دلائل الإعجاز في علم المعاني

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

دلائل الإعجاز في علم المعاني

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦

جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [يس : ١٣ ـ ٢١] ، التقدير الذي قدّرناه من معنى السؤال والجواب بيّن ظاهر في ذلك كله ، ونسأل الله التوفيق للصواب ، والعصمة من الزّلل.

فصل

وإذ قد عرفت هذه الأصول والقوانين في شأن فصل الجمل ووصلها ، فاعلم أنّا قد حصلنا من ذلك على أن الجمل على ثلاثة أضرب :

جملة حالها مع التي قبلها حال الصّفة مع الموصوف والتأكيد مع المؤكد ، فلا يكون فيها العطف البتّة ، لشبه العطف فيها ، لو عطفت ، بعطف الشيء على نفسه.

وجملة حالها مع التي قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله ، إلّا أنه يشاركه في حكم ، ويدخل معه في معنى ، مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلا أو مفعولا أو مضافا إليه ، فيكون حقّها العطف.

وجملة ليست في شيء من الحالين ، بل سبيلها مع التي قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه في شيء ، فلا يكون إيّاه ولا مشاركا له في معنى ، بل هو شيء إن ذكر لم يذكر إلّا بأمر ينفرد به ، ويكون ذكر الذي قبله وترك الذكر سواء في حاله ، لعدم التعلّق بينه وبينه رأسا. وحقّ هذا ترك العطف البتة.

فترك العطف يكون إما للاتصال إلى الغاية أو الانفصال إلى الغاية ، والعطف لما هو واسطة بين الأمرين ، وكان له حال بين حالين ، فاعرفه.

فصل

هذا فن من القول خاصّ دقيق. اعلم أن مما يقلّ نظر الناس فيه من أمر «العطف» أنه قد يؤتى بالجملة فلا تعطف على ما يليها ، ولكن تعطف على جملة بينها وبين هذه التي تعطف جملة أو جملتان ، مثال ذلك قول المتنبي : [من الوافر]

١٦١

تولّوا بغتة ، فكأن بينا

تهيّبني ، ففاجأني اغتيالا

فكان مسير عيسهم ذميلا ،

وسير الدّمع إثرهم انهمالا (١)

قوله : «فكان مسير عيسهم» ، معطوف على «تولّوا بغتة» ، دون ما يليه من قوله : «ففاجأني» ، لأنا إن عطفناه على هذا الذي يليه أفسدنا المعنى ، من حيث أنه يدخل في معنى «كأنّ» ، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون مسير عيسهم حقيقة ، ويكون متوهّما ، كما كان تهيّب البين كذلك.

وهذا أصل كبير. والسبب في ذلك أن الجملة المتوسطة بين هذه المعطوفة أخيرا ، وبين المعطوف عليها الأولى ، ترتبط في معناها بتلك الأولى ، كالذي ترى أنّ قوله : «فكأنّ بينا تهيّبني» ، مرتبط بقوله : «تولوا بغتة» ، وذلك أن الثانية مسبّب والأولى سبب. ألا ترى أن المعنى : «تولوا بغتة فتوهمت أنّ بينا تهيّبني؟» ولا شك أن هذا التوهّم كان بسبب أن كان التّولّي بغتة. وإذا كان كذلك ، كانت مع الأولى كالشيء الواحد ، وكان منزلتها منها منزلة المفعول والظّرف وسائر ما يجيء بعد تمام الجملة من معمولات الفعل ، مما لا يمكن إفراده عن الجملة ، وأن يعتدّ كلاما على حدته.

وهاهنا شيء آخر دقيق ، وهو أنك إذا نظرت إلى قوله : «فكان مسير عيسهم ذميلا» ، وجدته لم يعطف هو وحده على ما عطف عليه ، ولكن تجد العطف قد تناول جملة البيت مربوطا آخره بأوّله. ألا ترى أن الغرض من هذا الكلام أن يجعل تولّيهم بغتة ، وعلى الوجه الذي توهّم من أجله أن البين تهيّبه ، مستدعيا بكاءه ، وموجبا أن ينهمل دمعه ، فلم يعنه أن يذكر ذملان العيس إلا ليذكر هملان الدمع ، وأن يوفّق بينهما.

وكذلك الحكم في الأوّل ، فنحن وإن كنا قلنا إن العطف على «تولوا بغتة» ، فإنّا لا نعني أن العطف عليه وحده مقطوعا عما بعده ، بل العطف عليه مضموما إليه ما بعده إلى آخره ، وإنما أردنا بقولنا «إن العطف عليه» ، أن نعلمك أن الأصل

__________________

(١) البيتان في ديوانه (١ / ١٨٣) من قصيدة في مدح أبي الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني ، وقبلهما :

بقائي شاء ليس هم ارتحالا

وحسن الصبر زموا لا الجمالا

تولوا : أدبروا. البغتة : الفجأة. تهيبني : هابني. اغتيال : أخذ المرء من حيث لا يدري. العيس : الإبل. انهمالا : انسكابا. الذميل : ضرب من السير سريع ..

١٦٢

والقاعدة ، وأن نصرفك عن أن تطرحه ، وتجعل العطف على ما يلي هذا الذي تعطفه ، فتزعم أن قوله : «فكان مسير عيسهم» معطوف على «فاجأني» ، فتقع في الخطأ كالذي أريناك.

فأمر العطف إذن ، موضوع على أنك تعطف تارة جملة على جملة ، وتعمد أخرى إلى جملتين أو جمل فتعطف بعضا على بعض ، ثم تعطف مجموع هذي على مجموع تلك.

وينبغي أن يجعل ما يصنع في الشرط والجزاء من هذا المعنى أصلا يعتبر به.

وذلك أنك ترى ، متى شئت ، جملتين قد عطفت إحداهما على الأخرى ، ثم جعلتا بمجموعهما شرطا ، ومثال ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [النساء : ١١٢] ، الشّرط كما لا يخفى في مجموع الجملتين لا في كل واحدة منهما على الانفراد ، ولا في واحدة دون الأخرى ، لأنّا إن قلنا أنّه في كل واحدة منهما على الانفراد ، جعلناهما شرطين ، وإذا جعلناهما شرطين اقتضتا جزاءين ، وليس معنا إلا جزاء واحد. وإن قلنا إنه في واحدة منهما دون الأخرى ، لزم منه إشراك ما ليس بشرط في الجزم بالشرط ، وذلك ما لا يخفى فساده.

ثم إنا نعلم من طريق المعنى أنّ الجزاء الذي هو احتمال البهتان والإثم المبين ، أمر يتعلق إيجابه لمجموع ما حصل من الجملتين ، فليس هو لاكتساب الخطيئة على الانفراد ، ولا لرمي البريء بالخطيئة أو الإثم على الإطلاق ، بل لرمي الإنسان البريء بخطيئة أو إثم كان من الرامي ، وكذلك الحكم أبدا. فقوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [النساء : ١٠٠] ، لم يعلّق الحكم فيه بالهجرة على الانفراد ، بل بها مقرونا إليها أن يدركه الموت عليها.

واعلم أنّ سبيل الجملتين في هذا ، وجعلهما بمجموعهما بمنزلة الجملة الواحدة ، سبيل الجزءين تعقد منهما الجملة ، ثم يجعل المجموع خبرا أو صفة أو حالا ، كقولك : «زيد قام غلامه» و «زيد أبوه كريم» و «مررت برجل أبوه كريم» و «جاءني زيد يعدو به فرسه». فكما يكون الخبر والصّفة والحال لا محالة في مجموع الجزءين لا في أحدهما ، كذلك يكون الشرط في مجموع الجملتين لا في إحداهما. وإذا علمت ذلك في الشّرط ، فاحتذه في العطف ، فإنك تجده مثله سواء.

