والأشجار فلتثمرنّ ، وثمار الجنة فلتدلّينّ ، ولامرنّ ريحا من الرياح التي تحت العرش فلتحملنّ جبالا من الكافور والمسك الأذفر فلتصيرنّ وقودا من غير النار فلتدخلنّ به ولا يكون بيني وبين روحه ستر فأقول له عند قبض روحه : مرحبا وأهلا بقدومك عليّ ، اصعد بالكرامة والبشرى ، والرّحمة والرضوان ، وجنّات لهم فيها نعيم مقيم ، خالدين فيها أبدا ، إنّ الله عنده أجر عظيم ، فلو رأيت الملائكة كيف يأخذ بها واحد ويعطيها الاخر!» (٢)

__________________

(١) مفاتيح الجنان / مناجاة الخائفين.

(٢) كلمة الله / المؤلف السيد حسن الشيرازي ص ٣٦٩.

١٠٤

وجاء في نفس الحديث : «وإذا كان العبد في حالة الموت يقوم على رأسه ملائكة بيد كلّ ملك كأس من ماء الكوثر وكأس من الخمر ، يسقون روحه حتّى تذهب سكرته ومرارته ، ويبشّرونه بالبشارة العظمى ، ويقولون له : طبت وطاب مثواك ، إنّك تقدم على العزيز الحكيم ، الحبيب القريب ، فتطير الروح من أيدي الملائكة فتصعد إلى الله تعالى في أسرع (من) طرفة عين ، ولا يبقى حجاب ولا ستر بينها وبين الله تعالى ، والله عزّ وجلّ إليها مشتاق ، وتجلس على عين عند العرش ، ثمّ يقال لها : كيف تركت الدنيا؟ فتقول : إلهي وعزّتك وجلالك لا علم لي بالدنيا ، أنا منذ خلقتني خائفة منك ، فيقول الله تعالى : صدقت يا عبدي ، كنت بجسدك في الدنيا وروحك معي ، فأنت بعيني ، سرّك وعلانيتك ، سل أعطك ، وتمنّ عليّ فأكرمك ، هذه جنتي فتجنّح فيها ، وهذا جواري فاسكنه ، فتقول الروح : إلهي عرّفتني نفسك فاستغنيت بها عن جميع خلقك ، وعزّتك وجلالك لو كان رضاك في أن أقطع إربا إربا ، وأقتل سبعين قتلة بأشدّ ما يقتل به الناس لكان رضاك أحبّ إليّ ، إلهي كيف أعجب بنفسي وأنا ذليل إن لم تكرمني ، وأنا مغلوب إن لم تنصرني ، وأنا ضعيف إن لم تقوّني ، وأنا ميّت إن لم تحيني بذكرك ، ولو لا سترك لافتضحت أوّل مرّة عصيتك ، إلهي كيف لا أرضيك وقد أكملت عقلي حتى عرفتك ، وعرفت الحقّ من الباطل ، والأمر من النهي ، والعلم من الجهل ، والنور من الظلمة ، فقال الله عزّ وجلّ : وعزّتي وجلالي لا أحجب بيني وبينك في وقت من الأوقات ، كذلك أفعل بأحبّائي» (١).

(٢٩) ثم يدخل الله روح المؤمن بعد قبضها برضاه في حزبه المفلحين في عباده الصالحين حيث المؤانسة والصفاء.

__________________

(١) المصدر / ٣٧٥.

١٠٥

(فَادْخُلِي فِي عِبادِي)

أي انتظمي في سلكهم.

(٣٠) وتستقبله دار ضيافة الله ومنزل كرامته الجنة التي من دخلها لم يخرج منها أبدا.

(وَادْخُلِي جَنَّتِي)

جعلنا الله من أهل جنته إنّه سميع الدعاء.

١٠٦

سورة البلد

١٠٧
١٠٨

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

عن أبي عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ : من كان قراءته في فريضته «لا أقسم بهذا البلد» كان في الدنيا معروفا أنّه من الصالحين ، وكان في الاخرة معروفا أن له من الله مكانا ، وكان يوم القيامة من رفقاء النبيين والشهداء والصالحين»

تفسير سورة الثقلين / ج ٥ / ص ٥٧٨.

١٠٩

الإطار العام

حينما يولد ابن أدم تتساوى في كيانه فرص الخير والشر ، ولا يزال يختار ثم يستفيد من فرص الخير أو الشر الواحدة بعد الأخرى حتى تميل كفته نحو ما اختار. فرص الخير هي العناصر النورية التي لو رجحت حملته الى الجنة ، بينما فرص الشر هي العناصر النارية التي لو تكاثفت هوت به إلى جهنم وساءت مصيرا.

