دلائل الإعجاز في علم المعاني

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

دلائل الإعجاز في علم المعاني

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦

ومن «الإيجاز» قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ)(١) [الأنفال : ٥٨] ، وقوله تعالى : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر : ١٤] ، وقوله : (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ)(٢) [الأنفال : ٥٧] ، وتراهم على لسان واحد في أن «المجاز» و «الإيجاز» من الأركان في أمر الإعجاز.

وإذا كان الأمر كذلك عند كافّة العلماء الذين تكلّموا في المزايا التي للقرآن ، فينبغي أن ينظر في أمر الذي يسلم نفسه إلى الغرور ، فيزعم أنّ الوصف الذي كان له القرآن معجزا ، هو سلامة حروفه مما يثقل على اللسان ، أيصحّ له القول بذلك إلّا من بعد أن يدّعي الغلط على العقلاء قاطبة فيما قالوه ، والخطأ فيما أجمعوا عليه؟ وإذا نظرنا وجدناه لا يصحّ له ذلك إلّا بأن يقتحم هذه الجهالة ، اللهم إلّا أن يخرج إلى الضّحكة فيزعم مثلا أن من شأن «الاستعارة» و «الإيجاز» إذا دخلا الكلام ، أن يحدث بهما في حروفه خفة ، وتتجدّد فيها سهولة ، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.

واعلم أنّا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلا فيما يوجب الفضيلة ، وأن تكون مما يؤكّد أمر الإعجاز ، وإنما الذي ننكره ونفيّل رأي من يذهب إليه ، أن يجعله معجزا به وحده ، ويجعله الأصل والعمدة ، فيخرج إلى ما ذكرنا من الشناعات.

ثم إنّ العجب كلّ العجب ممن يجعل كلّ الفضيلة في شيء هو إذا انفرد لم يجب به فضل البتّة ، ولم يدخل في اعتداد بحال. وذلك أنّه لا يخفى على عاقل أنه لا يكون بسهولة الألفاظ وسلامتها مما يثقل على اللسان اعتداد ، حتى يكون قد ألف منها كلام ، ثم كان ذلك الكلام صحيحا في نظمه والغرض الذي أريد به ، وأنه لو عمد عامد إلى ألفاظ فجمعها من غير أن يراعي فيها معنى ، ويؤلّف منها كلاما ، لم تر عاقلا يعتدّ السهولة فيها فضيلة ، لأن الألفاظ لا تراد لأنفسها ، وإنما تراد لتجعل أدلّة على المعاني. فإذا عدمت الذي له تراد ، أو اختلّ أمرها فيه ، لم يعتدّ بالأوصاف التي تكون في أنفسها عليها ، وكانت السهولة وغير السهولة فيها واحدا.

ومن هاهنا رأيت العلماء يذمّون من يحمله تطلّب السّجع والتجنيس على أن

__________________

(١) أي : إن كان بينك وبين قوم هدنة فخفت منهم نقضا للعهد فلا تبادر إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت ما بينك وبينهم ؛ فيكونوا معك في علم النقض والعود إلى الحرب مستوين.

(٢) يقال : شرد البعير : نفر والتشريد : الطّرد. والمعنى : أي : فرّق وبدّد جمعهم وقيل : فزّع بهم من خلفهم.

٣٤١

يضم لهما المعنى ، ويدخل الخلل عليه من أجلهما ، وعلى أن يتعسّف في الاستعارة بسببهما ، ويركب الوعورة ، ويسلك المسالك المجهولة ، كالذي صنع أبو تمام في قوله : [من البسيط]

سيف الإمام الّذي سمّته هييته

لمّا تخرّم أهل الأرض مخترما

قرّت بقرّان عين الدين وانتشرت

بالأشترين عيون الشّرك فاصطلما (١)

وقوله : [من الكامل]

ذهبت بمذهبه السّماحة والتوت

فيه الظّنون ، أمذهب أم مذهب (٢)

ويصنعه المتكلفون في الأسجاع. وذلك أنّه لا يتصوّر أن يجب بهما ، ومن حيث هما ، فضل ، ويقع بهما مع الخلوّ من المعنى اعتداد. وإذا نظرت إلى تجنيس أبي تمام : «أمذهب أم مذهب» ، فاستضعفته ، وإلى تجنيس القائل : [من البسيط] حتّى نجا من خوفه وما نجا (٣) وقول المحدث : [من الخفيف]

ناظراه فيما جنى ناظراه ،

أو دعاني أمت بما أو دعاني (٤)

فاستحسنته ، لم تشكّ بحال أن ذلك لم يكن لأمر يرجع إلى اللّفظ ، ولكن لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأوّل ، وقويت في الثاني. وذلك ؛ أنّك رأيت أبا تمام لم يزدك بمذهب ومذهب ، على أن أسمعك حروفا مكررة لا تجد لها فائدة إن وجدت ، إلا متكلّفة متمحّلة ، ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك عن

__________________

(١) البيتان في الديوان (ص ٢٨٤) من قصيدة قالها يمدح إسحاق بن إبراهيم المصعبي. ويفصل بين البيتين بيت آخر نصه :

إنّ الخليفة لما صال كنت له

خليفة الموت في من جار أو ظلما

وتخرّم : تشقق ويقال : رجل مخروم : أي قطعت وترة أنفه. ويقال : اخترم فلان عنا : مات وذهب ، واخترمهم الدهر وتخرّمهم أي : اقتطعهم واستأصلهم. وشترت العين : استرخت وانشقت ، واصطلم : استؤصل.

(٢) البيت في ديوانه من قصيدة له يمدح الحسن بن وهب ويصف غلاما أهداه إليه.

(٣) البيت في أسرار البلاغة غير منسوب ، وقال الشيخ شاكر ـ رحمه‌الله ـ في تعليقه : «نجا» الأولى من «النجو» وهو ما يخرج من البطن من الغائط ، يريد أنه من خوفه أحدث ، ثم لم ينج من «النجاة».

(٤) البيت في أسراء البلاغة (ص ٧) ، وهو لشدّاد بن إبراهيم الجزري أو لأبي الفتح البستي.

٣٤٢

الفائدة وقد أعطاها ، ويوهمك أن لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفّاها. ولهذه النّكتة كان التجنيس ، وخصوصا المستوفى منه ، مثل «نجا» و «نجا» ، من حليّ الشّعر. والقول فيما يحسن وفيما لا يحسن من التجنيس والسجع يطول ، ولم يكن غرضنا من ذكرهما شرح أمرهما ، ولكن توكيد ما انتهى بنا القول إليه من استحالة أن يكون الإعجاز في مجرّد السّهولة وسلامة الألفاظ مما يثقل على اللسان.

وجملة الأمر ، أنّا ما رأينا في الدّنيا عاقلا اطّرح النّظم والمحاسن التي هو السبب فيها من «الاستعارة» و «الكناية» و «التمثيل» ، وضروب «المجاز» و «الإيجاز» ، وصدّ بوجهه عن جميعها ، وجعل الفضل كلّه والمزيّة أجمعها في سلامة الحروف مما يثقل. كيف؟ وهو يؤدي إلى السخف والخروج من العقل كما بينا.

