دلائل الإعجاز في علم المعاني

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

دلائل الإعجاز في علم المعاني

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦

هو؟ وكان يصح أن يكون سؤالا عن الفعل أكان أم لم يكن؟ لكان ينبغي أن يستقيم ذلك.

واعلم أن هذا الذي ذكرت لك في «الهمزة وهي للاستفهام» قائم فيها إذا هي كانت للتقرير. فإذا قلت : «أأنت فعلت ذاك؟» ، كان غرضك أن تقرره بأنه الفاعل.

يبيّن ذلك قوله تعالى ، حكاية عن قول نمرود : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) [سورة الأنبياء : ٦٢] ، لا شبهة في أنهم لم يقولوا ذلك له عليه‌السلام وهم يريدون أن يقرّ لهم بأنّ كسر الأصنام قد كان ، ولكن أن يقرّ بأنه منه كان ، وكيف؟ وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم : «أأنت فعلت هذا؟» ، وقال هو عليه‌السلام في الجواب : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : ٦٣] ، ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب : «فعلت ، أو : لم أفعل».

فإن قلت : أو ليس إذ قال «أفعلت؟» ، فهو يريد أيضا أن يقرّره بأنّ الفعل كان منه ، لا بأنّه كان على الجملة ، فأيّ فرق بين الحالين؟.

فإنه إذا قال (١) : «أفعلت؟» فهو يقرّره بالفعل من غير أن يردّده بينه وبين غيره ، وكان كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أن ذلك الفعل كان على الحقيقة وإذا قال : «أأنت فعلت؟» ، كان قد ردّد الفعل بينه وبين غيره ، ولم يكن منه في نفس الفعل تردّد ، ولم يكن كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أكان الفعل أم لم يكن ، بدلالة أنك تقول ذلك والفعل ظاهر موجود مشار إليه ، كما رأيت في الآية.

واعلم أن «الهمزة» فيما ذكرنا تقرير بفعل قد كان ، وإنكار له لم كان ، وتوبيخ لفاعله عليه.

ولها مذهب آخر ، وهو أن يكون الإنكار أن يكون الفعل قد كان من أصله. ومثاله قوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) [الإسراء : ٤٠] ، وقوله عزوجل : (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [الصافات : ١٥٣ ـ ١٥٤] ، فهذا ردّ على المشركين وتكذيب لهم في قولهم ما يؤدّي إلى هذا الجهل العظيم. وإذا قدّم الاسم في هذا صار الإنكار في الفاعل. ومثاله قولك للرجل قد انتحل شعرا : «أأنت قلت هذا الشعر؟ كذبت ، لست ممّن يحسن مثله» ، أنكرت أن يكون القائل ولم تنكر الشعر.

__________________

(١) قوله (فإنه إذا قال) جواب لقوله : (فإن قلت).

٨١

وقد يكون أن يراد إنكار الفعل من أصله ، ثم يخرج اللفظ مخرجه إذا كان الإنكار في الفاعل. مثال ذلك قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس : ٥٩] ، «الإذن» راجع إلى قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) [يونس : ٥٩] ، ومعلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه ، من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله ، فأضافوه إلى الله ، إلّا أنّ اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك ، لأن يجعلوا في صورة في غلط فأضاف إلى الله تعالى إذنا كان من غير الله ، فإذا حقّق عليه ارتدع.

ومثال ذلك قولك للرجل يدّعي أن قولا كان ممّن تعلم أنه لا يقوله : «أهو قال ذاك بالحقيقة أم أنت تغلط؟» ، تضع الكلام وضعه إذا كنت علمت أن ذلك القول قد كان من قائل ، لينصرف الإنكار إلى الفاعل ، فيكون أشدّ لنفي ذلك وإبطاله.

ونظير هذا قوله تعالى : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) [الأنعام : ١٤٣] ، أخرج اللفظ مخرجه إذا كان قد ثبت تحريم في أحد أشياء ، ثم أريد معرفة عين المحرّم ، مع أن المراد إنكار التحريم من أصله ، ونفي أن يكون قد حرّم شيء مما ذكروا أنه محرّم. وذلك أنّ الكلام وضع على أن يجعل التحريم كأنّه قد كان ، ثم يقال لهم : «أخبرونا عن هذا التحريم الذي زعمتم ، فيم هو؟ أفي هذا أم ذاك أم في الثالث؟» ، ليتبيّن بطلان قولهم ، ويظهر مكان الفرية منهم على الله تعالى.

ومثل ذلك قولك للرجل يدّعي أمرا وأنت تنكره : «متى كان هذا؟ أفي ليل أم نهار؟» ، تضع الكلام وضع من سلّم أن ذلك قد كان ، ثم تطالبه ببيان وقته ، لكي يتبيّن كذبه إذا لم يقدر أن يذكر له وقتا ويفتضح. ومثله قولك : «من أمرك بهذا منّا؟ وأيّنا أذن لك فيه؟» ، وأنت لا تعني أن أمرا قد كان بذلك من واحد منكم ، إلا أنّك تضع الكلام هذا الوضع لكي تضيّق عليه ، وليظهر كذبه حين لا يستطيع أن يقول : «فلان» ، وأن يحيل على واحد.

وإذ قد بيّنّا الفرق بين تقديم الفعل وتقديم الاسم ، والفعل ماض ، فينبغي أن ننظر فيه والفعل مضارع.

والقول في ذلك أنك إذا قلت : «أتفعل؟» و «أأنت تفعل؟» لم يخل من أن تريد الحال أو الاستقبال. فإن أردت الحال كان المعنى شبيها بما مضى في الماضي ، فإذا قلت : «أتفعل؟» كان المعنى على أنك أردت أن تقرّره بفعل هو يفعله ، وكنت

٨٢

كمن يوهم أنّه لا يعلم بالحقيقة أن الفعل كائن ، وإذا قلت : «أأنت تفعل؟» ، كان المعنى على أنك تريد أن تقرّره بأنه الفاعل ، وكان أمر الفعل في وجوده ظاهرا ، وبحيث لا يحتاج إلى الإقرار بأنه كائن ، وإن أردت ب «تفعل» المستقبل ، كان المعنى إذا بدأت بالفعل على أنك تعمد بالإنكار إلى الفعل نفسه ، وتزعم أنه لا يكون ، أو أنه لا ينبغي أن يكون ، فمثال الأول : [من الطويل]

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال (١)؟

فهذا تكذيب منه لإنسان تهدّده بالقتل ، وإنكار أن يقدر على ذلك ويستطيعه. ومثله أن يطمع طامع في أمر لا يكون مثله ، فتجهّله في طمعه فتقول : «أيرضى عنك فلان وأنت مقيم على ما يكره؟ أتجد عنده ما تحبّ وقد فعلت وصنعت؟» ، وعلى ذلك قوله تعالى : (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) [هود : ٢٨].