١٦٣

ومما لا يكون العطف فيه إلّا على هذا الحدّ قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) [القصص : ٤٤ ـ ٤٥] ، لو جريت على الظاهر فجعلت كلّ جملة معطوفة على ما يليها ، منع منه المعنى. وذلك أنه يلزم منه أن يكون قوله : «وما كنت ثاويا في أهل مدين» ، معطوفا على قوله : «فتطاول عليهم العمر» ، وذلك يقتضي دخوله في معنى «لكن» ، ويصير كأنه قيل : «ولكنّك ما كنت ثاويا» ، وذلك ما لا يخفى فساده.

وإذا كان كذلك ، بان منه أنّه ينبغي أن يكون قد عطف مجموع «وما كنت ثاويا في أهل مدين» إلى «مرسلين» ، على مجموع قوله : «وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر» إلى قوله «العمر».

فإن قلت : فهلّا قدّرت أن يكون «وما كنت ثاويا في أهل مدين» معطوفا على «وما كنت من الشّاهدين» ، دون أن تزعم أنّه معطوف عليه مضموما إليه ما بعده إلى قوله «العمر»؟

قيل : لأنّا إن قدّرنا ذلك ، وجب أن ينوى به التقديم على قوله : «ولكنّا أنشأنا قرونا» وأن يكون الترتيب «وما كنت بجانب الغربيّ إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ، وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر ولكنّا كنا مرسلين» ، وفي ذلك إزالة «لكن» عن موضعها الذي ينبغي أن تكون فيه. ذاك لأن سبيل «لكن» سبيل «إلّا» ، فكما لا يجوز أن تقول : «جاءني القوم وخرج أصحابك إلّا زيدا وإلا عمرا» بجعل «إلا زيدا» استثناء «من جاءني القوم» ، و «إلا عمرا» من «خرج أصحابك» ، كذلك لا يجوز أن تصنع مثل ذلك «بلكن» فتقول : «ما جاءني زيد ، وما خرج عمرو ولكنّ بكرا حاضرا ، ولكنّ أخاك خارج» ، فإذا لم يجز ذلك ، وكان تقديرك الذي زعمت يؤدّي إليه ، وجب أن تحكم بامتناعه. فاعرفه.

هذا ، وإنما تجوز نيّة التأخير في شيء معناه يقتضي له ذلك التأخير ، مثل أن كون الاسم مفعولا ، يقتضي له أن يكون بعد الفاعل ، فإذا قدّم على الفاعل نوي به التأخير ، ومعنى «لكن» في الآية ، يقتضي أن تكون في موضعها الذي هي فيه ، فكيف يجوز أن ينوى بها التأخير عنه إلى موضع آخر؟.

١٦٤

هذه فصول شتّى في أمر «اللفظ» و «النظم» فيها فصل شحذ للبصيرة ، وزيادة كشف عمّا فيها من السريرة

فصل

وغلط النّاس في هذا الباب كثير. فمن ذلك أنّك تجد كثيرا ممن يتكلّم في شأن البلاغة ، إذا ذكر أن للعرب الفضل والمزيّة في حسن النظم والتأليف ، وأن لها في ذلك شأوا لا يبلغه الدّخلاء في كلامهم والمولّدون ، جعل يعلّل ذلك بأن يقول : «لا غرو ، فإن اللّغة لها بالطّبع ولنا بالتكلّف ، ولكن يبلغ الدّخيل في اللغات والألسنة مبلغ من نشأ عليها ، وبدئ من أوّل خلقه بها» ، وأشباه هذا مما يوهم أن المزية أتتها من جانب العلم باللّغة. وهو خطأ عظيم وغلط منكر يفضي بقائله إلى رفع الإعجاز من حيث لا يعلم. وذلك أنه لا يثبت إعجاز حتى تثبت مزايا تفوق علوم البشر ، وتقصر قوى نظرهم عنها ، ومعلومات ليس في منن (١) أفكارهم وخواطرهم أن تفضي بهم إليها ، وأن تطلعهم عليها ، وذلك محال فيما كان علما باللغة ، لأنه يؤدّي إلى أن يحدث في دلائل اللغة ما لم يتواضع عليها أهل اللغة. وذلك ما لا يخفى امتناعه على عاقل.

واعلم أنا لم نوجب المزيّة من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه فنستند إلى اللغة ، ولكنا أوجبناها للعلم بمواضعها ، وما ينبغي أن يصنع فيها ، فليس الفضل للعلم بأن «الواو» للجمع ، و «الفاء» للتعقيب بغير تراخ ، و «ثم» له بشرط التراخي ، و «إن» لكذا و «إذا» لكذا ، ولكن لأن يتأتّى لك إذا نظمت شعرا وألّفت رسالة أن تحسن التخيّر ، وأن تعرف لكلّ من ذلك موضعه.

وأمر آخر إذا تأمله الإنسان أنف من حكاية هذا القول ، فضلا عن اعتقاده ، وهو أنّ المزية لو كانت تجب من أجل اللّغة والعلم بأوضاعها وما أراده الواضع فيها ، لكان ينبغي أن لا تجب إلا بمثل الفرق بين «الفاء» و «ثم» و «إن» و «إذا» وما أشبه ذلك ، مما يعبّر عنه وضع لغويّ ، فكانت لا تجب بالفضل وترك العطف ، وبالحذف والتّكرار ، والتقديم والتأخير ، وسائر ما هو هيئة يحدثها لك التأليف ، ويقتضيها الغرض الذي تؤمّ ، والمعنى الذي تقصد ، وكان ينبغي أن لا تجب المزيّة بما يبتدئه الشاعر والخطيب في كلامه من استعارة اللّفظ للشيء لم يستعر له ، وأن لا تكون الفضيلة إلّا في استعارة قد تعورفت في كلام العرب. وكفى بذلك جهلا.

__________________

(١) المنة : بالضم القوة. القاموس «منن» (١٥٩٤).

١٦٥

ولم يكن هذا الاشتباه وهذا الغلط إلّا لأنه ليس في جملة الخفايا والمشكلات أغرب مذهبا في الغموض ، ولا أعجب شأنا ، من هذه التي نحن بصددها ، ولا أكثر تفلّتا من الفهم وانسلالا منها ، وأنّ الذي قاله العلماء والبلغاء في صفتها والإخبار عنها ، رموز لا يفهمهما إلا من هو في مثل حالهم من لطف الطبع ، ومن هو مهيّأ لفهم تلك الإشارات ، حتى كأنّ تلك الطباع اللطيفة وتلك القرائح والأذهان ، قد تواضعت فيما بينها على ما سبيله سبيل الترجمة يتواطأ عليها قوم فلا تعدوهم ، ولا يعرفها من ليس منهم.

وليت شعري من أين لمن لم يتعب في هذا الشأن ، ولم يمارسه ، ولم يوفّر عنايته عليه ، أن ينظر إلى قول الجاحظ وهو يذكر إعجاز القرآن :

«ولو أنّ رجلا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة قصيرة أو طويلة ، لتبيّن له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها ، أنه عاجز عن مثلها ، ولو تحدّي بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها» (١).

