دلائل الإعجاز في علم المعاني

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

دلائل الإعجاز في علم المعاني

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦

لعمرك إنّي بالخليل الّذي له

عليّ دلال واجب لمفجّع

وإنّي بالمولى الّذي ليس نافعي

ولا ضائري فقدانه لممتّع (١)

مع قول المتنبي : [من الطويل]

أما تغلط الأيّام فيّ بأن أرى

بغيضا تنائي أو حبيبا تقرّب (٢)

وقول المتنبي : [من البسيط]

مظلومة القدّ في تشبيهه غصنا

مظلومة الرّيق في تشبيهه ضربا (٣)

مع قوله : [من الطويل]

إذا نحن شبّهناك بالبدر طالعا

بخسناك حظّا أنت أبهى وأجمل

ونظلم إن قسناك باللّيث في الوغى

لأنّك أحمى للحريم وأبسل (٤)

[القسم الثاني في البيتين صنعة وتصويرا]

ذكر ما أنت ترى فيه في كلّ واحد من البيتين صنعة وتصويرا وأستاذيّة على الجملة فمن ذلك ، وهو من النادر ، قول لبيد : [من الرمل]

__________________

(١) ذكرهما العكبري في شرحه لديوان المتنبي ونسبهما إلى المضرّس وقال الشيخ شاكر : هكذا نسب الشعر لمضرّس بن ربعي وهو خطأ وسهو فيما أرجح إنما هو للبراء بن ربعي الفقعسيّ ، يرثي أخاه سكيما ، وهو في شرح الحماسة للتبريزي (٢ / ١٦٧ ، ١٦٨) ، وفي مقطعات مراث لابن الأعرابي رقم (٤٣) اه.

(٢) البيت في الديوان (٢ / ٢٢٩) ، وفي شرح التبيان على ديوان المتنبي (١ / ١٢٦) ، وهو من قصيدة قالها يمدح فيها كافورا وكان قد حمل إليه ستمائة دينار ، ومطلعها :

أغالب فيك الشوق والشوق أغلب

وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب

أما تغلط الأيام فيّ بأن أرى

بغيضا تنائي أو حبيبا تقرّب

وتنائي : تبعد ، والنأى : البعد ونأى ينأى : بعد ، والنأي : المفارقة وأنأيت الرجل : أبعدته ، المعنى : يقول هذه الأيّام مولعة بتقريب من أبغض وإبعاد من أحب ، فما تغلط مرّة بتقريب الحبيب وإبعاد البغيض ، وذلك كما قيل في بخيل :

يا عجبا من خالد كيف لا

يغلط فينا مرّة بالصواب

(٣) البيت في الديوان (١ / ١٤١) ، وفي التبيان للعكبري في شرح ديوان المتنبي (١ / ٨١) ، وهو من قصيدة يمدح فيها المغيث بن عليّ بن بشر العجلي. والقدّ : القامة. والضّرب بفتح الراء : العسل الأبيض الغليظ. والمعنى : يريد أن من شبّهها بالغصن ظلمها ومن شبّه ريقها بالعسل ظلمها لأنها ذات قوام أعدل وأحسن من الغصن وذات رضاب أحلى من العسل الخالص.

(٤) لعلي بن الجهم يمدح المتوكل ، الديوان (١٦٥ / ١٦٦). ورواية الديوان «للذمار» بدلا من «للحريم».

٣٢١

واكذب النّفس إذا حدّثتها

إنّ صدق النّفس يزري بالأمل (١)

مع قول نافع بن لقيط :

وإذا صدقت النّفس لم تترك لها

أملا ويأمل ما اشتهى المكذوب (٢)

وقول رجل من الخوارج أتي به الحجّاج في جماعة من أصحاب قطريّ فقتلهم ، ومنّ عليه ليد كانت عنده ، وعاد إلى قطريّ ، فقال له قطريّ : عاود قتال عدوّ الله الحجّاج. فأبى وقال : [من الكامل]

أأقاتل الحجّاج عن سلطانه

بيد تقرّ بأنّها مولاته

ما ذا أقول إذا وقفت إزاءه

في الصّف واحتجّت له فعلاته

وتحدّث الأقوام أنّ صنائعا

غرست لديّ فحنظلت نخلاته (٣)

مع قول أبي تمام : [من الطويل]

أسربل هجر القول من لو هجوته

إذن لهجاني عنه معروفه عندي (٤)

وقول النابغة : [من الطويل]

إذا ما غدا بالجيش حلّق فوقه

عصائب طير تهتدي بعصائب

جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله

إذا ما التقى الصّفّان أوّل غالب (٥)

__________________

(١) البيت في الديوان (ص ١٤٥) ، وفي لسان العرب (كذب) ، (خزا) ، وجمهرة اللغة (ص ٥٩٦) ، وتاج العروس (كذب) ، (خزا) ، وجمهرة الأمثال (١ / ٥١) ، وخزانة الأدب (٥ / ١١٢) ، وفصل المقال (ص ١٧٣) ، وكتاب الأمثال (ص ١١٦) ، وكتاب الأمثال لمجهول (ص ٢٢) ، والمستقصى (١ / ٢٨٩) ، ومجمع الأمثال (٢ / ١٣٩).

(٢) جاءت قصيدة طويلة له في لسان العرب (مرط) لكن البيت غير موجود بها. والقصيدة مطلعها كما وردت في اللسان :

بانت لطيّتها الغداة جنوب

وطربت إنك ما علمت طروب

ولقد تجاورنا فتهجر بيتنا

حتى تفارق أو يقال مريب

(٣) الحنظل : الشجر المرّ ، وحنظلت الشجرة : صار ثمرها مرّا ، قال الشيخ شاكر : «الأبيات لعامر بن حطّان الخارجي وهو أخو عمران بن حطّان».

(٤) البيت في الديوان (ص ١٢٢) من قصيدة يمدح فيها موسى بن إبراهيم الرافعي ويعتذر إليه ، مطلعها :

شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي

ومحّت كما محّت وشائع من برد

وأقوت : خلت من السكان ، والمغاني : المنازل جمع مغنى. محّ الثوب : بلي. والوشائع : جمع وشيعة وهي الغزل الملفوف. والبرد : الثوب المخطّط. وجاء البيت في الديوان بلفظ «أألبس» بدلا من «أسربل».

(٥) البيتان في الديوان (ص ٣٠) ، وجاء البيت الأول بلفظ : «غزوا» بدلا من «غدا» وجاء الثاني بلفظ «الجمعان» بدلا من «الصفان» ، والبيتان غير متتاليين في الديوان. وهما في الأغاني

٣٢٢

مع قول أبي نواس : [من الرمل المجزوء]

وإذا مجّ القنا علقا

وتراءى الموت في صوره

راح في ثنيي مفاضته

أسد يدمى شبا ظفره

تتأيّى الطّير غدوته

ثقة بالشّبع من جزره (١)

المقصود البيت الأخير.

وحكى المرزباني قال : «حدثني عمرو الورّاق قال : رأيت أبا نواس ينشد قصيدته التي أولها : [من الرمل المجزوء] أيّها المنتاب عن عفره (٢) فحسدته ، فلما بلغ إلى قوله :

تتأيّى الطّير غدوته

ثقة بالشّبع من جزره (٣)

قلت له : ما تركت للنابغة شيئا حيث يقول : «إذا ما غدا بالجيش» ، البيتين ، فقال : اسكت ، فلئن كان سبق فما أسأت الأتباع».

وهذا الكلام من أبي نواس دليل بيّن في أن المعنى ينقل من صورة إلى صورة.

