عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني
المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦
أسرّك ، البيتين؟ فإذن ربّ هزل صار أداة في جدّ ، وكلام جرى في باطل ثمّ استعين به على حقّ ، كما أنه ربّ شيء خسيس ، توصّل به إلى شريف ، بأن ضرب مثلا فيه ، وجعل مثالا له ، كما قال أبو تمام : [من الكامل]
والله قد ضرب الأقلّ لنوره |
|
مثلا من المشكاة والنّبراس (١) |
وعلى العكس ، فربّ كلمة حق أريد بها باطل (٢) ، فاستحقّ عليها الذمّ ، كما عرفت من خبر الخارجي مع علي رضوان الله عليه. وربّ قول حسن لم يحسن من قائله حين تسبّب به إلى قبيح ، كالذي حكى الجاحظ قال : «رجع طاوس (٣) يوما عن مجلس محمد بن يوسف (٤) ، وهو يومئذ والي اليمن فقال : ما ظننت أنّ قول : «سبحان الله» يكون معصية لله تعالى حتى كان اليوم ، سمعت رجلا أبلغ ابن يوسف عن رجل كلاما ، فقال رجل من أهل المجلس : «سبحان الله» ، كالمستعظم لذلك الكلام ، «ليغضب ابن يوسف» (٥).
فبهذا ونحوه فاعتبر ، واجعله حكما بينك وبين الشّعر.
وبعد ، فكيف وضع من الشّعر عندك ، وكسبه المقت منك ، أنك وجدت فيه الباطل والكذب وبعض ما لا يحسن ، ولم يرفعه في نفسك ، ولم يوجب له المحبة من قلبك ، أن كان فيه الحقّ والصّدق والحكمة وفصل الخطاب ، وأن كان مجنى ثمر العقول والألباب ، ومجتمع فرق الآداب ، والذي قيّد على الناس المعاني الشريفة ، وأفادهم الفوائد الجليلة ، وترسّل بين الماضي والغابر ، ينقل مكارم الأخلاق إلى الولد عن الوالد ، ويؤدّي ودائع الشرف عن الغائب إلى الشاهد ، حتّى ترى به آثار الماضين ، مخلّدة في الباقين ، وعقول الأوّلين ، مردودة في الآخرين ، وترى لكل من رام الأدب ، وابتغى الشّرف ، وطلب محاسن القول والفعل ، منارا مرفوعا وعلما منصوبا وهاديا مرشدا ، ومعلّما مسدّدا ، وتجد فيه للنّائي عن طلب المآثر ، والزاهد في اكتساب
__________________
(١) البيت لأبي تمام في ديوانه ، والتبيان ص (٣٦٨) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي. والنبراس : المصباح والسراج مشتق من النبرس : القطن. اللسان (نبرس). كذلك ذكر الجوهري في الصحاح أن النبراس هو المصباح.
(٢) قالها الإمام علي في جواب رجل من الخوارج دعا إلى التحكيم. انظر تاريخ الطبري (٥ / ٧٢).
(٣) وهو التابعي المشهور ، المتوفى سنة ١٠٦ ه ، بمكة في عهد هشام بن عبد الملك. اه سير أعلام النبلاء (٥ / ٣٨).
(٤) وهو أخو الحجاج توفي سنة ٩١ ه. الأعلام : (٧ / ١٤٧).
(٥) الخبر في البيان والتبيين ، (١ / ٣٩٥) ، أورده في باب : «ما ذكروا فيه من أن أثر السيف يمحو أثر الكلام».
المحامد ، داعيا ومحرّضا ، وباعثا ومحضّضا ، ومذكّرا ومعرّفا ، وواعظا ومثقّفا. فلو كنت ممّن ينصف كان في بعض ذلك ما يغيّر هذا الرأي منك ، وما يحدوك على رواية الشعر وطلبه ، ويمنعك أن تعيبه أو تعيب به ، ولكنك أبيت إلّا ظنّا سبق إليك ، وإلا بادي رأي عنّ لك (١) ، فأقفلت عليك قلبك ، وسددت عما سواه سمعك ، فعيّ النّاصح بك ، وعسر على الصديق الخليط تنبيهك.
نعم ، وكيف رويت : «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ، فيريه ، خير له من أن يمتلئ شعرا» (٢) ، ولهجت به ، وتركت قوله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ من الشّعر لحكمة وإنّ من البيان لسحرا» (٣) وكيف نسيت أمره صلىاللهعليهوسلم بقول الشعر ، ووعده. عليه الجنة ، وقوله لحسان : «قل وروح القدس معك» (٤) ، وسماعه له ، واستنشاده إيّاه ، وعلمه صلىاللهعليهوسلم به ، واستحسانه له ، وارتياحه عند سماعه؟.
أمّا أمره به ، فمن المعلوم ضرورة ، وكذلك سماعه إيّاه ، فقد كان حسّان وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير يمدحونه ، ويسمع منهم ، ويصغي إليهم ، ويأمرهم بالردّ على المشركين ، فيقولون في ذلك ويعرضون عليه. وكان عليهالسلام يذكر لهم بعض ذلك ، كالذي روي من أنه صلىاللهعليهوسلم قال لكعب : «ما نسي ربّك ، وما كان ربّك نسيّا ، شعرا قلته» ، قال : وما هو يا رسول الله؟ قال : أنشده يا أبا بكر. فأنشده أبو بكر رضوان الله عليه : [من الكامل]
زعمت سخينة أن ستغلب ربّها |
|
وليغلبنّ مغالب الغلّاب (٥) |
وأمّا استنشاده إيّاه فكثير ، من ذلك الخبر المعروف في استنشاده ، حين استسقى فسقي ، قول أبي طالب : [من الطويل]
__________________
(١) أي ظهر أمامك. ا. ه القاموس مادة / عنّ / ١٥٧٠.
(٢) أخرجه البخاري في الأدب (٩٢) ، ومسلم في الشعر (٩٧) ، وأبو داود في الأدب (٨٧).
(٣) أخرجه البخاري في الأدب (٦٩) ، وابن ماجة في الأدب (٤١) ، وأحمد بن حنبل في المسند (٣ / ٤٥٦).
(٤) أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (٤ / ٢٩٧) ، والبخاري في الصلاة (٦٨) ، بلفظ (اللهم أيده بروح القدس).
(٥) البيت في ديوان كعب بن مالك : (١٧٨ ـ ١٨٢) ، والأغاني (١٦ / ٢٤٦) ، وانظر طبقات فحول الشعراء رقم (٣٠٥). والسّخينة : لقب قريش لأنها كانت تعاب بأكل السخينة ، وهي الدقيق يلقى على ماء أو لبن فيطبخ ثم يؤكل بتمر أو يحسى وهو الحساء. انظر اللسان (سخن).
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه |
|
ثمال اليتامى ، عصمة للأرامل |
يطيف به الهلّاك من آل هاشم ، |
|
فهم عنده في نعمة وفواضل (١) |
الأبيات. وعن الشعبي رضياللهعنه ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : لما نظر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى القتلى يوم بدر مصرّعين فقال صلىاللهعليهوسلم لأبي بكر رضياللهعنه : لو أنّ أبا طالب حيّ لعلم أن أسيافنا قد أخذت بالأنامل» (٢). قال : وذلك لقول أبي طالب :
كذبتم ، وبيت الله ، إن جدّ ما أرى |
|
لتلتبسن أسيافنا بالأنامل |
وينهض قوم في الدّروع إليهم |
|
نهوض الرّوايا في طريق حلاحل (٣) |
ومن المحفوظ في ذلك حديث محمّد بن مسلمة الأنصاري ، جمعه وابن أبي حدرد الأسلمي الطريق ، قال : فتذاكرنا الشّكر والمعروف ، قال فقال محمد : كنا يوما عند النبي صلىاللهعليهوسلم فقال لحسان بن ثابت : أنشدني قصيدة من شعر الجاهلية ، فإنّ الله تعالى قد وضع عنا آثامها في شعرها وروايته ، فأنشده قصيدة للأعشى هجا بها علقمة بن علاثة : [من السريع]
__________________
(١) البيتان من قصيدة لأبي طالب والذي يخبر قومه فيها أن لن يترك محمدا أبدا حتى يهلك دونه.
