دلائل الإعجاز في علم المعاني

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

دلائل الإعجاز في علم المعاني

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦

إذا غيّر النأي المحبّين لم أجد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح

قال : فلمّا انصرفت حدّثت أبي ، قال : أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرّمة ما أنكر ، وأخطأ ذو الرمة حين غيّر شعره لقول ابن شبرمة ، إنما هذا كقول الله تعالى : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور : ٤٠] ، وإنّما هو : لم يرها ولم يكد (١).

واعلم أنّ سبب الشّبهة في ذلك أنه قد جرى في العرف أن يقال : «ما كاد يفعل» و «لم يكد يفعل» في فعل قد فعل ، على معنى أنه لم يفعل إلّا بعد الجهد ، وبعد أن كان بعيدا في الظّن أن يفعله ، كقوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١] ، فلما كان مجيء النفي في «كاد» على هذا السبيل ، توهّم ابن شبرمة أنه إذا قال : «لم يكد رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح» فقد زعم : أن الهوى قد برح ، ووقع لذي الرمة مثل هذا الظّن.

وليس الأمر كالذي ظنّاه ، فإن الذي يقتضيه اللفظ إذا قيل : «لم يكد يفعل» و «ما كاد يفعل» ، أن يكون المراد أن الفعل لم يكن من أصله ، ولا قارب أن يكون ، ولا ظنّ أنه يكون. وكيف بالشك في ذلك؟ وقد علمنا أن «كاد» موضوع لأن يدلّ على شدة قرب الفعل من الوقوع ، وعلى أنّه قد شارف الوجود. وإذا كان كذلك ، كان محالا أن يوجب نفيه وجود الفعل ، لأنه يؤدّي إلى أن يوجب نفي مقاربة الفعل الوجود وجوده ، وأن يكون قولك : «ما قارب أن يفعل» ، مقتضيا على البتّ أنه قد فعل. وإذ قد ثبت ذلك ، فمن سبيلك أن تنظر. فمتى لم يكن المعنى على أنه قد كانت هناك صورة تقتضي أن لا يكون الفعل ، وحال يبعد معها أن يكون ، ثمّ تغير الأمر ، كالذي تراه في قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١] ، فليس إلّا أن تلزم الظاهر ، وتجعل المعنى على أنك تزعم أن الفعل لم يقارب أن يكون ، فضلا عن أن يكون.

فالمعنى إذن في بيت ذي الرمة على أن الهوى من رسوخه في القلب ، وثبوته فيه وغلبته على طباعه ، بحيث لا يتوهّم عليه البراح ، وأن ذلك لا يقارب أن يكون ، فضلا عن أن يكون ، كما تقول : «إذا سلا المحبّون وفتروا في محبتهم ، لم يقع لي في وهم ، ولم يجر منّي على بال : أنه يجوز عليّ ما يشبه السّلوة ، وما يعدّ فترة ، فضلا عن أن يوجد ذلك مني وأصير إليه.

__________________

(١) الخبر في (الأغاني ١٨ / ٣٤).

١٨١

وينبغي أن تعلم أنهم إنما قالوا في التفسير : «لم يرها ولم يكد» ، فبدءوا فنفوا الرؤية ، ثم عطفوا «لم يكد» عليه ، ليعلموك أن ليس سبيل «لم يكد» هاهنا سبيل «ما كادوا» في قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١] في أنه نفي معقّب على إثبات ، وأن ليس المعنى على أن رؤية كانت من بعد أن كادت لا تكون ، ولكن المعنى على أن رؤيتها لا تقارب أن تكون ، فضلا عن أن تكون. ولو كان «لم يكد» يوجب وجود الفعل ، لكان هذا الكلام منهم محالا جاريا مجرى أن تقول : «لم يرها ورآها» ، فاعرفه.

وهاهنا نكتة ، وهي أنّ «لم يكد» في الآية والبيت واقع في جواب «إذا» ، والماضي إذا وقع في جواب الشرط على هذا السبيل ، كان مستقبلا في المعنى فإذا قلت : «إذا خرجت لم أخرج» ، كنت قد نفيت خروجا فيما يستقبل. وإذا كان الأمر كذلك ، استحال أن يكون المعنى في البيت أو الآي على الفعل قد كان ، لأنه يؤدي إلى أن يجيء «بلم أفعل» ماضيا صريحا في جواب الشرط فتقول : «إذا خرجت لم أخرج أمس» ، وذلك محال. ومما يتّضح فيه هذا المعنى قول الشاعر : [من المتقارب]

ديار لجهمة بالمنحنى

سقاهنّ مرتجز باكر

وراح عليهنّ ذو هيدب

ضعيف القوى ، ماؤه زاخر

إذا رام نهضا بها لم يكد

كذي السّاق أخطأها الجابر (١)

وأعود إلى الغرض. فإذا بلغ من دقّة هذه المعاني أن يشتبه الأمر فيها على مثل خلف الأحمر وابن شبرمة ، وحتى يشتبه على ذي الرمة في صواب قاله ، فيرى أنه غير صواب ، فما ظنك بغيرهم؟ وما يعجبك من أن يكثر التخليط فيه؟ ومن العجب في هذا المعنى قول أبي النجم : [من الرجز]

قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع (٢)

__________________

(١) الأبيات في وصف سحاب ، ارتجز الرعد : تدارك صوته وتتابع ، والمراد السحاب ، ويقال : ترجز السحاب إذا تحرك بطيئا لكثرة مائه ، والباكر : صاحب البكور ومن يأتي غدوة. الهيدب : ذيل السحاب المتدلي. والزاخر : الفائض الغزير.

(٢) البيت أورده السكاكي في المفتاح (٥٠٤) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٢٥) ، وعزاه لأبي النجم ، وبدر الدين بن مالك في المصباح (١٤٤) ، والقزويني في الإيضاح (٢٨) ، والطيبي في التبيان (١ / ٣٢١) ، وخزانة الأدب (١ / ٣٥٩) ، والكتاب لسيبويه ، وشرح عقود الجمان (١ / ٥٣) ، والأغاني (٢٣ / ٣٦). وأبو النجم : هو الفضل بن قدامة بن عبيد الله بن بكر ابن وائل من رجاز الإسلام الفحول المقدمين ، وفي الطبقة الأولى منهم قال عنه أبو عمرو بن العلاء : كان أبو النجم أبلغ في النعت من العجاج. توفي سنة (١٣٠ ه‍) ، وانظر ترجمته في الأغاني (١٠ / ١٨٣).

١٨٢

قد حمله الجميع على أنه أدخل نفسه من رفع «كلّ» في شيء إنما يجوز عند الضرورة ، من غير أن كانت به إليه ضرورة. قالوا : لأنه ليس في نصب «كلّ» ما يكسر له وزنا ، أو يمنعه من معنى أراده. وإذا تأملت وجدته لم يرتكبه ولم يحمل نفسه عليه إلا لحاجة له إلى ذلك ، وإلّا لأنه رأى النصب يمنعه ما يريد. وذاك أنه أراد أنها تدّعي عليه ذنبا لم يصنع منه شيئا البتّة لا قليلا ولا كثيرا ولا بعضا ولا كلّا. والنصب يمنع من هذا المعنى ، ويقتضي أن يكون قد أتى من الذنب الذي ادّعته بعضه.

وذلك أنا إذا تأملنا وجدنا إعمال الفعل في «كل» والفعل منفيّ ، لا يصلح أن يكون إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن. تقول : «لم ألق كلّ القوم» ، و «لم آخذ كلّ الدراهم» ، فيكون المعنى أنك لقيت بعضا من القوم ولم تلق الجميع ، وأخذت بعضا من الدراهم وتركت الباقي ولا يكون أن تريد أنك لم تلق واحدا من القوم ، ولم تأخذ شيئا من الدراهم.