ومثال الثاني ، قولك لرجل يركب الخطر : «أتخرج في هذا الوقت؟ أتذهب في غير الطريق؟ أتغرّر بنفسك؟» ، وقولك للرجل يضيع الحقّ : «أتنسى قديم إحسان فلان؟ أتترك صحبته وتتغير عن حالك معه لأن تغيّر الزمان؟» كما قال : [من الطويل]

أأترك أن قلّت دراهم خالد

زيارته؟ إنّي إذا للئيم (٢)

وجملة الأمر أنّك تنحو بالإنكار نحو الفعل ، فإن بدأت بالاسم فقلت : «أأنت تفعل؟» أو قلت : «أهو يفعل؟» ، كنت وجهت الإنكار إلى نفس المذكور ، وأبيت أن تكون بموضع أن يجيء منه الفعل وممّن يجيء منه ، وأن يكون بتلك المثابة.

تفسير ذلك : أنك إذا قلت : «أأنت تمنعني؟» ، «أأنت تأخذ على يدي؟»

__________________

(١) البيت لامرئ القيس في ديوانه (١٢٥) ، وهو من قصيدة قرينة معلقته في الجودة ، وقبله :

يغطّ غطيط البكر شد خناقه

ليقتلني والمرء ليس بقتال

والبيت في مفتاح العلوم (٤٦١) تحقيق د. عبد الحميد هنداوي. وأورده القزويني في الإيضاح (١٦٩ ، ٢٠٨) ، والطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١١٠) تحقيق د. هنداوي ، والمشرفي : السيد المنسوب إلى مشارف الشام ، وهو قرى للعرب تدنو من بلاد الروم. ومسنونة زرق : مشاقص محدودة بالسن ، أو هي نصال الرماح ، قال أبو عبيد البكري ، ومسنونة يعني سهاما محددة الأزجة. وزرق : صافية مجلوة. أغوال : همرجة (التباس واختلاف) من همرجة الجن ، وإنما أراد التهويل قال المبرد : لم يخبر صادق أنه رأى الغول.

(٢) البيت في الإيضاح (١٤١) ، والأغاني لعمارة بن عقيل بن بلال بن جرير (٢٤ / ٢١٢) ، وبعده :

فليت بثوبيه لنا كان خالد

وكان لبكر بالثراء تميم

فيصبح فينا سابق متمهل

ويصبح في بكر أغم بهيم

٨٣

صرت كأنك قلت : إن غيرك الذي يستطيع منعي والأخذ على يدي ، ولست بذاك ، ولقد وضعت نفسك في غير موضعك ، هذا ، إذا جعلته لا يكون منه الفعل للعجز ، ولأنّه ليس في وسعه.

وقد يكون أن تجعله لا يجيء منه ، لأنه لا يختاره ولا يرتضيه ، وأنّ نفسه نفس تأبى مثله وتكرهه. ومثاله أن تقول : «أهو يسأل فلانا؟ هو أرفع همة من ذلك» ، «أهو يمنع الناس حقوقهم؟ هو أكرم من ذاك».

وقد يكون أن تجعله لا يفعله لصغر قدره وقصر همته ، وأن نفسه نفس لا تسمو. وذلك قولك : «أهو يسمح بمثل هذا؟ أهو يرتاح للجميل؟ هو أقصر همّة من ذلك ، وأقل رغبة في الخير مما تظنّ».

وجملة الأمر أن تقديم الاسم يقتضي أنك عمدت بالإنكار إلى ذات من قيل «إنه يفعل» أو قال هو «إني أفعل» ، وأردت ما تريده إذا قلت : «ليس هو بالذي يفعل ، وليس مثله يفعل» ، ولا يكون هذا المعنى إذا بدأت بالفعل فقلت : «أتفعل؟». ألا ترى أن من المحال أن تزعم أن المعنى في قول الرجل لصاحبه : «أتخرج في هذا الوقت؟ أتغرّر بنفسك؟ أتمضي في غير الطريق؟» ، أنه أنكر أن يكون بمثابة من يفعل ذلك ، وبموضع من يجيء منه ذاك ، لأن العلم محيط بأن الناس لا يريدونه ، وأنه لا يليق بالحال التي يستعمل فيها هذا الكلام. وكذلك محال أن يكون المعنى في قوله جل وعلا : (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) [هود : ٢٨] ، أنّا لسنا بمثابة من يجيء منه هذا الإلزام ، وأن غيرنا من يفعله ، جلّ الله تعالى.

وقد يتوهّم المتوهّم في الشيء من ذلك أنّه يحتمل ، فإذا نظر لم يحتمل ، فمن ذلك قوله :

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

وقد يظنّ الظانّ أنه يجوز أن يكون في معنى أنّه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي ، ويتعلّق بأنه قال قبل : [من الطويل]

يغطّ غطيط البكر شدّ خناقه

ليقتلني والمرء ليس بقتّال

ولكنه إذا نظر علم أنّه لا يجوز ، وذاك لأنه قال : «والمشرفيّ مضاجعي» فذكر ما يكون منعا من الفعل ، ومحال أن يقول : «هو ممن لا يجيء منه الفعل» ، ثم يقول : «إنّي أمنعه» ، لأن المنع يتصوّر فيمن يجيء منه الفعل ، ومع من يصحّ منه ، لا من هو منه محال ، ومن هو نفسه عنه عاجز ، فاعرفه.

٨٤

واعلم أنا وإن كنا نفسّر «الاستفهام» في مثل هذا بالإنكار ، فإن الذي هو محض المعنى : أنه ليتنبه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل ويرتدع ويعيا بالجواب ، إمّا لأنه قد ادعى القدرة على فعل لا يقدر عليه ، فإذا ثبت على دعواه قيل له : «فافعل» ، فيفضحه ذلك ، وإمّا لأنه همّ بأن يفعل ما لا يستصوب فعله ، فإذا روجع فيه تنبّه وعرف الخطأ ، وإمّا لأنه جوّز وجود أمر لا يوجد مثله ، فإذا ثبت على تجويزه قبّح على نفسه ، وقيل له : «فأرناه في موضع وفي حال ، وأقيم شاهدا على أنه كان في وقت».