انظر السيرة النبوية لابن هشام (١ / ٢٥٦ ـ ٢٦٢) ، وانظر طبقات فحول الشعراء رقم (٣٦٦) والتعليق عليه وثمال اليتامى : غياثهم. وثملهم ثملا : أطعمهم وسقاهم وقام بأمرهم فهو غياث لهم وعماد.
عصمة للأرامل : العصمة : الحفظ ، وعصمه الطعام : منعه من الجوع ، والمقصود أنه يمنعهن ويحفظهنّ. والهلّاك : جمع هالك والمقصود الفقير. قال الشاعر :
ترى الأرامل والهلّاك تتبعه |
|
يستنّ منه عليهم وابل رزم |
يعني الفقراء. انظر اللسان (عصم) (هلك).
(٢) أخرجه الطبراني في الكبير (١٠ / ١٠٣١٣) ، والبزار في مسنده (١ / ٢٩٧).
(٣) البيتان على غير هذا الترتيب في القصيدة كما جاءت في سيرة ابن هشام وعلى غير الرواية أيضا.
فرواية الأوّل :
وإنّا لعمر الله إن جدّ ما أرى |
|
لتلتبس أسيافنا بالأماثل |
والأماثل : جمع أمثل وهو الأفضل ، أي أن السيوف تضرب أعناق أشرافهم فتصرعهم.
ورواية الثاني :
وينهض قوم في الحديد إليكم |
|
نهوض الرّوايا تحت ذات الصلاصل |
الرّوايا : جمع راوية وهو البعير أو البغل أو الحمار الذي يستقى عليه الماء ، والرجل المستقي أيضا راوية. و «ذات الصلاصل» هي القرب فيها بقايا الماء ، واحدها : صلصلة بضم الصادين وهي بقية الماء في الإداوة والقربة. يريد أن قومه ينهضون مثقلين بالحديد تسمع لهم قعقعة كصلصلة الماء في المزادات. انظر اللسان (روي).
علقم ما أنت إلى عامر |
|
النّاقض الأوتار والواتر (١) |
فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «يا حسّان لا تعد تنشدني هذه القصيدة بعد مجلسك هذا». فقال : يا رسول الله ، تنهاني عن رجل مشرك مقيم عند قيصر؟ فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «يا حسّان ، أشكر الناس للناس أشكرهم لله تعالى ، وإنّ قيصر سأل أبا سفيان ابن حرب عنّي فتناول منّي» ـ وفي خبر آخر : «فشعّث منّي» (٢) ـ وإنه سأل هذا عنّي فأحسن القول. فشكره رسول الله صلىاللهعليهوسلم على ذلك. وروي من وجه آخر أنّ حسان قال : يا رسول الله ، من نالتك يده وجب علينا شكره.
ومن المعروف في ذلك خبر عائشة رضوان الله عليها أنها قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم كثيرا ما يقول : أبياتك. فأقول : [من الكامل]
ارفع ضعيفك ، لا يحربك ضعفه |
|
يوما فتدركه العواقب قد نمى |
يجزيك ، أو يثني عليك ، وإنّ من |
|
أثنى عليك بما فعلت فقد جزى (٣) |
قالت فيقول عليهالسلام : يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده : صنع إليك عبدي معروفا فهل شكرته عليه؟ فيقول : يا ربّ ، علمت أنه منك فشكرتك عليه.
قال فيقول الله عزوجل : «لم تشكرني ، إذ لم تشكر من أجريته على يده» (٤).
وأمّا علمه عليهالسلام بالشعر ، فكما روي أن سودة أنشدت (٥) :
عديّ وتيم تبتغي من تحالف
فظنّت عائشة وحفصة رضياللهعنهما أنّها عرّضت بهما ، وجرى بينهنّ كلام في هذا المعنى ، فأخبر النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فدخل عليهن وقال : «يا ويلكنّ ، ليس في عديّكنّ (٦) ولا تيمكنّ (٧) قيل هذا ، وإنّما قيل هذا في عديّ تميم وتيم تميم». وتمام هذا الشعر وهو لقيس بن معدان الكليبيّ ، من بني يربوع : [من الطويل]
__________________
(١) البيت للأعشى في ديوانه ص (١٠٥).
(٢) أخرجه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج (٧٣).
(٣) البيتان للسموءل (غريض اليهودي). الأغاني (٣ / ١٠٩ ، ١١١ ، ١٢٦).
(٤) أخرجه الطبراني في الصغير (١ / ١٦٣).
(٥) روى هذا الخبر القالي في أماليه (١ / ٢٤١ ، ٢٤٢).
(٦) أي عدي قريش ومنهم عمر بن الخطاب.
(٧) أي تيم قريش ومنهم أبو بكر.
فحالف ، ولا والله تهبط تلعة |
|
من الأرض إلّا أنت للذّلّ عارف |
ألا من رأى العبدين ، أو ذكرا له؟ |
|
عديّ وتيم تبتغي من تحالف (١) |
وروى الزّبير بن بكّار (٢) قال : مرّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومعه أبو بكر رضياللهعنه برجل يقول في بعض أزقّة مكة : [من الكامل]
يا أيّها الرجل المحوّل رحله |
|
هلّا نزلت بآل عبد الدّار |
فقال النبي صلىاللهعليهوسلم يا أبا بكر ، أهكذا قال الشاعر؟ قال : لا ، يا رسول الله ، ولكنه قال :
يا أيّها الرّجل المحوّل رحله |
|
هلّا سألت عن آل عبد مناف (٣) |
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هكذا كنّا نسمعها.
وأمّا ارتياحه صلىاللهعليهوسلم للشعر واستحسانه له ، فقد جاء فيه الخبر من وجوه. من ذلك حديث النّابغة الجعدي قال : أنشدت رسول الله صلىاللهعليهوسلم قولي : [من الطويل]
بلغنا السّماء ، مجدنا وجدودنا |
|
وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا (٤) |
فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقلت : الجنّة ، يا رسول الله. قال : أجل إن شاء الله. ثم قال : أنشدني ، فأنشدته من قولي :
ولا خير في حلم ، إذا لم تكن له |
|
بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا |
ولا خير في جهل ، إذا لم يكن له |
|
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا (٥) |
__________________
(١) البيتان لقيس بن معدان الكليبي. والتلعة : أرض مرتفعة غليظة يتردد فيها السيل ثم يندفع إلى أخرى أسفل منها والجمع : تلاع. انظر اللسان (تلع). وقوله : «عارف» من قولهم «عرف للأمر ، واعترف» صبر له وذلّ وانقاد.
(٢) هو أبو عبد الله القرشي الأسدي المكي. عالم بالأنساب وأخبار العرب ولي قضاء مكة ، توفي سنة ٢٥٦ ه. اه سير أعلام النبلاء (١٢ / ٣١١).
(٣) البيت لمطرود بن كعب الخزاعي وهو مطلع قصيدة. في رثاء عبد المطلب وبني عبد مناف. ا. ه السيرة النبوية (١ / ١٦٣).
(٤) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ، الأغاني (٥ / ١٢) ، ومظهرا : يعني مصعدا ، والظهر من الأرض ، ما غلظ وارتفع ، وفي الحديث عن عائشة : كان يصلي العصر في حجرتي قبل أن تظهر ، تعني الشمس أي : تعلو وترتفع. انظر اللسان (ظهر).
(٥) في ديوانه ، وانظر الأغاني (٥ / ١٣) ، وبادرة السيف : شباته ، والبادرة : الحدّة ، وهو ما يبدر من حدة الرجل عند غضبه من قول أو فعل ، والجمع : بوادر. انظر اللسان (بدر).
فقال صلىاللهعليهوسلم : أجدت ، لا يفضض الله فاك. قال الراوي : فنظرت إليه ، فكأنّ فاه البرد المنهلّ ، ما سقطت له سنّ ولا انفلّت ، ترفّ غروبه (١).