وتعرف ذلك بأن تنظر إلى «كلّ» في الإثبات وتتعرّف فائدته فيه. وإذا نظرت وجدته قد اجتلب لأن يفيد الشمول في الفعل الذي تسنده إلى الجملة أو توقعه بها.

تفسير ذلك ، أنك إنما قلت : «جاءني القوم كلهم» ، لأنك لو قلت : «جاءني القوم» وسكتّ ، لكان يجوز أن يتوهّم السامع أنه قد تخلّف عنك بعضهم ، إلا أنك لم تعتدّ بهم ، أو أنّك جعلت الفعل إذا وقع من بعض القوم فكأنما وقع من الجميع ، لكونهم في حكم الشخص الواحد ، كما يقال للقبيلة : «فعلتم وصنعتم» ، يراد فعل قد كان من بعضهم أو واحد منهم. وهكذا الحكم أبدا.

فإذا قلت : «رأيت القوم كلّهم» و «مررت بالقوم كلّهم» ، كنت قد جئت «بكل» لئلّا يتوهم أنه قد بقي عليك من لم تره ولم تمرر به.

وينبغي أن يعلم أنا لا نعني بقولنا «يفيد الشمول» ، أنّ سبيله في ذلك سبيل الشيء يوجب المعنى من أصله ، وأنه لو لا مكان «كلّ» لما عقل الشمول ولم يكن فيما سبق من اللفظ دليل عليه. كيف؟ ولو كان كذلك لم يكن يسمى «تأكيدا». فالمعنى أنه يمنع أن يكون اللفظ المقتضي الشمول مستعملا على خلاف ظاهره ومتجوّزا فيه.

وإذ قد عرفت ذلك ، فهاهنا أصل ، وهو أن من حكم النفي إذا دخل على كلام ، ثم كان في ذلك الكلام تقييد على وجه من الوجوه ، أن يتوجّه إلى ذلك التقييد ، وأن يقع له خصوصا.

١٨٣

تفسير ذلك : أنك إذا قلت : «أتاني القوم مجتمعين» ، فقال قائل : «لم يأتك القوم مجتمعين» ، كان نفيه ذلك متوجّها إلى الاجتماع الذي هو تقييد في الإتيان دون الإتيان نفسه ، حتّى إنه إن أراد أن ينفي الإتيان من أصله ، كان من سبيله أن يقول : «إنهم لم يأتوك أصلا ، فما معنى قولك : مجتمعين». هذا مما لا يشكّ فيه عاقل.

وإذا كان هذا حكم النفي إذا دخل على كلام فيه تقييد ، فإن التأكيد ضرب من التقييد. فمتى نفيت كلاما فيه تأكيد ، فإن نفيك ذلك يتوجّه إلى التأكيد خصوصا ويقع له. فإذا قلت : «لم أر القوم كلهم» أو «لم يأتني القوم كلهم» أو «لم يأتني كلّ القوم» أو «لم أر كلّ القوم» ، كنت عمدت نفيك إلى معنى «كل» خاصة ، وكان حكمه حكم «مجتمعين» في قولك : «لم يأتني القوم مجتمعين». وإذا كان النفي يقع «لكلّ» خصوصا فواجب إذا قلت : «لم يأتني القوم كلهم» أو «لم يأتني كل القوم» ، أن يكون قد أتاك بعضهم كما يجب إذا قلت : «لم يأتني القوم مجتمعين» ، أن يكونوا قد أتوك أشتاتا. وكما يستحيل أن تقول : «لم يأتني القوم مجتمعين» ، وأنت تريد أنّهم لم يأتوك أصلا لا مجتمعين ولا منفردين كذلك محال أن تقول : «لم يأتني القوم كلهم» ، وأنت تريد أنهم لم يأتوك أصلا ، فاعرفه.

واعلم أنك إذا نظرت وجدت الإثبات كالنفي فيما ذكرت لك ، ووجدت النفي قد احتذاه فيه وتبعه. وذلك أنك إذا قلت : «جاءني القوم كلهم» ، كان «كلّ» فائدة خبرك هذا ، والذي يتوجّه إليه إثباتك ، بدلالة أن المعنى على أن الشك لم يقع في نفس المجيء أنّه كان من القوم على الجملة ، وإنما وقع في شموله «الكل» ، وذلك الذي عناك أمره من كلامك.

وجملة الأمر أنه ما من كلام كان فيه أمر زائد على مجرّد إثبات المعنى للشيء ، إلّا كان الغرض الخاصّ من الكلام ، والّذي يقصد إليه ويزجّى القول فيه. فإذا قلت : «جاءني زيد راكبا» ، و «ما جاءني زيد راكبا» كنت قد وضعت كلامك لأن تثبت مجيئه راكبا أو تنفي ذلك ، لا لأن تثبت المجيء وتنفيه مطلقا. هذا ما لا سبيل إلى الشكّ فيه.

واعلم أنه يلزم من شكّ في هذا فتوهّم أنه يجوز أن تقول : «لم أر القوم كلهم» ، على معنى أنك لم تر واحدا منهم أن تجري النّهي هذا المجرى فتقول : «لا تضرب القوم كلّهم» ، على معنى لا تضرب واحدا منهم وأن تقول : «لا تضرب

١٨٤

الرجلين كليهما» ، على معنى لا تضرب واحدا منهما. فإذا قال ذلك لزمه أن يحيل قول الناس : «لا تضربهما معا ، ولكن اضرب أحدهما» ، و «لا تأخذهما جميعا ، ولكن واحدا منهما» ، وكفى بذلك فسادا.

وإذ قد بان لك من حال النّصب أنه يقتضي أن يكون المعنى على أنه قد صنع من الذّنب بعضا وترك بعضا ، فاعلم أنّ الرّفع على خلاف ذلك ، وأنه يقتضي نفي أن يكون قد صنع منه شيئا ، وأتى منه قليلا أو كثيرا ، وأنك إذا قلت : «كلّهم لا يأتيك» ، و «كلّ ذلك لا يكون» ، و «كلّ هذا لا يحسن» ، كنت نفيت أن يأتيه واحد منهم ، وأبيت أن يكون أو يحسن شيء مما أشرت إليه.

ومما يشهد لك بذلك من الشّعر قوله : [من الطويل]

فكيف؟ وكلّ ليس يعدو حمامه

ولا لامرئ عمّا قضى الله مزحل (١)

المعنى على نفي أن يعدو أحد من الناس حمامه ، بلا شبهة. ولو قلت : «فكيف وليس يعدو كلّ حمامه» : فأخرت «كلّا» ، لأفسدت المعنى ، وصرت كأنك تقول : «إن من الناس من يسلم من الحمام ويبقى خالدا لا يموت».

ومثله قول دعبل : [من الطويل]

فو الله ما أدري بأيّ سهامها

رمتني ، وكلّ عندنا ليس بالمكدي

أبا الجيد ، أم مجرى الوشاح ، وإنّني

لأتهم عينيها مع الفاحم الجعد (٢)

المعنى على نفي أن يكون في سهامها مكد على وجه من الوجوه.

ومن البيّن في ذلك ما جاء في حديث ذي اليدين حين قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقصرت الصّلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلّ ذلك لم يكن. فقال ذو اليدين : بعض ذلك قد كان» (٣) ، المعنى لا محالة على نفي الأمرين جميعا ، وعلى أنه

__________________

(١) هو شعر إبراهيم بن كنيف النبهاني ، شرح حماسة التبريزي (١ / ١٣٦) ، وأمالي القالي (١ / ١٧٠). ومزحل : مصدر ميمي من زحل إذا تباعد ، يعني ليس منه مهرب.

