دلائل الإعجاز في علم المعاني

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

دلائل الإعجاز في علم المعاني

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦

شرحه ، من أنك أردت النصّ على «زيد» أنّه الجائي ، وأن تبطل ظنّ المخاطب أن المجيء لم يكن منه ، ولكن كان من «عمرو» حسب ما يكون إذا قلت : «جاءني زيد لا عمرو» ، فاعرفه.

وإذ قد عرفت هذه الجملة ، فإنّا نذكر جملة من القول في «ما» و «إلّا» وما يكون من حكمهما.

اعلم أنك إذا قلت : «ما جاءني إلّا زيد» : احتمل أمرين :

أحدهما : أن تريد اختصاص «زيد» بالمجيء وأن تنفيه عمن عداه ، وأن يكون كلاما تقوله ، لا لأنّ بالمخاطب حاجة إلى أن يعلم أن «زيدا» قد جاءك ، ولكن لأنّ به حاجة إلى أن يعلم أنه لم يجئ إليك غيره.

والثاني : أن تريد الذي ذكرناه في «إنّما» ، ويكون كلاما تقوله ليعلم أن الجائي «زيد» لا غيره. فمن ذلك قولك للرجل يدّعي أنك قلت قولا ثم قلت خلافه : «ما قلت اليوم إلّا ما قلته أمس بعينه» ويقول : «لم تر زيدا ، وإنما رأيت فلانا» ، فتقول : «بل لم أر إلّا زيدا». وعلى ذلك قوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : ١١٧] ، لأنه ليس المعنى : إنّي لم أزد على ما أمرتني به شيئا ، ولكن المعنى : إنّي لم أدع ما أمرتني به أن أقوله لهم وقلت خلافه.

ومثال ما جاء في الشعر من ذلك قوله : [من السريع]

قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطّر الفارس إلّا أنا (١)

المعنى : أنا الذي قطّر الفارس ، وليس المعنى على أنه يريد أن يزعم أنه انفرد بأن قطّره ، وأنه لم يشركه فيه غيره.

وهاهنا كلام ينبغي أن تعلمه ، إلا أني أكتب لك من قبله مسألة ، لأن فيها عونا عليه. قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ، في تقديم اسم الله عزوجل معنى خلاف ما يكون لو أخّر. وإنّما يبين لك ذلك إذا اعتبرت الحكم في «ما» و «إلا» ، وحصّلت الفرق بين أن تقول : «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» ، وبين قولك : «ما ضرب عمرو إلّا زيدا».

__________________

(١) البيت لعمرو بن معد يكرب في ديوانه (١٦٧) ، والأغاني (١٥ / ١٦٩) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (٤١١) ، وله أو للفرزدق في شرح شواهد المغني (٢ / ٧١٩) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر (٧ / ٢٤٣) ، ولسان العرب (قطر) ، والإيضاح (١٢٦) ، بتحقيق د. هنداوي ، والمفتاح (٤٠٣) بلا نسبة. وقطّره بالتضعيف : ألقاه على جنبه ، وقطره من باب القتل : صرعه.

٢٢١

والفرق بينهما أنك إذا قلت : «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» ، فقدّمت المنصوب ، كان الغرض بيان الضّارب من هو ، والإخبار بأنه عمرو خاصّة دون غيره وإذا قلت : «ما ضرب عمرو إلّا زيدا» ، فقدّمت المرفوع ، كان الغرض بيان المضروب من هو ، والإخبار بأنه «زيد» خاصة دون غيره.

وإذا قد عرفت ذلك فاعتبر به الآية ، وإذا اعتبرتها به علمت أن تقديم اسم الله تعالى إنما كان لأجل أنّ الغرض أن يبيّن الخاشون من هم ، ويخبر بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم. ولو أخّر ذكر اسم الله وقدّم «العلماء» فقيل : «إنّما يخشى العلماء الله» ، لصار المعنى على ضدّ ما هو عليه الآن ، ولصار الغرض بيان المخشيّ من هو ، والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره ، ولم يجب حينئذ أن تكون الخشية من الله تعالى مقصورة على العلماء ، وأن يكونوا مخصوصين بها كما هو الغرض في الآية ، بل كان يكون المعنى أنّ غير العلماء يخشون الله تعالى أيضا إلا أنّهم مع خشيتهم الله تعالى يخشون معه غيره ، والعلماء لا يخشون غير الله تعالى.

وهذا المعنى وإن كان قد جاء في التنزيل في غير هذه الآية كقوله تعالى : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) [الأحزاب : ٣٩] ، فليس هو الغرض في الآية ، ولا اللّفظ بمحتمل له البتة. ومن أجاز حملها عليه ، كان قد أبطل فائدة التقديم ، وسوّى بين قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)) وبين أن يقال : «إنما يخشى العلماء الله» ، وإذا سوّى بينهما ، لزمه أن يسوّي بين قولنا : «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» وبين : «ما ضرب عمرو إلّا زيدا» ، وذلك ما لا شبهة في امتناعه.

فهذه هي المسألة ، وإذ قد عرفتها فالأمر فيها بيّن : أن الكلام «بما» و «إلا» قد يكون في معنى الكلام «بإنما» ، ألا ترى إلى وضوح الصورة في قولك : «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» و «ما ضرب عمرو إلّا زيدا» ، أنه في الأول لبيان من الضارب ، وفي الثاني لبيان من المضروب ، وإن كان تكلفا أن تحمله على نفي الشركة ، فتريد «بما ضرب زيدا إلّا عمرو» أنه لم يضربه اثنان ، و «بما ضرب عمرو إلّا زيدا» ، أنه لم يضرب اثنين.

ثم اعلم أن السبب في أن لم يكن تقديم المفعول في هذا كتأخيره ، ولم يكن «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» و «ما ضرب عمرو إلا زيدا» ، سواء في المعنى أن الاختصاص يقع في واحد من الفاعل والمفعول ، ولا يقع فيهما جميعا. ثم إنه يقع في الذي يكون بعد «إلا» منهما دون الذي قبلها ، لاستحالة أن يحدث معنى الحرف

٢٢٢

في الكلمة من قبل أن يجيء الحرف. وإذا كان الأمر كذلك ، وجب أن يفترق الحال بين أن تقدّم المفعول على «إلّا» فتقول : «ما ضرب زيدا إلا عمرو» ، وبين أن تقدم الفاعل فتقول : «ما ضرب عمرو إلّا زيدا» ، لأنّا إن زعمنا أنّ الحال لا يفترق ، جعلنا المتقدم كالمتأخر في جواز حدوثه فيه. وذلك يقتضي المحال الذي هو أن يحدث معنى «إلّا» في الاسم من قبل أن تجيء بها ، فاعرفه.

وإذا قد عرفت أن الاختصاص مع «إلا» يقع في الذي تؤخّره من الفاعل والمفعول ، فكذلك يقع مع «إنما» في المؤخّر منهما دون المقدّم. فإذا قلت : «إنّما ضرب زيدا عمرو» ، كان الاختصاص في الضارب ، وإذا قلت : «إنّما ضرب عمرو زيدا» ، كان الاختصاص في المضروب ، وكما لا يجوز أن يستوي الحال بين التقديم والتأخير مع «إلّا» ، كذلك لا يجوز مع «إنّما».