واعلم أنه قد آن لنا نعود إلى ما هو الأمر الأعظم والغرض الأهمّ ، والّذي كأنّه هو الطّلبة ، وكل ما عداه ذرائع إليه. وهو المرام ، وما سواه أسباب للتسلّق عليه ، وهو بيان العلل التي لها وجب أن يكون لنظم مزيّة على نظم ، وأن يعظم أمر التفاضل فيه ويتناهى إلى الغايات البعيدة. ونحن نسأل الله تعالى العون على ذلك ، والتوفيق له والهداية إليه.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فصل

[في أن النظم هو توخي المعاني]

ما أظنّ بك أيها القارئ لكتابنا ، إن كنت وفّيته حقّه من النظر ، وتدبّرته حقّ التدبّر ، إلّا أنّك قد علمت علما أبى أن يكون للشكّ فيه نصيب ، وللتوقّف نحوك مذهب ، أن ليس «النّظم» شيئا إلّا توخّي معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه فيما بين معاني الكلم وأنك قد تبيّنت أنه إذا رفع معاني النحو وأحكامه مما بين الكلم حتّى لا تراد فيها في جملة ولا تفصيل ، خرجت الكلم المنطوق ببعضها في إثر بعض في البيت من الشعر والفصل من النثر ، عن أن يكون لكونها في مواضعها التي وضعت فيها موجب ومقتض ، وعن أن يتصوّر أن يقال في كلمة منها إنّها مرتبطة بصاحبة لها ، ومتعلقة بها ، وكائنة بسبب منها وأنّ حسن تصوّرك لذلك ، قد ثبت فيه قدمك ، وملأ من الثّقة نفسك ، وباعدك من أن تحنّ إلى الذي كنت عليه ، وأن يجرّك الإلف والاعتياد إليه وأنّك جعلت ما قلناه نقشا في صدرك ، وأثبتّه في سويداء قلبك ، وصادقت بينه وبين نفسك. فإن كان الأمر كما ظننّاه ، رجونا أن يصادف الذي نريد

٣٤٣

أن نستأنفه بعون الله تعالى منك نيّة حسنة تقيك الملل ، ورغبة صادقة تدفع عنك السّأم ، وأريحيّة يخفّ معها عليك تعب الفكر وكدّ النّظر ، والله تعالى وليّ توفيقك وتوفيقنا بمنه وفضله. ونبدأ فنقول :

فإذا ثبت الآن أن لا شكّ ولا مرية في أن ليس «النظم» شيئا غير توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم ، ثبت من ذلك أن طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن ، إذا هو لم يطلبه في معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه ، ولم يعلم أنها معدنه ومعانه (١) ، وموضعه ومكانه ، وأنّه لا مستنبط له سواها ، وأن لا وجه لطلبه فيما عداها ، غارّ نفسه بالكاذب من الطمع ، ومسلم لها إلى الخدع ، وأنه إن أبى أن يكون فيها ، كان قد أبى أن يكون القرآن معجزا بنظمه ، ولزمه أن يثبت شيئا آخر يكون معجزا به ، وأن يلحق بأصحاب «الصّرفة» (٢) فيدفع الإعجاز عن أصله ، وهذا تقرير لا يدفعه إلّا معاند يعدّ الرجوع عن باطل قد اعتقده عجزا ، والثّبات عليه من بعد لزوم الحجة جلدا ، ومن وضع نفسه في هذه المنزلة ، كان قد باعدها من الإنسانيّة. ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.

وهذه أصول يحتاج إلى معرفتها قبل الذي عمدنا له.

اعلم أنّ معاني الكلام كلّها معان لا تتصوّر إلا فيما بين شيئين ، والأصل والأوّل هو «الخبر». وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه ، عرفته في الجميع. ومن الثّابت في العقول والقائم في النفوس ، أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه ، لأنه ينقسم إلى «إثبات» و «نفي». و «الإثبات» ، يقتضي مثبتا ومثبتا له ، و «النفي» يقتضي منفيّا ومنفيّا عنه. فلو حاولت أن تتصوّر إثبات معنى أو نفيه من دون أن يكون هناك مثبت له ومنفي عنه ، حاولت ما لا يصحّ في عقل ، ولا يقع في وهم. ومن أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء مظهر أو مقدّر مضمر ، وكان لفظك به ، إذا أنت لم ترد ذلك ، وصوتا تصوّته سواء.

وإن أردت أن تستحكم معرفة ذلك في نفسك ، فانظر إليك إذا قيل لك : «ما فعل زيد»؟ فقلت : «خرج» ، هل يتصوّر أن يقع في خلدك من «خرج» معنى من دون أن ينوى فيه ضمير «زيد»؟ وهل تكون ، إن أنت زعمت أنك لم تنو ذلك ، إلّا مخرجا نفسك إلى الهذيان؟

__________________

(١) المعان : المباءة والمنزل ومعان القوم : منزلهم. اللسان (معن).

(٢) هم المعتزلة ، الحيوان للجاحظ (٤ / ٨٩).

٣٤٤

وكذلك فانظر إذا قيل لك : «كيف زيد؟» ، فقلت : «صالح» ، هل يكون نقولك «صالح» أثر في نفسك من دون أن تريد «هو صالح»؟ أم هل يعقل السّامع منه شيئا إن هو لم يعتقد ذلك؟ فإنه ممّا لا يبقى معه لعاقل شكّ أن «الخبر» معنى لا يتصوّر إلّا بين شيئين ، يكون أحدهما مثبتا ، والآخر مثبتا له ، أو يكون أحدهما منفيّا ، والآخر منفيّا عنه وأنه لا يتصوّر مثبت من غير مثبت له ، ومنفيّ من دون منفيّ عنه.

ولما كان الأمر كذلك ، أوجب ذلك أن لا يعقل إلّا من مجموع جملة فعل واسم كقولنا : «خرج زيد» ، أو اسم واسم ، كقولنا : «زيد منطلق» ، فليس في الدنيا خبر يعرف من غير هذا السبيل ، وبغير هذا الدليل. وهو شيء يعرفه العقلاء في كل جيل وأمّة ، وحكم يجري عليه الأمر في كل لسان ولغة.

وإذ قد عرفت أنه لا يتصوّر الخبر إلّا فيما بين شيئين : مخبر به ومخبر عنه ، فينبغي أن تعلم أنه يحتاج من بعد هذين إلى ثالث. وذلك أنه كما لا يتصوّر أن يكون هاهنا خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه ، وكذلك لا يتصوّر أن يكون خبر حتّى يكون له «مخبر» يصدر عنه ويحصل من جهته ، ويكون له نسبة إليه ، وتعود التّبعة فيه عليه ، فيكون هو الموصوف بالصّدق إن كان صدقا ، وبالكذب إن كان كذبا. أفلا ترى أنّ من المعلوم أنه لا يكون إثبات ونفي حتى يكون مثبت وناف يكون مصدرهما من جهته ، ويكون هو المزجيّ لهما ، والمبرم والناقض فيهما ، ويكون بهما موافقا ومخالفا ، ومصيبا ومخطئا ، ومحسنا ومسيئا.

ـ وجملة الأمر ، أن «الخبر» وجميع الكلام ، معان ينشئها الإنسان في نفسه ، ويصرّفها في فكره ، ويناجي بها قلبه ، ويراجع فيها عقله ، وتوصف بأنها مقاصد وأغراض ، وأعظمها شأنا «الخبر» ، فهو الذي يتصوّر بالصّور الكثيرة ، وتقع فيه الصّناعات العجيبة ، وفيه يكون ، في الأمر الأعمّ ، المزايا التي بها يقع التفاضل في الفصاحة ، كما شرحنا فيما تقدّم ، ونشرحه فيما نقول من بعد إن شاء الله تعالى.

واعلم أنك إذا فتّشت أصحاب «اللّفظ» عمّا في نفوسهم ، وجدتهم قد توهّموا في «الخبر» أنه صفة للفظ ، وأن المعنى في كونه إثباتا ، أنه لفظ يدلّ على وجود لمعنى من الشيء أو فيه وفي كونه نفيا ، أنه لفظ يدلّ على عدمه وانتفائه عن الشيء.

وهو شيء قد لزمهم ، وسرى في عروقهم ، وامتزج بطباعهم ، حتى صار الظنّ بأكثرهم أنّ القول لا ينجع فيهم.