ولو كان يكون للإنكار ، وكان المعنى فيه من بدء الأمر ، لكان ينبغي أن لا يجيء فيما لا يقول عاقل إنه يكون ، حتى ينكر عليه ، كقولهم : «أتصعد إلى السماء؟» ، «أتستطيع أن تنقل الجبال؟» ، «أإلى ردّ ما مضى سبيل؟».

وإذ قد عرفت ذلك ، فإنه لا يقرّر بالمحال ، وبما لا يقول أحد إنه يكون ، إلا على سبيل التمثيل ، وعلى أن يقال له : «إنك في دعواك ما ادّعيت بمنزلة من يدّعي هذا المحال ، وإنك في طمعك في الذي طمعت فيه بمنزلة من يطمع في الممتنع».

وإذ قد عرفت هذا ، فممّا هو من هذا الضرب قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) [الزخرف : ٤٠] ، ليس إسماع الصّم مما يدّعيه أحد فيكون ذلك للإنكار ، وإنّما المعنى فيه التمثيل والتشبيه ، وأن ينزّل الذي يظنّ بهم أنهم يسمعون ، أو أنه يستطيع إسماعهم ، منزلة من يرى أنه يسمع الصم ويهدى العمي ثم المعنى في تقديم الاسم وأن لم يقل : «أتسمع الصمّ» ، هو أن يقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أأنت خصوصا قد أوتيت أن تسمع الصمّ؟» ، وأن يجعل في ظنّه أنه يستطيع إسماعهم ، بمثابة من يظنّ أنه قد أوتي قدرة على إسماع الصّمّ.

ومن لطيف ذلك قول ابن أبي عيينة : [من الكامل]

فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ،

أطنين أجنحة الذّباب يضير (١)؟

جعله كأنه قد ظنّ أنّ طنين أجنحة الذباب بمثابة ما يضير ، حتى ظنّ أن وعيده يضير.

__________________

(١) البيت في الكامل (٢ / ٦٠) للمبرد تحقيق د. عبد الحميد هنداوي ، وعبد الله بن محمد بن أبي عيينة قال لعلي بن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ رضي‌الله‌عنه ـ وكان دعاه إلى نصرة أبيه محمد بن جعفر حين ظهرت المبيضة فلم يجبه ، فتوعده علي ، فقال عبد الله :

أعليّ إنك جاهل مغرور

لا ظلمة لك لا ولا لك نور

أكتبت توعدني أن استبطأتني

إني بحربك ما حييت حديد

٨٥

واعلم أن حال المفعول فيما ذكرنا كحال الفاعل ، أعني أنّ تقديم اسم المفعول يقتضي أن يكون الإنكار في طريق الإحالة والمنع من أن يكون ، بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل ، فإذا قلت : «أزيدا تضرب؟» ، كنت قد أنكرت أن يكون «زيد» بمثابة أن يضرب ، أو بموضع أن يجترأ عليه ويستجاز ذلك فيه ، ومن أجل ذلك قدّم «غير» في قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) [الأنعام : ١٤] ، وقوله عزوجل : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) [الأنعام : ٤٠] ، وكان له من الحسن والمزيّة والفخامة ، ما تعلم أنه لا يكون لو أخّر فقيل : «قل أأتّخذ غير الله وليّا» و «أتدعون غير الله؟» وذلك لأنّه قد حصل بالتقديم معنى قولك : «أيكون غير الله بمثابة أن يتّخذ وليّا؟ وأ يرضى عاقل من نفسه أن يفعل ذلك؟ وأ يكون جهل أجهل وعمى أعمى من ذلك؟» ، ولا يكون شيء من ذلك إذا قيل : «أأتخذ غير الله وليا» ، وذلك لأنه حينئذ يتناول الفعل أن يكون فقط ، ولا يزيد على ذلك ، فاعرفه.

وكذلك الحكم في قوله تعالى : (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر : ٢٤] ، وذلك لأنهم بنوا كفرهم على أنّ من كان مثلهم بشرا ، لم يكن بمثابة أن يتّبع ويطاع ، وينتهى إلى ما يأمر ، ويصدّق أنه مبعوث من الله تعالى ، وأنهم مأمورون بطاعته ، كما جاء في الأخرى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا) [إبراهيم : ١٠] ، وكقوله عزوجل : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [المؤمنون : ٢٤].

فهذا هو القول في الضرب الأول ، وهو أن يكون «يفعل» بعد الهمزة لفعل لم يكن.

وأما الضرب الثاني ، وهو أن يكون «يفعل» لفعل موجود ، فإن تقديم الاسم يقتضي شبيها بما اقتضاه في «الماضي» ، من الأخذ بأن يقرّ أنه الفاعل ، أو الإنكار أن يكون الفاعل.

فمثال الأول قولك للرجل يبغي ويظلم : «أأنت تجيء إلى الضعيف فتغصب ماله؟» ، «أأنت تزعم أن الأمر كيت وكيت؟» وعلى ذلك قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩].

ومثال الثاني : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢].

٨٦

فصل

وإذ قد عرفت هذه المسائل في

«الاستفهام» ، فهذه مسائل في «النفي».

إذا قلت : «ما فعلت» ، كنت نفيت عنك فعلا لم يثبت أنه مفعول ، وإذا قلت : «ما أنا فعلت» ، كنت نفيت عنك فعلا يثبت أنّه مفعول.

تفسير ذلك : أنك إذا قلت : «ما قلت هذا» ، كنت نفيت أن تكون قد قلت ذاك ، وكنت نوظرت في شيء لم يثبت أنه مقول؟

وإذا قلت : «ما أنا قلت هذا» ، كنت نفيت أن تكون القائل له ، وكانت المناظرة في شيء ثبت أنه مقول. وكذلك إذا قلت : «ما ضربت زيدا» ، كنت نفيت عنك ضربه ، ولم يجب أن يكون قد ضرب ، بل يجوز أن يكون ضربه غيرك ، وأن لا يكون قد ضرب أصلا. وإذا قلت : «ما أنا ضربت زيدا» ، لم تقله إلا وزيد مضروب ، وكان القصد أن تنفي أن تكون أنت الضارب.

ومن أجل ذلك صلح في الوجه الأوّل أن يكون المنفيّ عامّا كقولك : «ما قلت شعرا قطّ» ، و «ما أكلت اليوم شيئا» ، و «ما رأيت أحدا من الناس» ، ولم يصلح من الوجه الثاني ، فكان خلفا أن تقول : «ما أنا قلت شعرا قط» ، و «ما أنا أكلت اليوم شيئا» ، و «ما أنا رأيت أحدا من الناس» ، وذلك أنه يقتضي المحال ، وهو أن يكون هاهنا إنسان قد قال كلّ شعر في الدنيا ، وأكل كلّ شيء يؤكل ، ورأى كل أحد من الناس ، فنفيت أن تكونه.