ومن ذلك حديث كعب بن زهير. روي أن كعبا وأخاه بجيرا خرجا إلى رسول صلىاللهعليهوسلم حتى بلغا أبرق العزّاف (٢) ، فقال كعب لبجير : الق هذا الرجل وأنا مقيم هاهنا ، فانظر ما يقول. وقدم بجير على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فعرض عليه الإسلام فأسلم ، وبلغ ذلك كعبا ، فقال فى ذلك شعرا ، فأهدر النبي صلىاللهعليهوسلم دمه فكتب إليه بجبر يأمره أن يسلم ويقبل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ويقول إنّ من شهد أن لا الله وأن محمدا رسول الله ، قبل منه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأسقط ما كان قبل ذلك قال : فقدم كعب وأنشد النبي صلىاللهعليهوسلم قصيدته المعروفة :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول |
|
متيّم إثرها ، لم يفد ، مغلول |
وما سعاد غداة البين إذ رحلت |
|
إلّا أغنّ غضيض الطّرف مكحول |
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت |
|
كأنّه منهل بالرّاح معلول |
سحّ السّقاة عليها ماء محنية |
|
من ماء أبطح أضحى وهو مشمول |
ويلمها خلّة لو أنّها صدقت |
|
موعودها ، أو لو أنّ النّصح مقبول (٣) |
__________________
(١) انفلّت : أي انكسرت. رفّ : برق وتلألأ. غروب : حدة الأسنان ترف غروبه : تتلألأ أسنانه. اه الصحاح : مادة / فلّ / (٢ / ٢٦٠) ، مادة / غرب / (٢ / ١٩١) ، مادة / رفف / (١ / ٤٩٦).
(٢) وهو ماء لبني أسد بين البصرة والمدينة ١ / ٦٨ ، ٤ / ١٠٨ (معجم البلدان). والخبر موجود في السيرة النبوية.
(٣) الأبيات من ديوان كعب بن زهير ، وانظر طبقات فحول الشعراء رقم (١١٧ ، ١١٨) ، وفي الأغاني (١٧ / ٨٥ ـ ٩٤). وجاء البيت الأول في الأغاني بقافية مخالفة وهي «مكبول» المقصود : المكبّل بالقيد. والتبل : أن يسقم الهوى الإنسان ، وقيل : تبله تبلا : ذهب بعقله. انظر اللسان (تبل). متيّم : التّيم : أن يستعبده الهوى ، ورجل متيّم. وقيل التّيم : ذهاب العقل وفساده. اللسان (تيم). البين : الفراق. اللسان (بين). أغنّ : ظبي صغير في صوته حسن. مكحول : بعينيه كحل. تجلو : تصقل وتكشف. العوارض : جمع عارضة : الأسنان. ظلم : ماء الأسنان وبريقها ورقتها ، المنهل : الشرب الأوّل. الرّاح : الخمر ، اسم لها. اللسان (روح). وجاء البيت الرابع منها من رواية مشهورة بلفظ :
شجت بذى شيم من ماء محنية |
|
صاف بأبطح أضحى وهو مشمول |
وسحّ : صبّ الماء صبّا متتابعا. المحنية من الوادي : منعرجه حيث ينعطف عن السّند. اللسان : مادة (حنا). أبطح : من البطح : البسط ، والأبطح : مسيل واسع فيه دقاق الحصى ، والأبطح قد يعني : أبطح مكة ، والخلة : كل نبت حلو ، وقيل : الأرض التي لا حمض بها ، وقيل : خبز الإبل. انظر اللسان (بطح) ، (خلل) ، وانظر الإسعاد (شرح بانت سعاد).
حتى أتى على آخرها ، فلما بلغ مديح رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
إنّ الرّسول لسيف يستضاء به |
|
مهنّد من سيوف الله مسلول |
في فتية من قريش قال قائل |
|
ببطن مكّة ، لمّا أسلموا : زولوا |
زالوا ، فما زال أنكاس ولا كشف |
|
عند اللقاء ، ولا ميل معازيل |
لا يقع الطّعن إلّا في نحورهم |
|
وما بهم عن حياض الموت تهليل |
شمّ العرانين أبطال ، لبوسهم |
|
من نسج داود في الهيجا ، سرابيل (١) |
أشار رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الحلق أن اسمعوا. قال : وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يكون من أصحابه مكان المائدة من القوم ، يتحلّقون حلقة دون حلقة ، فيلتفت إلى هؤلاء وإلى هؤلاء.
والأخبار فيما يشبه هذا كثيرة ، والأثر به مستفيض.
وإن زعم أنه ذمّ الشعر من حيث هو موزون مقفّى ، حتى كأنّ الوزن عيب ، وحتى كأن الكلام إذا نظم نظم الشعر ، اتّضع في نفسه ، وتغيرت حاله ، فقد أبعد ، وقال قولا لا يعرف له معنى ، وخالف العلماء في قولهم : «إنّما الشّعر كلام فحسنه حسن ، وقبيحه قبيح» (٢) ، وقد روي ذلك عن النبي صلىاللهعليهوسلم مرفوعا أيضا.
فإن زعم أنه إنّما كره الوزن ، لأنه سبب ، لأن يتغنّى في الشعر ويتلهّى به ، فإنّا إذا كنا لم ندعه إلى الشعر من أجل ذلك ، وإنما دعوناه إلى اللّفظ الجزل ، والقول الفصل ، والمنطق الحسن ، والكلام البيّن ، وإلى حسن التمثيل والاستعارة ، وإلى التلويح والإشارة ، وإلى صنعة تعمد إلى المعنى الخسيس فتشرّفه ، وإلى الضّئيل فتفخّمه ، وإلى النّازل فترفعه ، وإلى الخامل فتنوّه به ، وإلى العاطل (٣) فتحلّيه ، وإلى المشكل فتجلّيه ، فلا متعلّق له علينا بما ذكر ، ولا ضرر علينا فيما أنكر ، فليقل في الوزن ما شاء ،
__________________
(١) انظر السابق ، ومهنّد : أي مطبوع في الهند ، ومسلول : أي مخرج من غمده. زولوا : تحوّلوا وانتقلوا عن مكة إلى المدينة. أنكاس : جمع نكس وهو الرجل الضعيف المهين. كشف : جمع أكشف وهو الشجاع الذي لا ينهزم في الحرب. ميل : جمع أميل ، الذي لا سيف له ، والذي لا يحسن الركوب. معازيل : الذين لا سلاح معهم ، والمفرد معزال. شمّ : جمع أشم ، الذي في قصبة أنفه علو مع استواء أعلاه علامة السيادة والكرم. عرانين : جمع عرنين وهو الأنف تحت مجتمع الحاجبين ، وقيل : ما صلب من عظمه. اللبوس : ما يلبس من السلاح. نسج داود : الدروع. الهيجا : الحرب. انظر الإسعاد (شرح بانت سعاد) (١١٣ ، ١١٤).
(٢) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٥ / ٦٨) بنحوه.
(٣) عطلت المرأة : تعطل عطلا وعطولا وتعطلت إذا لم يكن عليها حلي ، ولم تلبس الزينة. اه اللسان / عطل / (١١ / ٤٥٣).
وليضعه حيث أراد ، فليس يعنينا أمره ، ولا هو مرادنا من هذا الذي راجعنا القول فيه.
وهذا هو الجواب لمتعلق إن تعلّق بقوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩] ، وأراد أن يجعله حجّة في المنع من الشعر ، ومن حفظه وروايته. وذاك أنّا نعلم أنه صلىاللهعليهوسلم لم يمنع الشعر من أجل أن كان قولا فصلا ، وكلاما جزلا ، ومنطقا حسنا ، وبيانا بيّنا ، كيف؟ وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى قد منعه البيان والبلاغة ، وحماه الفصاحة والبراعة ، وجعله لا يبلغ مبلغ الشعراء في حسن العبارة وشرف اللفظ. وهذا جهل عظيم ، وخلاف لما عرفه البلغاء وأجمعوا عليه من أنّه صلىاللهعليهوسلم كان أفصح العرب ، وإذا بطل أن يكون المنع من أجل هذه المعاني ، وكنا قد أعلمناه أنّا ندعوه إلى الشعر من أجلها ، ونجدوه بطلبه على طلبها ، كان الاعتراض بالآية محالا والتعلّق بها خطلا من الرأي وانحلالا.