وقوله وهو يذكر رواة الأخبار :

«ورأيت عامّتهم ، فقد طالت مشاهدتي لهم ، وهم لا يقفون على الألفاظ المتخيّرة ، والمعاني المنتخبة ، والمخارج السهلة ، والدّيباجة الكريمة ، وعلى الطبع المتمكّن ، وعلى السّبك الجيد ، وعلى كل كلام له ماء ورونق» (٢).

وقوله في بيت الحطيئة : [من الطويل]

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

«وما كان ينبغي أن يمدح بهذا البيت إلّا من هو خير أهل الأرض ، على أني لم أعجب بمعناه أكثر من عجبي بلفظه ، وطبعه ، ونحته ، وسبكه ، فيفهم منه شيئا أو يقف للطابع والنّظام والنّحت والسّبك والمخارج السّهلة ، على معنى ، أو يحلى منه بشيء ، وكيف بأن يعرفه؟ ولربما خفي على كثير من أهله».

واعلم أنّ الداء الدّويّ (٣) ، والذي أعيى أمره في هذا الباب ، غلط من قدّم الشعر بمعناه ، وأقل الاحتفال باللفظ ، وجعل لا يعطيه من المزيّة إن هو أعطى إلّا ما فضل عن المعنى يقول : «ما في اللفظ لو لا المعنى؟ وهل الكلام إلا بمعناه؟». فأنت تراه لا

__________________

(١) وهو في كتابه «حجج النبوة» (رسائل الجاحظ ٣ / ٢٢٩).

(٢) المقصود عامة رواة الأخبار والعبارة من البيان والتبيين (٤ / ٤٢).

(٣) الداء الدوي : أي اللازم مكانه «القاموس : دوى» (١٦٥٦).

١٦٦

يقدّم شعرا حتى يكون قد أودع حكمة وأدبا ، واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر ، فإن مال إلى اللفظ شيئا ، ورأى أن ينحله بعض الفضيلة ، لم يعرف غير «الاستعارة» ، ثم لا ينظر في حال تلك «الاستعارة» أحسنت بمجرّد كونها استعارة ، أم من أجل فرق ووجه أم للأمرين؟ لا يحفل بهذا وشبهه ، قد قنع بظواهر الأمور ، وبالجمل ، بأن يكون كمن يجلب المتاع للبيع ، وإنّما همّه أن يروّج عنه. يرى أنّه إذا تكلم في الأخذ والسرقة ، وأحسن أن يقول : «أخذه من فلان ، وألمّ فيه بقول كذا» ، فقد استكمل الفضل ، وبلغ أقصى ما يراد.

واعلم أنّا وإن كنا إذا اتّبعنا العرف والعادة وما يهجس في الضمير وما عليه العامّة ، أرانا ذلك أن الصّواب معهم ، وأنّ التعويل ينبغي أن يكون على المعنى ، وأنه الذي لا يسوغ القول بخلافه ، فإنّ الأمر بالضدّ إذا جئنا إلى الحقائق ، وإلى ما عليه المحصّلون ، لأنّا لا نرى متقدّما في علم البلاغة ، مبرّزا في شأوها ، إلّا وهو ينكر هذا الرأي ويعيبه ، ويزري على القائل به ويغضّ منه.

ومن ذلك ما روي عن البحتري. روي أنّ عبيد الله بن عبد الله بن طاهر سأله عن مسلم وأبي نواس : أيّهما أشعر؟ فقال : أبو نواس. فقال : إن أبا العباس ثعلبا لا يوافقك على هذا. فقال : ليس هذا من شأن ثعلب وذويه ، من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله ، إنّما يعلم ذلك من دفع في مسلك طريق الشعر إلى مضايقه وانتهى إلى ضروراته.

وعن بعضهم أنه قال : رآني البحتري ومعي دفتر شعر فقال : ما هذا؟ فقلت : شعر الشّنفرى. فقال : وإلى أين تمضي؟ فقلت : إلى أبي العباس أقرؤه عليه. فقال : قد رأيت أبا عبّاسكم هذا منذ أيام عند ابن ثوابة فما رأيته ناقدا للشعر ولا مميّزا للألفاظ ، ورأيته يستجيد شيئا وينشده ، وما هو بأفضل الشعر. فقلت له : أمّا نقده وتمييزه فهذه صناعة أخرى ، ولكنه أعرف الناس بإعرابه وغريبه ، فما كان ينشد؟ قال قول الحارث بن وعلة : [من الكامل]

قومي هم قتلوا أميم ، أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

فلئن عفوت لأعفون جللا ،

ولئن سطوت لأوهنن عظمي (١)

__________________

(١) البيتان للحارث بن وعلة الجرمي ، وهما في مفتاح العلوم (٢٨١) ، والإيضاح (٥١) ، والدرر (٥ / ١٢٣) ، وسمط اللآلي (٣٠٥ ، ٥٨٤) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (٣٠٤) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٦٣) ، وشرح الحماسة للتبريزي (١ / ١٠٧) ، والمؤتلف والمختلف للآمدي (١٩٧). وأميم : منادى مرخم أميمة ، وكانت تحضه على الأخذ بثأر أخيه ممن قتله من قومه.

١٦٧

فقلت : والله ما أنشد إلّا أحسن شعر في أحسن معنى ولفظ. فقال : أين الشعر الّذي فيه عروق الذهب؟ فقلت : مثل ما ذا؟ فقال : مثل قول أبي ذؤاب : [من الكامل]

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب

بأشدّهم كلبا على أعدائه

وأعزّهم فقدا على الأصحاب (١)

 ـ وفي مثل هذا قال الشّاعر : [من الطويل]

زوامل للأشعار لا علم عندهم

بجيّدها إلّا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري البعير إذا غدا

بأوساقه أو راح ما في الغرائر (٢)

وقال الآخر (٣) : [من الخفيف]

يا أبا جعفر تحكّم في الشّع

ر وما فيك آلة الحكّام

إنّ نقد الدّينار إلّا على الصّي

رف صعب ، فكيف نقد الكلام

قد رأيناك لست تفرق في الأش

عار بين الأرواح والأجسام

واعلم أنّهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدبا وحكمة وكان غريبا نادرا ، فهو أشرف مما ليس كذلك ، بل عابوه من حيث كان من حكم من قضى في جنس من الأجناس بفضل أو نقص ، أن لا يعتبر في قضيّته تلك إلا الأوصاف التي تخصّ ذلك الجنس وترجع إلى حقيقته ، وأن لا ينظر فيها إلى جنس آخر ، وإن كان من الأول بسبيل ، أو متّصلا به اتصال ما لا ينفكّ منه.

ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصّياغة ، وأنّ سبيل المعنى الذي يعبّر عنه سبيل الشيء الذي يقع التّصوير والصوغ فيه ، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار. فكما أن محالا إذا أنت أردت النّظر في صوغ الخاتم ، وفي جودة العمل ورداءته ، أن تنظر إلى الفضّة الحاملة لتلك الصورة ، أو الذهب الذي وقع فيه

__________________

(١) البيتان لربيعة بن سعد ، وقيل : لداود بن ربيعة الأسدي ، انظر الإشارات (٢٨٨) ، والبيت الأول في الإيضاح (٣٣٢).

(٢) الشعر لمروان بن أبي حفصة. الزوامل : جمع زاملة وهو البعير يحمل عليه الرجل زاده ومتاعه. والأوساق جمع وسق : الحمل ، الغرائر : جمع غرارة ، وهي الجوالق ، الكامل للمبرد (٢ / ٩٠) ، واللسان (زمل).