ومما هو مثال بيّن في أن تقديم الاسم يقتضي وجود الفعل قوله : [من المتقارب]

وما أنا أسقمت جسمي به

ولا أنا أضرمت في القلب نارا (١)

المعنى ، كما لا يخفى ، على أن السّقم ثابت موجود ، وليس القصد بالنّفي إليه ، ولكن إلى أن يكون هو الجالب له ، ويكون قد جرّه إلى نفسه.

__________________

(١) البيت للمتنبي في ديوانه (١١٨) ، وهو من قصيدة قالها ردّا على تنكر سيف الدولة له بسبب تأخره عن مدحه ، ومطلعها :

أرى ذلك القرب صار ازورارا

وصار طويل السلام اختصارا

والمعنى : أنه يعتذر بما عرض له من الهم الذي أسقم جسمه وجعل في قلبه نارا لحرارته ، فهو الذي كان السبب في انقطاع الشعر والنوم جميعا ، يقول : أنا لا أقدر أن أفعل شيئا من هذا. التبيان على شرح ديوان المتنبي للعكبري.

٨٧

ومثله في الوضوح قوله : [من الطويل]

وما أنا وحدي قلت ذا الشّعر كلّه (١)

«الشعر» مقول على القطع ، والنفي لأن يكون هو وحده القائل له.

وهاهنا أمران يرتفع معهما الشك في وجوب هذا الفرق ، ويصير العلم به كالضرورة.

أحدهما : أنه يصحّ لك أن تقول : «ما قلت هذا ، ولا قاله أحد من الناس» ، و «ما ضربت زيدا ، ولا ضربه أحد سواي» ، ولا يصحّ ذلك في الوجه الآخر. فلو قلت : «ما أنا قلت هذا ، ولا قاله أحد من الناس» ، و «ما أنا ضربت زيدا ، ولا ضربه أحد سواي» ، كان خلفا (٢) من القول ، وكان في التناقض بمنزلة أن تقول : «لست الضّارب زيدا أمس» ، فتثبت أنه قد ضرب ، ثم تقول من بعده : «وما ضربه أحد من الناس» ، و «لست القائل ذلك» ، فتثبت أنه قد قيل ، ثم تجيء فتقول و «ما قاله أحد من الناس».

والثاني : من الأمرين أنك تقول : «ما ضربت إلا زيدا» ، فيكون كلاما مستقيما ، ولو قلت : «ما أنا ضربت إلا زيدا» ، كان لغوا من القول ، وذلك لأن نقض النّفي ب «إلّا» يقتضي أن تكون ضربت زيدا ، وتقديمك ضميرك وإيلاؤه حرف النفي ، يقتضي نفي أن تكون ضربته ، فهما يتدافعان (٣). فاعرفه.

ويجيء لك هذا الفرق على وجهه في تقديم المفعول وتأخيره.

فإذا قلت : «ما ضربت زيدا» ، فقدمت الفعل ، كان المعنى أنك قد نفيت أن يكون قد وقع ضرب منك على زيد ، ولم تعرض في أمر غيره لنفي ، ولا إثبات ، وتركته مبهما محتملا.

__________________

(١) البيت للمتنبي في ديوانه (٢٣٧) من قصيدة يمدح فيها عليّا بن أحمد بن عامر الأنطاكي ، وتمامه :

ولكن لشعري فيك من نفسه شعر

والمعنى : يقول : أنا ما انفردت بعمل هذا الشعر ولكن شعري أعانني على مدحك لأنه أراد مدحك كما أردته.

(٢) الخلف : بفتح الخاء وسكون اللام الرديء من القول وبالضم الاسم من الإخلاف وهو أن تعد عدة ولا تنجزها ، القاموس / خلف / (١٠٤٢).

(٣) يتدافعان : تقول تدافعوا : أي دفع بعضهم بعضا ، القاموس / دفع / (٩٢٤).

٨٨

وإذا قلت : «ما زيدا ضربت» ، فقدمت المفعول ، كان المعنى على أنّ ضربا وقع منك على إنسان ، وظنّ أن ذلك الإنسان زيد ، فنفيت أن يكون إياه.

فلك أن تقول في الوجه الأول : «ما ضربت زيدا ولا أحدا من الناس» ، وليس لك ذلك في الوجه الثاني. فلو قلت : «ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس» ، كان فاسدا على ما مضى في الفاعل.

ومما ينبغي أن تعلمه ، أنه يصحّ لك أن تقول : «ما ضربت زيدا ، ولكني أكرمته» ، فتعقب الفعل المنفيّ بإثبات فعل هو ضدّه ، ولا يصحّ أن تقول : «ما زيدا ضربت ، ولكني أكرمته» ، وذاك أنّك لو ترد أن تقول : لم يكن الفعل هذا ولكن ذاك ، ولكنك أردت أنه لم يكن المفعول هذا ، ولكن ذاك. فالواجب إذن أن تقول : «ما زيدا ضربت ولكن عمرا».

وحكم الجارّ مع المجرور في جميع ما ذكرنا حكم المنصوب ، فإذا قلت : «ما أمرتك بهذا» ، كان المعنى على نفي أن تكون قد أمرته بذلك ، ولم يجب أن تكون قد أمرته بشيء آخر ، وإذا قلت : «ما بهذا أمرتك» ، كنت قد أمرته بشيء غيره.

فصل

ـ واعلم أنّ الذي بان لك في «الاستفهام» و «النفي» من المعنى في التقديم ، قائم مثله في «الخبر المثبت».

فإذا عمدت إلى الذي أردت أن تحدّث عنه بفعل فقدّمت ذكره ، ثم بنيت الفعل عليه فقلت : «زيد قد فعل» و «أنا فعلت» ، و «أنت فعلت» ، : اقتضى ذلك أن يكون القصد إلى الفاعل ، إلا أنّ المعنى في هذا القصد ينقسم قسمين :

أحدهما : جليّ لا يشكل : وهو أن يكون الفعل فعلا قد أردت أن تنصّ فيه على واحد فتجعله له ، وتزعم أنه فاعله دون واحد آخر ، أو دون كل أحد. ومثال ذلك أن تقول : «أنا كتبت في معنى فلان (١) ، وأنا شفعت في بابه» ، تريد أن تدّعي الانفراد بذلك والاستبداد به ، وتزيل الاشتباه فيه ، وتردّ على من زعم أن ذلك كان من غيرك ، أو أن غيرك قد كتب فيه كما كتبت. ومن البيّن في ذلك قولهم في المثل : «أتعلّمني بضبّ أنا حرشته» (٢).