فإن قال : إذا قال الله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩] ، فقد كره للنبي صلىاللهعليهوسلم الشعر ونزّهه عنه بلا شبهة ، وهذه الكراهة وإن كانت لا تتوجّه إليه من حيث هو كلام ، ومن حيث أنه بليغ بيّن وفصيح حسن ونحو ذلك ، فإنها تتوجّه إلى أمر لا بدّ لك من التلبّس به في طلب ما ذكرت أنه مرادك من الشعر ، وذلك أنه لا سبيل لك إلى أن تميّز كونه كلاما عن كونه شعرا ، حتى إذا رويته التبست به من حيث هو كلام ، ولم تلتبس به من حيث هو شعر ، هذا محال ، وإذا كان لا بدّ من ملابسة موضع الكراهة ، فقد لزم العيب برواية الشّعر وإعمال اللّسان فيه.
قيل له : هذا منك كلام لا يتحصّل. وذلك أنه لو كان الكلام إذا وزن حطّ ذلك من قدره ، وأزرى به ، وجلب على المفرغ له في ذلك القالب إثما ، وكسبه ذمّا ، لكان من حقّ العيب فيه أن يكون على واضع الشّعر ، أو من يريده لمكان الوزن خصوصا ، دون من يريده لأمر خارج منه ، ويطلبه لشيء سواه.
فأمّا قولك : إنك لا تستطيع أن تطلب من الشعر ما لا يكره حتى تلتبس بما يكره ، فإني إذا لم أقصده من أجل ذلك المكروه ، ولم أرده له ، وأردته لأعرف به مكان بلاغة ، وأجعله مثالا في براعة ، أو أحتجّ به في تفسير كتاب وسنّة ، وأنظر إلى نظمه ونظم القرآن ، فأرى موضع الإعجاز ، وأقف على الجهة التي منها كان ، وأتبيّن الفصل والفرقان ، فحقّ (١) هذا التلبّس أن لا يعتدّ عليّ ذنبا ، وأن لا أؤاخذ به ، إذ لا تكون مؤاخذة حتى يكون عمد إلى أن تواقع المكروه وقصد (٢) إليه ، وقد تتبع العلماء الشّعوذة والسحر ، وعنوا بالتوقّف على حيل المموّهين ، ليعرفوا فرق ما بين
__________________
(١) سياق العبارة كما يلي : فإني إذا لم أقض ... والجواب فحق هذا التلبس.
(٢) اسم معطوف على عمد.
المعجزة والحيلة ، فكان ذلك منهم من أعظم البرّ ؛ إذ كان الغرض كريما والقصد شريفا.
هذا ، وإذا نحن رجعنا إلى ما قدّمنا من الأخبار ، وما صحّ من الآثار ، وجدنا الأمر على خلاف ما ظنّ هذا السائل ، ورأينا السبيل في منع النبي صلىاللهعليهوسلم الوزن ، وأن ينطلق لسانه بالكلام الموزون ، غير ما ذهبوا إليه ، وذاك أنّه لو كان منع تنزيه وكراهة ، لكان ينبغي أن يكره له سماع الكلام موزونا ، وأن ينزّه سمعه عنه كما نزّه لسانه ، ولكان صلىاللهعليهوسلم لا يأمر به ولا يحثّ عليه ، وكان الشاعر لا يعان على وزن الكلام وصياغته شعرا ، ولا يؤيّد فيه بروح القدس.
وإذا كان هذا كذلك ، فينبغي أن يعلم أن ليس المنع في ذلك منع تنزيه وكراهة ، بل سبيل الوزن في منعه عليهالسلام إياه سبيل الخطّ ، حين جعل عليهالسلام لا يقرأ ولا يكتب ، في أن لم يكن المنع من أجل كراهة كانت في الخطّ ، بل لأن تكون الحجة أبهر وأقهر ، والدلالة أقوى وأظهر ، ولتكون أكعم (١) للجاحد ، وأقمع للمعاند ، وأردّ لطالب الشبهة ، وأمنع من ارتفاع الريبة.
وأما التعلّق بأحوال الشعراء بأنه قد ذمّوا في كتاب الله تعالى ، فما أرى عاقلا يرضى به أن يجعله حجّة في ذمّ الشعر وتهجينه ، والمنع من حفظه وروايته ، والعلم بما فيه من بلاغة ، وما يختصّ به من أدب وحكمة ، ذاك لأنه يلزم على قود (٢) هذا القول أن يعيب العلماء في استشهادهم بشعر امرئ القيس وأشعار أهل الجاهليّة في تفسير القرآن ، وفي غريبه وغريب الحديث ، وكذلك يلزمه أن يدفع سائر ما تقدّم ذكره من أمر النبي صلىاللهعليهوسلم بالشّعر ، وإصغائه إليه ، واستحسانه له.
هذا ولو كان يسوغ ذمّ القول من أجل قائله ، وأنه يحمل ذنب الشاعر على الشعر ، لكان ينبغي أن يخصّ ولا يعمّ ، وأن يستثنى ، فقد قال الله عزوجل : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) [الشعراء : ٢٢٧]. ولو لا أن القول يجرّ بعضه بعضا ، وأنّ الشيء يذكر لدخوله في القسمة ، لكان حقّ هذا ونحوه أن لا يتشاغل به ، وأن لا يعاد ويبدأ في ذكره.
وأمّا زهدهم في النحو واحتقارهم له ، وإصغارهم أمره ، وتهاونهم به ، فصنيعهم
__________________
(١) أكعم اسم تفضيل من «كعم». كعم البعير : قيل شدّ فاه في هياجه لئلا يعض أو يأكل. اه اللسان / كعم / (١٢ / ٥٢٢).
(٢) أي : على سياقه.
في ذلك أشنع من صنيعهم في الذي تقدّم ، وأشبه بأن يكون صدّا عن كتاب الله ، وعن معرفة معانية ، ذاك لأنهم لا يجدون بدّا من أن يعترفوا بالحاجة إليه فيه ؛ إذ كان قد علم أنّ الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها ، وأنّ الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها ، وأنه المعيار الذي لا يتبيّن نقصان كلام ورجحانه حتى يعرض عليه ، والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه ، لا ينكر ذلك إلّا من ينكر حسّه ، وإلا من غالط في الحقائق نفسه ، وإذا كان الأمر كذلك ، فليت شعري ما عذر من تهاون به وزهد فيه ، ولم ير أن يستقيه من مصبّه ، ويأخذه من معدنه ، ورضي لنفسه بالنقص والكمال لها معرض ، وآثر الغبينة وهو يجد إلى الرّبح سبيلا.
فإن قالوا : إنّا لم نأب صحّة هذا العلم ، ولم ننكر مكان الحاجة إليه في معرفة كتاب الله تعالى ، وإنما أنكرنا أشياء كثّر تموه بها ، وفضول قول تكلّفتموها ، ومسائل عويصة تجشّمتم الفكر فيها ، ثم لم تحصلوا على شيء أكثر من أن تغربوا على السامعين ، وتعايوا بها الحاضرين.
قيل لهم : خبرونا عمّا زعمتم أنه فضول قول ، وعويص لا يعود بطائل ، ما هو؟ فإن بدءوا فذكروا مسائل التصريف التي يضعها النحويون للرياضة ، ولضرب من تمكين المقاييس في النفوس ، كقولهم : كيف تبني من كذا كذا؟ وكقولهم : ما وزن كذا؟ ـ وتتبّعهم في ذلك الألفاظ الوحشيّة ، ، كقولهم : ما وزن «عزويت» (١)؟ وما وزن «أرونان» (٢)؟ وكقولهم في باب ما لا ينصرف : لو سميت رجلا بكذا ، كيف يكون الحكم؟ ـ وأشباه ذلك ، وقالوا : أتشكّون أنّ ذلك لا يجدي إلّا كدّ الفكر وإضاعة الوقت؟.