والدليل على بطلان ما اعتقدوه ، أنّه محال أن يكون «اللّفظ» قد نصب دليلا

٣٤٥

على شيء ، ثم لا يحصل منه العلم بذلك الشيء ، إذ لا معنى لكون الشيء دليلا إلّا إفادته إيّاك العلم بما هو دليل عليه. وإذا كان هذا كذلك علم منه أن ليس الأمر على ما قالوه ، من أن المعنى في وصفنا «اللفظ» بأنه خبر ، أنه قد وضع لأن يدلّ على وجود المعنى أو عدمه ، لأنه لو كان كذلك ، لكان ينبغي أن لا يقع من سامع شكّ في خبر يسمعه ، وأن لا تسمع الرّجل يثبت وينفي إلّا علمت وجود ما أثبت وانتفاء ما نفى ، وذلك مما لا يشكّ في بطلانه. فإذا لم يكن ذلك مما يشكّ في بطلانه ، وجب أن يعلم أنّ مدلول «اللفظ» ليس هو وجود المعنى أو عدمه ، ولكن الحكم بوجود المعنى أو عدمه ، وأنّ ذلك ، أي الحكم بوجود المعنى أو عدمه ، حقيقة الخبر ، إلّا أنه إذا كان بوجود المعنى من الشيء أو فيه يسمّى «إثباتا» ، وإذا كان بعدم المعنى وانتفائه عن الشيء يسمى «نفيا».

ومن الدليل على فساد ما زعموه ، أنه لو كان معنى «الإثبات» ، الدلالة على وجود المعنى وإعلامه السامع أيضا ، وكان معنى «النفي» الدلالة على عدمه وإعلامه السامع أيضا ، لكان ينبغي إذا قال واحد : «زيد عالم» ، وقال آخر : «زيد ليس بعالم» ، أن يكون قد دلّ هذا على وجود العلم وهذا على عدمه ، وإذا قال الموحّد : «العالم محدث» وقال الملحد : «هو قديم» ، أن يكون قد دلّ الموحّد على حدوثه ، والملحد على قدمه ، وذلك ما لا يقوله عاقل.

تقرير لذلك بعبارة أخرى :

لا يتصوّر أن تفتقر المعاني المدلول عليها بالجمل المؤلّفة إلى دليل يدلّ عليها زائد على اللفظ. كيف؟ وقد أجمع العقلاء على أن العلم بمقاصد النّاس في محاوراتهم علم ضرورة ، ومن ذهب مذهبا يقتضي أن لا يكون «الخبر» معنى في نفس المتكلم ، ولكن يكون وصفا للّفظ من أجل دلالته على وجود المعنى من الشيء أو فيه ، أو انتفاء وجوده عنه ، كان قد نقض منه الأصل الذي قدّمناه ، من حيث يكون قد جعل المعنى المدلول عليه باللفظ ، لا يعرف إلا بدليل سوى اللفظ. ذاك لأنا لا نعرف وجود المعنى المثبت وانتفاء المنفيّ باللفظ ، ولكنا نعلمه بدليل يقوم لنا زائد على اللفظ. وما من عاقل إلّا وهو يعلم ببديهة النّظر أنّ المعلوم بغير اللفظ ، لا يكون مدلول اللفظ.

طريقة أخرى : الدّلالة على الشيء هي لا محالة إعلامك السامع إيّاه ، وليس بدليل ما أنت لا تعلم به مدلولا عليه. وإذا كان كذلك ، وكان ممّا يعلم ببدائه

٣٤٦

المعقول أن الناس إنما يكلم بعضهم بعضا ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده ، فينبغي أن ينظر إلى مقصود المخبر من خبره ، ما هو؟ أهو أن يعلم السامع المخبر به والمخبر عنه ، أم أن يعلمه إثبات المعنى المخبر به للمخبر عنه؟

فإن قيل : إن المقصود إعلامه السامع وجود المعنى من المخبر عنه ، فإذا قال : «ضرب زيد» كان مقصوده أن يعلم السّامع وجود الضرب من زيد ، وليس الإثبات إلّا إعلامه السامع وجود المعنى.

قيل له : فالكافر إذا أثبت مع الله تعالى عمّا يقول الظالمون ، إلها آخر ، يكون قاصدا أن يعلم ، نعوذ بالله تعالى ، أن مع الله تعالى إلها آخر؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، وكفى بهذا فضيحة.

وجملة الأمر ، أنه ينبغي أن يقال لهم : أتشكّون في أنّه لا بدّ من أن يكون لخبر المخبر معنى يعلمه السامع علما لا يكون معه شكّ ، ويكون ذلك معنى اللفظ وحقيقته؟

فإذا قالوا : لا نشكّ.

قيل لهم : فما ذلك المعنى؟

فإن قالوا : هو وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه أو فيه ، إذا كان الخبر إثباتا ، وانتفاؤه عنه إذا كان نفيا لم يمكنهم أن يقولوا ذلك إلا من بعد أن يكابروا فيدّعوا أنهم إذا سمعوا الرجل يقول : «خرج زيد» ، علموا علما لا شكّ معه ، وجود الخروج من زيد. وكيف يدّعون ذلك ، وهو يقتضي أن يكون الخبر على وفق المخبر عنه أبدا ، وأن لا يجوز فيه أن يقع على خلاف المخبر عنه ، وأن يكون العقلاء قد غلطوا حين جعلوا من خاصّ وصفه أنّه يحتمل الصّدق والكذب ، وأن يكون الذي قالوه في أخبار الآحاد وأخبار التواتر من أن العلم يقع بالتّواتر دون الآحاد سهوا منهم ، ويقتضي الغنى عن المعجزة ، لأنه إنما احتيج إليها ليحصل العلم بكون الخبر على وفق المخبر عنه ، فإذا كان لا يكون إلا على وفق المخبر عنه ، لم تقع الحاجة إلى دليل يدلّ على كونه كذلك ، فاعرفه.

واعلم أنّه إنما لزمهم ما قلناه ، من أن يكون الخبر على وفق المخبر عنه أبدا ، من حيث أنه إذا كان معنى الخبر عندهم ، إذا كان إثباتا ، أنه لفظ موضوع ليدل على وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه أو فيه ، وجب أن يكون كذلك أبدا ، وأن لا

٣٤٧

يصحّ أن يقال : «ضرب زيد» ، إلا إذا كان الضرب قد وجد من زيد. وكذلك يجب في النّفي أن لا يصح أن يقال : «ما ضرب زيد» ، إلا إذا كان الضرب لم يوجد منه ، لأن تجويز أن يقال : «ضرب زيد» ، من غير أن يكون قد كان منه ضرب ، وأن يقال : «ما ضرب زيد» ، وقد كان منه ضرب ، يوجب على أصلهم إخلاء اللفظ من معناه الذي وضع ليدلّ عليه. وذلك ما لا يشكّ في فساده.

ولا يلزمنا ذلك على أصلنا ، لأن معنى «اللفظ» عندنا هو الحكم بوجود المخبر به من المخبر عنه أو فيه ، إذا كان الخبر إثباتا ، والحكم بعدمه إذا كان نفيا ، واللّفظ عندنا لا ينفكّ من ذلك ولا يخلو منه. وذلك لأن قولنا : «ضرب» و «ما ضرب» ، يدلّ من قول الكاذب على نفس ما يدلّ عليه من قول الصادق ، لأنّا إن لم نقل ذلك ، لم يخل من أن يزعم أنّ الكاذب يخلي اللّفظ من المعنى ، أو يزعم أنه يجعل للّفظ معنى غير ما وضع له ، وكلاهما باطل.