__________________

(٢٥ / ١٢٠) ، والأول منهما في خزانة الأدب (٤ / ٢٨٩) ، والشعر والشعراء (ص ١٧٥) ، ولسان العرب (عصب) ، (حلق) ، وبلا نسبة في شرح التصريح (٢ / ٢٢٧) ، وشرح المفصّل (١ / ٦٨).

والثاني : في أساس البلاغة (جنح) ، ومقاييس اللغة (٣ / ٩٩). وفي الأول : عصائب : الجماعة من الطير. أي : أن الجوارح من الطيور تحلّق فوق القتلى لتنال منهم. وفي الثاني : جوانح : أي : مائلات. وهذه القصيدة مطلعها :

كليني لهم يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب

قالها يمدح فيها عمرو بن الحارث الأصفر بن الحارث الأعرج حين لجأ إليه في الشام.

(١) الأبيات في الديوان (ص ٦٦) ، والأغاني (٢٥ / ١١٨) من قصيدة له مطلعها :

أيها المنتاب من عفره

لست من ليلى ولا سمره

يمدح العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور. والمفاضة : الدرع الواسعة. والشبا : اسم جمع لشباة وهي إبرة العقرب شبه بها ظفره والمراد قوته. والبيت الأخير من قولهم : تركوهم جزرا للسباع : أي : قطعا من جزر الشيء يجزره جزرا : قطعه ، وجزر الناقة : نحرها وقطّعها ، وفي هذا قال عنترة في ابني ضمضم :

إن يفعلا فلقد تركت أباهما

جزر السباع وكل نسر قشعم

وتأيى الشخص : قصد شخصه وتعمّده ، والتأيّي : التنظّر والتّؤدة وتأيّيت عليه : تثبّت وتمكثت.

(٢) مطلع قصيدة لأبي نواس وعجز البيت :

لست من ليلى ولا سحره

(٣) سبق تخريجه.

٣٢٣

ذاك لأنه لو كان لا يكون قد صنع بالمعنى شيئا ، لكان قوله : «فما أسأت الاتّباع» محالا ، لأنه على كل حال لم يتّبعه في اللفظ. ثم إنّ الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو عليها في شعر النابغة إلى صورة أخرى. وذلك أنّ هاهنا معنيين :

أحدهما : أصل ، وهو : علم الطّير بأن الممدوح إذا غزا عدوّا كان الظفر له ، وكان هو الغالب.

والآخر فرع ، وهو : طمع الطير في أن تتّسع عليها المطاعم من لحوم القتلى.

وقد عمد النابغة إلى «الأصل» ، الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب ، فذكره صريحا ، وكشف عن وجهه ، واعتمد في «الفرع» الذي هو طمعها في لحوم القتلى ، وأنها لذلك تحلّق فوقه على دلالة الفحوى.

وعكس أبو نواس القصّة ، فذكر «الفرع» الذي هو طمعها في لحوم القتلى صريحا ، فقال كما ترى :

ثقة بالشّبع من جزره (١)

وعوّل في «الأصل» ، الذي هو علمها بأن الظفر يكون للممدوح ، على الفحوى.

ودلالة الفحوى على علمها أنّ الظفر يكون للممدوح ، هي في أن قال : «من جزره» ، وهي لا تثق بأن شبعها يكون من جزر الممدوح ، حتى تعلم أنّ الظفر يكون له.

أفيكون شيء أظهر من هذا في النّقل عن صورة إلى صورة؟

أرجع إلى النّسق ـ ومن ذلك قول أبي العتاهية : [من الخفيف]

شيم فتّحت من المدح ما قد

كان مستغلقا على المدّاح (٢)

مع قول أبي تمام : [من الكامل]

نظمت له خرز المديح مواهب

ينفثن في عقد اللّسان المفحم (٣)

__________________

(١) عجز بيت لأبي نوّاس صدره :

يتأيى الطير غدوته

والبيت سبق تخريجه.

(٢) الديوان (٥١٥).

(٣) البيت في ديوانه (ص ٢٩٥) من قصيدة يمدح فيها أبا الحسين محمد بن الهيثم بن شبانة مطلعها :

نثرت فريد مدامع لم تنظم

والدمع يحمل بعض شجو المغرم

والنفث : البصاق اليسير. والمفحم : العييّ عن قول الشعر. وجاء البيت في نسخة «المقحم» بالقاف ومعناها : الضعيف.

٣٢٤

وقول أبي وجزة : [من الوافر]

أتاك المجد من هنّا وهنّا

وكنت له بمجتمع السّيول (١)

مع قول منصور النّمري : [من البسيط]

إنّ المكارم والمعروف أودية

أحلّك الله منها حيث تجتمع (٢)

وقول بشار : [من البسيط]

الشّيب كره وكره أن يفارقني

أعجب بشيء على البغضاء مودود (٣)

مع قول البحتري : [من الوافر]

تعيب الغانيات عليّ شيبي

ومن لي أن أمتّع بالمعيب (٤)

وقول أبي تمام : [من الوافر]

يشتاقه من كماله غده

ويكثر الوجد نحوه الأمس (٥)

مع قول ابن الرومي : [من الطويل]

إمام يظلّ الأمس يعمل نحوه

تلفّت ملهوف ويشتاقه الغد (٦)

__________________

(١) البيت أبي وجزة السعدي يزيد بن عبيد في ديوان المعاني للعسكري (١ / ٥٩).

(٢) البيت في الأغاني (١٣ / ١٦٣) من قصيدة أنشدها سلما بن عمرو بن حمّاد وهو شاعر خليع ماجن وسمّي الخاسر لأنه باع مصحفا واشترى بثمنه دفترا فيه شعر. والبيت له في تاريخ بغداد (١٣ / ٦٩) منها :

أي امرئ بات من هارون في سخط

فليس بالصلوات الخمس ينتفع

إن المكارم والمعروف أودية

أحلك الله منها حيث تجتمع

إذا رفعت امرأ فالله رافعه

ومن وضعت من الأقوام متضع

نفسي فداؤك والأبطال معلمة

يوم الوغى والمنايا بينهم قرع

(٣) البيت في تاريخ بغداد (١٣ / ٩٨) ، وجاء برواية أخرى لفظها :

أكره شيبي وأخشى أن يزايلني

أعجب بشيء على البغضاء مودود

وهو لمسلم بن الوليد ويليه بيتان هما :

نام العواذل واستكفين لائمتي

وقد كفاهن نهض البيض في السّود

أمّا الشباب فمفقود له خلف

والشيب يذهب مفقودا بمفقود

(٤) (الديوان ١ / ٢٥٠) يمدح هيثم بن هارون بن المعمر.

(٥) البيت في الديوان (ص ١٥٩) ، وجاء البيت بلفظ «جماله» بدلا من «كماله» من قصيدة له يمدح الحسن بن وهب مطلعها :

هل أثر من ديارهم دعس

حيث تلاقى الأجراع والوعس

والدعس : الواضح من الآثار. والأجرع : جمع جرع وهو كثير الرمل والوعس.

(٦) (الديوان ٢ / ٦٦٠).