__________________

(١) باب فلان : الباب والبابة : الغاية. القاموس / بوب / (٧٧).

(٢) ذكره الميداني في مجمع الأمثال (١ / ١٧٣). بلفظ «تعلمني بضب أنا حرشته». وحرش الضب : (صيده) يضرب لمن يخبرك بشيء أنت به منه أعلم. ورد أيضا في اللسان / حرش / (٦ / ٢٨٠).

٨٩

والقسم الثاني : أن لا يكون القصد إلى الفاعل على هذا المعنى ، ولكن على أنك أردت أن تحقّق على السامع أنه قد فعل ، وتمنعه من الشك ، فأنت لذلك تبدأ بذكره ، وتوقعه أوّلا ـ ومن قبل أن تذكر الفعل (١) ـ في نفسه ، لكي تباعده بذلك عن الشّبهة ، وتمنعه من الإنكار ، أو من أن يظنّ بك الغلط أو التزيّد. ومثاله قولك : «هو يعطي الجزيل» ، و «هو يحبّ الثناء» ، لا تريد أن تزعم أنه ليس هنا من يعطي الجزيل ويحبّ الثناء غيره ، ولا أن تعرّض بإنسان وتحطّه عنه ، وتجعله لا يعطي كما يعطى ، ولا يرغب كما يرغب ، ولكنك تريد أن تحقّق على السامع أن إعطاء الجزيل وحبّ الثناء دأبه ، وأن تمكّن ذلك في نفسه.

ومثاله في الشعر : [من الطويل]

هم يفرشون اللّبد كلّ طمرّة

وأجرد سبّاح يبذّ المغالبا (٢)

لم يرد أن يدّعي لهم هذه الصفة دعوى من يفردهم بها ، وينصّ عليهم فيها ، حتى كأنه يعرّض بقوم آخرين ، فينفي أن يكونوا أصحابها. هذا محال. وإنما أراد أن يصفهم بأنّهم فرسان يمتهدون صهوات الخيل ، وأنّهم يقتعدون الجياد منها ، وأن ذلك دأبهم ، من غير أن يعرّض لنفيه عن غيرهم ، إلّا أنه بدأ بذكرهم لينبه السامع لهم ، ويعلم بديّا (٣) قصده إليهم بما في نفسه من الصفة ، ليمنعه بذلك من الشكّ ، ومن توهّم أن يكون قد وصفهم بصفة ليست هي لهم ، أو أن يكون قد أراد غيرهم فغلط إليه.

وعلى ذلك قول الآخر : [من الطويل]

هم يضربون الكبش يبرق بيضه ،

على وجهه من الدّماء سبائب (٤)

__________________

(١) قوله : (ومن قبل أن تذكر الفعل) جملة اعتراضية وسياق الكلام وتوقعه أولا .... في نفسه.

(٢) البيت للمعذل بن عبد الله الليثي الشاعر الإسلامي. الحماسة بشرح المرزوقي (٤ / ١٧٦٣).

اللبد : الصوف. القاموس مادة / لبد / (٤٠٤). الطمرة : الطمر بتشديد الراء الفرس الجواد المستفز للعدو ، اللسان مادة / طمر / (٤ / ٥٠٣). الأجرد : فرس أجرد أي قصير الشعر ، القاموس / جرد / (٣٤٧). السوابح : هي الخيل لسبحها بيديها في سيرها. القاموس / سبح / (٢٨٤).

البذّ : أي الغلبة. القاموس / بذّ / (٤٢٢).

(٣) بديا : بداوة الشيء أول ما يبدأ منه. القاموس / بدا / (١٦٢٩).

(٤) البيت للأخنس بن شهاب بن شريق بن ثمامة بن تغلب بن وائل ، وهو في المفضليات رقم (٤١ ص ٢٠٧) ، والإيضاح (٦٤). الكبش : رئيس القوم وحاميهم. البيض : جمع بيضة ، وهي قلنسوة الحديد. السبائب : الطرائق الواحدة سبيبة وإنما خصّ الوجه لأنه أشجع للمضروب ، إنما يضرب في رأسه مقبلا ، فالدم في وجهه.

٩٠

لم يرد أن يدّعي لهم الانفراد ، ويجعل هذا الضرب لا يكون إلا منهم ، ولكن أراد الذي ذكرت لك ، من تنبيه السامع لقصدهم بالحديث من قبل ذكر الحديث ، ليحقق الأمر ويؤكّده.

ومن البين فيه قول عروة بن أذينة : [من الهزج]

سليمى أزمعت بينا

فأين تقولها أينا (١)

وذلك أنه ظاهر معلوم أنه لم يرد أن يجعل هذا الإزماع لها خاصة ، ويجعلها من جماعة لم يزمع البين منهم أحد سواها. هذا محال ، ولكنه أراد أن يحقق الأمر ويؤكده ، فأوقع ذكرها في سمع الذي كلّم ابتداء ومن أوّل الأمر. ليعلم قبل هذا الحديث أنه أرادها بالحديث ، فيكون ذلك أبعد له من الشك.

ومثله في الوضوح قوله : [من الطويل]

هما يلبسان المجد أحسن لبسة

شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما (٢)

لا شبهة في أنه لم يرد أن يقصر هذه الصّفة عليهما ، ولكن نبّه لهما قبل الحديث عنهما.

وأبين من الجميع قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [الفرقان : ٣] ، وقوله عزوجل : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) [المائدة : ٦١].

وهذا الذي قد ذكرت من أن تقديم ذكر المحدّث عنه يفيد التنبيه له ، قد ذكره صاحب الكتاب في المفعول إذا قدّم فرفع بالابتداء ، وبني الفعل الناصب كان له عليه (٣) ، وعدّي إلى ضميره فشغل به. كقولنا في «ضربت عبد الله» : «عبد الله ضربته» ، فقال : و «إنما» قلت : «عبد الله» ، فنبّهته له ، ثم بنيت عليه الفعل ، ورفعته بالابتداء.

فإن قلت : فمن أين وجب أن يكون تقديم ذكر المحدّث عنه بالفعل ، آكد لإثبات ذلك الفعل له ، وأن يكون قوله : «هما يلبسان المجد» ، أبلغ في جعلهما يلبسانه من أن يقال : «يلبسان المجد»؟

__________________

(١) البيت في ديوانه (٣٩٧ ـ ٤٠٠). وتقولها : بمعنى تظنها.

(٢) الشعر لعمرة الخثعمية ، ترثي ابنها ، وقال أبو رياش : هو لدرماء بنت سيار بن عبعبة الخثعمية.