قلنا لهم : أمّا هذا الجنس ، فلسنا نعيبكم إن لم تنظروا فيه ولم تعنوا به ، وليس يهمّنا أمره ، فقولوا : فيه ما شئتم ، وضعوه حيث أردتم ، فإن تركوا ذلك وتجاوزوه إلى الكلام على أغراض واضع اللغة ، على وجه الحكمة في الأوضاع ، وتقرير المقاييس التي اطّردت عليها ، وذكر العلل التي اقتضت أن تجرى على ما أجريت عليه ، كالقول
__________________
(١) عزويت ، على وزن فعليت. قال ابن سيده : وإنما حكمنا عليه بأنه فعليت لوجود نظيره وهو عفريت ونفريت. اه اللسان / عزا / (١٥ / ٥٤).
(٢) تقول : يوم أرونان : شديد في كل شيء. وزنه أفوعال وهو من الرنين فيما ذهب إليه ابن الأعرابي ، وهو عند سيبويه أفعلان من قولك : كشف الله عنك رونة هذا الأمر أي غمّته وشدته. اللسان / رنن / (١٣ / ١٨٧)
في المعتلّ ، وفيما يلحق الحروف الثلاثة التي هي الواو والياء والألف من التغيير بالإبدال والحذف والإسكان ، أو ككلامنا مثلا على التثنية وجمع السلامة ، لم كان إعرابهما على خلاف إعراب الواحد ، ولم تبع النصب فيهما الجرّ؟ وفي «النون» أنّه عوض عن الحركة والتنوين في حال ، وعن الحركة وحدها في حال.
والكلام على ما ينصرف وما لا ينصرف ، ولم كان منع الصرف؟ وبيان العلّة فيه ، والقول على الأسباب التّسعة وأنها كلّها ثوان لأصول ، وأنه إذا حصل منها اثنان في اسم ، أو تكرّر سبب ، صار بذلك ثانيا من جهتين ، وإذا صار كذلك أشبه الفعل ، لأن الفعل ثان للاسم ، والاسم المقدّم والأوّل ، وكلّ ما جرى هذا المجرى؟.
قلنا : إنّا نسكت عنكم في هذا الضرب أيضا ، نعذركم فيه ونسامحكم على علم منّا بأن قد أسأتم الاختيار ، ومنعتم أنفسكم ما فيه الحظّ لكم ، ومنعتموها الاطّلاع على مدارج الحكمة ، وعلى العلوم الجمّة. فدعوا ذلك ، وانظروا في الذي اعترفتم بصحّته وبالحاجة إليه ، هل حصلتموه على وجهه؟ وهل أحطتم بحقائقه؟
وهل وفّيتم كل باب منه حقّه ، وأحكمتموه إحكاما يؤمنكم الخطأ فيه إذا أنتم خضتم في التفسير ، وتعاطيتم على التأويل ، ووازنتم بين بعض الأقوال وبعض ، وأردتم أن تعرفوا الصّحيح من السقيم ، وعدتم في ذلك وبدأتم ، وزدتم ونقصتم؟.
وهل رأيتم ؛ إذ قد عرفتم صورة المبتدأ والخبر ، وأن إعرابهما الرفع ، أن تتجاوزوا ذلك إلى أن تنظروا في أقسام خبره ، فتعلموا أنه يكون مفردا وجملة ، وأن المفرد ينقسم إلى ما يحتمل ضميرا له ، وإلى ما لا يحتمل الضمير ، وأنّ الجملة على أربعة أضرب ، وأنه لا بدّ لكل جملة وقعت خبرا لمبتدإ من أن يكون فيها ذكر يعود إلى المبتدأ ، وأن هذا الذّكر ربما حذف لفظا وأريد معنى ، وأنّ ذلك لا يكون حتى يكون في الحال دليل عليه ، إلى سائر ما يتّصل بباب الابتداء من المسائل اللطيفة والفوائد الجليلة التي لا بدّ منها؟.
وإذا نظرتم في الصّفة مثلا ، فعرفتم أنها تتبع الموصوف ، وأنّ مثالها قولك : «جاءني رجل ظريف» و «مررت بزيد الظريف» ، هل ظننتم أنّ وراء ذلك علما ، وأنّ هاهنا صفة تخصّص ، وصفة توضّح وتبيّن ، وأن فائدة التّخصيص غير فائدة التوضيح ، كما أنّ فائدة الشّياع (١) غير فائدة الإبهام ، وأن من الصفة صفة لا يكون فيها
__________________
(١) شاع الشيب شيعا وشياعا وشيعانا وشيوعا ، أي ظهر وتفرق. وشاع الخبر : انتشر وذاع وظهر. اه اللسان / شيع / (٨ / ١٩١).
تخصيص ولا توضيح ، ولكن يؤتى بها مؤكّدة كقولهم : «أمس الدّابر» وكقوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة : ١٣] ، وصفة يراد بها المدح والثناء ، كالصفات الجارية على اسم الله تعالى جدّه؟
وهل عرفتم الفرق بين الصفة والخبر ، وبين كل واحد منهما وبين الحال؟ وهل عرفتم أن هذه الثلاثة تتفق في أن كافّتها لثبوت المعنى للشيء ، ثم تختلف في كيفية ذلك الثبوت؟.
وهكذا ينبغي أن تعرض عليهم الأبواب كلّها واحدا واحدا ، ويسألوا عنها بابا بابا ، ثم يقال لهم : ليس إلّا أحد أمرين :
إمّا أن تقتحموا التي لا يرضاها العاقل ، فتنكروا أن يكون بكم حاجة في كتاب الله تعالى ، وفي خبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفي معرفة الكلام جملة ، إلى شيء من ذلك ، وتزعموا أنّكم إذا عرفتم مثلا أنّ الفاعل رفع ، لم يبق عليكم في باب الفاعل شيء تحتاجون إلى معرفته. وإذا نظرتم إلى قولنا : «زيد منطلق» ، لم تحتاجوا من بعده إلى شيء تعلمونه في الابتداء والخبر ، وحتّى تزعموا مثلا أنكم لا تحتاجون في أن تعرفوا وجه الرفع في (الصَّابِئُونَ) من سورة المائدة : [٦٩] ، إلى ما قاله العلماء فيه ، وإلى استشهادهم فيه بقول الشاعر : [من الوافر]
وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم |
|
بغاة ما بقينا في شقاق (١) |
وحتى كأنّ المشكل على الجميع غير مشكل عندكم ، وحتّى كأنكم قد أوتيتم أن تستنبطوا من المسألة الواحدة من كل باب مسائله كلّها ، فتخرجوا إلى فنّ من التجاهل لا يبقى معه كلام.
وإمّا أن تعلموا أنك قد أخطأتم حين أصغرتم أمر هذا العلم ، وظننتم ما ظننتم فيه ، فترجعوا إلى الحق وتسلّموا الفضل لأهله ، وتدعوا الذي يزري بكم ، ويفتح باب العيب عليكم ، ويطيل لسان القادح فيكم ، وبالله التوفيق.
هذا ، ولو أن هؤلاء القوم ؛ إذ تركوا هذا الشأن تركوه جملة ، وإذ زعموا أن قدر المفتقر إليه القليل منه ، اقتصروا على ذلك القليل ، فلم يأخذوا أنفسهم بالفتوى فيه ، والتصرّف فيما لم يتعلّموا منه ، ولم يخوضوا في التفسير ، ولم يتعاطوا التأويل ، لكان
__________________
(١) البيت لبشر بن أبي خازم في ديوانه ، والإنصاف (١ / ١٩٠) ، وسيبويه (١ / ٢٩٠) ، ومعاني القرآن للفراء (١ / ٣١١) ، والخزانة (٤ / ٣١٥) ، وشرح التصريح (١ / ٢٢٨) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٢٧١) ، وشرح المفصل (٨ / ٦٩) ، وبلا نسبة في أسرار العربية (ص ١٥٤) ..