٣٢٥

لا تنظر إلى أنه قال : «يشتاقه الغد» ، فأعاد لفظ أبي تمام ، ولكن انظر إلى قوله :

يعمل نحوه تلفّت ملهوف

وقول أبي تمام : [من الطويل]

لئن ذمّت الأعداء سوء صباحها

فليس يؤدّي شكرها الذّئب والنّسر (١)

مع قول المتنبي : [من المتقارب]

وأنبتّ منهم ربيع السّباع

فأثنت بإحسانك الشّامل (٢)

وقول أبي تمام : [من البسيط]

وربّ نائي المغاني روحه أبدا

لصيق روحي ودان ليس بالدّاني (٣)

مع قول المتنبي : [من الوافر]

لنا ولأهله أبدا قلوب

تلاقى في جسوم ما تلاقى (٤)

__________________

(١) البيت في الديوان (ص ٤٨٤) وبعده :

بها عرفت أقدارها بعد جهلها

بأقدارها قيس بن عيلان والفزر

والفزر : سعد بن مناة بن تميم. وقيس عيلان : قبيلة عربية مشهورة. والبيت من قصيدة مطلعها :

تصدّت وحبل البين مستحصد شزر

وقد سهّل التوديع ما أوعر الهجر

وتصدّت : تعرضت. والمستحصد : المفتول فتلا محكما. والشزر : الشديد الفتل.

(٢) البيت في الديوان (٢ / ١٩) ، وفي شرح التبيان للعكبري على ديوان أبي الطّيب (٢ / ٣٩) ، والبيت من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة ويذكر استنقاذه أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان العدوي من أسر الخارجي سنة سبع وثلاثين وثلاث مائة (٩٤٨ م) ، والقصيدة مطلعها :

إلام طماعية العاذل

ولا رأي في الحب للعاقل

والشاعر يريد أن يقول : لو قدرت السباع على النطق لأثنت بما شملها من إحسانك بكثرة القتلى فكأنك بما أوليتها من لحوم القتلى أنبت لها ربيعا ، وهذا ترشيح للاستعارة بأن السباع لا تأكل الحشيش ، ولما استعار الربيع استعار النبت وهذا البيت من أحسن ما قاله المتنبي وهو مبني على الاستعارة ومثله :

وكان بها مثل الجنون فأصبحت

ومن جثث القتلى عليها تمائم

(٣) البيت في الديوان (ص ٣١٤) ، من قصيدة يمدح فيها سليمان بن وهب ويشفع في رجل يقال له سليمان بن رزين ابن أخي دعبل. والنائي : البعيد. والمغاني : المنازل. والداني : القريب.

(٤) البيت في الديوان (٢ / ٤٠) ، وفي شرح التبيان للعكبري (١ / ٤٦٧) ، والبيت من قصيدة له يمدح فيها سيف الدولة وقد أمر له بفرس وجارية مطلعها :

أيدري الرّبع أيّ دم أراقا

وأيّ قلوب هذا الركب شاقا

لنا ولأهله أبدا قلوب

تلاقى في جسوم ما تلاقى

لأهله : الضمير للربع ، وتلاقى : تتلاقى. والمعنى : يقول لنا وللراحلين من أهله قلوب تتلاقى أبدا بما هي عليه من الشوق والتذكار لسالف العهد وأيّام الوصال في أجسام متنافية وأجسام غير متلاقية وهو منقول من ابن المعتز : أنا على البعاد والتفرق لنلتقي بالذكر إن لم نلتقي.

٣٢٦

وقول أبي هفّان : [من الرمل]

أصبح الدّهر مسيئا كلّه

ما له إلّا ابن يحيى حسنه (١)

مع قول المتنبي : [من الطويل]

أزالت بك الأيّام عتبي كأنّما

بنوها لها ذنب وأنت لها عذر (٢)

وقول عليّ بن جبلة : [من الكامل]

وأرى اللّيالي ما طوت من قوّتي

ردّته في عظتي وفي إفهامي (٣)

مع قول ابن المعتز : [من المتقارب]

وما ينتقص من شباب الرّجال

يزد في نهاها وألبابها (٤)

وقول بكر بن النطاح : [من الطويل]

ولو لم يكن في كفّه غير روحه

لجاد بها فليتّق الله سائله (٥)

مع قول المتنبي : [من المنسرح]

إنّك من معشر إذا وهبوا

ما دون أعمارهم فقد بخلوا (٦)

__________________

(١) البيت ذكره العكبري في شرحه لديوان المتنبي (١ / ٣٧٣).

(٢) البيت في الديوان (١ / ٢٣٧) من قصيدة يمدح فيها عليّ بن أحمد بن عامر الأنطاكي ، وفي شرح التبيان للعكبري على ديوان المتنبي (١ / ٣٧٣). والمعنى : يقول إن الأيام لها إساءات كثيرة فلمّا سمحت بمثلك زال عتبي عليها فكأنها أتت بك عذرا. ومعنى المصراع الأول من قول حبيب :

نوالك رد حسادي فلولا

وأصلح بين أيّامي وبيني

والثاني من قوله أيضا :

كثرت خطايا الدهر فيّ وقديري

بنداك وهو إليّ منها تائب

(٣) علي بن جبلة بن مسلم الملقب بالعكوك. الأبناوي ـ من أبناء الشيعة الخراسانية ، شاعر عراقي مجيد ولد سنة ١٦٠ ه‍ وقتله المأمون سنة ٢١٣ ه‍ وله ديوان مطبوع. (وفيات الأعيان ١ / ٣٤٨).

الأعلام للزركلي (٤ / ٢٦٨).

(٤) البيت في الديوان (ص ٣١) ، ونهاها : عقولها ومفردها نهية ، وألبابها : قلوبها والمفرد : قلب.

والبيت من قصيدة طويلة مطلعها :

ألا من لعين وتسكابها

تشكّى القذى وبكاها بها

(٥) البيت جاء في ديوان أبي تمام (ص ٢١٩) ، وقال الشيخ شاكر إنه مقحم في الديوان ، وهو من لامية يمدح فيها المعتصم بالله ومطلعها :

أجل أيها الربع الذي خفّ آهله

لقد أدركت فيك النوى ما تحاوله

(٦) البيت في ديوانه (١ / ١٨١) من قصيدة له قالها يمدح أبا الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني ، وقد فصده الطبيب فغاص المبضع فوق حقه فأضرّ به ذلك ومطلع القصيدة :

٣٢٧

وقول البحتري : [من الطويل]

ومن ذا يلوم البحر إن بات زاخرا

يفيض وصوب المزن إن راح يهطل (١)

مع قول المتنبي : [من البسيط]

وما ثناك كلام النّاس عن كرم

ومن يسدّ طريق العارض الهطل (٢)

وقول الكندي : [من الكامل]

عزّوا وعزّ بعزّهم من جاوروا

فهم الذّرى وجماجم الهامات

إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها

أو يطلبوا لا يدركوا بترات (٣)

مع قول المتنبي : [من الطويل]

تفيت اللّيالي كلّ شيء أخذته

وهنّ لما يأخذن منك غوارم (٤)

__________________

أبعد نأي المليحة البخل

في البعد ما لد تكلّف الإبل

والبيت في التبيان شرح العكبري على ديوان المتنبي (٢ / ١٧٥). والمعنى قال أبو الفتح : بخلوا عند أنفسهم لأنهم لم يفعلوا الواجب عليهم عندهم ويجوز أن يكون بخلوا نسبهم الناس إلى البخل لاقتصارهم على ما دون أعمارهم أي : من عادتهم بذل أعمارهم والأول أقوى اه.

(١) (الديوان ٢ / ١٢٥) يمدح محمد بن عبد الله الطاهر.