ومعلوم أنه لا يزال يدور في كلام العقلاء في وصف الكاذب : «أنه يثبت ما ليس بثابت ، وينفي ما ليس بمنتف» ، والقول بما قالوه يؤدّي إلى أن يكون العقلاء قد قالوا المحال ، من حيث يجب على أصلهم أن يكونوا قد قالوا : إن الكاذب يدلّ على وجود ما ليس بموجود ، وعلى عدم ما ليس بمعدوم. وكفى بهذا تهافتا وخطلا ، ودخولا في اللّغو من القول.

وإذا اعتبرنا أصلنا كان تفسيره : أن الكاذب يحكم بالوجود فيما ليس بموجود ، وبالعدم فيما ليس بمعدوم ، وهو أسدّ كلام وأحسنه.

والدليل على أن اللّفظ من قول الكاذب يدلّ على نفس ما يدلّ عليه من قول الصادق ، أنهم جعلوا خاصّ وصف الخبر أنه يحتمل الصّدق والكذب ، فلولا أن حقيقته فيهما حقيقة واحدة ، لما كان لحدّهم هذا معنى. ولا يجوز أن يقال : إن الكاذب يأتي بالعبارة على خلاف المعبّر عنه ، لأن ذلك إنما يقال فيمن أراد شيئا ، ثم أتى بلفظ لا يصلح للذي أراد ، ولا يمكننا أن نزعم في الكاذب أنه أراد أمرا ، ثم أتى بعبارة لا تصلح لما أراد.

ومما ينبغي أن يحصّل في هذا الباب ، أنهم قد أصّلوا في «المفعول» وكلّ ما زاد على جزئي الجملة ، أنه يكون زيادة في الفائدة. وقد يتخيّل إلى من ينظر إلى ظاهر هذا من كلامهم ، أنهم أرادوا بذلك أنك تضمّ بما تزيده على جزئي الجملة فائدة أخرى ، وينبني عليه أن ينقطع عن الجملة ، حتى يتصوّر أن يكون فائدة على

٣٤٨

حدة ، وهو ما لا يعقل ، إذ لا يتصوّر في «زيد» من قولك» «ضربت زيدا» ، أن يكون شيئا برأسه ، حتى تكون بتعديتك «ضربت» إليه قد ضممت فائدة إلى أخرى. وإذا كان ذلك كذلك ، وجب أن يعلم أن الحقيقة في هذا : أن الكلام يخرج بذكر «المفعول» إلى معنى غير الذي كان ، وأن وزان الفعل قد عدّي إلى مفعول معه ، وقد أطلق فلم يقصد به إلى مفعول دون مفعول ، وزان الاسم المخصص بالصّفة مع الاسم المتروك على شياعه ، كقولك : «جاءني رجل ظريف» ، مع قولك : «جاءني رجل» ، في أنك لست في ذلك كمن يضم معنى إلى معنى وفائدة إلى فائدة ، ولكن كمن يريد هاهنا شيئا وهناك شيئا آخر. فإذا قلت : «ضربت زيدا» ، كان المعنى غيره إذا قلت : «ضربت» ولم تزد «زيدا».

وهكذا يكون الأمر أبدا ، كلّما زدت شيئا ، وجدت المعنى قد صار غير الذي كان. ومن أجل ذلك صلح المجازاة بالفعل الواحد ، إذا أتي به مطلقا في الشّرط ، ومعدى إلى شيء في الجزاء ، كقوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) [الإسراء : ٧] ، وقوله عزوجل : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء : ١٣٠] ، مع العلم بأن الشرط ينبغي أن يكون غير الجزاء ، من حيث كان الشرط سببا والجزاء مسبّبا ، وأنه محال أن يكون الشيء سببا لنفسه. فلو لا أنّ المعنى في «أحسنتم» الثانية ، غير المعنى في الأولى ، وأنها في حكم فعل ثان ، لما ساغ ذلك ، كما لا يسوغ أن تقول : «إن قمت قمت ، وإن خرجت خرجت» ، ومثله من الكلام قوله : «المرء بأصغريه ، إن قال قال ببيان ، وإن صال صال بجنان» ، ويجري ذلك في الفعلين قد عدّيا جميعا ، إلّا أن الثاني منهما قد تعدّى إلى شيء زائد على ما تعدّى إليه الأوّل ، ومثاله قولك : «إن أتاك زيد أتاك لحاجة» ، وهو أصل كبير. والأدلّة على ذلك كثيرة ، ومن أولاها بأن يحفظ : أنك ترى البيت قد استحسنه الناس وقضوا لقائله بالفضل فيه ، وبأن الذي غاص على معناه بفكره ، وأنه أبو عذره ، ثم لا ترى ذلك الحسن وتلك الغرابة كانا ، إلّا لما بناه على الجملة دون نفس الجملة. ومثال ذلك قول الفرزدق : [من الطويل]

وما حملت أمّ امرئ في ضلوعها

أعقّ من الجاني عليها هجائيا (١)

فلو لا أن معنى الجملة يصير بالبناء عليها شيئا غير الذي كان ، ويتغيّر في ذاته ، لكان محالا أن يكون البيت بحيث تراه من الحسن والمزيّة ، وأن يكون معناه خاصّا

__________________

(١) البيت في ديوانه (٢ / ٣٦١) ، من قصيدة له قيل إنها أول من هجا به جريرا والبعيث مطلعها :

ألم تر أني يوم جو سويقة

بكيت فنادتني هنيدة ما ليا

٣٤٩

بالفرزدق ، وأن يقتضى له بالسّبق إليه ، إذ ليس في الجملة التي بنى عليها ما يوجب شيئا من ذلك ، فاعرفه.

والنّكتة التي يجب أن تراعى في هذا ، أنه لا تتبيّن لك صورة المعنى الذي هو معنى الفرزدق ، إلا عند آخر حرف من البيت ، حتى إن قطعت عنه قوله «هجائيا» بل «الياء» التي هي ضمير الفرزدق ، لم يكن الذي تعقله منه ممّا أراده الفرزدق بسبيل ، لأن غرضه تهويل أمر هجائه ، والتحذير منه ، أنّ من عرّض أمّه له ، كان قد عرّضها لأعظم ما يكون من الشّرّ.

وكذلك حكم نظائره من الشعر ، فإذا نظرت إلى قول القطامي : [من البسيط]

فهنّ ينبذن من قول يصبن به

مواقع الماء من ذي الغلّة الصّادي (١)

وجدتك لا تحصل على معنى يصحّ أن يقال إنه غرض الشاعر ومعناه ، إلّا عند قوله «ذي الغلّة».

ويزيدك استبصارا فيما قلناه ، أن تنظر فيما كان من الشعر جملا قد عطف بعضها على بعض بالواو ، كقوله : [من الكامل]

النّشر مسك ، والوجوه دنا

نير ، وأطراف الأكفّ عنم (٢)

وذلك أنك ترى الذي تعقله من قوله : «النشر مسك» ، لا يصير بانضمام قوله : «والوجوه دنانير» ، إليه شيئا غير الذي كان ، بل تراه باقيا على حاله. كذلك ترى ما تعقل من قوله : «والوجوه دنانير» ، لا يلحقه تغيير بانضمام قوله : و «أطراف الأكفّ عنم» ، إليه.

وإذ قد عرفت ما قرّرناه من أنّ من شأن الجملة أن يصير معناها بالبناء عليها

__________________

(١) البيت في ديوانه (ص ٨١) ، والإيضاح (ص ٢٣٧) ، ولسان العرب (صدى) ، وأسرار البلاغة (نبذ).