وإذا استبنت هذه الجملة ، عرفت منها أنّ الذي صنعه الفرزدق في قوله :

وإنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (١)

شيء لو لم يصنعه لم يصحّ له المعنى. ذاك لأنّ غرضه أن يخصّ المدافع لا المدافع عنه. ولو قال : «إنّما أدافع عن أحسابهم» ، لصار المعنى أنّه يخص المدافع عنه ، وأنّه يزعم أن المدافعة منه تكون عن أحسابهم لا عن أحساب غيرهم ، كما يكون إذا قال : «وما أدافع إلّا عن أحسابهم» ، وليس ذلك معناه ، إنما معناه أن يزعم أنّ المدافع هو لا غيره ، فاعرف ذلك ، فإن الغلط كما أظنّ يدخل على كثير ممن تسمعهم يقولون : «إنه فصل الضمير للحمل على المعنى» ، فيرى أنه لو لم يفصله ، لكان يكون معناه مثله الآن.

هذا ولا يجوز أن ينسب فيه إلى الضرورة ، فيجعل مثلا نظير قول الآخر : [من الهزج]

كأنّا يوم قرّى إنّ

ما نقتل إيّانا (٢)

__________________

(١) راجع ص (٢١٧) هامش (١).

(٢) البيت من الكتاب لسيبويه (٢ / ١١١ ، ٣٦٢) ونسبه سيبويه إلى بعض اللصوص ، والبيت لذي الأصبع العدواني أو أبي بجيلة. انظر الخصائص (٢ / ١٩٤) ، وبعده :

وقتلنا منهم كل

فتى أبيض حسانا

وقرى : بالضم وتشديد الراء : موضع في بلاد بني الحارث بن كعب ، فكأنهم قتلوا أنفسهم كما ذكر الشنتمرى أو يكون شبه أعداءهم الذين قتلوهم بأنفسهم في السيادة والحسن.

٢٢٣

لأنه ليس به ضرورة إلى ذلك ، من حيث أن «أدافع» و «يدافع» واحد في الوزن ، فاعرف هذا أيضا.

وجملة الأمر أنّ الواجب أن يكون اللّفظ على وجه يجعل الاختصاص فيه للفرزدق. وذلك لا يكون إلّا بأن يقدم «الأحساب» على ضميره ، وهو لو قال : «وإنما أدافع عن أحسابهم» ، استكن ضميره في الفعل ، فلم يتصوّر تقديم «الأحساب» عليه ، ولم يقع «الأحساب» إلا مؤخرا عن ضمير الفرزدق ، وإذا تأخّرت انصرف الاختصاص إليها لا محالة.

فإن قلت : إنه كان يمكنه أن يقول : «وإنما أدافع عن أحسابهم أنا» ، فيقدم «الأحساب» على «أنا».

قيل : إنه إذا قال : «أدافع» كان الفاعل الضمير المستكن في الفعل ، وكان «أنا» الظاهر تأكيدا له ، أعني للمستكنّ ، والحكم يتعلّق بالمؤكّد دون التأكيد ، لأن التأكيد كالتكرير ، فهو يجيء من بعد نفوذ الحكم ، ولا يكون تقديم الجارّ مع المجرور ، الذي هو قوله «عن أحسابهم» على الضمير الذي هو تأكيد ، تقديما له على الفاعل ، لأن تقديم المفعول على الفاعل إنما يكون إذا ذكرت المفعول قبل أن تذكر الفاعل ، ولا يكون لك إذا قلت : «وإنما أدافع عن أحسابهم» ، سبيل إلى أن تذكر المفعول قبل أن تذكر الفاعل ، لأن ذكر الفاعل هاهنا هو ذكر الفعل ، من حيث أن الفاعل مستكن في الفعل ، فكيف يتصوّر تقديم شيء عليه ، فاعرفه.

واعلم أنّك إن عمدت إلى الفاعل والمفعول فأخّرتهما جميعا إلى ما بعد «إلّا» ، فإن الاختصاص يقع حينئذ في الذي يلي «إلا» منهما. فإذا قلت : «ما ضرب إلّا عمرو زيدا» ، كان الاختصاص في الفاعل ، وكان المعنى أنك قلت : «إن الضارب عمرو لا غيره» وإن قلت : «ما ضرب إلّا زيدا عمرو» ، كان الاختصاص في المفعول ، وكان المعنى أنك قلت : «إن المضروب زيد لا من سواه».

وحكم المفعولين حكم الفاعل والمفعول فيما ذكرت لك. تقول : «لم يكس إلّا زيدا جبّة» ، فيكون المعنى أنه خص «زيدا» من بين الناس بكسوة الجبة فإن قلت : «لم يكس إلّا جبة زيدا» ، كان المعنى : أنه خصّ الجبة من أصناف الكسوة.

وكذلك الحكم حيث يكون بدل أحد المفعولين جارّ ومجرور ، كقول السّيد الحميريّ : [من السريع]

٢٢٤

لو خيّر المنبر فرسانه

ما اختار إلا منكم فارسا (١)

الاختصاص في «منكم» دون «فارسا» ولو قلت : «ما اختار إلّا فارسا منكم» ، صار الاختصاص في «فارسا».

واعلم أنّ الأمر في المبتدأ والخبر ، إن كانا بعد «إنّما» على العبرة التي ذكرت لك في الفاعل والمفعول ، إذا أنت قدّمت أحدهما على الآخر.

معين ذلك : أنك إن تركت الخبر في موضعه فلم تقدّمه على المبتدأ ، كان الاختصاص فيه وإن قدّمته على المبتدأ ، صار الاختصاص الذي كان فيه في المبتدأ.

تفسير هذا ، وأنّك تقول : «إنّما هذا لك» ، فيكون الاختصاص في «لك» بدلالة أنك تقول : «إنّما هذا لك لا لغيرك» وتقول : «إنما لك هذا» ، فيكون الاختصاص في «هذا» ، بدلالة أنك تقول : «إنّما لك هذا لا ذاك» ، والاختصاص يكون أبدا في الذي إذا جئت «بلا» العاطفة كان العطف عليه.

وإن أردت أن يزداد ذلك عندك وضوحا ، فانظر إلى قوله تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠] ، وقوله عزّ وعلا : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) [التوبة : ٩٣] ، فإنك ترى الأمر ظاهرا أن الاختصاص في الآية الأولى في المبتدأ الذي هو «البلاغ» و «الحساب» ، دون الخبر الذي هو «عليك» و «علينا» وأنه في الآية الثانية في الخبر الذي هو «على الذين» ، دون المبتدأ الذي هو «السّبيل».

واعلم أنه إذا كان الكلام «بما» و «إلا» كان الذي ذكرته من أنّ الاختصاص يكون في الخبر إن لم تقدّمه ، وفي المبتدأ إن قدّمت الخبر أوضح وأبين ، تقول (٢) : «ما زيد إلا قائم» ، فيكون المعنى أنك اختصصت «القيام» من بين الأوصاف التي يتوهّم كون زيد عليها بجعله صفة له. وتقول : «ما قائم إلّا زيد» ، فيكون المعنى أنك اختصصت زيدا بكونه موصوفا بالقيام. فقد قصرت في الأول الصفة على الموصوف ، وفي الثاني الموصوف على الصفة.

واعلم أن قولنا في الخبر إذا أخّر نحو : «ما زيد إلّا قائم» ، أنك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهّم كون زيد عليها ، ونفيت ما عدا القيام عنه ، فإنما نعني

__________________

(١) البيت أورده القزويني في الإيضاح (١٣٢) ، والسكاكي في المفتاح (٤١٠) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٩٧) ، وعزاه للحميري.

(٢) كان الذي ذكرته ... أوضح وأبين» هكذا السياق.