(٢) البيت في الديوان ٢ / ٩١) من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة مطلعها :

أجاب دمعي وما الداعي سوى طل

دعا فلبّاه قبل الركب والإبل

والبيت في شرح التبيان للعكبري على ديوان أبي الطيب المتنبي (٢ / ٨٢) ، وثناه : ردّه وصرفه وثنيته عن حاجته : صرفته عنها والعارض : السحاب ، وفي الآية : (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) والهطل والهطلان : المطر المتفرق العظيم القطر ، وفي التهذيب الهطلان : تتابع القطر المتفرّق ، والهطل : تتابع المطر والدمع وسيلانه. اللسان (هطل). والمعنى : يقول : لا يصرفك كلام الناس في إفساد ما بيننا كما لا يقدرون أن يصرفوك عن الكرم ومن يقدر على هذا إلا كمن يقدر أن يرد صوب السحاب الممطر فالذي يصرفك عن جودك كالذي يرد السحاب لأن جودك أغزر من فيض السّحاب.

(٣) ربما للفيلسوف يعقوب بن إسحاق ، والوتر : الظلم.

(٤) البيت في الديوان (٢ / ١٣٩) من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة ويذكر بناءه ثغر الحدث سنة ثلاث وأربعين وثلاث مائة (٩٥٤ م) ومنها :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم

هل الحدث الحمراء تعرف لونها

وتعلم أيّ الساقيين الغمائم

والبيت في شرح التبيان للعكبري (٢ / ٢٩٦) وتفيت : أي تجبره على ترك ، وفاعله للمخاطب وهو من الفوت. والغوارم : جمع غارمة. والمعنى : قال الواحدي : الليالي إذا أخذت شيئا ذهبت به فإن أخذت منك غرمت لأنك تلزمها الغرامة قال : ويجوز أن يكون تفيت مخاطبة على رواية من روى أخذته بالتاء يقول : إذا سلبت الليالي شيئا أفتّه عليها فلم تقدر على استرداده منك وهي إذا أخذت منك شيئا عزمت يعني : أنت أقوى من الدهر فإنه لا يقدر على مخالفتك وهذا من قول الآخر :

فما أدرك الساعون فينا بوترهم

ولا فاتنا من سائر الفاس واتر

٣٢٨

وقول أبي تمام : [من الكامل]

إذا سيفه أضحى على الهام حاكما

غدا العفو منه وهو في السّيف حاكم (١)

مع قول المتنبي : [من الكامل]

له من كريم الطّبع في الحرب منتض

ومن عادة الإحسان والصّفح غامد (٢)

فانظر الآن نظر من نفى الغفلة عن نفسه ، فإنك ترى عيانا أنّ للمعنى في كل واحد من البيتين من جميع ذلك ، صورة وصفة غير صورته وصفته في البيت الآخر وأن العلماء لم يريدوا حيث قالوا : «إن المعنى في هذا هو المعنى في ذاك» ، أنّ الذي يعقل من هذا لا يخالف الذي يعقل من ذاك وأنّ المعنى عائد عليك في البيت الثاني على هيئته وصفته التي كان عليها في البيت الأوّل وأن لا فرق ولا فصل ولا تباين بوجه من الوجوه وأنّ حكم البيتين مثلا حكم الاسمين قد وضعا في اللغة لشيء واحد ، كالليث والأسد ولكن قالوا ذلك على حسب ما يقوله العقلاء في الشّيئين يجمعهما جنس واحد ، ثم يفترقان بخواصّ ومزايا وصفات ، كالخاتم والخاتم ، والشّنف والشّنف ، والسّوار والسّوار ، وسائر أصناف الحلي التي يجمعها جنس واحد ، ثم يكون بينهما الاختلاف الشديد في الصنعة والعمل.

ومن هذا الذي ينظر إلى بيت الخارجيّ وبيت أبي تمام ، فلا يعلم أنّ صورة المعنى في ذلك غير صورته في هذا؟ كيف ، والخارجيّ يقول :

«واحتجّت له فعلاته» (٣)

__________________

(١) البيت في الديوان (ص ٢٧٠) من قصيدة يمدح فيها أحمد بن أبي دؤاد مطلعها :

ألم يأن أن تروى الظماء الحوائم

وأن ينظم الشمل المبرّد ناظم

لئن أرقأ الدمع اليعور وقد جرى

لقد رويت منه خدود نواعم

(٢) البيت في ديوانه (٢ / ٧٠) من قصيدة له مطلعها :

عواذل ذات الخال فيّ حواسد

وإن ضجيع الخود منّي لماجد

والبيت في شرح التبيان على ديوان المتنبي للعكبري (١ / ١٨٨) وانتضيت السيف : سللته وجردته ، ونضا سيفه أيضا ونضوت البلاد : قطعتها. قال تأبط شراّ :

ولكنني أروي من الخمر هامتي

وأنضو الفلا بالشاحب المتشلشل

وغامد من غمد السيف. والمعنى : يقول كرم طبعه ينضيه ويغمده ما تعوّد من العفو والإحسان فليس كسيوف الحديد التي تنتضى وتغمد.

(٣) بعض بيت قاله رجل من الخوارج لفظه :

ما ذا أقول إذا وقفت إزاءه

في الصف واحتجّت له فعلاته

وهو من مجموعة أبيات قالها لقطريّ بن الفجاءة حينما أمره أن يقاتل الحجاج فأبى وأنشد الأبيات ، وقال الشيخ شاكر : الأبيات لعامر بن حطّان الخارجيّ وهو أخو عمران بن حطّان.

٣٢٩

ويقول أبو تمام :

«إذن لهجاني عنه معروفه عندي» (١)

ومتى كان «احتجّ» و «هجا» واحدا في المعنى؟

وكذلك الحكم في جميع ما ذكرناه ، فليس يتصوّر في نفس عاقل أن يكون قول البحتري : [من الكامل]

وأحبّ آفاق البلاد إلى الفتى

أرض ينال بها كريم المطلب (٢)

وقول المتنبي :

وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب (٣) ـ سواء

واعلم أن قولنا «الصّورة» ، إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا ، فلمّا رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصّورة ، فكان تبيّن إنسان من إنسان وفرس من فرس ، بخصوصيّة تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك ، وكذلك كان الأمر في المصنوعات ، فكان تبيّن خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك ، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقا ، عبّرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا : «للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك». وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر ، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء ، ويكفيك قول الجاحظ : «وإنما الشعر صياغة وضرب من التّصوير».

__________________

(١) عجز بيت له في ديوانه (ص ١٢٢) وصدره :

أسربل هجر القول من لو هجوته

ويروى «أألبس» بدلا من «أسربل» وهو من قصيدة يمدح فيها موسى بن إبراهيم الرافقي ويعتذر إليه مطلعها :

شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي

ومحّت كما محّت وشائع من برد

(٢) ذكره العكبري في التبيان وهو يشرح ديوان المتنبي (١ / ١٣١) ، في البيت الذي يقول :

وكلّ امرئ يولي الجميل محبّب

وكل مكان ينبت العزّ طيّب

وجاء البيت بلفظ «فتى» بدلا من «الفتى».

(٣) عجز بيت في الديوان (٢ / ٢٣٢) وصدره :

وكل امرئ يولي الجميل محبّب

وهو من قصيدة له يمدح فيها سيف الدولة مطلعها :

أغالب فيك الشوق والشوق أغلب

وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب

والبيت في شرح التبيان للعكبري (١ / ١٣١) ، ويولي الجميل يصنعه ويعطيه ، والمعنى : يريد أن الممدوح يوليه الجميل ويحبه فهو عنده طيب يختاره على أهله.