(٢) هو في المجموع من شعره. والمكدي الذي يخيب ولا يصيب هدفه. وقوله : «لأتهم» أي : أتهم عينيها ، واعلم أن التاء في التهمة مبدلة من الواو ، فقولهم «تهمة» أصلها : «وهمة» ولكنهم في هذا الفعل أجروا التاء المبدلة مجرى الأصل ، فقالوا : «أتهمه إتهاما» ويقال أيضا : «أوهمه» بمعنى أتهمه على الأصل. (شاكر).

(٣) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور ، باب «إذا حنث ناسيا في الأيمان» (٦٦٧١) ، ومسلم في المساجد ، باب السهو في الصلاة والسجود له (٥٧٢) ، وابن ماجة في الإقامة ، باب ما جاء فيمن شك في صلاته فتحرى الصواب (١٢١١).

١٨٥

عليه‌السلام أراد أنه لم يكن واحد منهما ، لا القصر ولا النّسيان. ولو قيل : «لم يكن كلّ ذلك» ، لكان المعنى أنه قد كان بعضه.

واعلم أنه لما كان المعنى مع إعمال الفعل المنفي في «كلّ» نحو : «لم يأتني القوم كلّهم» و «لم أر القوم كلّهم» ، على أن الفعل قد كان من البعض ، ووقع على البعض ، قلت : «لم يأتني القوم كلّهم ، ولكن أتاني بعضهم» و «لم أر القوم كلّهم ، ولكن رأيت بعضهم» فأثبتّ بعد ما نفيت ، ولا يكون ذلك مع رفع «كلّ» بالابتداء. فلو قلت : «كلهم لم يأتني ، ولكن أتاني بعضهم» و «كلّ ذلك لم يكن ، ولكن كان بعض ذلك» ، لم يجز ، لأنّه يؤدّي إلى التناقض ، وهو أن تقول : «لم يأتني واحد منهم ، ولكن أتاني بعضهم».

واعلم أنّه ليس التأثير لما ذكرنا من إعمال الفعل وترك إعماله على الحقيقة ، وإنما التأثير لأمر آخر ، وهو دخول «كلّ» في حيّز النفي ، وأن لا يدخل فيه. وإنما علقنا الحكم في البيت (١) وسائر ما مضى بإعمال الفعل وترك إعماله ، من حيث كان إعماله فيه يقتضي دخوله في حيّز النفي ، وترك إعماله يوجب خروجه منه ، من حيث كان الحرف النافي في البيت حرفا لا ينفصل عن الفعل ، وهو «لم» لا أنّ كونه معمولا للفعل وغير معمول ، يقتضي ما رأيت من الفرق. أفلا ترى أنّك لو جئت بحرف نفي يتصوّر انفصاله عن الفعل ، لرأيت المعنى في «كل» مع ترك إعمال الفعل ، مثله مع إعماله ، ومثال ذلك قوله : [من البسيط]

ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه (٢)

وقول الآخر : [من البسيط]

ما كلّ رأي الفتى يدعو إلى رشد (٣)

__________________

(١) علقنا الحكم في البيت : المقصود بيت أبي النجم سبق ذكره وصدره : قد أصبحت أم الخيار.

(٢) البيت للمتنبي في ديوانه (٢٣٥) ، من قصيدة قالها عند ما علم أن قوما نعوه في مجلس سيف الدولة وتمامه : «تجري الرياح بما لا تشتهي السفن».

والمعنى : هم يتمنون موتي ولكن الأمور تسير على عكس رغباتهم ، والبيت في الإيضاح (٧٢) ، والتبيان (٢ / ٤٧٨) ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١ / ٨٨).

(٣) البيت : هو صدر بيت قاله أبو العتاهية من قصيدة يعاتب فيها نفسه وعجزه :

إذا بدا لك رأي مشكل فقف

(الديوان ١٦٥).

١٨٦

«كلّ» كما ترى غير معمل فيه الفعل ، ومرفوع ، إمّا بالابتداء ، وإمّا بأنه اسم «ما» ، ثم إنّ المعنى مع ذلك على ما يكون عليه إذا أعملت فيه الفعل فقلت : «ما يدرك المرء كلّ ما يتمناه» ، «ما يدعو كلّ رأي الفتى إلى رشد» ، وذلك أن التأثير لوقوعه في حيّز النفي ، وذلك حاصل في الحالين. ولو قدمت «كلّا» في هذا فقلت : «كلّ ما يتمنى المرء لا يدركه» و «كل رأي الفتى لا يدعو إلى رشد» لتغير المعنى ، ولصار بمنزلة أن يقول : «إنّ المرء لا يدرك شيئا مما يتمناه» ، و «لا يكون في رأي الفتى ما يدعو إلى رشد بوجه من الوجوه».

واعلم أنك إذا أدخلت «كلّا» في حيّز النفي ، وذلك بأن تقدم النّفي عليه لفظا أو تقديرا ، فالمعنى على نفي الشمول دون نفي الفعل والوصف نفسه. وإذا أخرجت «كلّا» من حيّز النفي ولم تدخله فيه ، لا لفظا ولا تقديرا ، كان المعنى على أنك تتبّعت الجملة ، فنفيت الفعل والوصف عنها واحدا واحدا. والعلة في أن كان ذلك كذلك ، أنك إذا بدأت «بكل» كنت قد بنيت النّفي عليه ، وسلّطت الكلّية على النفي وأعملتها فيه ، وإعمال معنى الكلية في النّفي يقتضي أن لا يشذّ شيء عن النّفي ، فاعرفه.

واعلم أن من شأن الوجوه والفروق أن لا يزال تحدث بسببها وعلى حسب الأغراض والمعاني التي تقع فيها ، دقائق وخفايا لا إلى حدّ ونهاية وأنها خفايا تكتم أنفسها جهدها حتى لا يتنبّه لأكثرها ، ولا يعلم أنها هي ، وحتى لا تزال ترى العالم يعرض له السّهو فيه ، وحتى إنه ليقصد إلى الصواب فيقع في أثناء كلامه ما يوهم الخطأ ، كلّ ذلك لشدة الخفاء وفرط الغموض.

فصل

واعلم أنه إذا كان بيّنا في الشيء أنه لا يحتمل إلّا الوجه الذي هو عليه حتى لا يشكل ، وحتى لا يحتاج في العلم بأن ذلك حقّه وأنه الصواب ، إلى فكر وروية فلا مزيّة. وإنّما تكون المزيّة ويجب الفضل إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجها آخر ، ثم رأيت النّفس تنبو عن ذلك الوجه الآخر ، ورأيت للذي جاء عليه حسنا وقبولا تعدمهما إذا أنت تركته إلى الثاني.

مثال ذلك قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠٠] ، ليس بخاف أن لتقديم «الشركاء» حسنا وروعة ومأخذا من القلوب ، أنت لا تجد شيئا منه إن أنت أخّرت فقلت : «وجعلوا الجنّ شركاء لله» ، وأنك ترى حالك حال من نقل عن

١٨٧

الصورة المبهجة والمنظر الرّائق والحسن الباهر ، إلى الشيء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل ، ولا تصير النفس به إلى حاصل. والسبب في أن كان ذلك كذلك ، هو أن للتقديم فائدة شريفة ومعنى جليلا لا سبيل إليه مع التأخير.

بيانه ، أنّا وإن كنّا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجنّ شركاء وعبدوهم مع الله تعالى ، وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم ، فإن تقديم «الشركاء» يفيد هذا المعنى ويفيد معه معنى آخر ، وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك ، لا من الجن ولا غير الجن.