٢٢٥

أنك نفيت عنه الأوصاف تنافي القيام ، نحو أن يكون «جالسا» أو «مضطجعا» أو «متكئا» ، أو ما شاكل ذلك ولم ترد أنك نفيت ما ليس من القيام بسبيل ، إذ لسنا ننفي عنه بقولنا : «ما هو إلّا قائم» أن يكون «أسود» أو «أبيض» أو «طويلا» أو «قصيرا» أو «عالما» أو «جاهلا» ، كما أنّا إذا قلنا : «ما قائم إلّا زيد» ، لم نرد أنّه ليس في الدنيا قائم سواه ، وإنما نعني ما قائم حيث نحن ، وبحضرتنا ، وما أشبه ذلك.

واعلم أنّ الأمر بيّن في قولنا : «ما زيد إلّا قائم» ، أن ليس المعنى على نفي الشّركة ، ولكن على نفي أن لا يكون المذكور ، ويكون بدله شيء آخر. ألا ترى أن ليس المعنى أنّه ليس له مع «القيام» صفة أخرى ، بل المعنى أن ليس له بدل القيام صفة ليست بالقيام ، وأن ليس القيام ، منفيّا عنه ، وكائنا مكانه فيه «القعود» أو «الاضطجاع» أو نحوهما.

فإن قلت : فصورة المعنى إذن صورته إذا وضعت الكلام «بإنما» فقلت : «إنّما هو قائم» ، ونحن نرى أنه يجوز في هذا أن تعطف «بلا» فتقول : «إنما هو قائم لا قاعد» ، ولا نرى ذلك جائزا مع «ما» و «إلّا» ، إذا ليس من كلام الناس أن يقولوا : «ما زيد إلا قائم لا قاعد».

فإنّ ذلك إنّما لم يجز من حيث أنك إذا قلت : «ما زيد إلا قائم» ، فقد نفيت عنه كلّ صفة تنافي «القيام» ، وصرت كأنك قلت : «ليس هو بقاعد ولا مضطجع ولا متّكئ» ، وهكذا حتّى لا تدع صفة يخرج بها من «القيام». فإذا قلت من بعد ذلك «لا قاعد» ، كنت قد نفيت «بلا» العاطفة شيئا قد بدأت فنفيته ، وهي موضوعة لأن تنفي بها ما بدأت فأوجبته ، لا لأن تفيد بها النّفي في شيء قد نفيته. ومن ثمّ لم يجز أن تقول : «ما جاءني أحد لا زيد» ، على أن تعمد إلى بعض ما دخل في النفي بعموم «أحد» فتنفيه على الخصوص ، بل كان الواجب إذا أردت ذلك أن تقول : «ما جاءني أحد ولا زيد» ، فتجيء «بالواو» من قبل «لا» ، حتى تخرج بذلك من أن تكون عاطفة ، فاعرف ذلك.

وإذ قد عرفت فساد أن تقول : «ما زيد إلّا قائم لا قاعد» ، فإنك تعرف بذلك امتناع أن تقول : «ما جاءني إلّا زيد لا عمرو» و «ما ضربت إلّا زيدا لا عمرا» ، وما شاكل ذلك. وذلك أنّك إذا قلت : «ما جاءني إلّا زيد» ، فقد نفيت أن يكون قد جاءك أحد غيره ، فإذا قلت : «لا عمرو» ، كنت قد طلبت أن تنفي «بلا» العاطفة شيئا قد تقدمت فنفيته ، وذلك ، كما عرّفتك ، خروج بها عن المعنى الذي وضعت له إلى خلافه.

٢٢٦

فإن قيل : فإنك إذا قلت : «إنّما جاءني زيد» ، فقد نفيت فيه أيضا أن يكون المجيء قد كان من غيره ، فكان ينبغي أن لا يجوز فيه أيضا أن تعطف بلا فتقول : «إنّما جاءني زيد لا عمرو».

قيل : إنّ الذي قلته من أنك إذا قلت : «إنّما جاءني زيد» فقد نفيت فيه أيضا المجيء عن غيره غير مسلّم لك على حقيقته. وذلك أنه ليس معك إلّا قولك : «جاءني زيد» ، وهو كلام كما تراه مثبت ليس فيه نفي البتّة ، كما كان في قولك : «ما جاءني إلّا زيد» ، وإنّما فيه أنك وضعت يدك على «زيد» فجعلته «الجائي» ، وذلك وإن أوجب انتفاء المجيء عن غيره ، فليس يوجبه من أجل أن كان ذلك إعمال نفي في شيء ، وإنّما أوجبه من حيث كان «المجيء» الذي أخبرت به مجيئا مخصوصا ، إذا كان لزيد لم يكن لغيره. والذي أبيناه أن تنفي «بلا» العاطفة الفعل عن شيء وقد نفيته عنه لفظا.

ونظير هذا أنّا نعقل من قولنا : «زيد هو الجائي» ، أنّ هذا المجيء لم يكن من غيره ، ثمّ لا يمنع ذلك من أن تجيء فيه «بلا» العاطفة فتقول : «زيد هو الجائي لا عمرو» ، لأنا لم نعقل ما عقلناه من انتفاء المجيء عن غيره ، وبنفي أوقعناه على شيء ، ولكن بأنه لمّا كان المجيء المقصود مجيئا واحدا ، كان النصّ على «زيد» بأنه فاعله وإثباته له ، نفيا له عن غيره ، ولكن من طريق المعقول ، لا من طريق أن كان في الكلام نفي ، كما كان ثمّ ، فاعرفه.

فإن قيل : فإنك إذا قلت : «ما جاءني إلا زيد» ، ولم يكن غرضك أن تنفي أن يكون قد جاء معه واحد آخر ، كان المجيء أيضا مجيئا واحدا.

قيل : إنه وإن كان واحدا ، فإنك إنّما تثبت أن «زيدا» الفاعل له ، بأن نفيت المجيء عن كلّ من سوى زيد ، كما تصنع إذا أردت أن تنفي أن يكون قد جاء معه جاء آخر. وإذا كان كذلك ، كان ما قلناه من أنك إن جئت «بلا» العاطفة فقلت : «ما جاءني إلا زيد لا عمرو» ، كنت قد نفيت الفعل عن شيء قد نفيته عنه مرّة صحيحا ثابتا ، كما قلناه ، فاعرفه.

اعلم أنّ حكم «غير» في جميع ما ذكرنا ، حكم «إلّا». فإذا قلت : «ما جاءني غير زيد» ، احتمل أن تريد نفي أن يكون قد جاء معه إنسان آخر ، وأن تريد نفي أن لا يكون قد جاء ، وجاء مكانه واحد آخر ولا يصحّ أن تقول : ما جاءني غير زيد لا عمرو» ، كما لم يجز : «ما جاءني إلّا زيد لا عمرو».

٢٢٧

فصل

في نكتة تتّصل بالكلام الذي تضعه «بما» و «إلّا»

اعلم أن الذي ذكرناه من أنك تقول : «ما ضرب إلا عمرو زيدا» ، فتوقع الفاعل والمفعول جميعا بعد «إلّا» ، ليس بأكثر الكلام ، وإنما الأكثر إن تقدّم المفعول على «إلا» ، نحو : «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» ، حتّى أنهم ذهبوا فيه أعني في قولك : «ما ضرب إلّا عمرو زيدا» إلى أنّه على كلامين ، وأنّ «زيدا» منصوب بفعل مضمر ، حتى كأنّ المتكلّم بذلك أبهم في أوّل أمره فقال : «ما ضرب إلّا عمرو» ثم قيل له : «من ضرب؟» فقال : «ضرب زيدا».