٣٣٠

واعلم أنه لو كان المعنى في أحد البيتين يكون على هيئته وصفته في البيت الآخر ، وكان التّالي من الشاعرين يجيئك به معادا على وجهه لم يحدث فيه شيئا ، ولم يغيّر له صفة ، لكان قول العلماء في شاعر : «إنّه أخذ المعنى من صاحبه فأحسن وأجاد» ، وفي آخر : «إنّه أساء وقصّر» ، ولغوا من القول ، من حيث كان محالا أن يحسن أو يسيء في شيء لا يصنع به شيئا.

وكذلك كان يكون جعلهم البيت نظيرا للبيت ومناسبا له ، خطأ منهم ، لأنه محال أن يناسب الشيء نفسه ، وأن يكون نظيرا لنفسه.

وأمر ثالث ، وهو أنّهم يقولون في واحد : «إنه أخذ المعنى فظهر أخذه» ، وفي آخر : «إنّه أخذه فأخفى أخذه» ، ولو كان المعنى يكون معادا على صورته وهيئته ، وكان الآخذ له من صاحبه لا يصنع شيئا غير أن يبدّل لفظا مكان لفظ ، لكان الإخفاء فيه محالا ، لأن اللّفظ لا يخفي المعنى ، وإنّما يخفيه إخراجه في صورة غير التي كان عليها.

مثال ذلك أن القاضي أبا الحسن (١) ، ذكر فيما ذكر فيه «تناسب المعاني» ، بيت أبي نواس : [من الرمل المجزوء]

خلّيت والحسن تأخذه

تنتقي منه وتنتخب (٢)

وبيت عبد الله بن مصعب : [من الوافر]

كأنّك جئت محتكما عليهم

تخيّر في الأبوّة ما تشاء (٣)

وذكر أنّهما معا من بيت بشار : [من الطويل]

خلقت ما فيّ غير مخيّر

هواي ، ولو خيّرت كنت المهذّبا (٤)

والأمر في تناسب هذه الثلاثة ظاهر. ثم إنه ذكر أن أبا تمام قد تناوله فأخفاه وقال : [من الوافر]

__________________

(١) يعني القاضي الجرجاني علي بن عبد العزيز في كتابه «الوساطة بين المتنبي وخصومه» (الوساطة ١٦٠).

(٢) البيت في الديوان (ص ٣٤٩) ، وهو من أبيات قالها يمدح فيها امرأة تدعى جنان يقول :

ما هوى إلا له سبب

يبتدي منه وينشعب

فتنت قلبي محجبة

وجهها بالحسن منتقب

خليت والحسن تأخذه

تنتقي منه وتنتخب

فاكتست منه طرائفه

واستزادت فضل ما تهب

(٣) لعبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير.

(٤) (الديوان ١ / ٢٤٦) من قصيدة يلوم فيها يحيى بن زيد.

٣٣١

فلو صوّرت نفسك لم تزدها

على ما فيك من كرم الطّباع (١)

ومن العجب في ذلك ما تراه إذا أنت تأمّلت قول أبي العتاهية : [من الكامل]

جزي البخيل عليّ صالحة

عنّي بخفّته على ظهري

أعلى وأكرم عن يديه يدي

فعلت ، ونزّه قدره قدري

ورزقت من جدواه عافية

أن لا يضيق بشكره صدري

وغنيت خلوا من تفضّله

أحنو عليه بأحسن العذر

ما فاتني خير امرئ وضعت

عنّي يداه مئونة الشّكر (٢)

ثم نظرت إلى قول الذي يقول : [من المنسرح]

أعتقني سوء ما صنعت من الرّقّ

فيا بردها على كبدي

فصرت عبدا للسّوء منك وما

أحسن سوء قبلي إلى أحد (٣)

ومما هو في غاية النّدرة من هذا الباب ، ما صنعه الجاحظ بقول نصيب : [من الطويل]

ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب (٤)

حين نثره فقال ، وكتب به إلى ابن الزّيات : «نحن أعزك الله نسحر بالبيان ، ونموه بالقول ، والناس ينظرون إلى الحال ، ويقضون بالعيان ، فأثر في أمرنا أثرا ينطق إذا سكتنا ، فإنّ المدّعي بغير بيّنة متعرّض للتكذيب». وهذه جملة من وصفهم الشعر وعمله وإدلالهم به ـ أبو حيّة النّميرى : [من الكامل]

إنّ القصائد قد علمن بأنّني

صنع اللّسان بهنّ ، لا أتنحّل

وإذا ابتدأت عروض نسج ريّض

جعلت تذلّ لما أريد وتسهل

حتّى تطاوعني ، ولو يرتاضها

غيري لحاول صعبة لا تقبل (٥)

__________________

(١) البيت في الديوان (ص ٣٢٤) ، وهو من قصيدة يمدح فيها مهدي بن أصرم ، وقبله :

ورأيك مثل رأي السيف صحّت

مشورة حدّه عند المصاع

والمصاع : المجالدة.

(٢) الأبيات في أسرار البلاغة (ص ١٥٦) ، وجاء البيت الأول بلفظ «بخفته» بدلا من «لخفته» ، وفي نسخة للشيخ رشيد رضا : «أن لا يضيق» بدل من «عافية» وهذا في البيت الثالث.

(٣) البيتان في أسرار البلاغة بلا نسبة (ص ١٥٦).

(٤) عجز بيت لنصيب بن رباح ، في ديوانه (ص ٥٩) وصدره :

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله

وفي الأغاني (٢ / ٤٢) ، وأمالي المرتضى (١ / ٦١) ، وخزانة الأدب (٥ / ٢٩٦) ، وشرح شذور الذهب (ص ٣٨) ، والشعر والشعراء (١ / ٤١٨) ، ولسان العرب (حدث).

(٥) الأبيات لأبي حية النميري ، شعره مجموع جمعه داود سلوم في العراق.

٣٣٢

تميم بن مقبل : [من الطويل]

إذا متّ عن ذكر القوافي فلن ترى

لها قائلا بعدي أطبّ وأشعرا

وأكثر بيتا سائرا ضربت له

حزون جبال الشّعر حتّى تيسّرا

أغرّ غريبا يمسح النّاس وجهه

كما تمسح الأيدي الأغرّ المشهّرا (١)

عديّ بن الرّقاع : [من الكامل]

وقصدة قد بتّ أجمع بينها

حتّى أقوّم ميلها وسنادها

نظر المثقّف في كعوب قناته

حتّى يقيم ثقافة منادها (٢)

كعب بن زهير : [من الطويل]

فمن اللقوافي ، شانها من يحوكها ،

إذا ما توى كعب وفوّز جرول (٣)

يقوّمها حتّى تلين متونها

فيقصر عنها كلّ ما يتمثّل (٤)

بشّار : [من الطويل]

عميت جنينا ، والذّكاء من العمى ،

فجئت عجيب الظّنّ للعلم موئلا

وغاص ضياء العين للعلم رافدا

لقلب إذا ما ضيّع النّاس حصّلا

وشعر كنور الرّوض لاءمت بينه

بقول إذا ما أحزن الشّعر أسهلا (٥)

__________________

(١) الأغرّ المشهر : هو الفرس الذي يعرف بين الخيل وهذا مثل قول جرير :

وغرّ قد نسقت مشهّرات

طوالع ، لا تطيق لها جوابا

(٢) البيتان في الأغاني (٩ / ٣٦٠) من قصيدة له أنشدها الوليد بن عبد الملك أوّلها :

عرف الديار توهّما فاعتادها

من بعد ما شمل البلى أبلادها

والسّناد : من عيوب الشعر وهو في اصطلاح العروضيين اختلاف الحرف الذي قبل الردف بالفتح والكسر ، والردف هو حرف اللين الذي قبل الروي. اللسان (سند). الثّقاف : حديدة تكون مع القواس والرماح يقوّم بها الشيء المعوجّ أي : ما تسوّى به الرّماح. والمنآد : المائل المعوج.