(٢) البيت للمرقش الأكبر في ديوانه ، والمفضليات (٢٣٨) ، وفي مفتاح العلوم (ص ٦٦١) بتحقيقنا ، وكذلك الإيضاح (٢٢٨) ، من قصيدة له مطلعها :

هل بالديار أن تجيب صمم

لو كان رسم ناطقا كلّم

والبيت في الإشارات (ص ١٨٢) ، والأسرار (ص ١٢٣) ، واللسان (قوم) ، ومعجم الشعراء (ص ١٠٢) ، وتاج العروس (قوم) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٩٧٨) ، والاشتقاق (ص ٤٦).

والنشر : الريح ، يقول ريحههن كالمسك. دنانير : ممنوع من الصرف ويقرؤه كثير من الناس هنا مصروفا ، وهو خطأ رواية ، والعنم : شجر أحمر لين الأغصان شبه حمرة أطراف الأصابع به.

٣٥٠

شيئا غير الذي كان ، وأنه يتغير في ذاته ، فاعلم أنّ ما كان من الشعر مثل بيت بشّار : [من الطويل]

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (١)

وقول امرئ القيس : [من الطويل]

كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي (٢)

وقول زياد : [من الطويل]

وإنّا وما تلقي لنا إن هجوتنا

لكالبحر ، مهما يلق في البحر يغرق (٣)

كان له مزيّة على قول الفرزدق فيما ذكرنا ، لأنك تجد في صدر بيت الفرزدق جملة تؤدّي معنى ، وإن لم يكن معنى يصحّ أن يقال إنه معنى فلان ، ولا تجد في صدر هذه الأبيات ما يصحّ أن يعد جملة تؤدّي معنى ، فضلا عن أن تؤدّي معنى يقال إنه معنى فلان. ذاك لأن قوله : «كأن مثار النّقع» إلى : «وأسيافنا» ، جزء واحد و «ليل تهاوى كواكبه» بجملته الجزء الذي ما لم تأت به لم تكن قد أتيت بكلام. وهكذا سبيل البيتين الآخرين. فقوله : «كأن قلوب الطّير رطبا ويابسا لدى وكرها» ، جزء وقوله : «العناب والحشف البالي» الجزء الثاني وقوله : «وإنّا وما تلقي لنا إن هجوتنا» جزء ، وقوله : «لكالبحر ، الجزء الثاني ، وقوله : «مهما تلق في البحر يغرق» ، وإن كان جملة مستأنفة ليس لها في الظاهر تعلّق بقوله : «لكالبحر» ، فإنها لمّا كانت مبيّنة لحال هذا التشبيه ، صارت كأنها متعلّقة بهذا التشبيه ، وجرى مجرى أن تقول : «لكالبحر في أنه لا يلقى فيه شيء إلّا غرق».

__________________

(١) البيت لبشار في ديوانه (١ / ٣١٨) ، والمصباح (١٠٦) ، ويروى (رءوسهم) بدلا من (رءوسنا) ، وأسرار البلاغة (ص ١٧٤ ، ١٩٤ ، ١٩٥ ، ١٩٨) ، والتبيان للطيبي (ص ٢٧٨) ، ومثار النقع : الغبار الذي أثاره المتحاربون ، وتهاوى : تتساقط. ويرى عبد القاهر أن الشاعر جعل الكواكب تهاوى فأتم التشبيه وعبّر عن هيئة السيوف وقد سلت من الأغماد وهي تعلو وترسب وتجيء وتذهب ... ويرى أنه نظم هذه الدقائق في نفسه ثم أحضرت صورها بلفظة واحدة ونبّه عليها بأحسن التنبيه وأكمله بكلمة وهي قوله (تهاوى) لأن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركاتها وكان لها في تهاويها تواقع وتداخل ثم إنها بالتهاوي تستطيل أشكالها فأما إذا لم تزل عن أماكنها فهي على صورة الاستدارة. (أسرار البلاغة).

(٢) سبق تخريجه انظر (ص ٧٩).

(٣) سبق في (ص ٧٩) فانظره.

٣٥١

فصل

وإذا ثبت أن الجملة إذا بني عليها حصل منها ومن الذي بني عليها في الكثير ، معنى يجب فيه أن ينسب إلى واحد مخصوص ، فإنّ ذلك يقتضي لا محالة أن يكون «الخبر» في نفسه معنى هو غير المخبر به والمخبر عنه. ذاك لعلمنا باستحالة أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى المخبر ، وأن يكون المستنبط والمستخرج والمستعان على تصويره بالفكر. فليس يشكّ عاقل أنه محال أن يكون للحمل في قوله :

وما حملت أمّ امرئ في ضلوعها (١)

نسبة إلى الفرزدق ، وأن يكون الفكر منه كان فيه نفسه ، وأن يكون معناه الذي قيل إنّه استنبطه واستخرجه وغاص عليه. وهكذا السبيل أبدا ، لا يتصوّر أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى الشاعر ، وأن يبلغ من أمره أن يصير خاصّا به ، فاعرفه.

ومن الدليل القاطع فيه ، ما بيّنّاه في «الكناية» ، و «الاستعارة» و «التمثيل» وشرحناه ، من أن من شأن هذه الأجناس أن توجب الحسن والمزية ، وأنّ المعاني تتصوّر من أجلها بالصّور المختلفة ، وأن العلم بإيجابها ذلك ثابت في العقول ، ومركوز في غرائز النفوس. وبيّنّا كذلك أنه محال أن تكون المزايا التي تحدث بها ، حادثة في المعنى المخبر به ، المثبت أو المنفيّ ، لعلمنا باستحالة أن تكون المزيّة التي تجدها لقولنا : «هو طويل النجاد» على قولنا «طويل القامة» في الطول ، والتي تجدها لقولنا : «هو كثير رماد القدر» على قولنا : «هو كثير القرى والضيافة» في كثرة القرى. وإذا كان ذلك محالا ، ثبت أن المزيّة والحسن يكونان في إثبات ما يراد أن وصف به المذكور ، والإخبار به عنه. وإذا ثبت ذلك ، ثبت أنّ «الإثبات» معنى ، لأن حصول المزيّة والحسن فيما ليس بمعنى ، محال.

هذا ممّا نقل من مسودّته بخطّه بعد وفاته رحمه‌الله.

__________________

(١) صدر بيت له في ديوانه وعجزه :

أعق من الجاني عليها هجائيا

والبيت سبق تخريجه (ص ٣٤٢).

٣٥٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه ثقتي وعليه اعتمادي

اعلم أنّ هاهنا أصلا أنت ترى الناس فيه في صورة من يعرف من جانب وينكر من آخر ، وهو أن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة ، لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها ، ولكن لأن يضمّ بعضها إلى بعض ، فيعرف فيما بينهما فوائد. وهذا علم شريف ، وأصل عظيم.

والدليل على ذلك ، أنّا إن زعمنا أن الألفاظ ، التي هي أوضاع اللغة ، إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها ، لأدّى ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته ، وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لتعرفها بها ، حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا : «رجل» و «فرس» و «دار» ، لما كان يكون لنا علم بهذه الأجناس ولو لم يكونوا وضعوا أمثلة الأفعال لما كان لنا علم بمعانيها حتى لو لم يكونوا قالوا : «فعل» و «يفعل» ، لما كنّا نعرف الخبر في نفسه ومن أصله ـ ولو لم يكونوا قد قالوا : «افعل» ، لما كنّا نعرف الأمر من أصله ، ولا نجده في نفوسنا وحتى لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف ، لكنا نجهل معانيها ، فلا نعقل نفيا ولا نهيا ولا استفهاما ولا استثناء. كيف؟ والمواضعة لا تكون ولا تتصوّر إلا على معلوم ، فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم ، لأن المواضعة كالإشارة ، فكلما أنّك إذا قلت : «خذ ذاك» ، لم تكن هذه الإشارة لتعرّف السامع المشار إليه في نفسه ، ولكن ليعلم أنّه المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها وتبصرها. كذلك حكم «اللفظ» مع ما وضع له. ومن هذا الذي يشكّ أنا لم نعرف «الرجل» و «الفرس» و «الضرب» و «القتل» إلّا من أساميها؟ لو كان لذلك مساغ في العقل ، لكان ينبغي إذا قيل : «زيد» أن تعرف المسمّى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدته أو ذكر لك بصفة.