ولا أعرف شيئا يجري فيه تحول ذاتي كالإنسان. إنه يتمحض بالتالي للجنة أو للنار ، هنالك لا يعود مختارا ، ولا يعود يملك حرية اختيار واحد من النجدين ، بل يبقى كما اختار أولا : اما الى جنة النور خالدا فيها ، أو الى جهنم النار خالدا فيها ، أو لبعض الوقت.

كيف يتم اختيار الشر؟ انه ليس بحاجة الى العزم والوعي ، بل يكفي الغفلة والاسترسال سبيلا يؤدي به الى النار ، كما لو تسلق الإنسان الجبل لا يحتاج سقوطه في الوادي الى إرادة وحكمة ، بل ليدع نفسه لحظة فسوف نراه في الوادي مهشّما بعد لحظات ، بينما الذي يختار الجنة عليه ان يتسلح بوعي الذات وعزم الإرادة ، ولعل

١١٠

هذه البصيرة هي محور سورة البلد.

ذلك أن القسم الاول من السورة يبصرنّا بأنفسنا ، واننا في كبد (الأرض والمكان) وعلينا وعي ذلك حتى نتحدى الصعاب بعزم الارادة ، ونعرف أن الله قادر علينا فنراقبه ، وخبير بنا فلا نخدع أنفسنا ؛ خصوصا عند الإنفاق ، فنزعم : اننا أهلكنا مالا كثيرا.

أما القسم الثاني فيذكرنا بضرورة اقتحام العقبة ، وتجاوز المنعطف الخطير الذي يجد الإنسان نفسه بين أمرين : بين السقوط في أشراك الهوى أو التحليق في سماء الحق.

وبعد أن يبين مثلين لاقتحام العقبة هما : فك رقبة ، والإطعام في يوم ذي مسغبة ، يهدي الى قمة التحول الايجابي عند البعض المتمثلة في الإيمان والتواصي بالصبر والمرحمة.

كما يشير في السياق في خاتمة السورة الى التحول السلبي عند البعض الاخر متمثّلا في الانحياز الى المشأمة حيث النار المؤصدة.

١١١
١١٢

سورة البلد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ

___________________

٤ (كبد :) أصل الكبد من قولك : كبد الرجل كبدا فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت ، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ، ومنه اشتقت المكابدة ، وأصل كبده إذا أصاب كبده ، وقيل : الكبد : شدة الأمر ، ومنه تكبّد اللبن : إذا اغلظ واشتد.

٦ (لبدا) الكثير المتراكم ، كما اللبدة وهي اللحاف الثخين ، ومنه اشتقت لبّدة الأسد.

١١٣

النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

___________________

١٠ (النجدين :) قيل النجد كالنجف ، وسميت نجد نجدا لأنها في رفعة من الأرض ، وسميت النجف نجفا لذلك ، وقيل : نجد : هو الطريق الواضح على مرتفع من الأرض يبصره الرائي.

١١٤

وما أدراك ما العقبة

بينات من الآيات :

(١) لكي نعي مدى خطورة قضية نقيسها بأخرى عبر القسم ، وحينما يأتي القسم في كلام الله ، يضاف الى ذلك بعدان اخران : أولا : يعكس عظمة ما يقسم به بذات النسبة التي يعكس أهمية ما يقسم عليه ، ثانيا : يكشف عن علاقة خفية أو ظاهرة بين الأمرين ، وفي فاتحة سورة البلد نجد التلويح بالقسم بالبلد وبالوالد والولد ، لبيان المشاق التي يواجهها الإنسان ، فما هي العلاقة بينهما؟ انها تتمثل في أن أعظم ما يكابده البشر يتصل بالأرض والأولاد.

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ)

قلنا : ان القسم يهدف إلقاء ظلال من العظمة على الموضوع ، وسوف يحقق هذا الهدف نفيه أو إثباته ، وقد يكون نفي القسم يوحي بأهمية ما يحلف به مما يبالغ في العظمة ولذلك قال المفسرون : ان لا هنا زائدة ، وبعضهم قال : انها تشبه كلمة

١١٥

كلا ، تنفي أفكار الجاهليين.

والبلد ـ حسب أقوال المفسرين ـ : مكة ، وشرف مكة واضح.