(٣) البيت في ديوانه (ص ٥٩) ، والأغاني (٢ / ١٥٧) ، (١٧ / ٨٨) ، ولسان العرب (فوز) ، (ثوا) ، والتنبيه والإيضاح (٢ / ٢٤٨) ، وتاج العروس (فوز) ، (حوك) ، (جرول) ، (ثوى). وشانها : أي جاء بها شائنة أي : معيبة ، وتوى : مات وكذا فوّز ، قال ابن برّي : لا يقال فوّز حتى يتقدم الكلام كلام فيقال مات فلان وفوّز فلان بعده ، وجرول : يعني الحطيئة.

(٤) البيت في الأغاني (٢ / ١٥٨) ، وهو لا يتبع البيت السابق بل يفصل بينهما بيتان آخران هما :

يقول فلا تعيا بشيء يقوله

ومن قائليها من يسيء ويعمل

كفيتك لا تلقى من الناس واحدا

تنخّل منها مثل ما يتنخّل

(٥) الأبيات في الأغاني (٣ / ١٣٤) ، والموئل : الملجأ وفي الآية : (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) قال

٣٣٣

وله : [من المنسرح]

زور ملوك عليه أبّهة

يغرف من شعره ومن خطبه (١)

لله ما راح في جوانحه

من لؤلؤ لا ينام عن طلبه

يخرج من فيه للنّدى ، كما

يخرج ضوء السّراج من لهبه (٢)

أبو شريح العمير : [من الوافر]

فإن أهلك فقد أبقيت بعدي

قوافي تعجب المتمثّلينا

لذيذات المقاطع محكمات

لو أنّ الشّعر يلبس لارتدينا (٣)

الفرزدق : [من الوافر]

بلغنا الشّمس حين تكون شرقا

ومسقط قرنها من حيث غابا

بكلّ ثنيّة وبكلّ ثغر

غرائبهنّ تنتسب انتسابا (٤)

ابن ميّادة : [من الطويل]

__________________

الفرّاء : الموئل : المنجي وهو الملجأ. وغاض ضياء العين : غاب نور العين. والنور : الزهر الأبيض واحدته نورة. وقال هذه الأبيات بعد أن قال : إن عدم النظر يقوّي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفّر حسّه وتذكو قريحته. والحزن والحزن : نقيض الفرح ، والسّهل : نقيض الحزن.

(١) الزور : الزائر يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد وغيره لأنه مفرد في الأصل.

(٢) النديّ كالنّادي : مجلس القوم نهارا ، والنادي مجتمع القوم وأهل المجلس.

(٣) قال الشيخ شاكر في تعليقه على هذين البيتين : لم أعرف أبا شريح العمير ، وهو في مجموعة المعاني (١٧٨) لشاعر جاهلي ، وفي البيان والتبيين (١ / ٢٢٢) ، وديوان المعاني (١ / ٨) ، وغير منسوب وانفرد صاحب حماسة الشجري بنسبته إلى ابن ميادة وهذا خطأ أو سهو ؛ لأنه فيما أرجح أخذه من البيان والتبيين لأن الجاحظ عقد بابا فقال : «ووصفوا كلامهم في أشعارهم فجعلوها كبرود العصب ، وكالعلل والمعاطف ، والديباج والوشي وأشباه ذلك. وأنشدني أبو الجماهير جندب بن مدرك الهلالي» وذكر أبياتا ثم قال : «وأنشدني لابن ميادة :

نعم إنني مهد ثناء ومدحة

كبرد اليماني يربح البيع تاجره

وأنشد ثم ذكر البيتين ، فاختلط الأمر على الشجري في نقله إلى حماسته ، فنسبه لابن ميادة. وهذا شعر فاخر انتهى كلام الشيخ ـ رحمه‌الله ـ.

(٤) البيتان في الديوان (١ / ١٠٤) من قصيدة قالها يناقض جريرا مطلعها :

أنا ابن العاصمين بني تميم

إذا ما أعظم الحدثان نابا

والثنية : واحدة الثنايا من السّنّ والثنيّة من الأضراس : أول ما في الفم والثنية : طريق العقبة أو الطريقة في الحيل كالنّقب. والثغر : الأسنان في منابتها. يريد أن يقول : إن غرائب قصائده مشهورة فقد طافت بكل طريق وترددت على كل لسان فلم تترك مكانا إلا هبطته ولا ثغرا إلا شرفته بنطقها وبين هذا وذاك فإن نسبتها إليه معروفة غير مجهولة.

٣٣٤

فجرنا ينابيع الكلام وبحره

فأصبح فيه ذو الرّواية يسبح

وما الشّعر إلّا شعر قيس وخندف

وشعر سواهم كلفة وتملّح (١)

وقال عقال بن هشام القينيّ يردّ عليه : [من الطويل]

ألا أبلغ الرّمّاح نقض مقالة

بها خطل الرّمّاح أو كان يمزح

لئن كان في قيس وخندف ألسن

طوال وشعر سائر ليس يقدح

لقد خرق الحيّ اليمانون قبلهم

بحور الكلام تستقى وهي طفّح

وهم علّموا من بعدهم فتعلّموا

وهم أعربوا هذا الكلام وأوضحوا

فللسّابقين الفضل لا يجحدونه

وليس لمسبوق عليهم تبجّج (٢)

أبو تمام : [من الطويل]

كشفت قناع الشّعر عن حرّ وجهه

وطيّرته عن وكره وهو واقع

بغرّ يراها من يراها بسمعه

ويدنو إليها ذو الحجى وهو شاسع

يودّ ودادا أنّ أعضاء جسمه

إذا أنشدت ، شوقا إليها ، مسامع (٣)

__________________

(١) البيتان في الأغاني (٢ / ٣٠٣) من أبيات قالها حينما غمزه عقال بن هاشم وصغّر من شأنه ، وجاء البيت الثاني بلفظ : «قول» بدلا من «شعر». وخندف : اسم قبيلة سميت كذلك لأن خندف امرأة إلياس بن مضر بن نزار وهي ليلى بنت حلوان خندفت (هرولت) في أثر إبل إلياس التي خرجت ليلا ، وقالت خندف لزوجها : ما زلت أخندف (أهرول) في أثركم. فقال : فأنت خندف فذهب اسما لها ولولدها نسبا وسميت بها القبيلة. اللسان (خندف). والتملّح : تكلّف الملاحة والظرف.

(٢) الأبيات في الأغاني (٢ / ٣٠٣) قالها عقال بن هاشم يجيب ابن ميادة ، وسمّاه «الرّمّاح». وخطل خطلا فهو خاطل أي : أحمق سريع الطّعن. وسهم خطل : يعجل فيذهب يمينا وشمالا لا يقصد قصد الهدف فهو يريد أن يصفه بصفة الحمق والعجلة.

والقدح : العيب ومنها قدح في عرض أخيه : عابه. والمقصود : شعر غير معيب. والتبجّح : الافتخار.