(٣) اختلف المؤرخون في اسمه ففي مقدمة ديوان أبي نواس اسمه أحمد بن يحيى بن علي ، في (المصون : ١٢) هو يحيى بن علي أبو أحمد ... والأبيات موجودة في المصون (١٢ ـ ١٣) وفي وفيات الأعيان (٢ / ٢٠).

١٦٨

ذلك العمل وتلك الصنعة ، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزيّة في الكلام ، أن تنظر في مجرّد معناه ، وكما أنّا لو فضّلنا خاتما على خاتم ، بأن تكون فضّة هذا أجود ، أو فصّه أنفس ، لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم ، كذلك ينبغي إذا فضّلنا بيتا على بيت من أجل معناه ، أن لا يكون تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام. وهذا قاطع ، فاعرفه.

واعلم أنك لست تنظر في كتاب صنّف في شأن البلاغة ، وكلام جاء عن القدماء ، إلا وجدته يدلّ على فساد هذا المذهب ، ورأيتهم يتشدّدون في إنكاره وعيبه والعيب به.

وإذا نظرت في كتب الجاحظ وجدته يبلغ في ذلك كل مبلغ ، ويتشدّد غاية التشدد ، وقد انتهى في ذلك إلى أن جعل العلم بالمعاني مشتركا ، وسوّى فيه بين الخاصّة والعامّة فقال (١) : «ورأيت ناسا يبهرجون أشعار المولدين ، ويستسقطون من رواها ، ولم أر ذلك قطّ إلا في راوية غير بصير بجوهر ما يروي ، وو لو كان له بصر لعرف موضع الجيّد ممن كان ، وفي أي زمان كان. وأنا سمعت أبا عمرو الشّيباني ، وقد بلغ من استجادته لهذين البيتين ونحن في المسجد الجامع يوم الجمعة ، أن كلّف رجلا حتّى أحضره قرطاسا ودواة حتى كتبهما. قال الجاحظ : وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعرا أبدا ، ولو لا أن أدخل في الحكومة بعض الغيب ، لزعمت أن ابنه لا يقول الشعر أيضا ، وهما قوله : [من السريع]

لا تحسبنّ الموت موت البلى

وإنّما الموت سؤال الرّجال

كلاهما موت ، ولكنّ ذا

أشدّ من ذاك على كلّ حال

ثم قال : «وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني ، والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجميّ والعربيّ ، والقرويّ والبدويّ ، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللّفظ ، وسهولة المخرج ، وصحّة الطبع ، وكثرة الماء ، وجودة السّبك ، وإنّما الشعر صياغة وضرب من التصوير».

فقد تراه كيف أسقط أمر المعاني ، وأبى أن يجب لها فضل : «وهي مطروحة في الطريق» ، ثم قال : «وأنا أزعم أن ابن صاحب هذين البيتين لا يقول شعرا أبدا» ، فأعلمك أنّ فضل الشعر بلفظه لا بمعناه ، وأنه إذا عدم الحسن في لفظه ونظمه ، لم يستحقّ هذا الاسم بالحقيقة. وأعاد طرفا من هذا الحديث في البيان» فقال (٢) :

__________________

(١) المقطع من كتاب الحيوان ٣ / ١٣١ ويأتي بعدهما البيتان.

(٢) انظر كتاب البيان والتبيين للجاحظ (٤ / ٢٤).

١٦٩

«ولقد رأيت أبا عمرو الشيبانيّ يكتتب أشعارا من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التّحفظ والتذكّر ، وربما خيّل إليّ أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبدا أن يقولوا شعرا جيّدا ، لمكان أعراقهم من أولئك الآباء» ، ثم قال : «ولو لا أن أكون عيّابا ، ثم للعلماء خاصّة ، لصوّرت لك بعض ما سمعت من أبي عبيدة ، ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة».

واعلم أنهم لم يبلغوا في إنكار هذا المذهب ما بلغوه إلّا لأنّ الخطأ فيه عظيم ، وأنه يفضي بصاحبه إلى أن ينكر الإعجاز ويبطل التّحدّي من حيث لا يشعر. وذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه ، من أن لا يجب فضل ومزيّة إلا من جانب المعنى ، وحتى يكون قد قال حكمة أو أدبا ، واستخرج معنى غريبا أو تشبيها نادرا ، فقد وجب اطّراح جميع ما قاله الناس في الفصاحة والبلاغة ، وفي شأن النظم والتأليف ، وبطل أن يجب بالنظم فضل ، وأن تدخله المزيّة ، وأن تتفاوت فيه المنازل.

وإذا بطل ذلك ، فقد بطل أن يكون في الكلام معجز ، وصار الأمر إلى ما يقوله اليهود ومن قال بمثل مقالهم في هذا الباب ، ودخل في مثل تلك الجهالات ، ونعوذ بالله من العمى بعد الإبصار.

فصل

لا يكون لإحدى العبارتين مزيّة على الأخرى ، حتّى يكون لها في المعنى تأثير لا يكون لصاحبتها.

فإن قلت : فإذا أفادت هذه ما لا تفيد تلك ، فليستا عبارتين عن معنى واحد ، بل هما عبارتان عن معنيين اثنين.

قيل لك : إن قولنا «المعنى» في مثل هذا ، يراد به الغرض ، والذي أراد المتكلم أن يثبته أو ينفيه ، نحو أن تقصد تشبيه الرجل بالأسد فتقول «زيد كالأسد» ، ثم تريد هذا المعنى بعينه فتقول : «كأنّ زيدا الأسد» ، فتفيد تشبيه أيضا بالأسد ، إلّا أنك تزيد في معنى تشبيهه به زيادة لم تكن في الأوّل ، وهي أن تجعله من فرط شجاعته وقوة قلبه ، وأنه لا يروعه شيء ، بحيث لا يتميز عن الأسد ، ولا يقصّر عنه ، حتى يتوهّم أنّه أسد في صورة آدميّ.

وإذا كان هذا كذلك ، فانظر هل كانت هذه الزيادة وهذا الفرق إلا بما توخّي في نظم اللفظ وترتيبه ، حيث قدّم «الكاف» إلى صدر الكلام وركّبت مع «أن»؟ وإذا

١٧٠

لم يكن إلى الشك سبيل أن ذلك كان بالنّظم ، فاجعله العبرة في الكلام كلّه ، ورض نفسك على تفهّم ذلك وتتبّعه ، واجعل فيها أنك تزاول منه أمرا عظيما لا يقادر قدره ، وتدخل في بحر عميق لا يدرك قعره.

فصل

هو فنّ آخر يرجع إلى هذا الكلام

قد علم أنّ المعارض للكلام معارض له من الجهة التي منها يوصف بأنه فصيح وبليغ ، ومتخيّر اللفظ جيّد السّبك ، ونحو ذلك من الأوصاف التي نسبوها إلى اللفظ. وإذا كان هذا هكذا ، فبنا أن ننظر فيما إذا أتي به كان معارضا ما هو؟ أهو أن يجيء بلفظ فيضعه مكان لفظ آخر ، نحو أن يقول بدل «أسد» «ليث» ، وبدل «بعد» «نأى» ، ومكان «قرب» «دنا» ، أم ذلك ما لا يذهب إليه عاقل ولا يقوله من به طرق (١)؟ كيف؟ ولو كان ذلك معارضة لكان الناس لا يفصلون بين الترجمة والمعارضة ، ولكان كل من فسّر كلاما معارضا له. وإذا بطل أن يكون جهة للمعارضة ، وأن يكون الواضع نفسه في هذه المنزلة معارضا على وجه من الوجوه ، علمت أن الفصاحة والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني ، وإلى ما يدلّ عليه بالألفاظ ، دون الألفاظ أنفسها ، لأنه إذا لم يكن في القسمة إلّا المعاني والألفاظ ، وكان لا يعقل تعارض في الألفاظ المجرّدة ، إلّا ما ذكرت ، لم يبق إلا أن تكون المعارضة معارضة من جهة إلى معاني الكلام المعقولة ، دون ألفاظه المسموعة. وإذا عادت المعارضة إلى جهة المعنى ، وكان الكلام يعارض من حيث هو فصيح وبليغ ومتخيّر اللفظ ، حصل من ذلك أنّ «الفصاحة» و «البلاغة» و «تخيّر اللفظ» عبارة عن خصائص ووجوه تكون معاني الكلام عليها ، وعن زيادات تحدث في أصول المعاني ، كالذي أريتك فيما بين «زيد كالأسد» و «كأن زيدا الأسد» ، وبأن لا نصيب للألفاظ من حيث هي ألفاظ فيها بوجه من الوجوه.