وإذا أخّر فقيل : «جعلوا الجنّ شركاء لله» ، لم يفد ذلك ، ولم يكن فيه شيء أكثر من الإخبار عنهم بأنهم عبدوا الجن مع الله تعالى ، فأمّا إنكار أن يعبد مع الله غيره ، وأن يكون له شريك من الجن وغير الجن ، فلا يكون في اللفظ مع تأخير «الشركاء» دليل عليه. وذلك أن التقدير يكون مع التقديم : أن «شركاء» مفعول أوّل لجعل ، و «لله» في موضع المفعول الثاني ، ويكون «الجن» على كلام ثان ، وعلى تقدير أنه كأنه قيل : «فمن جعلوا شركاء لله تعالى؟» ، فقيل : «الجن». وإذا كان التقدير في «شركاء» أنّه مفعول أوّل ، و «لله» في موضع المفعول الثاني ، وقع الإنكار على كون شركاء لله تعالى على الإطلاق ، من غير اختصاص شيء دون شيء. وحصل من ذلك أنّ اتخاذ الشريك من غير الجن قد دخل في الإنكار دخول اتّخاذه من الجنّ ، لأنّ الصفة إذا ذكرت مجرّدة غير مجراة على شيء ، كان الذي تعلّق بها من النفي عامّا في كل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة.

فإذا قلت : «ما في الدار كريم» ، كنت نفيت الكينونة في الدار عن كلّ من يكون الكرم صفة له. وحكم الإنكار أبدا حكم النفي. وإذا أخّر فقيل : «وجعلوا الجنّ شركاء لله» ، كان «الجن» مفعولا أوّل ، و «الشركاء» مفعولا ثانيا. وإذا كان كذلك ، كان «الشركاء» مخصوصا غير مطلق ، من حيث كان محالا أن يجرى خبرا على الجن ، ثم يكون عامّا فيهم وفي غيرهم. وإذا كان كذلك ، احتمل أن يكون القصد بالإنكار إلى «الجن» خصوصا ، أن يكونوا «شركاء» دون غيرهم ، جلّ الله تعالى عن أن يكون له شريك وشبيه بحال.

فانظر الآن إلى شرف ما حصل من المعنى بأن قدّم «الشركاء» ، واعتبره فإنه ينبّهك لكثير من الأمور ، ويدلّك على عظم شأن «النظم» ، وتعلم به كيف يكون الإيجاز به وما صورته؟ وكيف يزاد في المعنى من غير أن يزاد في اللفظ ، إذ قد ترى أن ليس إلا

١٨٨

تقديم وتأخير ، وأنه قد حصل لك بذلك من زيادة المعنى ، ما إن حاولته مع تركه لم يحصل لك ، واحتجت إلى أن تستأنف له كلاما ، نحو أن تقول : «وجعلوا الجنّ شركاء لله ، وما ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا من غيرهم» ، ثم لا يكون له إذا عقل من كلامين من الشرف والفخامة ومن كرم الموقع في النفس ، ما تجده له الآن وقد عقل من هذا الكلام الواحد.

ومما ينظر إلى مثل ذلك ، قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) [البقرة : ٩٦] ، إذا أنت راجعت نفسك وأذكيت حسّك ، وجدت لهذا التنكير وأن قيل : «على حياة» ، ولم يقل : «على الحياة» ، حسنا وروعة ولطف موقع لا يقادر قدره ، وتجدك تعدم ذلك مع التعريف ، وتخرج عن الأريحيّة والأنس إلى خلافهما.

والسبب في ذلك أن المعنى على الازدياد من الحياة لا الحياة من أصلها ، وذلك أنه لا يحرص عليه إلا الحيّ ، فأما العادم للحياة فلا يصحّ منه الحرص على الحياة ولا على غيرها. وإذا كان كذلك ، صار كأنه قيل : «ولتجدنّهم أحرص الناس ، ولو عاشوا ما عاشوا ، على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضي الوقت وراهنه ، حياة في الذي يستقبل». فكما أنّك لا تقول هاهنا : «أنّ يزدادوا إلى حياتهم الحياة» بالتعريف ، وإنما تقول : «حياة» إذ كان التعريف يصلح حيث تراد الحياة على الإطلاق ، كقولنا : «كل أحد يحب الحياة ، ويكره الموت» ، كذلك الحكم في الآية.

والذي ينبغي أن يراعى : أنّ المعنى الذي يوصف الإنسان بالحرص عليه ، إذا كان موجودا حال وصفك له بالحرص عليه ، لم يتصوّر أن تجعله حريصا عليه من أصله. كيف؟ ولا يحرص على الراهن ولا الماضي ، وإنما يكون الحرص على ما لم يوجد بعد.

وشبيه بتنكير الحياة في هذه الآية تنكيرها في قوله عزوجل : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] ، وذلك أن السبب في حسن التنكير ، وأن لم يحسن التعريف ، أن ليس المعنى على الحياة نفسها ، ولكن على أنه لما كان الإنسان إذا علم أنه إذا قتل قتل ، ارتدع بذلك عن القتل ، فسلم صاحبه ، صار حياة هذا المهموم بقتله (١) في مستأنف الوقت ، مستفادة بالقصاص ، وصار كأنّه قد حيي في باقي عمره به. وإذا كان المعنى على حياة في بعض أوقاته ، وجب التنكير وامتنع التعريف ، من حيث كان التعريف يقتضي أن تكون الحياة قد كانت بالقصاص من

__________________

(١) المهموم بقتله : أي الذي قصد قتله.

١٨٩

أصلها ، وأن يكون القصاص قد كان سببا في كونها في كافة الأوقات. وذلك خلاف المعنى وغير ما هو المقصود.

ويبيّن ذلك أنّك تقول : «لك في هذا غنى» ، فتنكّر إذا أردت أن تجعل ذلك من بعض ما يستغني به ، فإن قلت : «لك فيه الغنى» ، كان الظاهر أنك جعلت كلّ غناه به.

وأمر آخر ، وهو أنه لا يكون ارتداع حتى يكون همّ وإرادة ، وليس بواجب أن لا يكون إنسان في الدنيا إلّا وله عدوّ يهمّ بقتله ثم يردعه خوف القصاص. وإذا لم يجب ذلك ، فمن لم يهمّ إنسان بقتله ، فكفي ذلك الهمّ لخوف القصاص ، فليس هو ممّن حيّ بالقصاص. وإذا دخل الخصوص ، فقد وجب أن يقال «حياة» ولا يقال «الحياة» ، كما وجب أن يقال «شفاء» ولا يقال «الشّفاء» في قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) [النحل : ٦٩] ، حيث لم يكن شفاء للجميع.

واعلم أنه لا يتصوّر أن يكون الذي همّ بالقتل فلم يقتل خوف القصاص داخلا في الجملة ، وأن يكون القصاص أفاده حياة كما أفاد المقصود قتله. وذلك أنّ هذه الحياة إنّما هي لمن كان يقتل لو لا القصاص ، وذلك محال في صفة القاصد للقتل ، فإنما يصحّ في وصفه ما هو كالضّدّ لهذا ، وهو أن يقال : إنه كان لا يخاف عليه القتل لو لا القصاص. وإذا كان هذا كذلك ، كان وجها ثالثا في وجوب التنكير.

فصل

واعلم أنّه لا يصادف القول في هذا الباب موقعا من السامع ، ولا يجد لديه قبولا ، حتى يكون من أهل الذّوق والمعرفة ، وحتى يكون ممن تحدّثه نفسه بأنّ لما يومئ إليه من الحسن واللّطف أصلا ، وحتى يختلف الحال عليه عند تأمّل الكلام ، فيجد الأريحيّة تارة ، ويعرى منها أخرى ، وحتّى إذا عجّبته عجب ، وإذا نبّهته لموضع المزية انتبه.