(٣) الأبيات في ديوانه (ص ٤٨٩) ، من قصيدة له يصف قومه ويفتخر بهم مطلعها :

ألا صنع البين الذي هو صانع

فإن تك مجزاعا فما البين جازع

وحرّ الوجه : ما أقبل عليك منه وقيل : الخدّ ومنه يقال : لطم حرّ وجهه ، وقيل : حرّ الوجه : ما بدا من الوجنة. وجاء البيت الأول بلفظ «فكره» بدلا من «وكره». والضمير «هو» للشاعر في قوله قبل البيت :

فكم شاعر قد رامني فقذعته

بشعري وهو خزيان ضارع

وقذعته : رميته بسوء القول وشتمته ، والضارع : الذليل. وذو الحجى : صاحب العقل والفطنة والجمع أحجاء. والشاسع : البعيد.

٣٣٥

وله : [من الكامل]

حذّاء تملأ كلّ أذن حكمة

وبلاغة ، وتدرّ كلّ وريد

كالدّرّ والمرجان ألّف نظمه

بالشّذر في عنق الفتاة الرّود

كشقيقة البرد المنمنم وشيه

في أرض مهرة أو بلاد تزيد

يعطي بها البشرى الكريم ويرتدي

بردائها في المحفل المشهود

بشرى الغنيّ أبي البنات تتابعت

بشرائه بالفارس المولود (١)

وله : [من الكامل]

جاءتك من نظم اللّسان قلادة

سمطان ، فيها اللؤلؤ المكنون

أحذاكها صنع الضّمير يمدّه

جفر إذا نضب الكلام معين (٢)

أخذ لفظ «الصّنع» من قول أبي حيّة :

بأنني صنع اللّسان بهنّ ، لا أتنحّل (٣)

ونقله إلى الضمير. وقد جعل حسّان أيضا اللسان «صنعا» ، وذلك في قوله : [من البسيط]

أهدى لهم مدحا قلب مؤازره

فيما أحبّ لسان حائك صنع (٤)

__________________

(١) الأبيات في ديوانه (ص ٨٥) ، وفصل بين البيت الأول والثاني ببيت في الديوان يقول فيه :

كالطعنة النجلاء في يد ثائر

بأخيه أو كالضّربة الأخدود

ففي الأول الحذاء : المقصود القصيدة التي لا عيب فيها ولا يتعلق بها شيء لجودتها. والوريد : عرق تحت اللسان ، والوريدان عرقان في العنق يقال للغضبان : انتفخ وريده. والوريد : عرق في صفحة العنق. وفي الثاني : الشّذر : قطع من الذهب يلقط من المعدن من غير إذابة الحجارة وهو أيضا صغار اللؤلؤ ، وقيل : خرز يفصّل به النظم ، وشذّر النظم : فصّله. والرّؤد بالهمزة ـ من النساء : الشابة الحسنة السريعة الشباب مع حسن غذاء. وفي البيت الثالث : البرد : ثوب فيه خطوط والجمع أبراد وبرود. والنمنمة : خطوط متقاربة قصار ، وكتاب منمنم : منقش ونمنم الشيء أي : زخرفه ورقشه.

(٢) البيتان في الديوان (ص ٣١٢) من قصيدة له يمدح الواثق بالله مطلعها :

وأبى المنازل إنّها لشجون

وعلى العجومة إنها لتبين

والبيتان غير متتاليين في الديوان. وأحذاكها : ألبسك إيّاها ، والجفر : البئر ذات الماء ، والمعين : الماء الجاري على وجه الأرض.

(٣) عجز بيت لأبي حية النميري صدره :

إن القصائد قد علمن بأنني

(٤) الديوان (١ / ١٠٠).

٣٣٦

ولأبي تمام : [من الطويل]

إليك أرحنا عازب الشّعر بعد ما

تمهّل في روض المعاني العجائب

غرائب لاقت في فنائك أنسها

من المجد فهي الآن غير غرائب

ولو كان يفنى الشّعر أفناه ما قرت

حياضك منه في السّنين الذّواهب

ولكنّه صوب العقول ، إذا انجلت

سحائب منه أعقبت بسحائب (١)

البحتري [من الطويل]

ألست الموالي فيك نظم قصائد

هي الأنجم اقتادت مع اللّيل أنجما

ثناء كأنّ الرّوض منه منوّرا

ضحى ، وكأنّ الوشي منه منمنما (٢)

وله : [من البسيط]

أحسن أبا حسن بالشّعر ، إذ جعلت

عليك أنجمه بالمدح تنتشر

فقد أتتك القوافي غبّ فائدة

كما تفتّح غبّ الوابل الزّهر (٣)

وله : [من الطويل]

إليك القوافي نازعات قواصدا

يسيّر ضاحي وشيها وينمنم

ومشرقة في النّظم غرّ يزينها

بهاء وحسنا أنّها فيك تنظم (٤)

وله : [من الطويل]

بمنقوشة نقش الدّنانير ينتقى

لها اللّفظ مختارا كما ينتقى التّبر (٥)

__________________

(١) الأبيات له في الديوان (ص ٤٧) ، من قصيدة يمدح فيها أبا دلف القاسم بن عيسى العجلي مطلعها :

على مثلها من أربع وملاعب

أذيلت مصونات الدموع السواكب

والعازب من الكلأ : الذي لم يرع قط ولا وطئ. وعازب الشعر : الشعر ذو المعاني البعيدة المرمى التي لا يهتدي إليها إلا الفحول من الشعراء. ويقال : راحت الإبل ، فرواحها هاهنا أن تأوي بعد غروب الشمس إلى مراحها الذي تبيت فيه. والفناء : هو ساحة أمام البيت.

(٢) منمنما : مزخرفا ومنقشا.

(٣) في نسخة «تنتثر» وهو الصحيح.

(٤) تسيّر من السّيراء والسّيراء : ضرب من البرود ، وقيل : هو ثوب مسيّر فيه خطوط تعمل من القزّ كالسيور وقيل : برود يخالطها حرير.

(٥) الديوان (١ / ٣٤٤) يمدح الخضر بن أحمد.

٣٣٧

وله : [من الطويل]

أيذهب هذا الدّهر لم ير موضعي

ولم يدر ما مقدار حلّي ولا عقدي

ويكسد مثلي وهو تاجر سؤدد

يبيع ثمينات المكارم والمجد

سوائر شعر جامع بدد العلى

تعلّقن من قبلي وأتعبن من بعدي

يقدّر فيها صانع متعمّل

لإحكامها تقدير داود في السّرد (١)

وله : [من الكامل]

تالله يسهر في مديحك ليله

متململا وتنام دون ثوابه

يقظان ينتخل الكلام كأنّه

جيش لديه يريد أن يلقى به

فأتى به كالسّيف رقرق صيقل

ما بين قائم سنخه وذبابه (٢)

ومن نادر وصفه للبلاغة قوله : [من الخفيف]

في نظام من البلاغة ما شكّ

امرؤ أنّه نظام فريد

وبديع كأنّه الزّهر الضّاحك

في رونق الرّبيع الجديد

مشرق في جوانب السّمع ما يخ

لقه عوده على المستعيد

حجج تخرس الألدّ بألفا

ظ فرادى كالجوهر المعدود

ومعان لو فصّلتها القوافي

هجّنت شعر جرول ولبيد

جزن مستعمل الكلام اختيارا

ونجنبن ظلمة التّعقيد

وركبن اللّفظ القريب فأدرك

ن به غاية المراد البعيد

كالعذارى غدون في الحلل الصّف

ر إذا رحن في الخطوط السّود (٣)

__________________

(١) التبديد : التفريق ؛ يقال : شمل مبدّد أي : مفرّق ، وبدّد الشيء : فرّقه ، وجاءت الخيل بداد أي : متفرقة. وتعلقن : أي فتنت الشعراء قبلي.