وهاهنا ، إذا تأملت ، معنى لطيف يوجب ذلك ، وهو أنّك إذا قلت : «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» ، كان غرضك أن تختصّ «عمرا» «بضرب» «زيد» ، لا بالضرب على الإطلاق. وإذا كان كذلك ، وجب أن تعدّي الفعل إلى المفعول من قبل أن تذكر «عمرا» الذي هو الفاعل ، لأن السامع لا يعقل عنك أنك اختصصته بالفعل معدّى حتى تكون قد بدأت فعدّيته أعني لا يفهم عنك أنك أردت أن تختصّ «عمرا» بضرب «زيد» ، حتى تذكره له معدّى إلى «زيد» ، فأمّا إذا ذكرته غير معدّى فقلت : «ما ضرب إلّا عمرو» ، فإنّ الذي يقع في نفسه أنك أردت أن تزعم أنّه لم يكن من أحد غير «عمرو» ضرب ، وأنه ليس هاهنا مضروب إلّا وضاربه عمرو ، فاعرفه أصلا في شأن التقديم والتأخير.

فصل

[من إنّما]

إن قيل : قد مضيت في كلامك كلّه على أنه «إنّما» للخبر لا يجهله المخاطب ، ولا يكون ذكرك له لأن تفيده إياه ، وإنّا لنراها في كثير من الكلام ، والقصد بالخبر بعدها أن تعلم السامع أمرا قد غلط فيه بالحقيقة ، واحتاج إلى معرفته ، كمثل ما ذكرت في أوّل الفصل الثاني من قولك : «إنّما جاءني زيد لا عمرو» ، وتراها كذلك تدور في الكتب للكشف عن معان غير معلومة ، ودلالة المتعلّم منها على ما لا يعلم.

قيل : أمّا ما يجيء في الكلام من نحو : «إنما جاء زيد لا عمرو» ، فإنه وإن كان يكون إعلاما لأمر لا يعلمه السامع ، فإنه لا بدّ مع ذلك من أن يدّعى هناك فضل

٢٢٨

انكشاف وظهور في أن الأمر كالذي ذكر. وقد قسّمت في أول ما افتتحت القول فيها فقلت : «إنّها تجيء للخبر لا يجهله السامع ولا ينكر صحّته ، أو لما ينزّل هذه المنزلة». وأمّا ما ذكرت من أنها تجيء في الكتب لدلالة المتعلم على ما لم يعلمه ، فإنك إذا تأملت مواقعها وجدتها في الأمر الأكثر قد جاءت لأمر قد وقع العلم بموجبه وبشيء يدلّ عليه.

مثال ذلك : أن صاحب الكتاب قال في باب «كان» :

«إذا قلت : كان زيد ، فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك ، وإنّما ينتظر الخبر. فإذا قلت : «حليما» ، فقد أعلمته مثل ما علمت. وإذا قلت : «كان حليما» ، فإنما ينتظر أن تعرّفه صاحب الصفة» (١).

وذاك أنّه إذا كان معلوما أنه لا يكون مبتدأ من غير خبر ، ولا خبر من غير مبتدأ ، كان معلوما أنك إذا قلت : «كان زيد» فالمخاطب ينتظر الخبر ، وإذا قلت : «كان حليما» ، أنه ينتظر الاسم ، فلم يقع إذن بعد «إنّما» إلّا شيء كان معلوما للسامع من قبل أن ينتهي إليه.

وممّا الأمر فيه بيّن ، قوله في باب «ظننت» :

«وإنما تحكي بعد «قلت» ما كان كلاما لا قولا» (٢).

وذلك أنه معلوم أنّك لا تحكي بعد «قلت» ، إذا كنت تنحو نحو المعنى ، إلّا ما كان جملة مفيدة ، فلا تقول : «قال فلان زيد» وتسكت ، اللهمّ إلا أن تريد أنّه نطق بالاسم على هذه الهيئة ، كأنك تريد أنه ذكره مرفوعا.

ومثل ذلك قولهم : «إنّما يحذف الشيء إذا كان في الكلام دليل عليه» ، إلى أشباه ذلك مما لا يحصى ، فإن رأيتها قد دخلت على كلام هو ابتداء إعلام بشيء لم يعلمه السامع ، فلأنّ الدليل عليه حاضر معه ، والشيء بحيث يقع العلم به عن كثب. واعلم أنّه ليس يكاد ينتهي ما يعرض بسبب هذا الحرف (٣) من الدقائق.

وممّا يجب أن يعلم : أنه إذا كان الفعل بعدها فعلا لا يصحّ إلّا من المذكور ولا يكون من غيره ، كالتذكّر الذي يعلم أنه لا يكون إلّا من أولي الألباب لم يحسن العطف «بلا» فيه ، كما يحسن فيما لا يختصّ بالمذكور ويصحّ من غيره.

__________________

(١) انظر الكتاب لسيبويه (١ / ٤٧).

(٢) انظر الكتاب لسيبويه (١ / ٦٢).

(٣) الحرف : هو «إنما».

٢٢٩

تفسير هذا : أنّه لا يحسن أن تقول : «إنّما يتذكّر أولو الألباب لا الجهال» ، كما يحسن أن تقول : «إنّما يجيء زيد لا عمرو».

ثم إنّ النّفي فيما نحن فيه ، النّفي يتقدّم تارة ويتأخّر أخرى ، فمثال التأخير ما تراه في قولك : «إنما جاءني زيد لا عمرو» ، وكقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢١ ، ٢٢] ، وكقول لبيد : [من الرمل]

إنّما يجزي الفتى ليس الجمل (١)

ومثال التّقديم قولك : «ما جاءني زيد ، وإنّما جاءني عمرو» ، وهذا ممّا أنت تعلم به مكان الفائدة فيها ، وذلك أنّك تعلم ضرورة أنك لو لم تدخلها وقلت : «ما جاءني زيد وجاءني عمرو» ، لكان الكلام مع من ظنّ أنهما جاءاك جميعا ، وأن المعنى الآن مع دخولها ، أنّ الكلام مع من غلط في عين الجائي ، فظنّ أنه كان زيدا لا عمرا.

وأمر آخر ، وهو ليس ببعيد : أن يظنّ الظانّ أنّه ليس في انضمام «ما» إلى «إنّ» فائدة أكثر من أنّها تبطل عملها ، حتى ترى النحويين لا يزيدون في أكثر كلامهم على أنها «كافّة» ، ومكانها هاهنا يزيد هذا الظّن ويبطله. وذلك أنك ترى أنك لو قلت : «ما جاءني زيد ، وإنّ عمرا جاءني» ، لم يعقل منه أنك أردت أن الجائي «عمرو» لا «زيد» ، بل يكون دخول «إنّ» كالشيء الذي لا يحتاج إليه ، ووجدت المعنى ينبو عنه.

ثم اعلم إذا استقريت وجدتها أقوى ما تكون وأعلق ما ترى بالقلب ، إذا كان لا يراد بالكلام بعدها نفس معناه ، ولكن التعريض بأمر هو مقتضاه ، نحو أنّا نعلم أن ليس الغرض من قوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الرعد : ١٩] [الزمر : ٩] ، أن يعلم السامعون ظاهر معناه ، ولكن أن يذمّ الكفّار ، وأن يقال إنهم من فرط العناد ومن غلبة الهوى عليهم ، في حكم من ليس بذي عقل ، وإنكم إن طمعتم منهم في أن ينظروا ويتذكّروا ، كنتم كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب. وكذلك قوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] ، وقوله عز اسمه : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ

__________________

(١) البيت للبيد بن أبي ربيعة العامري في ديوانه (١٤٥) من طويلته اللامية الساكنة في رثاء أخيه وصدره :

فإذا جوزيت قرضا فاجزه

ومطلع القصيدة :

إن تقوى ربنا خير نفل

وبإذن الله ريثي وعجل

أحمد الله فلا ندّ له

بيديه الخير ما شاء فعل

الجمل : عنى به الجاهل.