فأمّا من كان الحالان والوجهان عنده أبدا على سواء ، وكان لا يتفقّد من أمر «النّظم» إلا الصّحة المطلقة ، وإلّا إعرابا ظاهرا ، فما أقلّ ما يجدي الكلام معه. فليكن من هذه صفته عندك بمنزلة من عدم الإحساس بوزن الشعر ، والذّوق الذي يقيمه به ، والطّبع الذي يميّز صحيحه من مكسوره ، ومزاحفه من سالمه ، وما خرج من البحر ممّا لم يخرج منه في أنّك لا تتصدّى له ، ولا تتكلّف تعريفه ، لعلمك أنّه قد عدم الأداة

١٩٠

التي معها يعرف ، والحاسّة التي بها يجد. فليكن قدحك في زند وار ، والحكّ في عود أنت تطمع منه في نار.

واعلم أن هؤلاء ، وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب ، فإنّ من الآفة أيضا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلّة في قليل ما تعرف المزيّة فيه وكثيره ، وأن ليس إلا أن تعلم أن هذا التقديم وهذا التنكير ، أو هذا العطف أو هذا الفصل حسن ، وأن له موقعا من النفس وحظّا من القبول ، فأمّا أن تعلم لم كان كذلك؟ وما السبب؟ فممّا لا سبيل إليه ، ولا مطمع في الاطّلاع عليه ، فهو بتوانيه والكسل فيه ، في حكم من قال ذلك.

واعلم أنّه ليس إذا لم تمكن معرفة الكل ، وجب ترك النّظر في الكلّ. وأن تعرف العلّة والسبب فيما يمكنك معرفة ذلك فيه وإن قلّ فتجعله شاهدا فيما لم تعرف ، أحرى من أن تسدّ باب المعرفة على نفسك ، وتأخذها عن الفهم والتفهّم ، وتعوّدها الكسل والهوينا. قال الجاحظ :

«وكلام كثير قد جرى على ألسنة الناس ، وله مضرّة شديدة وثمرة مرّة. فمن أضرّ ذلك قولهم : «لم يدع الأوّل للآخر شيئا» ، قال : فلو أنّ علماء كلّ عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم ، تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمّن قبلهم ، لرأيت العلم مختلّا.

واعلم أنّ العلم إنما هو معدن ، فكما أنه لا يمنعك أن ترى ألوف وقر (١) قد أخرجت من معدن تبر (٢) ، أن تطلب فيه ، وأن تأخذ ما تجد ولو كقدر تومة (٣) ، كذلك ، ينبغي أن يكون رأيك في طلب العلم». ومن الله تعالى نسأل التوفيق.

فصل

هذا فنّ من المجاز لم نذكره فيما تقدّم

اعلم أن طريق المجاز والاتساع في الذي ذكرناه قبل ، أنك ذكرت الكلمة وأنت لا تريد معناها ، ولكن تريد معنى ما هو ردف له أو شبيه ، فتجوّزت بذلك في ذات الكلمة وفي اللفظ نفسه. وإذا قد عرفت ذلك فاعلم أن في الكلام مجازا على غير هذا السبيل ، وهو أن يكون التجوّز في حكم يجرى على الكلمة فقط ، وتكون الكلمة

__________________

(١) الوقر : الحمل الثقيل. القاموس / وقر / (٦٣٥).

(٢) التبر : الذهب والفضة قبل أن يصاغا. القاموس / تبر / (٤٥٤).

(٣) التومة : اللؤلؤة. اللسان / توم / (١٢ / ٧٤).

١٩١

متروكة على ظاهرها ، ويكون معناها مقصودا في نفسه ومرادا من غير تورية ولا تعريض.

والمثال فيه قولهم : «نهارك صائم وليلك قائم» و «نام ليلي وتجلّى همي» ، وقوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] ، وقول الفرزدق : [من الطويل]

سقتها خروق في المسامع ، لم تكن

علاطا ، ولا مخبوطة في الملاغم (١)

أنت ترى مجازا في هذا كلّه ، ولكن لا في ذوات الكم وأنفس الألفاظ ، ولكن في أحكام أجريت عليها. أفلا ترى أنّك لم تتجوّز في قولك : «نهارك صائم ، وليلك قائم» في نفس «صائم» و «قائم» ، ولكن في أن أجريتهما خبرين على النهار والليل. وكذلك ليس المجاز في الآية في لفظة «ربحت» نفسها ، ولكن في إسنادها إلى التجارة. وهكذا الحكم في قوله : «سقتها خروق» ليس التجوز في نفس «سقتها» ، ولكن في أن أسندها إلى الخروق. أفلا ترى أنك لا ترى شيئا منها إلا وقد أريد به معناه الذي وضع له على وجهه وحقيقته ، فلم يرد بصائم غير الصوم ، ولا بقائم غير القيام ، ولا بربحت غير الرّبح ، ولا بسقت غير السقي ، كما أريد «بسالت» في قوله : [من الطويل]

وسالت بأعناق المطيّ الأباطح (٢)

غير السّيل.

واعلم أن الذي ذكرت لك في المجاز هناك ، من أن من شأنه أن يفخم عليه المعنى وتحدث فيه النباهة ، قائم لك مثله هاهنا ، فليس يشتبه على عاقل أن ليس حال المعنى وموقعه في قوله : [من الرجز]

فنام ليلي وتجلّى همّي (٣)

كحاله وموقعه إذا أنت تركت المجاز وقلت : «فنمت في ليلي وتجلّى همي» ، كما لم يكن الحال في قولك : «رأيت أسدا» ، كالحال في «رأيت رجلا كالأسد». ومن الذي يخفى عليه مكان العلوّ وموضع المزية وصورة الفرقان بين قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) ، وبين أن يقال : «فما ربحوا في تجارتهم؟».

__________________

(١) البيت ليس في ديوانه ، لكنه في الكامل للمبرد (؟ / ١٢٨). الملاغم : ما حول الفم مما يبلغه اللسان ويصل إليه ، من اللغام وهو زبد أفواه الإبل.

(٢) البيت في اللسان مادة / طرق / (٩ / ٢١٨) من غير نسبة.

(٣) البيت لرؤبة في ديوانه (١٤٢) ، من قصيدة في مدح الحارث بن سليم من آل عمرو ، وتمامه ، والبيت قبله :

ورقاء دمى ذئبها المدمي

حارث قد فرجت عني غمي

 ..................

وقد تجلى كرب المحتم

١٩٢

وإن أردت أن تزداد للأمر تبيّنا ، فانظر إلى بيت الفرزدق : [من الكامل]

يحمي إذا اخترط السّيوف نساءنا

ضرب تطير له السّواعد أرعل (١)

وإلى رونقه ومائه ، وإلى ما عليه من الطّلاوة. ثم ارجع إلى الذي هو الحقيقة وقل : «نحمي إذا اخترط السيوف نساءنا بضرب تطير له السواعد أرعل» ، ثم اسبر حالك؟ هل ترى مما كنت تراه شيئا؟

وهذا الضرب من المجاز على حدته كنز من كنوز البلاغة ، ومادّة الشاعر المفلق والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان ، والاتساع في طرق البيان ، وأن يجيء بالكلام مطبوعا مصنوعا ، وأن يضعه بعيد المرام ، قريبا من الأفهام. ولا يغرّنّك من أمره أنك ترى الرجل يقول : «أتى بي الشوق إلى لقائك ، وسار بي الحنين إلى رؤيتك ، وأقدمني بلدك حقّ لي على إنسان» ، وأشباه ذلك مما تجده لسعته وشهرته يجري مجرى الحقيقة التي لا يشكل أمرها ، فليس هو كذلك أبدا ، بل يدقّ ويلطف حتى يمتنع مثله إلا على الشاعر المفلق ، والكاتب البليغ ، وحتى يأتيك بالبدعة لم تعرفها ، والنادر تأنق لها.