واعلم أنك لا تشفي العلّة ولا تنتهي إلى ثلج اليقين ، حتى تتجاوز حدّ العلم بالشيء مجملا ، إلى العلم به مفصّلا ، وحتى لا يقنعك إلّا النّظر في زواياه ، والتغلغل في مكامنه ، وحتى تكون كمن تتبّع الماء حتى عرف منبعه ، وانتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنع فيه إلى أن يعرف منبته ، ومجرى عروق الشّجر الذي هو منه.

__________________

(١) طرق بكسر الطاء القوة. القاموس / طرق / (١١٦٦).

١٧١

وإنا لنراهم يقيسون الكلام في معنى المعارضة على الأعمال الصناعية ، كنسج الدّيباج وصوغ الشّنف (١) والسوار وأنواع ما يصاغ ، وكلّ ما هو صنعة وعمل يد ، بعد أن يبلغ مبلغا يقع التفاضل فيه ، ثم يعظم حتى يزيد فيه الصانع على الصانع زيادة يكون له بها صيت ، ويدخل في حدّ ما يعجز عنه الأكثرون.

وهذا القياس ، وإن كان قياسا ظاهرا معلوما ، وكالشيء المركوز في الطّباع ، حتى ترى العامّة فيه كالخاصّة ، فإنّ فيه أمرا يجب العلم به : وهو أنه يتصوّر أن يبدأ هذا فيعمل ديباجا ويبدع في نقشه وتصويره ، فيجيء آخر ويعمل ديباجا آخر مثله في نقشه وهيئته وجملة صفته ، حتى لا يفصل الرائي بينهما ، ولا يقع لمن لم يعرف القصّة ولم يخبر الحال إلّا أنّهما صنعة رجل واحد ، وخارجان من تحت يد واحدة. وهكذا الحكم في سائر المصنوعات كالسّوار يصوغه هذا ، ويجيء ذاك فيعمل سوارا مثله ، ويؤدّي صفته كما هي ، حتى لا يغادر منها شيئا البتّة.

وليس يتصوّر مثل ذلك في الكلام ، لأنه لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيت من الشّعر ، أو فصل من النثر ، فتؤدّيه بعينه وعلى خاصّيته وصفته بعبارة أخرى ، حتى يكون المفهوم من هذه هو المفهوم من تلك ، لا يخالفه في صفة ولا وجه ولا أمر من الأمور. ولا يغرّنّك قول الناس : «قد أتى بالمعنى بعينه ، وأخذ معنى كلامه فأدّاه على وجه» ، فإنه تسامح منهم ، والمراد أنه أدّى الغرض ، فأمّا أن يؤدي المعنى بعينه على الوجه الذي يكون عليه في كلام الأوّل ، حتى لا تعقل هاهنا إلا ما عقلته هناك ، وحتى يكون حالهما في نفسك حال الصّورتين المشتبهتين في عينك كالسوارين والشّنفين ، في غاية الإحالة ، وظنّ يفضي بصاحبه إلى جهالة عظيمة ، وهي أن تكون الألفاظ مختلفة المعاني إذا فرّقت ، ومتّفقتها إذا جمعت وألّف منها كلام. وذلك أن ليس كلامنا فيما يفهم من لفظتين مفردتين نحو «قعد» و «جلس» ، ولكن فيما فهم من مجموع كلام ومجموع كلام آخر ، نحو أن تنظر في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] ، وقول الناس : «قتل البعض إحياء للجميع» ، فإنّه وإن كان قد جرت عادة الناس بأن يقولوا في مثل هذا : «إنهما عبارتان معبّرهما واحد» ، فليس هذا القول قولا يمكن الأخذ بظاهره ، أو يقع لعاقل شكّ أن ليس المفهوم من أحد الكلامين المفهوم من الآخر.

__________________

(١) الشنف : القرط الأعلى أو معلاق في قوف الأذن أي : أعلى الأذن. القاموس / شنف / (١٠٦٧).

١٧٢

فصل

الكلام على ضربين : ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللّفظ وحده ، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن «زيد» مثلا بالخروج على الحقيقة ، فقلت : «خرج زيد» ، وبالانطلاق عن «عمرو» فقلت : «عمرو منطلق» ، وعلى هذا القياس ـ ضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ، ولكن يدلّك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض. ومدار هذا الأمر على «الكناية» و «الاستعارة» و «التّمثيل» ، وقد مضت الأمثلة فيها مشروحة مستقصاة. أو لا ترى أنك إذا قلت : «هو كثير رماد القدر» ، أو قلت : «طويل النجاد» ، أو قلت في المرأة : «نؤوم الضحى» ، فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرّد اللفظ ، ولكن يدل اللّفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره ، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى ، على سبيل الاستدلال ، معنى ثانيا هو غرضك ، كمعرفتك من «كثير رماد القدر» أنه مضياف ، ومن «طويل النجاد» أنّه طويل القامة ، ومن «نؤوم الضحى» في المرأة أنها مترفة مخدومة ، لها من يكفيها أمرها.

وكذا إذا قال : «رأيت أسدا» ، ودلّك الحال على أنّه لم يرد السبع ، علمت أنه أراد التشبيه ، إلا أنه بالغ فجعل الذي رآه بحيث لا يتميّز عن الأسد في شجاعته.

وكذلك تعلم من قوله : «بلغني أنك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى» ، أنّه أراد التردد في أمر البيعة واختلاف العزم في الفعل وتركه ، على ما مضى الشرح فيه.

وإذ قد عرفت هذه الجملة ، فهاهنا عبارة مختصرة وهي أن تقول : «المعنى» ، و «معنى المعنى» ، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والّذي تصل إليه بغير واسطة ، و «بمعنى المعنى» ، أن تعقل من اللّفظ معنى ، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر ، كالذي فسّرت لك.

وإذ قد عرفت ذلك ، فإذا رأيتهم يجعلون الألفاظ زينة للمعاني وحلية عليها ، أو يجعلون المعاني كالجواري ، والألفاظ كالمعارض (١) لها ، وكالوشي المحبّر (٢) واللّباس الفاخر والكسوة الرّائقة ، إلى أشباه ذلك مما يفخّمون به أمر اللفظ ، ويجعلون المعنى ينبل به ويشرف ، فاعلم (٣) أنه يصفون كلاما قد أعطاك المتكلم أغراضه فيه من طريق

__________________

(١) مفردها المعرض بفتح الراء وهو ثوب تجلى به الجارية يوم العرس.