البلاء واحدا ، ولكانوا إذ لم يبنوا لم يهدموا ، وإذ لم يصلحوا لم يكونوا سببا للفساد ، ولكنهم لم يفعلوا ، فجلبوا من الدّاء ما أعيى الطبيب ، وحيّر اللبيب ، وانتهى التخليط بما أتوه فيه ، إلى حدّ يئس من تلافيه ، فلم يبق للعارف الذي يكره الشّغب إلا التعجب والسكوت. وما الآفة العظمى إلا واحدة ، وهي أن يجيء من الإنسان ويجري لفظه (١) ، ويمشي له أن يكثّر في غير تحصيل ، وأن يحسّن البناء على غير أساس ، وأن يقول الشيء لم يقتله علما ، ونسأل الله الهداية ونرغب إليه في العصمة.
ثمّ إنّا وإن كنّا في زمان هو على ما هو عليه من إحالة الأمور عن جهاتها ، وتحويل الأشياء عن حالاتها ، ، ونقل النفوس عن طباعها ، وقلب الخلائق المحمودة إلى أضدادها ، ودهر ليس للفضل وأهله لديه إلا الشر صرفا والغيظ بحتا ، وإلا ما يدهش عقولهم ويسلبهم معقولهم ، حتى صار أعجز الناس رأيا عند الجميع ، من كانت له همة في أن يستفيد علما ، أو يزداد فهما ، أو يكتسب فضلا ، أو يجعل له ذلك بحال شغلا ، فإنّ الإلف من طباع الكريم. وإذا كان من حق الصديق عليك ، ولا سيّما إذا تقادمت صحبته وصحّت صداقته ، أن لا تجفوه بأن تنكبك الأيام ، وتضجرك النوائب ، وتحرجك محن الزمان ، فتتناساه جملة ، وتطويه طيّا ، فالعلم ـ الذي هو صديق لا يحول عن العهد ، ولا يدغل (٢) في الودّ ، وصاحب لا يصحّ عليه النّكث والغدر ، ولا تظنّ به الخيانة والمكر ـ أولى منك بذلك وأجدر ، وحقّه عليك أكبر.
ثم إن التّوق إلى أن تقرّ الأمور قرارها ، وتوضع الأشياء مواضعها ، والنّزاع (٣) إلى بيان ما يشكل ، وحلّ ما ينعقد ، والكشف عمّا يخفى ، وتلخيص الصّفة حتى يزداد السامع ثقة بالحجة ، واستظهارا على الشبهة ، واستبانة للدليل ، وتبيّنا (٤) للسبيل ، شيء في سوس (٥) العقل ، وفي طباع النفس إذا كانت نفسا.
ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى «الفصاحة» ، و «البلاغة» ، و «البيان» و «البراعة» ، وفي بيان المغزى من هذه العبارات ، وتفسير المراد بها ، فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء ، وبعضه كالتنبيه على
__________________
(١) أي يكثر من الكلام دون فائدة.
(٢) وهو بالتحريك : الفساد. اللسان / دغل / (١١ / ٣٤٤).
(٣) نزع يده أخرجها ونزع إلى أهله نزاعة ونزاعا بالكسر ، ونزوعا بالضم ، أي اشتاق. القاموس / نزع /(٩٨٩).
(٤) «وتبيينا».
(٥) هو الأصل والطبع والخلق والسجية. ا. ه اللسان / سوس / (٦ / ١٠٨).
مكان الخبيء ليطلب ، وموضع الدّفين ليبحث عنه فيخرج ، وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه ، وتوضع لك القاعدة لتبني عليها. ووجدت المعوّل على أن هاهنا نظما وترتيبا ، وتأليفا وتركيبا ، وصياغة وتصويرا ، ونسجا وتحبيرا ، وأنّ سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجاز فيه ، سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها ، وأنه كما يفضل هناك النظم النظم ، والتأليف التأليف ، والنسج النسج ، والصياغة الصياغة ، ثم يعظم الفضل ، وتكثر المزيّة ، حتى يفوق الشيء نظيره والمجانس له درجات كثيرة ، وحتى تتفاوت القيم التفاوت الشديد ، كذلك يفضل بعض الكلام بعضا ، ويتقدّم منه الشيء الشيء ، ثم يزداد فصله ذلك ويترقى منزلة فوق منزلة ، ويعلو مرقبا بعد مرقب ، ويستأنف له غاية بعد غاية ، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع ، وتحسر الظنون (١) ، وتسقط القوى ، وتستوي الأقدام في العجز.
وهذه جملة قد يرى في أوّل الأمر وبادئ الظنّ ، أنها تكفي وتغني ، حتى إذا نظرنا فيها ، وعدنا وبدأنا ، وجدنا الأمر على خلاف ما حسبناه ، وصادفنا الحال على غير ما توهّمناه ، وعلمنا أنّهم لئن أقصروا اللفظ لقد أطالوا المعنى ، وأن لم يغرقوا في النّزع (٢) ، لقد أبعدوا على ذاك في المرمى.
وذاك أنّه يقال لنا : ما زدتم على أن سقتم قياسا ، فقلتم : نظم ونظم ، وترتيب وترتيب ، ونسج ونسج ، ثم بنيتم عليه أنه ينبغي أن تظهر المزيّة في هذه المعاني هاهنا ، حسب ظهورها هناك ، وأن يعظم الأمر في ذلك كما عظم ثمّ ، وهذا صحيح كما قلتم ، ولكن بقي أن تعلمونا مكان المزيّة في الكلام ، وتصفوها لنا ، وتذكروها ذكرا كما ينصّ الشيء ويعيّن ، ويكشف عن وجهه ويبيّن ، ولا يكفي أن تقولوا : إنّه خصوصية في كيفية النظم ، وطريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضها على بعض ، حتى تصفوا تلك الخصوصية وتبيّنوها ، وتذكروا لها أمثلة ، وتقولوا : «مثل كيت وكيت» ، كما يذكر لك من تستوصفه عمل الدّيباج المنقّش ما تعلم به وجه دقّة الصنعة ، أو يعمله بين يديك ، حتى ترى عيانا ـ كيف تذهب تلك الخيوط وتجيء؟ وما ذا يذهب منها طولا وما ذا يذهب منها عرضا؟ وبم يبدأ وبم يثنّي وبم يثلّث؟ ـ وتبصر (٣) من الحساب الدقيق ومن عجيب تصرّف اليد ، ما تعلم معه مكان الحذق وموضع الأستاذية.
__________________
(١) حسر الشيء حسورا : انكشف وحسر البصر يحسره حسورا انحلّ وانقطع من طول المدى. القاموس / حسر / (٤٧٩).
(٢) كناية عن بلوغ الهدف.
(٣) الكلام قبلها اعتراض. وتبصر معطوفة على (حتى ترى عيانا وتبصر).
ولو كان قول القائل لك في تفسير الفصاحة : «إنها خصوصية في نظم الكلم وضمّ بعضها إلى بعض على طريق مخصوصة ، أو على وجوه تظهر بها الفائدة» ، أو ما أشبه ذلك من القول المجمل ، كافيا في معرفتها ، ومغنيا في العلم بها ، لكفى مثله في معرفة الصناعات كلّها. فكان يكفي في معرفة نسج الديباج الكثير التّصاوير أن تعلم أنه ترتيب للغزل على وجه مخصوص ، وضمّ لطاقات الإبريسم (١) بعضها إلى بعض على طرق شتّى. وذلك ما لا يقوله عاقل.
وجملة الأمر أنك لن تعلم في شيء من الصّناعات علما تمرّ فيه وتحلي ، حتى تكون ممن يعرف الخطأ فيها من الصواب ، ويفصل بين الإساءة والإحسان ، بل حتّى تفاضل بين الإحسان والإحسان ، وتعرف طبقات المحسنين.