شرح الحماسة للتبريزي (٣ / ٦٠ ـ ٦٤).

(٣) أي : ومبنى الفعل الذي كان له ناصبا عليه.

٩١

فإنّ ذلك (١) من أجل أنه لا يؤتى بالاسم معرّى من العوامل إلّا لحديث قد نوي إسناده إليه. وإذا كان كذلك ، فإذا قلت : «عبد الله» ، فقد أشعرت قلبه بذلك أنك قد أردت الحديث عنه ، فإذا جئت بالحديث فقلت مثلا : «قام» أو قلت : «خرج» ، أو قلت : «قدم» فقد علم ما جئت به وقد وطّأت له وقدّمت الإعلام فيه ، فدخل على القلب دخول المأنوس به ، وقبله قبول المهيّئ له المطمئنّ إليه ، وذلك لا محالة أشدّ لثبوته ، وأنفى للشبهة ، وأمنع للشك ، وأدخل في التحقيق.

وجملة الأمر أنّه ليس إعلامك الشيء بغتة غفلا ، مثل إعلامك له بعد التنبيه عليه والتقدمة له ، لأنّ ذلك يجري مجرى تكرير الإعلام في التأكيد والإحكام. ومن هاهنا قالوا : إنّ الشيء إذا أضمر ثم فسّر ، كان ذلك أفخم له من أن يذكر من غير تقدمة إضمار.

ويدلّ على صحة ما قالوه أنّا نعلم ضرورة في قوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) [الحج : ٤٦] ، فخامة وشرفا وروعة ، لا نجد منها شيئا في قولنا : «فإن الأبصار لا تعمى» ، وكذلك السبيل أبدا في كل كلام كان فيه ضمير قصّة. فقوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [المؤمنون : ١١٧] ، يفيد من القوة في نفي الفلاح عن الكافرين ، ما لو قيل : «إن الكافرين لا يفلحون» ، لم يستفد ذلك. ولم يكن ذلك كذلك إلّا لأنك تعلمه إيّاه من بعد تقدمة وتنبيه ، أنت به في حكم من بدأ وأعاد ووطّد ، ثم بنى ولوّح ثم صرّح. ولا يخفى مكان المزيّة فيما طريقه هذا الطريق.

ويشهد لما قلنا من أنّ تقديم المحدّث عنه يقتضي تأكيد الخبر وتحقيقه له ، أنّا إذا تأمّلنا وجدنا هذا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار من منكر ، نحو أن يقول الرجل : «ليس لي علم بالذي تقول» ، فتقول له : «أنت تعلم أن الأمر على ما أقول ، ولكنّك تميل إلى خصمي» ، وكقول الناس : «هو يعلم ذاك وإن أنكر ، وهو يعلم الكذب فيما قال وإن حلف عليه» ، وكقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران : ٧٥] ، فهذا من أبين شيء. وذاك أن الكاذب ، لا سيما في الدين ، لا يعترف بأنه كاذب ، وإذا لم يعترف بأنه كاذب ، كان أبعد من ذلك أن يعترف بالعلم بأنّه كاذب.

أو يجيء (٢) فيما اعترض فيه شكّ ، نحو أن يقول الرجل : «كأنك لا تعلم ما صنع فلان ولم يبلغك» ، فيقول : «أنا أعلم ، ولكنّي أداريه».

__________________

(١) قوله : (فإن ذلك) جواب لقوله : (فمن أين وجب).

(٢) قوله : (أو يجيء) جملة معطوفة على قوله : (يجيء فيما سبق).

٩٢

أو في تكذيب مدّع كقوله عزوجل : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) [المائدة : ٦١] ، وذلك أن قولهم : «آمنا» ، دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به ، فالموضع موضع تكذيب.

أو فيما القياس في مثله أن لا يكون ، كقوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [الفرقان : ٣] ، وذلك أن عبادتهم لها تقتضي أن لا تكون مخلوقة.

وكذلك في كل شيء كان خبرا على خلاف العادة ، وعمّا يستغرب من الأمر نحو أن تقول : «ألا تعجب من فلان؟ يدّعي العظيم ، وهو يعيا باليسير ، ويزعم أنه شجاع ، وهو يفزع من أدنى شيء».

ومما يحسن ذلك فيه ويكثر ، الوعد والضّمان ، كقول الرجل : «أنا أعطيك ، أنا أكفيك ، أنا أقوم بهذا الأمر» ، وذلك أنّ من شأن من تعده وتضمن له ، أن يعترضه الشكّ في تمام الوعد وفي الوفاء به ، فهو من أحوج شيء إلى التأكيد.

وكذلك يكثر في المدح ، كقولك : «أنت تعطي الجزيل ، أنت تقري في المحل ، أنت تجود حين لا يجود أحد» ، وكما قال : [من الكامل]

ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثمّ لا يفري (١)

وكقول الآخر : [من الرمل] نحن في المشتاة ندعو الجفلى (٢) وذلك أنّ من شأن المادح أن يمنع السامعين من الشكّ فيما يمدح به ، ويباعدهم من الشبهة ، وكذلك المفتخر.

__________________

(١) البيت لزهير بن أبي سلمى ، وهو في ديوانه (٣١) من قصيدة قالها في مدح هرم بن سنان ، وهو في مفتاح العلوم (١٢٣). فرى الشيء يفريه : قطعه ، وفرى المزادة صنعها ، والخلق التقدير والذي يصنع شيئا من الجلد ونحوه على مثال سابق كالمزادة والنعل بقدر ثم يقطع ويفصل.

(٢) البيت لطرفة بن العبد ، وهو في ديوانه (٥٥) من قصيدة طويلة قالها مخاطبا نفسه ، ثم راح يصف ملاهيه وجوانب من مفاخره الجماعية. ومطلعها :

أصحوت اليوم أم شاقتك هر

ومن الحب جنون مستعر

لا يكن حبك داء قاتلا

ليس هذا منك ماوي بحر

المشتاة : وقت الشتاء البارد. الجفلى : الدعوة العامة إلى الطعام دونما تخصيص. الانتقار : دعوة النقرى ، وهي دعوة خاصة بخلاف الجفلى فهي عامة.