وجملة الأمر أن سبيله سبيل الضّرب الأول الذي هو مجاز في نفس اللفظ وذات الكلمة ، فكما أنّ من الاستعارة والتمثيل عاميّا مثل : «رأيت أسدا» و «وردت بحرا» ، و «شاهدت بدرا» ، و «سلّ من رأيه سيفا ماضيا» ، وخاصيّا لا يكمل له كلّ أحد ، مثل قوله :

وسالت بأعناق المطيّ الأباطح

كذلك الأمر في هذا المجاز الحكميّ.

واعلم أنه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه عدت به إلى الحقيقة ، مثل أنك تقول في : (رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] ، «ربحوا في تجارتهم» ، وفي «يحمي نساءنا ضرب» ، «نحمي نساءنا بضرب» فإن ذلك لا يتأتى في كل شيء. ألا ترى أنّه لا يمكنك أن تثبت للفعل في قولك : «أقدمني بلدك حقّ لي على إنسان» ، فاعلا سوى الحق ، وكذلك لا تستطيع في قوله : [من مجزوء الوافر]

__________________

(١) البيت في ديوانه (١٥٥) (ط) دار صادر ، بيروت ، وقبله :

والمانعون إذا النساء ترادفت

حذر السباء جمالها لا ترحل

أرعل : مسترخ مائل.

١٩٣

وصيّرني هواك وبي

لحيني يضرب المثل (١)

وقوله : [من مجزوء الوافر]

يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا (٢)

أن تزعم أنّ «لصيّرني» فاعلا قد نقل عنه الفعل ، فجعل «للهوى» كما فعل ذلك في «ربحت تجارتهم» و «يحمي نساءنا ضرب» ، ولا تستطيع كذلك أن تقدر «ليزيد» في قوله : «يزيدك وجهه» فاعلا غير «الوجه» ، فالاعتبار إذن بأن يكون المعنى الذي يرجع إليه الفعل موجودا في الكلام على حقيقته.

معنى ذلك أن «القدوم» في قولك» «أقدمني بلدك حقّ لي على إنسان» ، موجود على الحقيقة ، وكذلك «الصيرورة» في قوله : «وصيّرني هواك» ، و «الزيادة» في قوله : «يزيدك وجهه» موجودا على الحقيقة ، وإذا كان معنى اللفظ موجودا على الحقيقة ، لم يكن المجاز فيه نفسه ، وإذا لم يكن المجاز في نفس اللفظ ، كان لا محالة في الحكم. فاعرف هذه الجملة ، وأحسن ضبطها ، حتى تكون على بصيرة من الأمر.

ومن اللطيف في ذلك قول حاجز بن عوف : [من الوافر]

أبي عبر الفوارس يوم داج

وعمّي مالك وضع السّهاما

فلو صاحبتنا لرضيت منّا

إذا لم تغبق المائة الغلاما (٣)

يريد إذا كان العام عام جدب وجفّت ضروع الإبل ، وانقطع الدّر ، حتى إن حلب منها مائة لم يحصل من لبنها ما يكون غبوق غلام واحد. فالفعل الذي هو «غبق» مستعمل في نفسه على حقيقته ، غير مخرج عن معناه وأصله إلى معنى شيء آخر ، فيكون قد دخله مجاز في نفسه ، وإنّما المجاز في أن أسند إلى الإبل وجعل فعلا لها ، وإسناد الفعل إلى الشّيء حكم في الفعل ، وليس هو نفس معنى الفعل ، فاعرفه.

واعلم أن من سبب اللّطف في ذلك أنه ليس كلّ شيء يصلح لأن يتعاطى فيه

__________________

(١) البيت سبق في عدة أبيات لابن البواب.

(٢) البيت لأبي نواس في ديوانه (٢٣٥) (ط) بيروت ، والإيضاح (٣٦) ، ونهاية الإيجاز (١٧٧) بلا عزو ، والمفتاح (٨٠٥) ، والطيبي في التبيان (١ / ٣٢٢) ، وأورده صاحب الأغاني (٢٥ / ٤١).

(٣) حاجز بن عوف بن الحارث الأزدي ، جاهلي ، صعلوك ، عدّاء ، والرواية في الأغاني (١٣ / ٢٣٥) ، «أبي ربع الفوارس ...» أي : أخذ ربع الغنائم ، وأما عبر الفوارس كما هنا فهي بمعنى ، استدل لهم حتى يعرف من أمرهم ما يعنيه.

١٩٤

هذا المجاز الحكميّ بسهولة ، بل تجدك في كثير من الأمر ، وأنت تحتاج إلى أن تهيّئ الشيء وتصلحه لذلك ، بشيء تتوخّاه في النظم. وإن أردت مثالا في ذلك فانظر إلى قوله : [من الطويل]

تناس طلاب العامريّة إذ نأت

بأسجح (١) مرقال (٢) الضّحى قلق الضّفر (٣)

إذا ما أحسّته الأفاعي تحيّزت

شواة (٤) الأفاعي من مثلّمة سمر (٥)

تجوب له الظّلماء عين كأنّها

زجاجة شرب (٦) غير ملأى ولا صفر

يصف جملا ، ويريد أنّه يهتدي بنور عينه في الظلماء ، ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها ، ولولاها لكانت الظلماء كالسّد والحاجز الذي لا يجد شيئا يفرجه به ، ويجعل لنفسه فيه سبيلا. فأنت الآن تعلم أنه لو لا أن قال : «تجوب له» : فعلّق «له» تجوب ، ولما صلحت «العين» لأن يسند «تجوب» إليها ، ولكان لا تتبيّن جهة التجوّز في جعل «تجوب» فعلا للعين كما ينبغي. وكذلك تعلم أنه لو قال مثلا : «تجوب له الظلماء عينه» ، لم يكن له هذا الموقع ، ولاضطرب عليه معناه ، وانقطع السّلك من حيث كان يعييه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به الآن. فتأمل هذا واعتبره. فهذه التهيئة وهذا الاستعداد في هذا المجاز الحكمي ، نظير أنك تراك في الاستعارة التي هي مجاز في نفس الكلمة وأنت تحتاج في الأمر الأكثر إلى أن تمهّد لها وتقدّم أو تؤخّر ما يعلم به أنك مستعير ومشبّه ، ويفتح طريق المجاز إلى الكلمة.

ألا ترى إلى قوله : [من الطويل]

وصاعقة من نصله ينكفي بها

على أرؤس الأقران خمس سحائب (٧)

__________________

(١) الأسجح : ليّن الخد والحسن المعتدل. اللسان / سجح / (٢ / ٤٧٥).

(٢) المرقال : تقول ناقة مرقال : مسرعة. اه القاموس / رقل / (١٣٠٢).

(٣) الضفر : ما يشربه البعير من مضفور (الحبل). اه القاموس / ضفر / (٥٥١).

(٤) الشواة : قحف الرأس. اه القاموس / شوى / (١٦٧٨).

(٥) المثلمة السمر : هي الأخفاف المقطعة من كثرة المشي.

(٦) شرب : القوم الشاربون.

(٧) البيت للبحتري في ديوانه (١ / ١٧٩) ، والإيضاح (٢٦١) ، والمفتاح (٤٨٤) ، وأورده الطيبي في التبيان (١ / ٣٠٠) ، وعزاه للبحتري ، وفي شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١١٧) ، والعلوي في الطراز (١ / ٢٣١) ، ورواية الديوان :

وصاعقة من كفه ينكفي بها

على أرؤس الأعداء خمسة سحائب

ويريد بخمس سحائب : الأنامل.