٢٣٠

يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر : ١٨] ، المعنى على أنّ من لم تكن له هذه الخشية ، فهو كأنه ليس له إذن تسمع وقلب يعقل ، فالإنذار معه كلا إنذار.

ومثال ذلك من الشعر قوله : [من مجزوء الرمل]

أنا لم أرزق محبّتها ،

إنّما للعبد ما رزقا (١)

الغرض أن يفهمك من طريق التعريض أنه قد صار ينصح نفسه ، ويعلم أنه ينبغي له أن يقطع الطّمع من وصلها ، وييأس من أن يكون منها إسعاف.

ومن ذلك قوله : [من البسيط] وإنّما يعذر العشّاق من عشقا (٢) يقول : إنه ليس ينبغي للعاشق أن يلوم من يلومه في عشقه ، وأنه ينبغي أن لا ينكر ذلك منه ، فإنه لا يعلم كنه البلوى في العشق ، ولو كان ابتلي به لعرف ما هو فيه فعذره.

وقوله : [من الكامل]

ما أنت بالسّبب الضّعيف ، وإنّما

نجح الأمور بقوّة الأسباب

فاليوم حاجتنا إليك ، وإنّما

يدعى الطّيب لساعة الأوصاب (٣)

يقول في البيت الأول : إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السّبب إليه.

ويقول في الثاني : إنّا قد وضعنا الشيء في موضعه ، وطلبنا الأمر من جهته ، حين استعنّا بك فيما عرض من الحاجة ، وعوّلنا على فضلك ، كما أنّ من عوّل على الطبيب فيما يعرض له من السّقم ، كان قد أصاب بالتعويل موضعه ، وطلب الشيء من معدنه.

ثم إنّ العجب في أنّ هذا التعريض الذي ذكرت لك ، لا يحصل من دون «إنما». فلو قلت : «يتذكر أولو الألباب» ، لم يدلّ ما دلّ عليه في الآية ، وإن كان الكلام لم يتغيّر في نفسه ، وليس إلّا أنه ليس فيه «إنما».

__________________

(١) البيت بلا نسبة في الإيضاح (١٣٠) ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١ / ١٤٥) ، والمعنى : أنه قد علم أن لا مطمع له في رحلها فيئس من أن يكون منها إسعاف به.

(٢) البيت في الإيضاح (١٣٠) بلا نسبة.

(٣) البيتان في الإيضاح بلا نسبة (١٣٠) ، ويقول في البيت الأول : إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليه ، وفي الثاني : إنا قد طلبنا الأمر من جهته حيث استعنا بك فيما عرض لنا من الحاجة ، وعولنا على فضلك ، كما أن من عول على الطبيب فيما يعرض له من السقم كان قد أصاب في فعله.

٢٣١

والسبب في ذلك أن هذا التعريض ، إنّما وقع بأن كان من شأن «إنّما» أن تضمّن الكلام معنى النفي من بعد الإثبات ، والتصريح بامتناع التذكّر ممن لا يعقل. وإذا أسقطت من الكلام فقيل : «يتذكّر أولو الألباب» ، كان مجرّد وصف لأولي الألباب بأنهم يتذكّرون ، ولم يكن فيه معنى نفي للتذكّر عمّن ليس منهم. ومحال أن يقع تعريض لشيء ليس له في الكلام ذكر ، ولا فيه دليل عليه. فالتعريض بمثل هذا أعني بأن تقول : «يتذكّر أولو الألباب» بإسقاط «إنما» ، يقع إذن إن وقع ، بمدح إنسان بالتيقّظ ، وبأنه فعل ما فعل ، وتنبّه لما تنبّه له ، لعقله ولحسن تمييزه ، كما يقال : «كذلك يفعل العاقل» ، و «هكذا يفعل الكريم».

وهذا موضع فيه دقّة وغموض ، وهو مما لا يكاد يقع في نفس أحد أنّه ينبغي أن يتعرّف سببه ، ويبحث عن حقيقة الأمر فيه.

وممّا يجب لك أن تجعله على ذكر منك من معاني «إنما» ، ما عرفتك أوّلا من أنها قد تدخل في الشيء على أن يخيّل فيه المتكلم أنه معلوم ، ويدّعي أنه من الصحة بحيث لا يدفعه دافع ، كقوله : [من الخفيف]

إنما مصعب شهاب من الله (١)

ومن اللطيف في ذلك قول قتب بن حصن : [من الطويل]

ألا أيّها النّاهي فزارة بعد ما

أجدّت لغزو ، إنّما أنت حالم (٢)

ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن اليهود : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة : ١١] ، دخلت «إنّما» لتدلّ على أنهم حين ادّعوا لأنفسهم أنهم مصلحون ، أظهروا أنهم يدّعون من ذلك أمرا ظاهرا معلوما ، ولذلك أكّد الأمر في تكذيبهم والردّ عليه ، فجمع بين «ألا» الذي هو للتنبيه ، وبين «إنّ» الذي هو التأكيد ، فقيل : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة : ١٢].

__________________

(١) راجع ص (٢١٩) هامش (١).

(٢) البيت لعويف بن معاوية بن عقبة بن حصن الفزاري ، ويسمى عويف القوافي لبيت قال فيه :

سأكذب من قد كان يزعم أنني

إذا قلت قولا لا أجيد القوافيا

انظر الأغاني ترجمة عويف القوافي (١٩ / ٢٠٥) ، والبيت في معجم الشعراء ص (٣٣٩) ، في ترجمة قتب بن حصن الفزاري.

٢٣٢

فصل

[في الحكاية والنظم والترتيب]

اعلم أنه لا يصلح تقدير الحكاية في «النّظم والترتيب» ، بل لن تعدو الحكاية الألفاظ وأجراس الحروف ، وذاك أنّ الحاكي هو من يأتي بمثل ما أتى به المحكيّ عنه ، ولا بدّ من أن تكون حكايته فعلا له ، وأن يكون بها عاملا عملا مثل عمل المحكيّ عنه ، نحو أن يصوغ إنسان خاتما فيبدع فيه صنعة ، ويأتي في صناعته بخاصّة تستغرب ، فيعمد واحد فيعمل خاتما على تلك الصورة والهيئة ، ويجيء بمثل صنعته فيه ، ويؤدّيها كما هي ، فيقال عند ذلك : «إنه قد حكى عمل فلان ، وصنعة فلان».

و «النظم والترتيب» في الكلام كما بينّا ، عمل يعمله مؤلّف الكلام في معاني الكلم لا في ألفاظها ، وهو بما يصنع في سبيل من يأخذ الأصباغ المختلفة فيتوخّى فيها ترتيبا يحدث عنه ضروب من النقش والوشي. وإذا كان الأمر كذلك ، فإنّا إن تعدّينا بالحكاية الألفاظ إلى النظم والترتيب ، أدّى ذلك إلى المحال ، وهو أن يكون المنشد شعر امرئ القيس ، قد عمل في المعاني وترتيبها واستخراج النّتائج والفوائد ، مثل عمل امرئ القيس ، وأن يكون حاله إذا أنشد قوله : [من الطويل]

فقلت له ، لمّا تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل (١)

حال الصائغ ينظر إلى صورة قد عملها صائغ من ذهب له أو فضّة ، فيجيء بمثلها من ذهبه وفضّته. وذلك يخرج بمرتكب ، إن ارتكبه ، إلى أن يكون الرّاوي مستحقّا لأن يوصف بأنه : «استعار» و «شبّه» ، وأن يجعل كالشاعر في كلّ ما يكون به ناظما ، فيقال : إنه جعل هذا فاعلا ، وذاك مفعولا ، وهذا مبتدأ ، وذاك خبرا ، وجعل هذا حالا ، وذاك صفة ، وأن يقال : «نفى كذا» و «أثبت كذا» ، و «أبدل كذا من كذا».