وإذا قلنا في العلم باللغات من مبتدأ الأمر أنه كان إلهاما ، فإن الإلهام لا يرجع إلى معاني اللغات ، ولكن إلى كون ألفاظ اللّغات سمات لتلك المعاني ، وكونها مرادة بها. أفلا ترى إلى قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٣١] ، أفترى أنه قيل لهم : «أنبئوني بأسماء هؤلاء» ، وهم لا يعرفون المشار إليهم بهؤلاء؟

وإذ قد عرفت هذه الجملة ، فاعلم أن معاني الكلام كلّها معان لا تتصوّر إلا

٣٥٣

فيما بين شيئين ، والأصل والأوّل هو «الخبر» ، وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع. ومن الثّابت في العقول والقائم في النفوس ، أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه ، لأنه ينقسم إلى «إثبات» و «نفي» ، و «الإثبات» يقتضي مثبتا ومثبتا له ، و «النفي» يقتضي منفيّا ومنفيّا عنه. فلو حاولت أن تتصوّر إثبات معنى أو نفيه ، من غير أن يكون هناك مثبت له ومنفيّ عنه ، حاولت ما لا يصحّ في عقل ، ولا يقع في وهم. من أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء ، وكنت إذا قلت : «ضرب» ، لم تستطع أن تريد منه معنى في نفسك ، من غير أن تريد الخبر به عن شيء مظهر أو مقدّر ، وكان لفظك به ، إذا أنت لم ترد ذلك ، وصوتا تصوّته ، سواء.

وإن أردت أن يستحكم معرفة ذلك في نفسك ، فانظر إليك إذا قيل لك : «ما فعل زيد»؟ فقلت : «خرج» ، هل يتصوّر أن يقع في خلدك من «خرج» معنى من دون أن تنوي فيه ضمير «زيد»؟ وهل تكون إن أنت زعمت أنك لم تنو ذلك إلّا مخرجا نفسك إلى الهذيان؟ وكذلك فانظر إذا قيل لك : «كيف زيد»؟ ، فقلت : «صالح» : هل يكون لقولك : «صالح» أثر في نفسك من دون أن تريد «هو صالح»؟ أم هل يعقل السامع شيئا إن هو لم يعتقد ذلك؟

إذا ثبت ذلك ، فإنه ما لا يبقى معه لعاقل شكّ ، أنّ الخبر معنى لا يتصوّر إلا بين شيئين يكون أحدهما مثبتا ، والآخر مثبتا له ، أو يكون أحدهما منفيّا ، والآخر منفيّا عنه وأنه لا يتصور مثبت من غير مثبت له ، ومنفيّ من دون منفيّ عنه. فلما كان الأمر كذلك ، أوجب ذلك أن لا يعقل إلا من مجموع جملة فعل واسم ، كقولنا : «خرج زيد» ، أو اسم واسم ، كقولنا : «زيد منطلق». فليس في الدّنيا خبر يعرف من غير هذا السبيل ، وبغير هذا الدليل ، وهو شيء يعرفه العقلاء في كل جيل وأمّة ، وحكم يجري عليه الأمر في كل لسان ولغة.

وإذ قد عرفت أنه لا يتصوّر الخبر إلا فيما بين شيئين : مخبر به ومخبر عنه ، فينبغي أن تعلم أنه يحتاج من بعد هذين إلى ثالث ، وذلك أنه كما لا يتصوّر أن يكون هاهنا خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه ، وكذلك لا يتصوّر حتّى يكون له مخبر يصدر عنه ويحصل من جهته ، وتعود التّبعة فيه عليه ، فيكون هو الموصوف بالصّدق إن كان صدقا ، وبالكذب إن كان كذبا. أفلا ترى أن من المعلوم ضرورة أنه لا يكون إثبات ونفي ، حتى يكون مثبت وناف يكون مصدرهما من جهته ، ويكون

٣٥٤

هو المزجيّ لهما ، والمبرم والناقض فيهما. ويكون بهما موافقا ومخالفا ، ومصيبا ومخطئا ، ومسيئا ومحسنا.

وجملة الأمر أن الخبر وجميع معاني الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه ، ويصرّفها في فكره ، ويناجي بها قلبه ، ويراجع فيها عقله ، وتوصف بأنّها مقاصد وأغراض. وأعظمها شأنا الخبر ، فهو الذي يتصوّر بالصّور الكثرة ، وتقع فيه الصناعات العجيبة ، وفيه تكون المزايا التي بها يقع التفاضل في الفصاحة على ما شرحنا.

ثم إنّا نظرنا في المعاني التي يصفها العقلاء بأنها معان مستنبطة. ، ولطائف مستخرجة ويجعلون لها اختصاصا بقائل دون قائل ، وكمثل قولهم في معاني أبيات من الشعر : «إنه معنى لم يسبق إليه فلان ، وأنه الذي فطن له واستخرجه ، وأنه الذي غاص عليه بفكره ، وأنّه أبو عذره ، لم تجد تلك المعاني في الأمر الأعمّ شيئا غير الخبر الذي هو إثبات المعنى للشيء ونفيه عنه. يدلّك على ذلك أنك لا تنظر إلى شيء من المعاني الغريبة التي تختصّ بقائل دون قائل ، إلّا وجدت الأصل فيه والأساس الإثبات والنّفي. وإن أردت في ذلك مثالا فانظر إلى بيت الفرزدق : [من الطويل]

وما حملت أمّ امرئ في ضلوعها

أعقّ من الجاني عليها هجائيا (١)

فإنك إذا نظرت لم تشكّ في أن الأصل والأساس هو قوله : «وما حملت أم امرئ» ، وأن ما جاوز ذلك من الكلمات إلى آخر البيت ، مستند إليه ومبنيّ عليه ، وأنك إن رفعته لم تجد لشيء منها بيانا ، ولا رأيت لذكرها معنى ، بل ترى ذكرك لها إن ذكرتها هذيانا. والسّبب الذي من أجله كان كذلك ، أن من حكم كلّ ما عدا جزئي الجملة «الفعل والفاعل» و «المبتدأ والخبر» ، أن يكون تخصيصا للمعنى المثبت أو المنفي ، فقوله : «في ضلوعها» ، يفيد أوّلا أنه لم يرد نفي الحمل على الإطلاق ، ولكن الحمل في الضّلوع ، وقوله : «أعقّ» ، يفيد أنّه لم يرد هذا الحمل الذي هو حمل في الضّلوع أيضا على الإطلاق ، ولكن حملا في الضلوع محموله أعقّ من الجاني عليها هجاءه. وإذا كان ذلك كلّه تخصيصا للحمل ، لم يتصوّر أن يعقل من دون أن يعقل نفي الحمل ، لأنه لا يتصوّر تخصيص شيء لم يدخل في نفي ولا إثبات ، ولا ما كان في سبيلهما من الأمر به ، والنهي عنه ، والاستخبار عنه.

وإذ قد ثبت أن الخبر وسائر معاني الكلام ، معان ينشئها الإنسان في نفسه ، ويصرّفها في فكره ، ويناجي بها قلبه ، ويراجع فيها لبّه ، فاعلم أن الفائدة في العلم بها

__________________

(١) سبق تخريجه (ص ٣٤٢).