١٩٥

عنى بخمس السحائب ، أنامله ، ولكنه لم يأت بهذه الاستعارة دفعة ، ولم يرمها إليك بغتة ، بل ذكر ما ينبئ عنها ، ويستدلّ بها عليه ، فذكر أن هناك صاعقة ، وقال : «من نصله» ، فبيّن أن تلك الصاعقة من نصل سيفه ثم قال : «أرؤس الأقران» ، ثم قال : «خمس» ، فذكر «الخمس» التي هي عدد أنامل اليد ، فبان من مجموع هذه الأمور غرضه.

وأنشدوا لبعض العرب : [من الرجز]

فإن تعافوا العدل والإيمانا

فإنّ في أيماننا نيرانا (١)

يريد أن في أيماننا سيوفا نضربكم بها ، ولو لا قوله أولا : «فإن تعافوا العدل والإيمان» ، وأن في ذلك دلالة على أنّ جوابه أنهم يحاربون ويقسرون على الطاعة بالسيف ، ثم قوله : «فإن في أيماننا» ، لما عقل مراده ، ولما جاز له أن يستعير النيران للسيوف ، لأنه كان لا يعقل الذي يريد ، لأنّا وإن كنا نقول : «في أيديهم سيوف تلمع كأنها شعل نار» كما قال : [من الكامل]

ناهضتهم والبارقات كأنّها

شعل على أيديهم تتلهب (٢)

فإن هذا التشبيه لا يبلغ مبلغ ما يعرف مع الإطلاق ، كمعرفتنا إذا قال : «رأيت أسدا» ، أنه يريد الشجاعة ، وإذا قال : «لقيت شمسا وبدرا» ، أنه يريد الحسن ولا يقوي تلك القوة ، فاعرفه.

ومما طريق المجاز فيه الحكم ، قول الخنساء : [من البسيط]

ترتع ما رتعت ، حتّى إذا ادّكرت

فإنّما هي إقبال وإدبار (٣)

وذاك أنها لم ترد بالإقبال والإدبار غير معناهما ، فتكون قد تجوّزت في نفس الكلمة ، وإنما تجوّزت في أن جعلتها لكثرة ما تقبل وتدبر ، ولغلبة ذاك عليها واتّصاله منها ، وأنه لم يكن لها حال غيرهما ، كأنها قد تجسّمت من الإقبال والإدبار. وإنّما

__________________

(١) البيت في الإيضاح (٢٦٠) ط ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، بلا نسبة ، والمعنى : أن سيوفا تلمع كأنها شعل نيران.

(٢) البيت للبحتري في الإيضاح (٢٦١) ، والخطاب : للممدوح.

(٣) البيت في ديوانها (٣٩) ط ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، وقبله :

وما عجول على بقر تطيف به

لها حنينان : إعلان وإسرار

إقبال وإدبار : أي لا تنفك كقبل وتدبر كأنها خلقت منها.

١٩٦

كان يكون المجاز في نفس الكلمة ، لو أنها كانت قد استعارت «الإقبال والإدبار» لمعنى غير معناهما الذي وضعا له في اللّغة. ومعلوم أن ليس الاستعارة مما أرادته في شيء.

واعلم أن ليس بالوجه أن يعدّ هذا على الإطلاق معدّ ما حذف منه المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، مثل قوله عزوجل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، ومثل قوله النابغة الجعدي : [من المتقارب]

وكيف تواصل من أصبحت

خلالته كأبي مرحب (١)

وقول الأعرابيّ : [من الوافر]

حسبت بغام راحلتي عناقا

وما هي ويب غيرك بالعناق (٢)

وإن كنا نراهم يذكرونه حيث يذكرون حذف المضاف ، ويقولون إنه في تقدير : «فإنما هي ذات إقبال وإدبار» ، ذاك لأن المضاف المحذوف من نحو الآية والبيتين ، في سبيل ما يحذف من اللفظ ويراد في المعنى ، كمثل أن يحذف خبر المبتدأ والمبتدأ ، إذا دلّ الدليل عليه إلى سائر ما إذا حذف كان في حكم المنطوق به.

وليس الأمر كذلك في بيت الخنساء ، لأنا إذا جعلنا المعنى فيه الآن كالمعنى إذا نحن قلنا : «فإنما هي ذات إقبال وإدبار» ، أفسدنا الشعر على أنفسنا ، وخرجنا إلى شيء مغسول ، وإلى كلام عاميّ مرذول ، وكان سبيلنا سبيل من يزعم مثلا في بيت المتنبي : [من الوافر]

بدت قمرا ، ومالت خوط بان ،

وفاحت عنبرا ، ورنت غزالا (٣)

__________________

(١) البيت : للنابغة الجعدي (الديوان ٢٦) ، وفي اللسان مادة / خلل / (١١). الخلالة : الصداقة ـ أبو مرحب : كنية الذئب.

(٢) الشعر لذي الخرق الطهوي يخاطب الذئب. في نوادر أبي زيد (١١٦) ، ومجالس ثعلب (٧٦ ، ١٨٥) ، يقولها لذئب تبعه في طريقه وقبل البيت :

ألم تعجب لذئب بات يسري

ليؤذن صاحبا له باللحاق

والبغام : صوت الظبية والناقة وحنينها ، والعناق : أنثى المعز ، قال الأستاذ محمود شاكر في هامش نسخته : ومن هامش المطبوعة بخط الناسخ ما نصه : «يخاطب ذئبا أي : حسبت ناقتي عناقا وبغامها بغام عناق».

(٣) البيت في ديوانه (١ / ١٨٤) ، من قصيدة قالها في مدح أبي الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني وبعده :

وجارت في الحكومة ثم أبدت

لنا من حسن قامتها اعتدالا

بدت : ظهرت. الخوط : الغصن الناعم. رنت : نظرت. والبيت في الإيضاح (٢٢٩) ط ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

١٩٧

أنّه في تقدير محذوف ، وأن معناه الآن كالمعنى إذا قلت : «بدت مثل قمر ، ومالت مثل خوط بان ، وفاحت مثل عنبر ، ورنت مثل غزال» ، في أنّا نخرج إلى الغثاثة ، وإلى شيء يعزّل البلاغة عن سلطانها ويخفض من شأنها ، ويصدّ أوجهنا عن محاسنها ، ويسدّ باب المعرفة بها وبلطائفها علينا.

فالوجه أن يكون تقدير المضاف في هذا على معنى أنّه لو كان الكلام قد جيء به على ظاهره ولم يقصد إلى الذي ذكرنا من المبالغة والاتساع ، وأن تجعل الناقة كأنها قد صارت بجملتها إقبالا وإدبارا ، حتى كأنها قد تجسّمت منهما ، لكان حقّه حينئذ أن يجاء فيه بلفظ «الذات» فيقال : «إنما هي ذات إقبال وإدبار». فأمّا أن يكون الشعر الآن موضوعا على إرادة ذلك وعلى تنزيله منزلة المنطوق به حتّى يكون الحال فيه كالحال في :

حسبت بغام راحلتي عناقا

حين كان المعنى والقصد أن يقول : «حسبت بغام راحلتي بغام عناق» ، فمما لا مساغ له عند من كان صحيح الذوق صحيح المعرفة ، نسّابة للمعاني.