(٢) المحبّر : الثوب الجديد «القاموس : / حبر / (٤٧٣)

(٣) قوله فاعلم : جواب للشرط وهو قوله : «فإذا رأيتهم يجعلون الألفاظ».

١٧٣

معنى المعنى ، فكنى وعرّض ، ومثّل واستعار ، ثم أحسن في ذلك كله وأصاب ، ووضع كل شيء منه في موضعه ، وأصاب به شاكلته ، وعمد فيما كنى به وشبّه ومثّل ، لما حسن مأخذه ، ودقّ مسلكه ، ولطفت إشارته ، وأن المعرض وما في معناه ، ليس هو اللفظ المنطوق به ، ولكن معنى اللفظ الذي دللت به على المعنى الثاني ، كمعنى قوله : [من الوافر]

فإنّي ، جبان الكلب مهزول الفصيل

الذي هو دليل على أنه مضياف ، فالمعاني الأول المفهومة من أنفس الألفاظ هي المعارض والوشي والحلي وأشباه ذلك ، والمعاني الثواني التي يومأ إليها بتلك المعاني ، هي التي تكسى تلك المعارض ، وتزيّن بذلك الوشي والحلي.

وكذلك إذا جعلوا المعنى يتصوّر من أجل اللفظ بصورة ، ويبدو في هيئة ، ويتشكّل بشكل يرجع المعنى في ذلك كلّه إلى الدّلالات المعنوية ، ولا يصلح شيء منه حيث الكلام على ظاهره ، وحيث لا يكون كناية ولا تمثيل ولا استعارة ، ولا استعانة في الجملة بمعنى على معنى ، وتكون الدلالة على الغرض من مجرّد اللفظ ، فلو أن قائلا قال : «رأيت الأسد» ، وقال آخر : «لقيت اللّيث» ، لم يجز أن يقال في الثاني أنه صوّر المعنى في غير صورته الأولى ، ولا أن يقال أبرزه في معرض سوى معرضه ، ولا شيئا من هذا الجنس.

وجملة الأمر أن صور المعاني لا تتغيّر بنقلها من لفظ إلى لفظ ، حتى يكون هناك اتساع ومجاز ، وحتى لا يراد من الألفاظ ظواهر ما وضعت له في اللغة ، ولكن يشار بمعانيها إلى معان أخر.

واعلم أن هذا كذلك ما دام النظم واحدا ، فأمّا إذا تغير النظم فلا بدّ حينئذ من أن يتغير المعنى ، على ما مضى من البيان في «مسائل التقديم والتأخير» ، وعلى ما رأيت في المسألة التي مضت الآن ، أعني قولك : «إن زيدا كالأسد» ، و «كأنّ زيدا الأسد» ، ذاك لأنه لم يتغير من اللّفظ شيء ، وإنما تغيّر النظم فقط. وأما فتحك «إن» عند تقديم الكاف وكانت مكسورة فلا اعتداد بها ، لأن معنى الكسر باق بحاله.

واعلم أنّ السبب في أن أحالوا في أشباه هذه المحاسن التي ذكرتها لك على اللفظ ، أنّها ليست بأنفس المعاني ، بل هي زيادات فيها وخصائص. ألا ترى أن ليست المزية التي تجدها لقولك : «كأنّ زيدا الأسد» على قولك «زيد كالأسد» ، لشيء خارج عن التشبيه الذي هو أصل المعنى ، وإنما هو زيادة فيه وفي حكم

١٧٤

الخصوصيّة في الشكل ، نحو أن يصاغ خاتم على وجه ، وآخر على وجه آخر ، تجمعهما صورة الخاتم ، ويفترقان بخاصّة وشيء يعلم ، إلّا أنه لا يعلم منفردا.

ولما كان الأمر كذلك ، لم يمكنهم أن يطلقوا اسم المعاني على هذه الخصائص ، إذ كان لا يفترق الحال حينئذ بين أصل المعنى ، وبين ما هو زيادة في المعنى وكيفية له وخصوصية فيه. فلما امتنع ذلك توصّلوا إلى الدّلالة عليها بأن وصفوا اللّفظ في ذلك بأوصاف يعلم أنها لا تكون أوصافا له من حيث هو لفظ ، كنحو وصفهم له بأنه لفظ شريف ، وأنه قد زان المعنى ، وأنّ له ديباجة ، وأن عليه طلاوة ، وأن المعنى منه في مثل الوشي ، وأنه عليه كالحلي ، إلى أشباه ذلك مما يعلم ضرورة أنه يعنى بمثله الصوت والحرف. ثم إنّه لمّا جرت به العادة واستمرّ عليه العرف ، وصار الناس يقولون اللفظ واللفظ ، لزّ (١) من ذلك بأنفس أقوام باب من الفساد ، وخامرهم منه شيء لست أحسن وصفه.

فصل

[من دلالة المعنى على المعنى]

ومن الصفات التي تجدهم يجرونها على «اللفظ» ، ثم لا تعترضك شبهة ولا يكون منك توقّف في أنها ليست له ، ولكن لمعناه ، قولهم : «لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ، ولفظه معناه ، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك» ، وقولهم : «يدخل في الأذن بلا إذن» ، فهذا مما لا يشكّ العاقل في أنه يرجع إلى دلالة المعنى على المعنى ، وأنّه لا يتصوّر أن يراد به دلالة اللفظ على معناه الذي وضع له في اللغة.

ذاك لأنه لا يخلو السامع من أن يكون عالما باللغة وبمعاني الألفاظ التي يسمعها ، أو يكون جاهلا بذلك .. فإن كان عالما لم يتصوّر أن يتفاوت حال الألفاظ معه ، فيكون معنى لفظ أسرع إلى قلبه من معنى لفظ آخر ، وإن كان جاهلا كان ذلك في وصفه أبعد.

وجملة الأمر أنّه إنّما يتصوّر أن يكون لمعنى أسرع فهما منه لمعنى آخر ، إذا كان ذلك مما يدرك بالفكر ، وإذا كان مما يتجدّد له العلم به عند سمعه للكلام. وذلك محال في دلالات الألفاظ اللغوية ، لأنّ طريق معرفتها التوقيف ، والتقدّم بالتعريف.

__________________

(١) لزّ ولززا : شده وألصقه واللز لزوق الشيء بالشيء. القاموس / لزز / ٦٧٣.

١٧٥

وإذا كان ذلك كذلك ، علم علم الضرورة أن مصرف ذلك إلى دلالات المعاني على المعاني ، وأنهم أرادوا أنّ من شرط البلاغة أن يكون المعنى الأوّل الذي تجعله دليلا على المعنى الثاني ووسيطا بينك وبينه ، متمكّنا في دلالته ، مستقلّا بوساطته ، يسفر بينك وبينه أحسن سفارة ، ويشير لك إليه أبين إشارة ، حتى يخيّل إليك أنك فهمته من حاقّ (١) اللفظ ، وذلك لقلة الكلفة فيه عليك ، وسرعة وصوله إليك ، فكان من «الكناية» مثل قوله : [من المنسرح]

لا أمتع العوذ بالفصال ، ولا

أبتاع إلّا قريبة الأجل (٢)

ومن «الاستعارة» مثل قوله : [من الطويل]

وصدر أراح الليل عازب همّه ،

تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب (٣)

ومن «التمثيل» مثل قوله : [من المديد]

لا أذود الطّير عن شجر

قد بلوت المرّ من ثمره (٤)

إن أردت أن تعرف ما حاله بالضدّ من هذا ، فكان منقوص القوّة في تأدية ما أريد منه ، لأنه يعترضه ما يمنعه أن يقضي حق السّفارة فيما بينك وبين معناك ، ويوضح تمام الإيضاح عن مغزاك ، فانظر إلى قول العباس بن الأحنف : [من الطويل]

سأطلب بعد الدّار عنكم لتقربوا

وتسكب عيناي الدّموع لتجمدا (٥)

__________________

(١) حاقّه : أي وسطه وحاق الجوع : صادقه. القاموس / حقق / (١١٢٩).