٩٣

ويزيدك بيانا أنه إذا كان الفعل مما لا يشكّ فيه ولا ينكر بحال ، لم يكد يجيء على هذا الوجه ، ولكن يؤتى به غير مبنيّ على اسم ، فإذا أخبرت بالخروج مثلا عن رجل من عادته أن يخرج في كل غداة قلت : «قد خرج» ، ولم تحتج إلى أن تقول : «هو قد خرج» ، وذاك لأنه ليس بشيء يشكّ فيه السامع ، فتحتاج أن تحقّقه ، وإلى أن تقدّم فيه ذكر المحدّث عنه. وكذلك إذا علم السامع من حال رجل أنه على نيّة الركوب والمضيّ إلى موضع ، ولم يكن شكّ وتردّد أنه يركب أو لا يركب ، كان خبرك فيه أن تقول : «قد ركب» ، ولا تقول : «هو قد ركب». فإن جئت بمثل هذا في صلة كلام ، ووضعته بعد واو الحال ، حسن حينئذ ، وذلك قولك : «جئته وهو قد ركب» ، وذاك أن الحكم يتغيّر إذا صارت الجملة في مثل هذا الموضع ، ويصير الأمر بمعرض الشّك ، وذاك أنه إنما يقول هذا من ظنّ أنّه يصادفه في منزله ، وأنّه يصل إليه من قبل أن يركب.

فإن قلت (١) : فإنك قد تقول : «جئته وقد ركب» بهذا المعنى ، ومع هذا الشكّ.

فإن الشكّ لا يقوى حينئذ قوته في الوجه الأول ، أفلا ترى أنك إذا استبطأت إنسانا فقلت : «أتانا والشمس قد طلعت» ، كان ذلك أبلغ في استبطائك له من أن تقول : «أتانا وقد طلعت الشمس»؟ وعكس هذا أنك إذا قلت : «أتى والشمس لم تطلع» ، وكان أقوى في وصفك له بالعجلة والمجيء قبل الوقت الذي ظنّ أنه يجيء فيه ، من أن تقول : «أتى ولم تطلع الشمس بعد».

هذا ، وهو كلام لا يكاد يجيء إلّا نابيا ، وإنما الكلام البليغ هو أن تبدأ بالاسم وتبني الفعل عليه كقوله : [من الكامل] قد أغتدي والطّير لم تكلّم فإذا كان الفعل فيما بعد هذه الواو التي يراد بها الحال ، مضارعا ، لم يصلح إلا مبنيّا على اسم كقولك : «رأيته وهو يكتب» ، و «دخلت عليه وهو يملي الحديث» ، وكقوله : [من الطويل]

تمزّزتها والدّيك يدعو صباحه

إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا

ليس يصلح شيء من ذلك إلا على ما تراه ، لو قلت : «رأيته ويكتب» و «دخلت عليه ويملي الحديث» ، و «تمززتها ويدعو الديك صباحه» ، لم يكن شيئا.

وممّا هو بهذه المنزلة في أنك تجد المعنى لا يستقيم إلا على ما جاء عليه من بناء الفعل على الاسم قوله تعالى : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى

__________________

(١) قوله : (فإن قلت) جوابه : (فإن الشك).

٩٤

الصَّالِحِينَ) [الأعراف : ١٩٦] ، وقوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥] ، وقوله تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) [النمل : ١٧] ، فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء في ذلك بالفعل غير مبنيّ على الاسم فقيل : «إن وليّي الله الذي نزل الكتاب ويتولّى الصالحين» ، و «اكتتبها فتملى عليه» ، و «حشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فيوزعون» ، لوجد اللفظ قد نبا عن المعنى ، والمعنى قد زال عن صورته والحال التي ينبغي أن يكون عليها.

واعلم أنّ هذا الصنيع يقتضي في الفعل المنفيّ ما اقتضاه في المثبت ، فإذا قلت : «أنت لا تحسن هذا» ، كان أشدّ لنفي إحسان ذلك عنه من أن تقول : «لا تحسن هذا ، ويكون الكلام في الأول مع من هو أشدّ إعجابا بنفسه ، وأعرض دعوى في أنه يحسن حتى إنّك لو أتيت ب «أنت» فيما بعد «تحسن» فقلت : «لا تحسن أنت» ، لم يكن له تلك القوة.

وكذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) [المؤمنون : ٥٩] ، يفيد من التأكيد في نفي الاشتراك عنهم ، ما لو قيل : «والذين لا يشركون بربهم ، أو : بربهم لا يشركون» لم يفد ذلك. وكذا قوله تعالى : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يس : ٧] ، وقوله تعالى : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) [القصص : ٦٦] ، و (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنفال : ٥٥].

ومما يرى تقديم الاسم فيه كاللازم : «مثل» ، و «غير» ، في نحو قوله : [من السريع]

مثلك يثني الحزن عن صوبه

ويستردّ الدّمع عن غربه (١)

وقول الناس : «مثلك رعى الحقّ والحرمة» ، وكقول الذي قال له الحجاج :

__________________

(١) البيت للمتنبي في ديوانه (٢ / ٣٢٧) من قصيدة قالها في رثاء عمة عضد الدولة ببغداد ، ورواية الديوان : «يثني الحزن» وهي الأصح ، إذ قوله : «يثني المزن» لا يناسب مقام الرثاء. والبيت في شرح التبيان للعكبري : (١ / ١٥٣) ، والإيضاح (٧٠) ، والإشارات والتنبيهات (٥٠) ، ونهاية الإيجاز (٣١١). والغروب : مجاري الدمع ، للعين غربان مقدمها ومؤخرها. قال الأصمعي : يقال بعينه غرب إذا كان يسيل ولا ينقطع دموعها والغروب الدمع. والصوب : القصد والإصابة والصوت. المعنى : يريد أنك تقدر على دفع الحزن عن قصده وتغلبه بالصبر وترد الدمع إلى قراره ومجراه بأن تصرفه عن المجرى ، وكيف لا تفعل هذا وأنت لا شبه لك.

٩٥

«لأحملنك على الأدهم» (١) ، يريد القيد ، فقال على سبيل المغالطة : «ومثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب» (٢) ، وما أشبه ذلك مما لا يقصد فيه ب «مثل» إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه ، ولكنهم يعنون أن كلّ من كان مثله في الحال والصفة ، كان من مقتضى القياس وموجب العرف والعادة أن يفعل ما ذكر ، أو أن لا يفعل. ومن أجل أن كان المعنى كذلك قال : [من السريع]

ولم أقل مثلك ، أعني به

سواك ، يا فردا بلا مشبه (٣)

وكذلك حكم «غير» إذا سلك به هذا المسلك فقيل : «غيري يفعل ذاك» ، على معنى أني لا أفعله ، لا أن يومئ ب «غير» إلى إنسان فيخبر عنه بأن يفعل ، كما قال : [من البسيط] غيري بأكثر هذا النّاس ينخدع (٤) وذاك أنه معلوم أنه لم يرد أن يعرّض بواحد كان هناك فيستنقصه ويصفه بأنه مضعوف يغرّ ويخدع ، بل لم يرد إلا أن يقول : إني لست ممن ينخدع ويغترّ. وكذلك لم يرد أبو تمام بقوله : [من الوافر]

وغيري يأكل المعروف سحتا

وتشحب عنده بيض الأيادي (٥)

__________________

(١) وهو الأسود من الخيل ، اللسان / دهم / (١٢ / ٢٠٩).