٣٥٥

واقعة من المنشئ لها ، وصادرة عن القاصد إليها. وإذا قلنا في الفعل : «إنه موضوع للخبر» ، لم يكن المعنى فيه أنه موضوع لأن يعلم به الخبر في نفسه وجنسه ، ومن أصله ، وما هو؟ ولكن المعنى أنه موضوع ، حتى إذا ضممته إلى اسم ، عقل به ومن ذلك الاسم ، الخبر ، بالمعنى الذي اشتقّ ذلك الفعل منه من مسمّى ذلك الاسم ، واقعا منك أيّها المتكلّم ، فاعرفه.

بسم الله الرحمن الرحيم

فصل

[تحليلي للنظم]

اعلم أنّك لن ترى عجبا أعجب من الذي عليه الناس في أمر النظم» ، وذلك أنه ما من أحد له أدنى معرفة إلّا وهو يعلم أن هاهنا نظما أحسن من نظم ، ثم تراهم إذا أنت أردت أن تبصّرهم ذلك تسدر أعينهم (١) ، وتضلّ عنهم أفهامهم. وسبب ذلك أنهم أوّل شيء عدموا العلم به نفسه ، من حيث حسبوه شيئا غير توخّي معاني النحو ، وجعلوه يكون في الألفاظ دون المعاني. فأنت تلقي الجهد حتى تميلهم عن رأيهم ، لأنك تعالج مرضا مزمنا ، وداء متمكّنا. ثم إذا أنت قدتهم بالخزائم (٢) إلى الاعتراف بأن لا معنى له غير توخّي معاني النحو ، عرض لهم من بعد خاطر يدهشهم ، حتى يكادوا يعودون إلى رأس أمرهم. وذلك أنّهم يروننا ندّعي المزيّة والحسن لنظم كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيء يتصوّر أن يتفاضل الناس في العلم به ، ويروننا لا نستطيع أن نضع اليد من معاني النحو ووجوهه على شيء نزعم أنّ من شأن هذا أن يوجب المزيّة لكلّ كلام يكون فيه ، بل يروننا ندّعي المزيّة لكل ما ندّعيها له من معاني النحو ووجوهه وفروقه في موضع دون موضع ، وفي كلام دون كلام ، وفي الأقلّ دون الأكثر ، وفي الواحد من الألف. فإذا رأوا الأمر كذلك ، دخلتهم الشّبهة وقالوا : كيف يصير المعروف مجهولا؟ ومن أين يتصوّر أن يكون للشيء في كلام مزيّة عليه في كلام آخر ، بعد أن تكون حقيقته فيهما حقيقة واحدة؟

فإذا رأوا التنكير يكون فيما لا يحصى من المواضع ثم لا يقتضي فضلا ، ولا يوجب مزيّة ، اتّهمونا في دعوانا ما ادّعيناه لتنكير الحياة في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي

__________________

(١) سدر بصره : تحيّر.

(٢) حلق من شعر يشد بها.

٣٥٦

الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] ، من أنّ له حسنا ومزيّة ، وأنّ فيه بلاغة عجيبة ، وظنّوه وهما منّا وتخيّلا.

ولسنا نستطيع في كشف الشّبهة في هذا عنهم ، وتصوير الذي هو الحقّ عندهم ، ما استطعناه في نفس النظم ، لأنّا ملكنا في ذلك أن نضطرّهم إلى أن يعلموا صحّة ما نقول. وليس الأمر في هذا كذلك ، فليس الداء فيه بالهيّن ، ولا هو بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكان فيه مع كلّ أحد مسعفا ، والسّعي منجحا ، لأنّ المزايا التي تحتاج أن تعلمهم مكانها وتصوّر لهم شأنها ، أمور خفيّة ، ومعان روحانيّة ، أنت لا تستطيع أن تنبّه السامع لها ، وتحدث له علما بها ، حتى يكون مهيّئا لإدراكها ، تكون فيه طبيعة قابلة لها ، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساسا بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزيّة على الجملة ومن إذا تصفّح الكلام وتدبّر الشعر ، فرّق بين موقع شيء منها وشيء ، ومن إذا أنشدته قوله : [من السريع]

لي منك ما للنّاس كلّهم

نظر وتسليم على الطّرق (١)

وقول البحتريّ : [من الكامل]

وسأستقلّ لك الدّموع صبابة

ولو أنّ دجلة لي عليك دموع (٢)

وقوله : [من الطويل]

رأت فلتات الشّيب فابتسمت لها

وقالت : نجوم لو طلعن بأسعد (٣)

وقول أبي نواس : [من البسيط]

__________________

(١) البيت لشمروخ ، وهو : أبو عمارة محمد بن أحمد بن أبي مرة المكي ، وهي أبيات من معجم الشعراء (٤٣٨) ، والزهرة (١٠) ، ومصارع العشاق (١٧٤) ، غير منسوب وأبياته هي :

يا من بدائع حسن صورته

تثنى إليه أعنة الحدق

لي منك ما للناس كلهم

نظر وتسليم على الطرق

لكنهم سعدوا بأمنهم

وشقيت حين أراك بالفرق

سلموا من البلوى ولي كبد

حرى ودمعة هائم ملق

«شاكر».

(٢) البيت في الديوان (١ / ٢٨٢) يودع إبراهيم بن حسن بن سهل.

(٣) البيت في ديوانه ، وفلتات الشيب أول ما أسرع إليه من الشيب.

٣٥٧

ركب تساقوا على الأكوار بينهم

كأس الكرى ، فانتشى المسقيّ والسّاقي

كأنّ أعناقهم ، والنّوم واضعها

على المناكب ، لم تعمد بأعناق (١)

وقوله : [من الكامل]

يا صاحبيّ عصيت مصطبحا

وغدوت للّذّات مطّرحا

فتزوّدوا منّي محادثة ،

حذر العصا لم يبق لي مرحا (٢)

وقول إسماعيل بن يسار : [من السريع]

حتّى إذا الصّبح بدا ضوؤه

وغابت الجوزاء والمرزم

خرجت والوطء خفيّ كما

ينساب من مكمنه الأرقم (٣)

 ـ أنق لها ، وأخذته الأريحيّة عندها ، وعرف لطف موقع «الحذف» و «التنكير» في قوله :

نظر وتسليم على الطّرق

وما في قول البحتري : «لي عليك دموع» من شبه السّحر ، وأنّ ذلك من أجل تقديم «لي» على «عليك» ، ثم تنكير «الدّموع» وعرف كذلك شرف قوله :

وقالت : نجوم لو طلعن بأسعد

وعلوّ طبقته ، ودقّة صنعته.

والبلاء ، والدّاء العياء ، أن هذا الإحساس قليل في الناس ، حتى إنّه ليكون أن يقع للرجل الشيء من هذه الفروق والوجوه في شعر يقوله ، أو رسالة يكتبها ، الموقع

__________________

(١) البيتان في ديوانه (١٢٣) ، في آخر باب المدائح (الفصل الثالث) ، (ط) دار العرب للبستاني وهما في أربعة أبيات ينعت قوما قد سكروا من النعاس فمالت أعناقهم والبيتان بعدهما :

ساروا فلم يقطعوا عقدا لراحلة

حتى أناخوا إليكم قبل إشراق

من كل جائلة النسعين ضامرة

مشتاقة حملت أنفاس مشتاق

(٢) البيتان لأبي نواس في ديوانه (٢٤٦) ، في باب الخمريات وهما يتصدران مجموعة أبيات آخرها :

يثني العجاج على مفارقة

بمعقب لم يعد أن وقحا

ولقد حزنت فلم أمت حزنا

ولقد فرحت فلم أطر فرحا

(٣) البيتان في الأغاني (٤ / ٤٠٨ ، ٤٠٩ ، ٤١٠) ، لإسماعيل بن يسار وغنى الوليد بن يزيد في شعر لإسماعيل بن يسار فقال : من يقول هذا؟ قالوا : رجل من أهل الحجاز يقول له : إسماعيل بن يسار النسائي ، فكتب في إشخاصه إليه ، فلما دخل عليه استنشده القصيدة التي منها هذان البيتان فأنشده ، فطرب الوليد حتى نزل عن فرشه وسريره ، وأمر المغنين فغنوه الصوت وشرب عليه أقداحا ، وأمر لإسماعيل بكسوة وجائزة سنية ، وسرحه إلى المدينة.