فصل

هذه مسألة قد كنت عملتها قديما ، وقد كتبتها هاهنا لأن لها اتصالا بهذا الذي صار بنا القول إليه. قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧] ، أي لمن أعمل قلبه فيما خلق القلب له من التدبّر والتفكّر والنّظر فيما ينبغي أن ينظر فيه. فهذا على أن يجعل الذي لا يعي ولا يسمع ولا ينظر ولا يتفكّر ، كأنه قد عدم القلب من حيث عدم الانتفاع به ، وفاته الذي هو فائدة القلب والمطلوب منه ، كما يجعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه ولا يفكر فيما يؤدّيان إليه ، ولا يحصل من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة ، بمنزلة من لا سمع له ولا بصر.

فأما تفسير من يفسّره على أنه بمعنى «من كان له عقل» ، فإنه إنما يصحّ على أن يكون قد أراد الدّلالة على الغرض على الجملة. فأما أن يؤخذ به على هذا الظاهر حتى كأن «القلب» اسم «للعقل» ، كما يتوهمه الحشو ومن لا يعرف مخارج الكلام ، فمحال باطل ، لأنه يؤدي إلى إبطال الغرض من الآية ، وإلى تحريف الكلام عن صورته ، وإزالة المعنى عن جهته. وذاك أنّ المراد به الحثّ على النّظر ، والتقريع على تركه ، وذمّ من يخل به ويعقل عنه. ولا يحصل ذلك إلا بالطّريق الذي قدّمته ، وإلّا بأن يكون

١٩٨

قد جعل من لا يفقه بقلبه ولا ينظر ولا يتفكّر ، كأنه ليس بذي قلب ، كما يجعل كأنه جماد ، وكأنه ميّت لا يشعر ولا يحسّ وليس سبيل من فسّر «القلب» هاهنا على «العقل» ، إلّا سبيل من فسّر عليه «العين» و «السمع» في قول الناس : «هذا بيّن لمن كانت له عين ، ولمن كان له سمع» ، وفسّر «العمى» و «الصّمم» و «الموت» في صفة من يوصف بالجهالة ، على مجرّد الجهل ، وأجرى جميع ذلك على الظّاهر ، فاعرفه.

ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم ، أن يوهموا أبدا في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل ، أنها على ظواهرها ، فيفسدوا المعنى بذلك ، ويبطلوا الغرض ، ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة ، وبمكان الشّرف. وناهيك بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه ، وجعلوا يكثرون في غير طائل ، هناك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه ، وزند ضلالة قد قدحوا به ، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.

فصل

هذا فنّ من القول دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، وهو أنّا نراهم كما يصنعون في نفس الصّفة بأن يذهبوا بها مذهب الكناية والتعريض ، كذلك يذهبون في إثبات الصّفة هذا المذهب. وإذا فعلوا ذلك ، بدت هناك محاسن تملأ الطّرف ، ودقائق تعجز الوصف ، ورأيت هنالك شعرا شاعرا ، وسحرا ساحرا ، وبلاغة لا يكمل لها إلا الشاعر المفلق ، والخطيب المصقع. وكما أن الصفة إذا لم تأتك مصرّحا بذكرها ، مكشوفا عن وجهها ، ولكن مدلولا عليها بغيرها ، وكان ذلك أفخم لشأنها ، وألطف لمكانها ، كذلك إثباتك الصّفة للشيء تثبتها له ، إذا لم تلقه إلى السامع صريحا ، وجئت إليه من جانب التعريض والكناية والرّمز والإشارة ، كان له من الفضل والمزيّة ، ومن الحسن والرّونق ، ما لا يقلّ قليله ، ولا يجهل موضع الفضيلة فيه.

وتفسير هذه الجملة وشرحها : أنهم يرومون وصف الرجل ومدحه ، وإثبات معنى من المعاني الشريفة له ، فيدعون التصريح بذلك ، ويكنون عن جعلها فيه بجعلها في شيء يشتمل عليه ويتلبّس به ، ويتوصّلون في الجملة إلى ما أرادوا من الإثبات ، لا من الجهة الظاهرة المعروفة ، بل من طريق يخفى ، ومسلك يدقّ؟ ومثاله قول زياد الأعجم : [من الكامل]

١٩٩

إنّ السّماحة والمروءة والنّدى

في قبّة ضربت على ابن الحشرج (١)

أراد ، كما لا يخفى ، أن يثبت هذه المعاني والأوصاف خلالا للممدوح وضرائب (٢) ، فترك أن يصرّح فيقول : «إن السماحة والمروءة والندى لمجموعة في ابن الحشرج ، أو مقصورة عليه ، أو مختصّة به» ، وما شاكل ذلك مما هو صريح في إثبات الأوصاف للمذكورين بها ، وعدل إلى ما ترى من الكناية والتلويح فيجعل كونها في القبّة المضروبة عليه ، عبارة عن كونها فيه ، وإشارة إليه ، فخرج كلامه بذلك إلى ما خرج إليه من الجزالة ، وظهر فيه ما أنت ترى من الفخامة ، ولو أنه أسقط هذه الواسطة من البين ، لما كان إلا كلاما غفلا ، وحديثا ساذجا.

فهذه الصّنعة في طريق الإثبات ، هي نظير الصّنعة في المعاني ، إذا جاءت كنايات عن معان أخر ، نحو قوله : [من الوافر]

وما يك فيّ من عيب فإنّي

جبان الكلب مهزول الفصيل (٣)

فكما أنه إنما كان من فاخر الشعر ، ومما يقع في الاختيار (٤) ، لأجل أنّه أراد أن يذكر نفسه بالقرى والضيافة ، فكنّى من ذلك بجبن الكلب وهزال الفصيل ، وترك أن يصرّح فيقول : «قد عرف أن جنابي مألوف ، وكلبي مؤدّب لا يهرّ في وجوه من يغشاني من الأضياف ، وأني أنحر المتالي (٥) من إبلي وأدع فصالها هزلى» كذلك ، إنّما راقك بيت زياد ، لأنّه كنى عن إثباته السماحة والمروءة والندى كائنة في الممدوح ، بجعلها كائنة في القبّة المضروبة عليه.

__________________

(١) البيت لزياد الأعجم من قصيدة له في المدح ، وهو كناية عن وصف ممدوحه بالتمكين في صفات المروءة والسماحة والندى ، والبيت أورده القزويني في الإيضاح (٢٩٠) ، وعزاه لأبي زياد الأعجم ، والسكاكي في المفتاح (٥١٧) ط ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، وفي الطراز (١ / ٤٢٢) ، ونهاية الإيجاز (٢٧١) ، والإشارات (٢٤٥) ، والمصباح (١٥٢). ابن الحشرج : من ولاة بني أمية ، اسمه عبد الله.

(٢) ضرائب : الضريبة الخليفة يقال إنه لكريم الضرائب. اه اللسان / ضرب / (١ / ٤٥٩).

(٣) البيت أورده القزويني في الإيضاح (٢٨٨) ، وهو لابن هرمة ، وهو شاعر مخضرمي الدولتين ، توفي سنة (١٤٥ ه‍) ، والبيت غير منسوب في الحيوان (١ / ٣٧٧) ، والحماسة (١ / ٢٦٠) ، ومنسوب لابن هرمة في البيان والتبيين ، وفي ديوان ابن هرمة (١٩٨) ، والتبيان (٣٩) ، والطراز (١ / ٤٢٣) ، والإشارات (٢٤٢) ، وأورده الرازي في نهاية الإيجاز (٢٧١) ، وبدر الدين بن مالك في المصباح (١٥٠). الفصيل : ولد الناقة إذا فصل عن أمه.

(٤) الاختيار : اختيار أبي تمام في حماسته.

(٥) المتالي : الأمهات إذا تلاها الأولاد. اه اللسان مادة / تلا / (١٤ / ١٠٣).

٢٠٠