و «أضاف كذا إلى كذا» ، وعلى هذا السّبيل ، كما يقال ذاك في الشاعر. وإذا قيل ذلك ، لزم منه أن يقال فيه : «صدق ، وكذب» ، كما قال في المحكيّ عنه ، وكفى بهذا بعدا وإحالة. ويجمع هذا كلّه ، أنه يلزم منه أن يقال : «إنّه قال شعرا» ، كما يقال فيمن حكى صنعة الصائغ في خاتم قد عمله : «إنه قد صاغ خاتما».

__________________

(١) البيت لامرئ القيس في معلقته المشهورة في ديوانه (١١٧) ، وقبله :

ألا رب خصم فيك ألوى رددته

نصيح على تعذاله غير مؤتل

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

٢٣٣

وجملة الحديث أنّا نعلم ضرورة أنه لا يتأتّى لنا أن ننظم كلاما من غير رويّة وفكر ، فإن كان راوي الشعر ومنشده يحكي نظم الشاعر على حقيقته ، فينبغي أن لا يتأتى له رواية شعره إلّا برويّة ، وإلّا بأن ينظر في جميع ما نظر فيه الشاعر من أمر «النظم». وهذا ما لا يبقى معه موضع عذر للشّاكّ.

وهذا ، وسبب دخول الشّبهة على من دخلت عليه ، أنّه لما رأى المعاني لا تتجلّى للسامع إلّا من الألفاظ ، وكان لا يوقف على الأمور التي بتوخّيها يكون «النظم» ، إلّا بأن ينظر إلى الألفاظ مرتّبة على الأنحاء التي يوجبها ترتيب المعاني في النفس وجرت العادة (١) بأن تكون المعاملة مع الألفاظ فيقال : «قد نظم ألفاظا فأحسن نظمها ، وألّف كلما فأجاد تأليفها» جعل الألفاظ الأصل في «النظم» ، وجعله يتوخّى فيها أنفسها ، وترك أن يفكّر في الذي بيّنّاه من أن «النظم» هو توخّي معاني النّحو في معاني الكلم ، وأنّ توخّيها في متون الألفاظ محال. فلما جعل هذا في نفسه ، ونشب هذا الاعتقاد به ، خرج له من ذلك أن الحاكي إذا أدّى ألفاظ الشّعر على النّسق الذي سمعها عليه ، كان قد حكى نظم الشاعر كما حكى لفظه.

وهذه شبهة قد ملكت قلوب الناس ، وعشّشت في صدورهم ، وتشرّبتها نفوسهم ، حتى إنك لترى كثيرا منهم وهو من حلولها عندهم محلّ العلم الضروريّ ، بحيث إن أومأت له إلى شيء مما ذكرناه اشمأزّ لك ، وسكّ (٢) سمعه دونك ، وأظهر التعجّب منك. وتلك جريرة ترك النّظر ، وأخذ الشيء من غير معدنه ، ومن الله التوفيق.

فصل

[في النظم والترتيب]

اعلم أنا إذا أضفنا الشعر أو غير الشعر من ضروب الكلام إلى قائله ، لم تكن إضافتنا له من حيث هو كلم وأوضاع لغة ، ولكن من حيث توخّي فيها «النظم» الذي بيّنا أنه عبارة عن توخّي معاني النحو في معاني الكلم. وذاك أن من شأن الإضافة الاختصاص ، فهي تتناول الشيء من الجهة التي تختصّ منها بالمضاف إليه. فإذا قلت : «غلام زيد» ، تناولت الإضافة «الغلام» من الجهة التي تختصّ منها بزيد ، وهي كونه مملوكا.

__________________

(١) البيت : لعبيد الله بن قيس الرقيات (الديوان ٩١) وتقدم ذكره.

(٢) سكّ : سدّ. اه القاموس / سكّ / ١٢١٧.

٢٣٤

وإذا كان الأمر كذلك ، فينبغي لنا أن ننظر في الجهة التي يختصّ منها الشّعر بقائله.

وإذا نظرنا وجدناه يختصّ به من جهة توخّيه في معاني الكلم التي ألّفه منها ، ما توخّاه من معاني النّحو ، ورأينا أنفس الكلم بمعزل عن الاختصاص ، ورأينا حالها معه حال الإبريسم مع الذي ينسج منه الدّيباج ، وحال الفضّة والذهب مع من يصوغ منهما الحليّ. فكما لا يشتبه الأمر في أنّ الديباج لا يختصّ بناسجه من حيث الإبريسم ، والحليّ بصائغها من حيث الفضّة والذهب ، ولكن من جهة العمل والصّنعة ، كذلك ينبغي أن لا يشتبه أنّ الشعر لا يختصّ بقائله من جهة أنفس الكلم وأوضاع اللغة.

وتزداد تبيّنا لذلك بأن تنظر في القائل إذا أضفته إلى الشعر فقلت : «امرؤ القيس قائل هذا الشعر» ، من أين جعلته قائلا له؟ أمن حيث نطق بالكلم وسمعت ألفاظها من فيه ، أم من حيث صنع في معانيها ما صنع ، وتوخّى فيها ما توخّى؟ فإن زعمت أنّك جعلته قائلا له من حيث أنه نطق بالكلم وسمعت ألفاظها من فيه على النّسق المخصوص ، فاجعل راوي الشعر قائلا له ، فإنه ينطق بها ويخرجها من فيه على الهيئة والصّورة التي نطق بها الشاعر ، وذلك ما لا سبيل لك إليه.

فإن قلت : إنّ الراوي وإن كان قد نطق بألفاظ الشّعر على الهيئة والصّورة التي نطق بها الشاعر ، فإنه هو لم يبتدئ فيها النّسق والترتيب ، وإنما ذلك شيء ابتدأه الشاعر ، فلذلك جعلته القائل له دون الرّاوي.

قيل لك : خبّرنا عنك ، أترى أنه يتصوّر أن يجب لألفاظ الكلم التي تراها في قوله : [من الطويل]

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (١)

هذا الترتيب ، من غير أن يتوخّى في معانيها ما تعلم أنّ امرأ القيس توخّاه من كون «نبك» جوابا للأمر ، وكون «من» معدّية له إلى «ذكرى» ، وكون «ذكرى» مضافة إلى «حبيب» ، وكون «منزل» معطوفا على «حبيب» ، أم ذلك محال؟.

__________________

(١) البيت لامرئ القيس في ديوانه (١١٠) ، وهو مطلع معلقته الشهيرة ، وتمامه :

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

سقط اللوى : منقطع الرمل ، والدخول وحومل قيل : إنهما موضعان في شرق اليمامة.

٢٣٥

فإن شككت في استحالته لم تكلّم. وإن قلت : نعم ، هو محال.

قيل لك : فإذا كان محالا أن يجب في الألفاظ ترتيب من غير أن يتوخّى في معانيها معاني النحو ، كان قولك : «إن الشاعر ابتدأ فيها ترتيبا» ، قولا بما لا يتحصّل.

وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيب في شيء حتّى يكون هناك قصد إلى صورة وصفة إن لم يقدّم فيه ما قدّم ، ولم يؤخّر ما أخّر ، وبدئ بالذي ثنّي به ، أو ثنّي بالذي ثلّث به ، لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصّفة. وإذا كان كذلك ، فينبغي أن تنظر إلى الذي يقصد واضع الكلام أن يحصل له من الصورة والصّفة : أفي الألفاظ يحصل له ذلك ، أم في معاني الألفاظ؟ وليس في الإمكان أن يشكّ عاقل إذا نظر ، أن ليس ذلك في الألفاظ ، وإنما الذي يتصوّر أن يكون مقصودا في الألفاظ هو «الوزن» ، وليس هو من كلامنا في شيء ، لأنّا نحن فيما لا يكون الكلام كلاما إلّا به ، وليس للوزن مدخل في ذلك.

فصل

[في ربط اللفظ بالمعنى]

واعلم أني على طول ما أعدت وأبدأت ، وقلت وشرحت ، في هذا الذي قام في أوهام الناس من حديث «اللفظ» ، لربّما ظننت أني لم أصنع شيئا ، وذاك أنك ترى الناس كأنّه قد قضي عليهم أن يكونوا في هذا الذي نحن بصدده ، على التقليد البحت ، وعلى التوهّم والتخيّل ، وإطلاق اللّفظ من غير معرفة بالمعنى ، قد صار ذاك الدّأب والدّيدن ، واستحكم الداء منه الاستحكام الشديد. وهذا الذي بيّناه وأوضحناه ، كأنك ترى أبدا حجازا بينهم وبين أن يعرفوه ، وكأنّك تسمعهم منه شيئا تلفظه أسماعهم ، وتتكرّهه نفوسهم ، وحتى كأنّه كلّما كان الأمر أبين ، كانوا عن العلم به أبعد ، وفي توهّم خلافه أقعد ، وذاك لأن الاعتقاد الأوّل قد نشب في قلوبهم ، وتأشّب (١) فيها ، ودخل بعروقه في نواحيها ، وصار كالنبات السّوء الذي كلما قلعته عاد فنبت.

والذي له صاروا كذلك ، أنهم حين رأوهم يفردون «اللفظ» عن «المعنى» ، ويجعلون له حسنا على حدة ، ورأوهم قد قسّموا الشّعر فقالوا : «إنّ منه ما حسن

__________________

(١) تأشب : أشب الشجر : التف. القاموس مادة / أشب / (٧٥).

٢٣٦

لفظه ومعناه ، ومنه ما حسن لفظه دون معناه ، ومنه ما حسن معناه دون لفظه» ، ورأوهم يصفون «اللّفظ» بأوصاف لا يصفون بها «المعنى» ، ظنّوا أنّ للّفظ ، من حيث هو لفظ حسنا ومزيّة ونبلا وشرفا ، وأن الأوصاف التي نحلوه إيّاها هي أوصافه على الصّحّة ، وذهبوا عمّا قدّمنا شرحه من أنّ لهم في ذلك رأيا وتدبيرا ، وهو أن يفصلوا بين المعنى الذي هو الغرض ، وبين الصّورة التي يخرج فيها ، فنسبوا ما كان من الحسن والمزيّة في صورة المعنى إلى «اللفظ» ، ووصفوه في ذلك بأوصاف هي تخبر عن أنفسها أنها ليست له ، كقولهم : «إنّه حلي المعنى ، وإنه كالوشي عليه ، وإنه قد كسب المعنى دلّا (١) وشكلا (٢) ، وإنه رشيق أنيق ، وإنه متمكّن ، وإنّه على قدر المعنى لا فاضل ولا مقصّر» ، إلى أشباه ذلك مما لا يشكّ أنّه لا يكون وصفا له من حيث هو لفظ وصدى صوت ، إلّا أنّهم كأنهم رأوا بسلا (٣) حراما أن يكون لهم في ذلك فكر ورويّة ، وأن يميّزوا فيه قبيلا من دبير.

وممّا الصّفة فيه للمعنى ، وإن جرى في ظاهر المعاملة على «اللّفظ» ، إلا أنه يبعد عند الناس كلّ البعد أن يكون الأمر فيه كذلك ، وأن لا يكون من صفة «اللفظ» بالصّحة والحقيقة وصفنا اللّفظ بأنه «مجاز».

وذاك أنّ العادة قد جرت بأن يقال في الفرق بين «الحقيقة» و «المجاز» : إنّ «الحقيقة» ، أن يقرّ اللفظ على أصله في اللغة ، و «المجاز» ، أن يزال عن موضعه ، ويستعمل في غير ما وضع له ، فيقال : «أسد» ويراد «شجاع» ، و «بحر» ويراد جواد.

وهو وإن كان شيئا قد استحكم في النفوس حتى إنك ترى الخاصّة فيه كالعامّة ، فإنّ الأمر بعد على خلافه. وذاك أنّا إذا حقّقنا ، لم نجد لفظ «أسد» قد استعمل على القطع والبتّ في غير ما وضع له. ذاك لأنه لم يجعل في معنى «شجاع» على الإطلاق ، ولكن جعل الرجل بشجاعته أسدا. فالتجوّز في أن ادّعيت للرجل أنّه في معنى الأسد ، وأنه كأنه هو في قوّة قلبه وشدة بطشه ، وفي أن الخوف لا يخامره ، والذّعر لا يعرض له. وهذا إن أنت حصّلت ، تجوّز منك في معنى اللفظ لا اللفظ ، وإنما يكون اللّفظ مزالا بالحقيقة عن موضعه ، ومنقولا عمّا وضع له ، أن لو كنت تجد عاقلا يقول : «هو أسد» ، وهو لا يضمر في نفسه تشبيها له بالأسد ، ولا يريد إلّا ما يريده إذا قال : «هو شجاع». وذلك ما لا يشكّ في بطلانه.

__________________

(١) الدل : دل المرأة ودلالها التغنج. القاموس مادة / دلل / (١٢٩٢)

(٢) الشكل : بالكسر والفتح غنج المرأة ودلها وغزلها. القاموس مادة / شكل / (١٣١٨).

(٣) البسل : الحرام والحلال (ضد). القاموس مادة / بسل / (١٢٤٨).

٢٣٧

وليس العجب إلّا أنهم لا يذكرون شيئا من «المجاز» إلّا قالوا : «إنه أبلغ من الحقيقة». فليت شعري ، إن كان لفظ «أسد» قد نقل عمّا وضع له في اللغة ، وأزيل عنه ، وجعل يراد به «الشجاع» هكذا غفلا ساذجا ، فمن أين يجب أن يكون قولنا : «أسد» ، أبلغ من قولنا «شجاع»؟.

وهكذا الحكم في «الاستعارة» ، هي ، وإن كانت في ظاهر المعاملة من صفة «اللفظ» ، وكنا نقول : «هذه لفظة مستعارة» و «قد استعير له اسم الأسد» فإنّ مآل الأمر إلى أنّ القصد بها إلى المعنى.

يدلّك على ذلك أنا نقول : «جعله أسدا» و «جعله بدرا» ، و «جعله بحرا» ، فلو لم يكن القصد بها إلى المعنى ، لم يكن لهذا الكلام وجه ، لأن «جعل» لا تصلح إلّا حيث يراد إثبات صفة للشيء ، كقولنا : «جعلته أميرا» و «جعلته واحد دهره» ، تريد أثبتّ له ذلك. وحكم «جعل» إذا تعدّى إلى مفعولين حكم «صيّر» ، فكما لا تقول : «صيرته أميرا» ، إلا على معنى أنّك أثبتّ له صفة الإمارة ، كذلك لا يصحّ أن تقول : «جعلته أسدا» ، إلا على معنى أنك جعلته في معنى الأسد ولا يقال : «جعلته زيدا» ، بمعنى «سمّيته زيدا» ، ولا يقال للرجل : «اجعل ابنك زيدا» بمعنى : «سمّه زيدا» و «ولد لفلان ابن فجعله زيدا» ، وإنّما يدخل الغلط في ذلك على من لا يحصّل.