(٢) ولكن مكة ليست بأشرف من رسول الله ، بل شرف كلّ أرض بمن يسكنها من عباد الله الصالحين ، ولذلك جاء في الحديث : «المؤمن أعظم حرمة من الكعبة» (١) ويفسر ذلك حديث أخر : أن رسول الله ـ صلّى الله عليه واله ـ نظر الى الكعبة فقال : «مرحبا بالبيت ما أعظمك! وأعظم حرمتك على الله! والله للمؤمن أعظم حرمة منك ؛ لأن الله حرّم منك واحدة ، ومن المؤمن ثلاث : ماله ، ودمه ، وأن يظنّ به ظنّ السوء» (٢) أو ليست الكعبة أول بيت وضع للناس ، فالهدف إذا هو الإنسان الذي سخرت له الأرض وما فيها ، وأي إنسان أشرف من محمد بن عبد الله صلّى الله عليه واله.

(وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ)

أي أنت تسكن هذا البلد وتحل فيه ، وقال بعضهم معنى الاية : لأقسم بالبلد الذي يستحل النبي فيه. وقد روي ذلك مأثورا عن الامام الصادق عليه السلام حيث قال : «وكان أهل الجاهلية يعظمون الحرم ، ولا يقسمون به ، و(لا) يستحلون حرمة الله فيه ، ولا يعرضون لمن كان فيه ، ولا يخرجون منه دابة ، فقال الله تبارك وتعالى (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ.* وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) قال : يعظمون البلد أن يحلفوا به ، ويستحلون فيه حرمة رسول الله (٣).

وعلى هذا يكون شرف المكان بتوفر حالة من الحرية والأمن لمن يسكنه.

__________________

(١ ، ٢) موسوعة بحار الأنوار / ج ٦٧ ص ٧١.

(٣) تفسير البصائر ج ٥٥ ص ٥٣٣ نقلا عن الكافي.

١١٦

(٣) ثم يقسم القرآن بوالد وما ولد ، فيقول :

(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ)

فمن هما؟ يبدو ان كل والد يكابد حتى ينمو ولده ويشب ، كما يكابد كل ولد حتى يكتمل ويصبح والدا ، والقسم على هذا مطلق يشمل كل إنسان.

وقال بعضهم بل المراد أدم ـ عليه السلام ـ وذريته ، أو إبراهيم ـ عليه السلام ـ ونجله إسماعيل ، أو كل ذريته الصالحين.

(٤) أيهما أيسر عليك إذا حملت ما يزن خمسة كيلوات وأنت تزعم انه عشرة ، أو كنت تزعم انه ثلاثة؟! كذلك حينما تواجه الحياة وأنت ترى أنها كما التسلق على جبل أشمّ ، فانك تتغلب بسهولة ، بعكس ما لو زعمت انها مجرد رحلة سياحية.

والقرآن الكريم يريدنا أن نعرف حقيقة الحياة ، ونسموا الى مستواها ، لأنه أفضل لديننا ودنيانا من ان نتهرب منها بحثا عن الراحة ، القرآن يريدك قويّ الظهر حتى لا يثقل عليك أيّ حمل ، ولا يريدك تبحث دائما عن الحمل الخفيف وقد لا تجده .. أو لم تقرأ قول الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ).

بلى. وكل حياة الإنسان كدح ، إلّا أنه قد يغفل عنه فيهرب الى ما هو أشد كدحا ، أو يستسهله ويتغلب على صعابه حتى لا يعود يعترف بأية صعوبة.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ)

وانى لك الفرار من أمر خلقت فيه وهو داخل كيانك بل هو أصل وجودك شئت أم أبيت؟!

قالوا : الكبد الشدة والنّصب.

١١٧

الوجود ذاته سلسلة انتصارات ضد العدم ، أو ليس الوجود نورا يجعل الشيء واقعا! تصور أن النور ذرأت متلاحقة متصلة ، فاذا توقفت فليس ثمة سوى ظلام.

والحياة بدورها سلسلة صراعات ضد الموت ؛ إنها هي الاخرى نور متجدد ، وهي نتيجة ملايين من العوامل المتزامنة لو فقد بعضها انعدمت.

كما أن حياة كل واحد منا صراع مع الطبيعة ، أو تعرف كم مليار جرثومة هجمت عليك خلال رحلة حياتك بهدف القضاء عليك ، وكم مرة تعرضت أو تتعرض لخطر الموت فنجوت منها بإذن الله ، وحتى على مستوى الظاهر تجد الإنسان في كبد ، يصارع من أجل البقاء في ظلمات الرحم ، ويواجه أكبر التحديات عند الولادة ، حتى اعتبروا ساعتها كساعتي الموت والنشور أشد مما يمر به البشر ، وفي الطفولة المبكرة يعاني من الجوع والعطش والألم ويتحدى الأخطار ، أو ليس تشكل نسبة الوفيات عند الأطفال الأعلى في البلاد النامية ونسبة عالية في غيرها؟!