٣٥٨

الحسن. ثم لا يعلم أنه قد أحسن. فأمّا الجهل بمكان الإساءة فلا تعدمه ، فلست تملك إذا من أمرك شيئا حتى تظفر بمن له طبع إذا قدحته وري ، وقلب إذا أريته رأى ، فأمّا وصاحبك من لا يرى ما تريه ، ولا يهتدي للذي تهديه ، فأنت رام في غير مرمى ، ومعنّ نفسك في غير جدوى ، وكما لا تقيم الشعر في نفس من لا ذوق له ، كذلك لا تفهم هذا الشأن من لم يؤت الآلة التي بها يفهم ، إلّا أنه إنما يكون البلاء إذا ظنّ العادم لها أنّه أوتيها ، وأنه ممّن يكمل للحكم ، ويصحّ منه القضاء ، فجعل يقول القول لو علم غبّه لا ستحيى منه. فأمّا الذي يحسّ بالنقص من نفسه ، ويعلم أنه قد عدم علما قد أوتيه من سواه ، فأنت منه في راحة ، وهو رجل عاقل قد حماه عقله أن يعدو طوره ، وأن يتكلّف ما ليس بأهل له.

وإذا كانت العلوم التي لها أصول معروفة ، وقوانين مضبوطة قد اشترك الناس في العلم بها ، واتّفقوا على أن البناء عليها ، إذا أخطأ فيها المخطئ ثم أعجب برأيه ، لم تستطع ردّه عن هواه ، وصرفه عن الرأي الذي رآه ، إلا بعد الجهد ، وإلا بعد أن يكون حصيفا عاقلا ثبتا إذا نبّه انتبه ، وإذا قيل : إنّ عليك بقيّة من النظر ، وقف وأصغى ، وخشي أن يكون قد غرّ ، احتاط باستماع ما يقال له ، وأنف من أن يلجّ من غير بيّنه ، ويستطيل بغير حجّة ، وكان من هذا وصفه يعزّ ويقلّ فكيف بأن تردّ الناس عن رأيهم في هذا الشأن ، وأصلك الذي تردّهم إليه ، وتعوّل في محاجّتهم عليه ، استشهاد القرائح ، وسبر النفوس وفليها ، وما يعرض فيها من الأريحيّة عند ما تسمع ، وكان ذلك الذي يفتح لك سمعهم ، ويكشف الغطاء عن أعينهم ، ويصرف إليك أوجههم ، وهم لا يضعون أنفسهم موضع من يرى الرأي ويفتي ويقضي ، إلّا وعندهم أنهم ممّن صفت قريحته ، وصحّ ذوقه ، وتمّت أداته. فإذا قلت لهم : «إنكم قد أتيتم من أنفسكم» ، ردّوا عليك مثله وقالوا : «لا ، بل قرائحنا أصحّ ، ونظرنا أصدق ، وحسّنا أذكى ، وإنّما الآفة فيكم لأنّكم خيّلتم إلى أنفسكم أمورا لا حاصل لها ، وأوهمكم الهوى والميل أن توجبوا لأحد النظمين المتساويين فضلا على الآخر ، من غير أن يكون ذلك الفضل معقولا» فتبقى في أيديهم حسيرا لا تملك غير التعجّب. فليس الكلام إذن بمغن عنك ، ولا القول بنافع ، ولا الحجّة مسموعة ، حتى تجد من فيه عون لك على نفسه ،. ومن إذا أبى عليك أبى ذاك طبعه فردّه إليك ، وفتح سمعه لك ، ورفع الحجاب بينك وبينه ، وأخذ به إلى حيث أنت ، وصرف ناظره إلى الجهة الّتي أومأت ، فاستبدل بالنّفار أنسا ، وأراك من بعد الإباء قبولا.

ولم يكن الأمر على هذه الجملة إلّا لأن ليس في أصناف العلوم الخفية ، والأمور

٣٥٩

الغامضة الدقيقة ، أعجب طريقا في الخفاء من هذا. وإنك لتتعب في الشيء نفسك ، وتكدّ فيه فكرك ، وتجهد فيه كل جهدك ، حتى إذا قلت قتلته علما ، وأحكمته فهما ، كنت بالّذي لا يزال يتراءى لك فيه من شبهة ، ويعرض فيه من شك ، كما قال أبو نواس : [من الطويل]

ألا لا أرى مثل امترائي في رسم

تغصّ به عيني ويلفظه وهمي

أتت صور الأشياء بيني وبينه

فظنّي كلا ظنّ ، وعلمي كلا علم (١)

وإنّك لتنظر في البيت دهرا طويلا وتفسّره ، ولا ترى أنّ فيه شيئا لم تعلمه ، ثم يبدو لك فيه أمر خفيّ لم تكن قد علمته ، مثال ذلك بيت المتنبي : [من الكامل]

عجبا له! حفظ العنان بأنمل

ما حفظها الأشياء من عاداتها (٢)

مضى الدهر الطويل ونحن نقرؤه فلا ننكر منه شيئا ، ولا يقع لنا أن فيه خطأ ، ثمّ بان بأخرة أنه قد أخطأ. وذلك أنه كان ينبغي أن يقول : «ما حفظ الأشياء من عاداتها» ، فيضيف المصدر إلى المفعول ، فلا يذكر الفاعل ، ذاك لأن المعنى على أنّه ينفي الحفظ عن أنامله جملة ، وأنه يزعم أنّه لا يكون منها أصلا ، وإضافته الحفظ إلى ضميرها في قوله : «ما حفظها الأشياء» ، ويقتضي أن يكون قد أثبت لها حفظا. ونظير هذا أنك تقول : «ليس الخروج في مثل هذا الوقت من عادتي» ، ولا تقول : «ليس خروجي في مثل هذا الوقت من عادتي» ، وكذلك تقول : «ليس ذمّ النّاس من شأني» ، ولا تقول : «ليس ذمّي الناس من شأني» ، لأن ذلك يوجب إثبات الذّمّ ووجوده منك. ولا يصحّ قياس المصدر في هذا على الفعل ، أعني أنه لا ينبغي أن يظنّ أنه كما يجوز أن يقال : «ما من عادتها أن تحفظ الأشياء» ، كذلك ينبغي أن يجوز : «ما من عادتها حفظها الأشياء» ، ذاك أن إضافة المصدر إلى الفاعل يقتضي

__________________

(١) البيتان في ديوانه (٣١٣) ، في باب الخمريات ، وهما في مقدمة سبعة أبيات وبعدهما :

فطب بحديث من نديم موافق

وساقية سن المراهق للحلم

إذا هي قامت والسداسي طالها

وبين النحيف الجسم والحسن الجسم

(٢) البيت في ديوانه (١ / ٢٣١) من قصيدة في مدح أبي أيوب أحمد بن عمران ومطلعها :

سرب محاسنه حرمت ذواتها

داني الصفات بعيد موصوفاتها

أوفى فكنت إذا رميت بمقلتي

بشرا رأيت أرق من عبراتها

والعنان : سير اللجام ، الأنمل : رءوس الأصابع.

٣٦٠