فأمّا قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] ، فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتها ، وذلك أن المعنى على أنّهم أثبتوا للملائكة صفة «الإناث» ، واعتقدوا وجودها فيهم. وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم ، أعني إطلاق اسم «البنات» ، وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظ «الإناث» أو لفظ «البنات» اسما من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة. هذا محال لا يقوله له عاقل. أما تسمع قول الله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [الزخرف : ١٩]؟ فإن كانوا لم يزيدوا على أن أجروا الاسم على الملائكة ولم يعتقدوا إثبات صفة ومعنى بإجرائه عليهم ، فأيّ معنى لأن يقال : «أشهدوا خلقهم»؟ هذا ، ولو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة ، ولم يزيدوا على أن وضعوا اسما ، لما استحقّوا إلا اليسير من الذمّ ، ولما كان هذا القول منهم كفرا. والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى.

وجملة الأمر أنه إن قيل : «إنه ليس في الدنيا علم قد عرض للناس فيه من فحش الغلط ، ومن قبيح التورّط ، ومن الذهاب مع الظّنون الفاسدة ما عرض لهم في هذا

٢٣٨

الشأن» ، ظننت أن لا يخشى على من يقوله الكذب. وهل عجب أعجب من قوم عقلاء يتلون قول الله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨] ويؤمنون به ، ويدينون بأن القرآن معجز ، ثم يصدّون بأوجههم عن برهان الإعجاز ودليله ، ويسلكون غير سبيله؟ ولقد جنوا ، لو دروا ذاك ، عظيما.

فصل

واعلم أنه وإن كانت الصّورة في الذي أعدنا وأبدأنا فيه من أنّه لا معنى للنّظم غير توخّي معاني النّحو فيما بين الكلم ، قد بلغت في الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصى الغاية ، وإلى أن تكون الزيادة عليه كالتكلّف لما لا يحتاج إليه ، فإنّ النفس تنازع إلى تتبّع كلّ ضرب من الشّبهة يرى أنه يعرض للمسلّم نفسه عند اعتراض الشك.

وإنا لنرى أن في الناس من إذا رأى أنّه يجري في القياس وضرب المثل أن تشبّه الكلم في ضمّ بعضها إلى بعض ، بضمّ غزل الإبريسم بعضه إلى بعض ، ورأى أنّ الذي ينسج الدّيباج ويعمل النّقش والوشي لا يصنع بالإبريسم الذي ينسج منه ، شيئا غير أن يضمّ بعضه إلى بعض ، ويتخيّر للأصباغ المختلفة المواقع التي يعلم أنه إذا أوقعها فيها حدث له في نسجه ما يريد من النقش والصورة جرى (١) في ظنّه أن حال الكلم في ضمّ بعضها إلى بعض ، وفي تخيّر المواقع لها ، حال خيوط الإبريسم سواء ، ورأيت كلامه كلام من لا يعلم أنه لا يكون الضّم فيها ضمّا ، ولا الموقع موقعا ، حتى يكون قد توخّي فيها معاني النحو ، وأنك إن عمدت إلى ألفاظ فجعلت تتبع بعضها بعضا من غير أن تتوخّى فيها معاني النحو ، لم تكن صنعت شيئا تدعى به مؤلّفا ، وتشبّه معه بمن عمل نسجا أو صنع على الجملة صنيعا ، ولم يتصوّر أن تكون قد تخيّرت لها المواقع.

وفساد هذا وشبهه من الظّنّ ، وإن كان معلوما ظاهرا ، فإنّ هاهنا استدلالا لطيفا تكثر بسببه الفائدة ، وهو أنه يتصوّر أن يعمد عامد إلى نظم كلام بعينه فيزيله عن الصّورة التي أرادها الناظم له ويفسدها عليه ، من غير أن يحوّل منه لفظا عن موضعه ، أو يبدله بغيره ، أو يغيّر شيئا من ظاهر أمره على حال.

__________________

(١) السياق : وإنا لنرى في الناس من إذا رأى أنه يجري في القياس .... ورأى أن الذي ينسج الديباج .... جرى في ظنه ...».

٢٣٩

مثال ذلك : أنك إن قدّرت في بيت أبي تمام : [من الطويل]

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه

وأري الجنى اشتارته أيد عواسل (١)

أنّ «لعاب الأفاعي» مبتدأ و «لعابه» خبر ، كما يوهمه الظاهر ، أفسدت عليه كلامه ، وأبطلت الصّورة التي أرادها فيه. وذلك أنّ الغرض أن يشبّه مداد قلمه بلعاب الأفاعي ، على معنى أنه إذا كتب في إقامة السياسات أتلف به النفوس ، وكذلك الغرض أن يشبّه مداده بأري الجنى ، على معنى أنه إذا كتب في العطايا والصّلات أوصل به إلى النّفوس ما تحلو مذاقته عندها ، وأدخل السّرور واللّذة عليها. وهذا المعنى إنّما يكون إذا كان «لعابه» مبتدأ ، و «لعاب الأفاعي» خبرا. فأمّا تقديرك أن يكون «لعاب الأفاعي» مبتدأ و «لعابه» ، خبرا فيبطل ذلك ويمنع منه البتّة ، ويخرج بالكلام إلى ما لا يجوز أن يكون مرادا في مثل غرض أبي تمّام ، وهو أن يكون أراد أن يشبّه «لعاب الأفاعي» بالمداد ، ويشبّه كذلك «الأري» به.

فلو كان حال الكلم في ضمّ بعضها إلى بعض كحال غزل الإبريسم ، لكان ينبغي أن لا تتغيّر الصّورة الحاصلة من نظم كلم ، حتّى تزال عن مواقعها كما لا تتغير الصّورة الحادثة عن ضمّ غزل الإبريسم بعضه إلى بعض ، حتّى تزال الخيوط عن مواضعها.

واعلم أنه لا يجوز أن يكون سبيل قوله : «لعاب الأفاعي القاتلات لعابه» ، سبيل قولهم : «عتابك السّيف». وذلك أن المعنى في بيت أبي تمام على أنك مشبه شيئا بشيء ، وجامع بينهما في وصف ، وليس المعنى في «عتابك السيف» ، على أنك تشبه عتابه بالسيف ، ولكن على أن تزعم أنه يجعل «السيف» بدلا من «العتاب».

أفلا ترى أنه يصحّ أن تقول : «مداد قلمه قاتل كسم الأفاعي» ، ولا يصحّ أن تقول : «عتابك كالسيف» ، اللهم إلّا أن تخرج إلى باب آخر ، وشيء ليس هو غرضهم بهذا الكلام ، فتريد أنه قد عاتب عتابا خشنا مؤلما. ثم إنك إن قلت : «السيف عتابك» ، خرجت به إلى معنى ثالث ، وهو أن تزعم أن عتابه قد بلغ في إيلامه وشدة تأثيره مبلغا صار له السّيف كأنه ليس بسيف.

__________________

(١) البيت في ديوانه (٢٤٢) ط ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، من قصيدة يمدح فيها محمدا بن عبد الملك الزيات ، ومطلعها :

متى أنت عن ذهلية الحي ذاهل

وقلبك منها مدّة الدهر آهل

تطل الطلول الدمع في كل موقف

وتمثل بالصبر الديار المواثل

والبيت أورده السكاكي في المفتاح (٣١٦) ، والقزويني في الإيضاح (٨٤) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٥٩) ، وعزاه لأبي تمام ، ولطائف التبيان (٦٤) ، وشرح الصولي (٢ / ٣٣٣).

٢٤٠