(٢) العوذ : جمع عائذ وهي التي مر على ولادتها عشرة أيام أو خمسة عشر يوما ، والفصال : جمع فصيل ، وهو ولد الناقة ، والبيت لإبراهيم بن هرمة الشاعر المعروف ، ومعناه : أنه لا يمتع الأمهات من الإبل بأبنائها بل يذبحها ، ولا يشتري منها إلا قريبة الأجل.

(٣) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه (٢٩) ، من قصيدة : كليني لهم يا أميمة ، وقبله :

كليني لهم ، يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب

تطاول حتى قلت ليس بمنقض

وليس الذي يرعى النجوم بآيب

ومعنى البيت : أن الليل الطويل جدد همومه وأعادها بعد أن كادت أن تزول.

(٤) البيت لأبي نواس في ديوانه (٦٤) ، من قصيدة في مدح العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور وقبله :

أيها المنتاب من عفره

لست من ليلى ولا سمره

والمعنى : أي لا أشفق على من ذممت صحبته ولا أمنع غيري من إنسان قد بلوته فلم أجد عنده خيرا ، كما أن ثمر الشجر إذا كان مرّا لم يطرد عنه الطير ولم يبل به.

(٥) البيت في ديوانه (١٠٦) طبعة دار الكتب العلمية ، والإيضاح (٧) ، والإشارات والتنبيهات (١٢).

١٧٦

بدأ فدلّ بسكب الدموع على ما يوجبه الفراق من الحزن والكمد ، فأحسن وأصاب ، لأن من شأن البكاء أبدا أن يكون أمارة للحزن ، وأن يجعل دلالة عليه وكناية عنه ، كقولهم : «أبكاني وأضحكني» ، على معنى «ساءني وسرّني» ، وكما قال : [من السريع]

أبكاني الدّهر ، ويا ربّما

أضحكني الدّهر بما يرضي (١)

ثم ساق هذا القياس إلى نقيضه ، فالتمس أن يدل على ما يوجبه دوام التلاقي من السرور بقوله : «لتجمدا» ، وظنّ أن الجمود يبلغ له في إفادة المسرّة والسلامة من الحزن ، ما بلغ سكب الدمع في الدلالة على الكآبة والوقوع في الحزن ونظر إلى أنّ الجمود خلوّ العين من البكاء وانتفاء الدموع عنها ، وأنه إذا قال «لتجمدا» ، فكأنه قال : «أحزن اليوم لئلّا أحزن غدا ، وتبكي عيناي جهدهما لئلا تبكيا أبدا» ، وغلط فيما ظنّ. وذاك أن الجمود هو أن لا تبكي العين ، مع أن الحال حال بكاء ، ومع أن العين يراد منها أن تبكي ، ويستراب في أن لا تبكي ، ولذلك لا ترى أحدا يذكر عينه بالجمود إلا وهو يشكوها ويذمّها وينسبها إلى البخل ، ويعدّ امتناعها من البكاء تركا لمعونة صاحبها على ما به من الهمّ ، ألا ترى إلى قوله : [من الطويل]

ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط

عليك بجاري دمعها لجمود (٢)

فأتى بالجمود تأكيدا لنفي الجود ، ومحال أن يجعلها لا تجود بالبكاء وليس هناك التماس بكاء ، لأنّ الجود والبخل يقتضيان مطلوبا يبذل أو يمنع ، ولو كان الجمود يصلح لأن يراد به السلامة من البكاء ، ويصحّ أن يدلّ به على أن الحال حال مسرة وحبور ، لجاز أن يدعى به للرجل فيقال : «لا زالت عينك جامدة» ، كما يقال : «لا أبكى الله عينك» ، وذاك مما لا يشكّ في بطلانه.

وعلى ذلك قول أهل اللغة : «عين جمود ، لا ماء فيها ، وسنة جماد ، لا مطر فيها ، وناقة جماد ، لا لبن فيها» ، وكما لا تجعل السّنة والنّاقة جمادا إلّا على معنى أنّ السّنة بخيلة بالقطر ، والنّاقة لا تسخو بالدّرّ (٣) ، كذلك حكم العين لا تجعل «جمودا»

__________________

(١) البيت لحطان بن المعلى ، وانظره في الإيضاح (٧) تحقيق د. هنداوي ، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي (١ / ١٥٢) ، وقد كنى الشاعر فيه بإبكاء الدهر له عن إساءته ، وبإضحاكه له عن سروره.

(٢) البيت لأبي عطاء السندي في رثاء ابن هبيرة عند ما قتله المنصور يوم واسط بعد أن أمّنه ، وو واسط مدينة بالعراق بناها الحجاج بن يوسف الثقفي ، وقد كنى فيه الشاعر بجمود العين عن بخلها بالدمع في الوقت الذي يجب فيه أن تدمع ، انظر البيت في شرح الحماسة للتبريزي (٢ / ١٥١) ، والإشارات والتنبيهات (١٢) ، والإيضاح (٨).

(٣) الدر : اللبن. القاموس / درر / (٥٠٠).

١٧٧

إلّا وهناك ما يقتضي إرادة البكاء منها ، ما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأن قد جادت وسخت ، وإذا لم تبك ، مسيئة موصوفة بأن قد ضنّت وبخلت.

فإن قيل : إنه أراد أن يقول : «إنّ اليوم أتجرّع غصص الفراق ، وأحمل نفسي على مرّه ، وأحتمل ما يؤدّيني إليه من حزن يفيض الدموع من عيني ويسكبها ، لكي أتسبّب بذلك إلى وصل يدوم ، ومسرة تتّصل ، حتى لا أعرف بعد ذلك الحزن أصلا ، ولا تعرف عيني البكاء ، وتصير في أن لا ترى باكية أبدا ، كالجمود التي لا يكون لها دمع».

فإن ذلك (١) لا يستقيم ولا يستتبّ ، لأنه يوقعه في التناقض ، ويجعله كأنه قال : «أحتمل البكاء لهذا الفراق عاجلا ، لأصير في الآجل بدوام الوصل واتصال السرور في صورة من يريد من عينه أن تبكي ثم لا تبكي ، لأنها خلقت جامدة لا ماء فيها» ، وذلك من التهافت والاضطراب بحيث لا تنجع الحيلة فيها.

وجملة الأمر أنا لا نعلم أحدا جعل جمود العين دليل سرور وأمارة غبطة ، وكناية عن أن الحال حال فرح.

فهذا مثال فيما هو بالضدّ مما شرطوا من أن لا يكون لفظه أسبق إلى سمعك ، من معناه إلى قلبك لأنك ترى اللّفظ يصل إلى سمعك ، وتحتاج إلى أن تخبّ وتوضع في طلب المعنى.

ويجري لك هذا الشرح والتفسير في «النظم» كما جرى في «اللفظ» ، لأنه إذا كان النظم سويّا ، والتأليف مستقيما ، كان وصول المعنى إلى قلبك ، تلو وصول اللفظ إلى سمعك. وإذا كان على خلاف ما ينبغي ، وصل اللّفظ إلى السمع ، وبقيت في المعنى تطلبه وتتعب فيه ، وإذا أفرط الأمر في ذلك صار إلى التعقيد الذي قالوا : «إنّه يستهلك المعنى».