وإذا كان هذا هكذا ، علمت أنه لا يكفي في علم «الفصاحة» أن تنصب لها قياسا ما ، وأن تصفها وصفا مجملا ، وتقول فيها قولا مرسلا ، بل لا تكون من معرفتها في شيء ، حتى تفصّل القول وتحصّل ، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم وتعدّها واحدة واحدة ، وتسمّيها شيئا شيئا ، وتكون معرفتك معرفة الصّنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الإبريسم الذي في الديباج ، وكلّ قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطّع ، وكل آجرّة من الآجرّ الذي في البناء البديع.
وإذا نظرت إلى «الفصاحة» هذا النظر ، وطلبتها هذا الطّلب ، احنجت إلى صبر على التأمّل ، ومواظبة على التدبّر ، وإلى همة تأبى لك أن تقنع إلا بالتّمام ، وأن تربع (٢) إلّا بعد بلوغ الغاية ، ومتى جشمت (٣) ذلك ، وأبيت إلا أن تكون هنالك ، فقد أممت (٤) إلى غرض كريم ، وتعرّضت لأمر جسيم ، وآثرت التي هي أتمّ لدينك وفضلك ، وأنبل عند ذوي العقول الراجحة لك ، وذلك أن تعرف حجّة الله تعالى من الوجه الذي هو أضوأ لها وأنوه (٥) لها ، وأخلق بأن يزداد نورها سطوعا ، وكوكبها طلوعا ، وأن تسلك إليها الطريق الذي هو آمن لك من الشكّ ، وأبعد من الرّيب ؛ وأصحّ لليقين ، وأحرى بأن يبلّغك قاصية التبيين.
__________________
(١) وهو الحرير. القاموس / برسم / (١٣٩٥).
(٢) أي وقف وانتظر. اه القاموس / ربع / (٩٢٧).
(٣) جشم الأمر جشما وجشامة تكلفه على مشقة. اه القاموس / جشم / (١٤٠٦).
(٤) الأمّ بالفتح القصد. اه مختار الصحاح / أمم / (٢٦).
(٥) ناه الشيء ينوه ارتفع فهو نائه. اه الصحاح / نوه / (٦٢٣).
واعلم أنه لا سبيل إلى أن تعرف صحّة هذه الجملة حتى يبلغ القول غايته ، وينتهي إلى آخر ما أردت جمعه لك ، وتصويره في نفسك ، وتقريره عندك.
إلّا أن هاهنا نكتة ، إن أنت تأملتها تأمّل المتثبّت ، ونظرت فيها نظر المتأنّي ، رجوت أن يحسن ظنّك ، وأن تنشط للإصغاء إلى ما أورده عليك ، وهي أنّا إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا : لو لا أنهم حين سمعوا القرآن ، وحين تحدّوا إلى معارضته ، سمعوا كلاما لم يسمعوا قطّ مثله ، وأنهم رازوا (١) أنفسهم فأحسّوا بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه أو يقع قريبا منه لكان محلا أن يدعوا معارضته وقد تحدّوا إليه ، وقرّعوا فيه ، وطولبوا به ، وأن يتعرّضوا لشبا الأسنّة (٢) ويقتحموا موارد الموت.
فقيل لنا : قد سمعنا ما قلتم ، فخبّرونا عنهم ، عمّا ذا عجزوا؟ أعن معان من دقة معانية وحسنها وصحّتها في العقول؟ أم عن ألفاظ مثل ألفاظه؟ فإن قلتم : عن الألفاظ ، فما ذا أعجزهم من اللّفظ ، أم ما بهرهم منه؟.
فقلنا : أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه ، وخصائص صادفوها في سياق لفظه ، وبدائع راعتهم من مبادئ آية (٣) ومقاطعها ، ومجاري ألفاظها ومواقعها ، وفي مضرب كل مثل ، ومساق كل خبر ، وصورة كل عظة وتنبيه ، وإعلام وتذكير ، وترغيب وترهيب ، ومع كل حجّة وبرهان ، وصفة وتبيان.
وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة ، وعشرا عشرا ، وآية آية ، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ، ولفظة ينكر شأنها ، أو يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه ، أو أحرى وأخلق ، بل وجدوا اتساقا بهر العقول ، وأعجز الجمهور ، ونظاما والتئاما ، وإتقانا وإحكاما ، لم يدع في نفس بليغ منهم ، ولو حكّ بيافوخه السماء ، موضع طمع ، حتى خرست الألسن عن أن تدّعي وتقول ، وخذيت القروم (٤) فلم تملك أن تصول.
نعم ، فإذا كان هذا هو الذي يذكر في جواب السائل ، فبنا أن ننظر : أيّ أشبه بالفتى في عقله ودينه ، وأزيد له في علمه ويقينه ، أأن يقلّد في ذلك ، ويحفظ متن الدليل وظاهر لفظه ، ولا يبحث عن تفسير المزايا والخصائص ما هي؟ ومن أين
__________________
(١) راز الشيء اختبره وامتحنه وجرّبه. انظر القاموس (٦٥٩) مادة / روز /.
(٢) أي حدّها وطرفها الذي يصيب ويقتل. والشبا : حدّ كل شيء. انظر القاموس. مادة / شبا / (١٦٧٤).
(٣) الآي : مفردها الآية.
(٤) وهو الفحل أو ما لم يمسه حبل أي ترك عن الركوب والعمل. القاموس / قرم / (١٤٨١).
كثرت الكثرة العظيمة ، واتّسعت الاتساع المجاوز لوسع الخلق وطاقة البشر؟ وكيف يكون أن تظهر في ألفاظ محصورة ، وكلم معدودة معلومة ، بأن يؤتى ببعضها في إثر بعض ، لطائف (١) لا يحصرها العدد ، ولا ينتهي بها الأمد؟ أم أن يبحث عن ذلك كلّه ، ويستقصي النظر في جميعه ، ويتتبعه شيئا فشيئا ، ويستقصيه بابا فبابا ، حتى يعرف كلّا منه بشاهده ودليله ، ويعلمه بتفسيره وتأويله ، ويوثق بتصويره وتمثيله ، ولا يكون كمن قيل فيه : [من الطويل]
يقولون أقوالا ولا يعلمونا |
|
ولو قيل : هاتوا حقّقوا ، لم يحققوا (٢) |
قد قطعت عذر المتهاون ، ودللت على ما أضاع من حظّه ، وهدايته لرشده ، وصحّ أن لا غنى بالعاقل عن معرفة هذه الأمور ، والوقوف عليها ، والإحاطة بها ، وأنّ الجهة (٣) التي منها يقف ، والسبب الذي به يعرف ، استقراء كلام العرب وتتبّع أشعارهم والنظر فيها. وإذ قد ثبت ذلك ، فينبغي لنا أن نبتدئ في بيان ما أردنا بيانه ، ونأخذ في شرحه والكشف عنه.
وجملة ما أردت أن أبيّنه لك : أنه لا بدّ لكل كلام تستحسنه ، ولفظ تستجيده ، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلّة معقولة وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل ، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل.
وهو باب من العلم إذا أنت فتحته اطّلعت منه على فوائد جليلة ، ومعان شريفة ، ورأيت له أثرا في الدين عظيما وفائدة جسيمة ، ووجدته سببا إلى حسم كثير من الفساد فيما يعود إلى التنزيل وإصلاح أنواع من الخلل فيما يتعلّق بالتأويل ، وإنّه ليؤمنك من أن تغالط في دعواك ، وتدافع عن مغزاك ، ويربأ بك عن أن تستبين هدى ثم لا تهدي إليه ، وتدلّ بعرفان ثم لا تستطيع أن تدلّ عليه (٤) وأن تكون عالما (٥) في ظاهر مقلّد ، ومستبينا في صورة شاكّ وأن يسألك السائل عن حجّة يلقى بها الخصم في آية من كتاب الله تعالى أو غير ذلك ، فلا ينصرف عنك بمقنع وأن يكون غاية ما لصاحبك منك أن تحيله على نفسه ، وتقول : «قد نظرت فرأيت فضلا ومزيّة ،
__________________
(١) فاعل : «تظهر».