(٢) السّرد : الثقب والمسرودة : الدرع وقيل : السّرد : الحلق. وفي الآية : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ). والسّنخ : الأصل من كل شيء وسنخ الكلمة أصل بنائها وسنخ السّكين : طرف سيلانه الدّاخل في النصاب وسنخ السيف : سيلانه. والذباب : طرف السيف.

(٣) قال الشيخ شاكر معلقا على الأبيات : في ديوانه والأبيات يقولها في بلاغة محمد بن عبد الملك الزيّات الكاتب الوزير ، وذكر قبل البيت الأوّل «عبد الحميد الكاتب» فقال لابن الزيّات :

لتفنّنت في الكتابة حتّى

عطّل الناس فنّ عبد الحميد

والفريد : اللؤلؤ. وجرول : الحطيئة. ولبيد بن ربيعة : الفحل. وفي الديوان والمطبوعة قوله : «حزن

٣٣٨

الغرض من كتب هذه الأبيات ، الاستظهار ، حتى إن حمل حامل نفسه على الغرر والتّقحّم على غير بصيرة ، فزعم أن الإعجاز في مذاقة الحروف ، وفي سلامتها مما يثقل على اللّسان علم بالنظر فيها فساد ظنّه وقبح غلطه ، من حيث يرى عيانا أن ليس كلامهم كلام من خطر ذلك منه ببال ، ولا صفاتهم صفات تصلح له على حال.

إذ لا يخفى على عاقل أن لم يكن ضرب «تميم» لحزون جبال الشعر ، لأن تسلم ألفاظه من حروف تثقل على اللسان ولا كان تقويم «عديّ» لشعره وتشبيهه نظره فيه بنظر المثقّف في كعوب قناته لذلك وأنّه محال أن يكون له جعل «بشّار» نور العين قد غاض فصار إلى قلبه ، وأن يكون اللّؤلؤ الذي كان لا ينام عن طلبه وأن ليس هو صوب العقول (١) الذي إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب وأن ليس هو الدّرّ والمرجان مؤلّفا بالشّذر في العقد ولا الذي له كان «البحتري» مقدّرا «تقدير داود في السّرد». كيف؟ وهذه كلّها عبارات عمّا يدرك بالعقل ويستنبط بالفكر ، وليس الفكر الطريق إلى تمييز ما يثقل على اللسان مما لا يثقل ، إنما الطريق إلى ذلك الحسّ.

ولو لا أنّ البلوى قد عظمت بهذا الرأي الفاسد ، وأنّ الذين قد استهلكوا فيه قد صاروا من فرط شغفهم به يصغون إلى كل شيء يسمعونه ، حتى لو أن إنسانا قال : «باقلّى (٢) حارّ» ، يريهم أنه يريد نصرة مذهبهم ، لأقبلوا بأوجههم عليه وألقوا أسماعهم إليه لكان اطّراحه وترك الاشتغال به أصوب ، لأنه قول لا يتصل منه جانب بالصواب البتّة. ذاك لأنه أول شيء يؤدّي إلى أن يكون القرآن معجزا ، لا بما به كان قرآنا وكلام الله عزوجل ، لأنه على كل حال إنّما كان قرآنا وكلام الله عزوجل بالنّظم الذي هو عليه. ومعلوم أن ليس «النّظم» من مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان في شيء.

ثم إنّه اتّفاق من العقلاء أنّ الوصف الذي به تناهى القرآن إلى حدّ عجز عنه المخلوقون ، هو الفصاحة والبلاغة. وما رأينا عاقلا جعل القرآن فصيحا أو بليغا ، بأن

__________________

مستعمل الكلام» بالحاء المهملة وهكذا يجري في الكتب وهو عندي خطأ لا شك فيه وتصحيف مفسد للكلام والشعر معا ، وإنما هي «جزن» بالجيم المعجمة من «جاز المكان» إذا تعدّاه وتركه خلفه. يقول : إن معانيه تعدّين مبتذل اللفظ والكلام وتركنه «وتجنّبن ظلمة التعقيد وركبن اللفظ القريب» وهو اللفظ المختار الجيّد الذي لا ابتذال فيه ولا تعقيد. وهو في بعض النسخ «جزن» بالجيم وهو الصواب المحض ، وأمّا «حزن» فهو تصحيف يتّقى ، وكلام يرعب عن مثله. وفي بعض نسخ الديوان : «كالعذارى غدون في الحلل البيض» وهي جيدة. انتهى كلام الشيخ شاكر ـ رحمه‌الله ـ.

(١) الصّوب : نزول المطر ، من صاب المطر صوبا : انصبّ.

(٢) الباقلّى : الفول واحدته : باقلّاة وباقلاءة.

٣٣٩

لا يكون في حروفه ما يثقل على اللسان ، لأنه لو كان يصحّ ذلك ، لكان يجب أن يكون السّوقيّ الساقط من الكلام ، والسفساف الرّديء من الشعر ، فصيحا إذا خفّت حروفه.

وأعجب من هذا ، أنّه يلزم منه أن لو عمد عامد إلى حركات الإعراب فجعل مكان كلّ ضمّة وكسرة فتحة فقال : «الحمد لله» ، بفتح الدال واللام والهاء ، وجرى على هذا في القرآن كلّه ، أن لا يسلبه ذلك الوصف الذي هو معجز به ، بل كان ينبغي أن يزيد فيه ، لأنّ الفتحة كما لا يخفى أخفّ من كلّ واحدة من الضمة والكسرة.

فإن قال : إن ذلك يحيل المعنى.

قيل له : إذا كان المعنى والعلّة في كونه معجزا خفّة اللّفظ وسهولته ، فينبغي أن يكون مع إحالة المعنى معجزا ، لأنه إذا كان معجزا لوصف يخصّ لفظه دون معناه ، كان محالا أن يخرج عن كونه معجزا ، مع قيام ذلك الوصف فيه.

ودع هذا ، وهب أنه لا يلزم شيء منه ، فإنه يكفي في الدلالة على سقوطه وقلّة تمييز القائل به ، أنه يقتضي إسقاط «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل» و «المجاز» و «الإيجاز» جملة ، واطّراح جميعها رأسا ، مع أنها الأقطاب التي تدور البلاغة عليها ، والأعضاد التي تستند الفصاحة إليها ، والطّلبة التي يتنازعها المحسنون ، والرّهان الذي تجرّب فيه الجياد ، والنّضال الذي تعرف به الأيدي الشّداد ، وهي التي نوّه بذكرها البلغاء ورفع من أقدارها العلماء ، وصنّفوا فيها الكتب ، ووكّلوا بها الهمم ، وصرفوا إليها الخواطر ، حتّى صار الكلام فيها نوعا من العلم مفردا ، وصناعة على حدة ، ولم يتعاط أحد من الناس القول في الإعجاز إلا ذكرها وجعلها العمد والأركان فيما يوجب الفضل والمزيّة ، وخصوصا «الاستعارة» و «الإيجاز» ، فإنّك تراهم يجعلونهما عنوان ما يذكرون ، وأوّل ما يوردون.

وتراهم يذكرون من «الاستعارة» قوله عزوجل : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] ، وقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ، وقوله عزوجل : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] ، وقوله عزوجل : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤] ، وقوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) [يوسف : ٨٠] ، وقوله تعالى : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها)(١) [محمد : ٤] ، وقوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦].

__________________

(١) أوزار الحرب : أسلحتها : قال الأعشى :

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

وقيل الأوزار : أثقال الشهداء لأنه عزوجل يمحّصهم من الذنوب.

٣٤٠