واعلم أن لم تضق العبارة ولم يقصر اللفظ ولم ينغلق الكلام في هذا الباب ، إلّا لأنه قد تناهى في الغموض والخفاء إلى أقصى الغايات ، وأنت لا ترى أغرب مذهبا ، وأعجب طريقا ، وأحرى بأن تضطرب فيه الآراء منه. وما قولك في شيء قد بلغ من أمره أن يدّعى على كبار العلماء أنّهم لم يعلموه ولم يفطنوا له؟ فقد ترى أنّ البحتري قال حين سئل عن مسلم وأبي نواس : أيّهما أشعر؟ فقال : أبو نواس. فقيل : فإن أبا العباس ثعلبا لا يوافقك على هذا. فقال : ليس هذا من شأن ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون علمه ، إنما يعلم ذلك من دفع في مسلك طريق الشعر إلى مضايقه وانتهى إلى ضروراته.

__________________

(١) فإن ذلك جواب للشرط في بداية الفقرة وهو «فإن قيل ...»

١٧٨

ثمّ لم ينفكّ العالمون به والذين هم من أهله ، من دخول الشبهة فيه عليهم ، ومن اعتراض السّهو والغلط لهم. روي عن الأصمعي أنّه قال (١) : كنت أشدو من أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر ، وكان يأتيان بشارا فيسلّمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان : يا أبا معاذ ، ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ، ويسألانه ويكتبان عنه متواضعين له ، حتى يأتي وقت الزّوال ، ثم ينصرفان. وأتياه يوما فقالا : ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟ قال : هي التي بلغتكم. قالوا : بلغنا أنّك أكثرت فيها من الغريب. قال : نعم ، بلغني أن سلم بن قتيبة يتباصر بالغريب ، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف. قالوا : فأنشدناها يا أبا معاذ. فأنشدهما : [من الخفيف]

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير

إنّ ذاك النّجاح في التّبكير (٢)

حتى فرغ منها ، فقال له خلف : لو قلت يا أبا معاذ مكان «إنّ ذاك النجاح في التبكير» :

بكّرا فالنّجاح في التّبكير

كان أحسن. فقال بشار : إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت : إنّ ذاك النجاح في التبكير ، كما يقول الأعراب البدويّون ، ولو قلت : «بكّرا فالنجاح» ، كان هذا من كلام المولّدين ، ولا يشبه ذاك الكلام ، ولا يدخل في معنى القصيدة. قال : فقام خلف فقبّل بين عينيه» (٣) ، فهل كان هذا القول من خلف والنّقد على بشّار ، إلّا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟.

واعلم أن من شأن «إنّ» إذا جاءت على هذا الوجه ، أن تغني غناء «الفاء» العاطفة مثلا ، وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا. فأنت ترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف ، ومقطوعا موصولا معا. أفلا ترى أنك لو أسقطت «إنّ» من قوله : «إنّ ذاك النجاح في التبكير» ، لم تر الكلام يلتئم ، ولرأيت الجملة الثانية لا تتّصل بالأولى ولا تكون منها بسبيل ، حتى تجيء بالفاء فتقول : «بكّرا صاحبيّ قبل الهجير ، فذاك النجاح في التبكير» ، ومثله قول بعض العرب : [من الرجز]

__________________

(١) الخبر في الأغاني (٣ / ١٩٠).

(٢) البيت لبشار بن برد في ديوانه (٣ / ٢٠٣) ، والإشارات والتنبيهات للجرجاني (٣١) ، والأغاني (٣ / ١٨٥). والهجير : من الزوال إلى العصر أو شدة الحرارة.

(٣) يقصد فقبل بشار بين عينيه وهي في (الأغاني ٣ / ١٩٠).

١٧٩

فغنّها ، وهي لك الفداء

إنّ غناء الإبل الحداء (١)

فانظر إلى قوله : «إنّ غناء الإبل الحداء» ، وإلى ملاءمته الكلام قبله ، وحسن تشبّثه به ، وإلى حسن تعطّف الكلام الأوّل عليه. ثم انظر إذا تركت «إنّ» فقلت : «فغنّها وهي لك الفداء ، غناء الإبل الحداء» ، كيف تكون الصّورة؟ وكيف ينبو أحد الكلامين عن الآخر؟ وكيف يشئم هذا ويعرق ذاك؟ حتى لا تجد حيلة في ائتلافهما حتّى تجتلب لهما «الفاء» فتقول : «فغنّها وهي لك الفداء ، فغناء الإبل الحداء» ، ثم تعلم أن ليست الألفة بينهما من جنس ما كان ، وأن قد ذهبت الأنسة التي كنت تجد ، والحسن الذي كنت ترى.

وروي عن عنبسة (٢) أنه قال : قدم ذو الرّمّة الكوفة فوقف ينشد الناس بالكناسة قصيدته الحائية التي منها : [من الطويل]

هي البرء ، والأسقام ، والهمّ ، والمنى ،

وموت الهوى في القلب منّي المبرّح

وكان الهوى بالنأي يمحى فيمّحي ،

وحبّك عندي يستجدّ ويربح

إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح (٣)

قال : فلما انتهى إلى هذا البيت ناداه ابن شبرمة (٤) : يا غيلان (٥) ، أراه قد برح! قال : فشنق ناقته (٦) وجعل يتأخّر بها ويفكّر ، ثم قال :

__________________

(١) البيت بلا نسبة في جمهرة اللغة (٩٦٤ ، ١٠٤٧) ، والإيضاح (١ / ٩٤) طبعة دار الكتاب اللبناني ، والإشارات للجرجاني (٣١) ، والمفتاح للسكاكي : (٢٦٢). والضمير في قوله : «فغنها» للإبل أي : فغن لها. الحداء بضم الحاء وكسرها : مصدر حدا الإبل إذا ساقها وغنى لها.

(٢) عنبسة : هو عنبسة بن معدان الغيل الميساني وهو أشهر من أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي (بغية الوعاة) والكناسة هو سوق في الكوفة.

(٣) الأبيات لذي الرمة في ديوانه (٤٥) ط ، دار الكتب العلمية ، وهي في الأغاني منسوبة إليه (١٨ / ٣٣) ، والأبيات في الديوان ليست متتالية ، ورواية الديوان : «والهم ذكرها» بدل «الهم والمنى» ، و «لو لا التنائي» بدل «في القلب مني». وشطر البيت الثاني هكذا : «وبعض الهوى بالهجر يمحى فيمتحى». الرّسّ : ابتداء الشيء ، والرسّ والرسيس واحد : أول الحمى الذي يؤذن بها ويدل على ورودها ورس الهوى في قلبه والسقم في جسمه رسّا ورسيسا ، وأرس : دخل وثبت ، ورس الحب ورسيسه : بقيته وأثره. اللسان (رسس).

(٤) ابن شبرمة : وهو عبد الله بن شبرمة من قضاة الكوفة توفي سنة (٤٤ ه‍). شذرات الذهب (١ / ٧٠٧).

(٥) غيلان : وهو اسم ذي الرمة (غيلان بن عقبة).

(٦) شنق ناقته : شنق البعير يشنقه ويشنقه : كفه بزمامه حتى ألزق ذفراه بقادمة الرجل أو رفع رأسه وهو راكبه. القاموس (١٨ / ٣٤)

١٨٠