(٢) البيت لأنس بن زنيم في ديوانه ونسبه البعض إلى أبي الأسود الدؤلي ، وفي لسان العرب (سرق) من أبيات قالها لحارثة بن بدر الغداني عند ولايته إمارة سرّق (موضع بالأهواز) ، انظر الحيوان (٣ / ١١٦) ، وأمالي الشريف (١ / ٣٨٣ ـ ٣٨٥).
(٣) معطوفة على قوله : «وصحّ أن لا غنى ...».
(٤) أدلّ بعمله وبشجاعته مثلا ، يدلّ إدلالا ، فخر به وتبجّح ، وتباهى. ا. ه اللسان / دلل / (١١ / ٢٤٨). والعرفان : المعرفة.
(٥) قوله : «وأن تكون عالما» معطوف على «وإنه ليؤمنك».
وصادفت لذلك أريحيّة ، فانظر لتعرف كما عرفت ، وراجع نفسك ، واسبر وذق ، لتجد مثل الذي وجدت» ، فإن عرف فذاك ، وإلا فبينكما التّناكر ، تنسبه إلى سوء التأمّل ، وينسبك إلى فساد في التخيّل.
وإنه على الجملة بحث ينتقي لك من علم الإعراب خالصه ولبّه ، ويأخذ لك منه أناسي العيون وحبّات القلوب ، وما لا يدفع الفضل فيه دافع ، ولا ينكر رجحانه في موازين العقول منكر.
وليس يتأتّى لي أن أعلمك من أوّل الأمر في ذلك آخره ، وأن أسمّي لك الفصول التي في نيتي أن أحرّرها بمشيئة الله عزوجل ، حتى تكون على علم بها قبل موردها عليك. فاعمل على أنّ هاهنا فصولا يجيء بعضها في إثر بعض وهذا أوّلها.
فصل
في تحقيق القول على «البلاغة» و «الفصاحة» ، و «البيان» و «البراعة» ، وكلّ ما شاكل ذلك ، ممّا يعبّر به عن فضل بعض القائلين على بعض ، من حيث نطقوا وتكلّموا ، وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد ، وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم ؛ ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم.
ومن المعلوم أن لا معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها ، مما يفرد فيه اللّفظ بالنعت والصّفة ، وينسب فيه الفضل والمزيّة إليه دون المعنى ، غير وصف الكلام بحسن الدّلالة وتمامها فيما له كانت دلالة ، ثم تبرّجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحقّ بأن تستولي على هوى النفس ، وتنال الحظّ الأوفر من ميل القلوب ، وأولى بأن تطلق لسان الحامد ، وتطيل رغم الحاسد ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن تأتي المعنى من الجهة التي هي أصحّ لتأديته ، وتختار له اللفظ الذي هو أخصّ به ، وأكشف عنه وأتمّ له ، وأحرى بأن يكسبه نبلا ، ويظهر فيه مزيّة.
وإذا كان هذا كذلك ، فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف ، ـ وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارا وأمرا ونهيا واستخبارا وتعجبا ، وتؤدّي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضمّ كلمة إلى كلمة ، وبناء لفظة على لفظة ـ هل (١) يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في
__________________
(١) سياق الكلام كما يلي : ينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل ... هل يتصور.
الدّلالة حتى تكون هذه أدلّ على معناها الذي وضعت له من صاحبتها على ما هي موسومة به ، حتى يقال إن «رجلا» أدلّ على معناه من «فرس» على ما سمّي به وحتى يتصوّر في الاسمين يوضعان لشيء واحد ، أن يكون هذا أحسن نبأ وأبين كشفا عن صورته من الآخر ، فيكون «الليث» مثلا أدلّ على السبع المعلوم من «الأسد» وحتى أنّا لو أردنا الموازنة بين لغتين كالعربية والفارسية ، ساغ لنا أن نجعل لفظة «رجل» أدلّ على الآدميّ الذّكر من نظيره في الفارسية؟.
وهل يقع في وهم وإن جهد ، أن تتفاضل الكلمتان المفردتان ، من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم ، بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة ، وتلك غريبة وحشية ، أو أن تكون حروف هذه أخفّ وامتزاجها أحسن ، ومما يكدّ اللسان أبعد؟.
وهل تجد أحدا يقول : هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم ، وحسن ملائمة معناها لمعاني جاراتها ، وفضل مؤانستها لأخواتها؟.
وهل قالوا : لفظة متمكنة ، ومقبولة ، وفي خلافه : قلقة ، ونابية ، ومستكرهة ، إلا وغرضهم أن يعبّروا بالتمكّن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما ، وبالقلق والنّبوّ عن سوء التلاؤم ، وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها ، وأنّ السابقة لم تصلح أن تكون لفقا (١) للتالية في مؤدّاها؟.
وهل تشكّ إذا فكرت في قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود : ٤٤] ، فتجلّى لك منها الإعجاز ، وبهرك الذي ترى وتسمع ، أنك لم تجد (٢) ما وجدت من المزيّة الظاهرة ، والفضيلة القاهرة ، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض ، وأن لم يعرض لها الحسن والشّرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية ، والثالثة بالرابعة ، وهكذا ، إلى أن تستقر بها إلى آخرها ، وأنّ الفضل تناتج ما بينها ، وحصل من مجموعها؟.
إن شككت ، فتأمّل : هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت ، لأدّت من الفصاحة ما تؤدّيه وهي في مكانها من الآية؟ قل : «ابلعي» ،
__________________
(١) لفقت الثوب ألفقه لفقا وهو أن تضم الشّقّة إلى الأخرى فتخيطهما. ولفق الشقتين : ضم إحداهما إلى الأخرى. اللسان / لفق / (١٠ / ٣٣١).
(٢) أنك لم تجد : مفعول «تشك».
واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وما بعدها ، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها.
وكيف بالشك في ذلك ، ومعلوم أنّ مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ، ثم أمرت ، ثم في أن كان النداء «بيا» دون «أيّ» ، نحو «يا أيتها الأرض» ، ثم إضافة «الماء» إلى «الكاف» ، دون أن يقال : «ابلعي الماء» ، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها ، نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها ، ثم أن قيل : ، «وغيض الماء» ، فجاء الفعل على صيغة «فعل» الدالة على أنّه لم يغض إلّا بأمر آمر وقدرة قادر ، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور ، وهو : (اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) ، ثم إضمار «السفينة» قبل الذّكر ، كما هو شرط الفخامة والدّلالة على عظم الشأن ، ثم مقابلة «قيل» في الخاتمة «بقيل» في الفاتحة؟ أفترى لشيء من هذه الخصائص ـ التي تملؤك بالإعجاز روعة ، وتحضرك عند تصوّرها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها ـ تعلّقا (١) باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق؟ أم كلّ ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتّساق العجيب؟.
فقد اتضح إذن اتضاحا لا يدع للشك مجالا ، أنّ الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجرّدة ، ولا من حيث هي كلم مفردة ، وأن الفضيلة وخلافها ، في ملائمة معنى اللّفظة لمعنى التي تليها ، وما أشبه ذلك ، مما لا تعلّق له بصريح اللفظ.
ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر ، كلفظ «الأخدع» في بيت الحماسة : [من الطويل]
تلفّتّ نحو الحيّ حتّى وجدتني |
|
وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا (٢) |
وبيت البحتري : [من الطويل]
__________________
(١) سياق الكلام : أفترى لشيء من هذه ... تعلقا باللفظ.
(٢) البيت للصمّة بن عبد الله القشيري في لسان العرب (وجع) ، وبلا نسبة في أساس البلاغة (لفت) ، وفي شرح حماسة أبي تمام (٣ / ١١٤) ، واللّيت بالكسر : صفحة العنق ، وقيل : اللّيتان صفحتا العنق ، وقيل : أدنى صفحتي العنق من الرأس ، عليهما ينحدر القرطان. والأخدع : شعبة من الوريد ، وفي الحديث : أنه احتجم على الأخدعين والكاهل ، والأخدعان : عرقان في جانبي العنق خفيا وبطنا والجمع أخادع. اللسان (ليت) ، (خدع).