راقب طفلا يتعلم المشي وانظر كم يقدم وكم يسقط ، وراقبه عند تعلم اللغة كم يعاني من صعوبة ، وراقبه عند ما يسعى لاقناع والديه برغبة ملحة كم يبكي وكم يجهد نفسه. كل ذلك جانب من معاناة الطفل. أما معاناة الكبار فإنها لا تنتهي لأن الإنسان خلق شاعرا طموحا ، والشعور يفرز الألم ، والطموح سبيل المعاناة ، وهذا هو الذي يميزه عن سائر الأحياء ، ومن هنا روي عن الامام الحسن ـ عليه السلام ـ انه قال : «لا أعلم خليقة يكابد من الأمر ما يكابد الإنسان ، يكابد مضايق الدنيا وشدائد الاخرة» (١).

(٥) وفي هذه المكابدة يستوي المؤمن والكافر ، والغني والفقير ، والكبير ، والصغير ، وكل من سمي إنسان. قد لا تحس أنت بمعاناة رفيقك لأنك لست في

__________________

(١) المصدر ص ٥٣٥.

١١٨

قلبه ، فتزعم أن غيرك أفضل منك ، ولكن أوليسوا هم أيضا بشرا أمثالك. بلى. إذا تعالوا نرضى بواقعنا ، ونتحمل المسؤولية ، ولا يقول الواحد : الآن انا صغير ، لو كبرت لارتحت مما أعانيه ؛ لأن الكبار أفضل ، أو يقول : انا الآن اعزب لو تزوجت ، أو إن سبب متاعبي فقري فلو أغناني الله بلغت الراحة ، أو إن سبب مشاكلي أن أولادي صغار فلو كبروا تخلصت من همومهم ، ولكنه ما إن ينتقل من حال إلى حال ، أو من مرحلة لأخرى حتى تهجم عليه مشاكل جديدة ، كل مشكلة أكبر من أختها. لا تعيش إذا في الأمنيات الحلوة ، في أحلام اليقظة ، لا تقل لا يعاقبني الله ، ولماذا؟ هل أنت إلا بشر.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ)

قالوا معناه : أيظن ابن آدم أن لن يعاقبه الله عز وجل؟ انه ينظر الى ما أوتي من نعم الله فيصيبه الغرور ولا يفكر ان ما لا يملكه أكثر مما يملكه ، يقول : لا أحد يقدر عليّ ، وهو يعيش في وسط المشاكل وكبد التحديات.

(٦) أو تدري كيف يكبر الإنسان؟ حينما يحمل قضية كبيرة ، ونسبة أدائه لقضيته يكون تساميه ، وهكذا حمل الله عباده الصالحين المزيد من المسؤوليات ، وابتلاهم بأشد البلاء ، حتى جاء في الحديث المعروف : «البلاء للأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» بيد أن بعض الناس كلما حمل رسالة أو قضية أو مسئولية صغرت نفسه في عينيه ، وقال : كيف أؤدي هذا العمل؟ وحاول الفرار منها. حقا عند هذه النقطة يفترق العظماء عن غيرهم ، انهم لا يجدون أحدا أحقّ منهم بعمل الخير أو تحمل المسؤولية ، بل تجد بعضهم يبحث عنها بحثا حثيثا.

ولعل الاية هذه تعالج هذه الحالة الشاذة في نفس الإنسان ، حيث تراه إذا أعطى قليلا كبر في عينيه ، وقال : إنه مال كثير ، ولا يقول انه قدمه لحياته ، بل يراه

١١٩

مغرما ويقول : انني أهلكته.

(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً)

أي مالا كثيرا مجتمعا ولعله يكون كاذبا في ذلك ، فلم ينفق إلّا قليلا ، وعظم عمله في عينه ، بخلاف المؤمن الذي لا يخرج أبدا عن حد التقصير في جنب الله ، ولذلك فهو يتطلع أبدا الى عمل أكبر وأفضل.

(٧) ثم إنه يزعم : أنه متروك لشأنه كالبهيمة السائحة ، وأنه لا أحد يراقبه. كلا .. إن الله يراقبه وهو أقرب إليه من حبل الوريد.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ)

(٨) إن الذين يتهربون من مسئولياتهم يفرغون حياتهم من محتواها ، من لبها ، من هدفها. فلما ذا إذا جعل إنسانا ، وأوتي الأحاسيس المختلفة : عينا يبصر بها فيعرف الحق والباطل ، ولسانا ينطق به ، وشفتين ليطبقها على لسانه ان هم بكلام خاطئ.

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ)

للبصر والبصيرة معا.

(٩) وجعل الله للإنسان اللسان الذي ميّزه عن سائر الأحياء بالنطق.

(وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ)

(١٠) وأعظم النعم أنه منحه الحرية فهداه الى ما هو طريق الحق وما هو طريق الباطل.

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)

١٢٠