(٢) البياض الذي غلب عليه السواد ، وهو من الخيل ، اللسان / شهب / (١ / ٥٠٨).

(٣) البيت للمتنبي ، وهو آخر بيت من القصيدة سالفة الذكر ، والمعنى : يريد لم أقل مثلك وهو قولي مثلك يثني الحزن أعني به سواك ، وكيف أقول هذا وأنت الذي لا مثل له في زمانه ، وإنما أردت نفسك لا غيرك. والبيت في شرح التبيان للعكبري (١ / ١٥٣) ، والإيضاح (٦٩).

(٤) البيت للمتنبي في ديوانه (٦٢) ، وهو مطلع قصيدة يمدح بها سيف الدولة الحمداني ، وتمامه :

إن قاتلوا جنوا أو حدثوا شجعوا

والبيت في شرح التبيان للعكبري (١ / ٤١٦) ، والإيضاح (٧٠) ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١ / ٨٦) ، ونهاية الإيجاز. والشطر الثاني تعليل للحكم الذي في الشطر الأول. والمعنى : لا أعتقد في هؤلاء الناس الخير ولكن غيري ممن يجهل أمرهم يغتر بقولهم فينخدع به لأنهم إذا قاتلوا جبنوا. وانهزموا ، وإذا حدثوا أظهروا الشجاعة ، أي : أن شجاعتهم بالقول لا بالفعل ، وإذا كانوا كذلك فالجاهل يغتر بهم.

(٥) البيت في ديوانه (٨١) من قصيدة في مدح أبي عبد الله أحمد بن أبي دؤاد ويعتذر إليه ، وقبله :

وكان الشكر للكرماء خصلا

وميدانا كميدان الجياد

عليه عقدت عقديّ ولاحت

مواسمه على شيمي وعادي

وهو في الإيضاح (٧١) ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١ / ٨٦) ، والإشارات والتنبيهات (٥١) ، والمعروف : الإحسان ، السحت : الحرام ، يشحب : من الشحوب وهو تغير اللون. والأيادي : النعم.

٩٦

أن يعرّض مثلا بشاعر سواه ، فيزعم أنّ الذي قرف به عند الممدوح من أنه هجاه ، كان من ذلك الشاعر لا منه. هذا محال ، بل ليس إلّا أنّه نفى عن نفسه أن يكون ممن يكفر النّعمة ويلؤم.

واستعمال «مثل» و «غير» على هذا السبيل شيء مركوز في الطباع ، وهو جار في عادة كل قوم. فأنت الآن إذا تصفّحت الكلام وجدت هذين الاسمين يقدّمان أبدا على الفعل إذا نحي بهما هذا النّحو الذي ذكرت لك ، وترى هذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدّما. أفلا ترى أنك لو قلت : «يثني الحزن عن صوبه مثلك» ، و «رعى الحق والحرمة مثلك» ، و «يحمل على الأدهم والأشهب مثل الأمير» ، و «ينخدع غيري بأكثر هذا الناس» ، و «يأكل غيري المعروف سحتا» ، رأيت كلاما مقلوبا عن جهته ، ومغيّرا عن صورته ، ورأيت اللّفظ قد نبا عن معناه ، ورأيت الطبع يأبى أن يرضاه.

واعلم أنّ معك دستورا لك فيه ، إن تأمّلت ، غنى عن كل سواه ، وهو أنه لا يجوز أن يكون لنظم الكلام وترتيب أجزائه في «الاستفهام» معنى لا يكون له ذلك المعنى في «الخبر». وذاك أن «الاستفهام» ، استخبار ، والاستخبار هو طلب من المخاطب أن يخبرك. فإذا كان كذلك ، كان محالا أن يفترق الحال بين تقديم الاسم وتأخيره في «الاستفهام» ، فيكون المعنى إذا قلت : «أزيد قام؟» غيره إذا قلت : «أقام زيد؟» ، ثم لا يكون هذا الافتراق في الخبر ، ويكون قولك : «زيد قام» و «قام زيد» سواء ، ذاك لأنه يؤدي إلى أن تستعلمه أمرا لا سبيل فيه إلى جواب ، وأن تستثبته المعنى على وجه ليس عنده عبارة يثبته لك بها على ذلك الوجه.

وجملة الأمر ، أن المعنى في إدخالك «حرف الاستفهام» على الجملة من الكلام ، هو أنك تطلب أن يقفك في معنى تلك الجملة ومؤدّاها على إثبات أو نفي.

فإذا قلت : «أزيد منطلق؟» ، فأنت تطلب أن يقول لك : «نعم ، هو منطلق» أو يقول : «لا ، ما هو منطلق». وإذا كان ذلك كذلك ، كان محالا أن تكون الجملة إذا دخلتها همزة الاستفهام استخبارا عن المعنى على وجه ، لا تكون هي ـ إذا نزعت منها الهمزة (١) ـ إخبارا به على ذلك الوجه ، فاعرفه.

__________________

(١) اعتراض بين لا تكون هي ... إخبارا به.

٩٧

فصل

«هذا كلام في النّكرة إذا

قدّمت على الفعل ، أو قدّم الفعل عليها»

إذا قلت : «أجاءك رجل؟» ، فأنت تريد أن تسأله هل كان مجيء من واحد من الرجال إليه ، فإن قدمت الاسم فقلت : «أرجل جاءك؟» ، فأنت تسأله عن جنس من جاءه ، أرجل هو أم امرأة؟ ويكون هذا منك إذا كنت علمت أنه قد أتاه آت ، ولكنك لم تعلم جنس ذلك الآتي ، فسبيلك في ذلك سبيلك إذا أردت أن تعرف عين الآتي فقلت : «أزيد جاءك أم عمرو؟».

ولا يجوز تقديم الاسم في المسألة الأولى ، لأن تقديم الاسم يكون إذا كان السؤال عن الفاعل ، والسؤال عن الفاعل يكون إمّا عن عينه أو عن جنسه ، ولا ثالث. وإذا كان كذلك ، كان محالا أن تقدّم الاسم النكرة وأنت لا تريد السؤال عن الجنس ، لأنه لا يكون لسؤالك حينئذ متعلّق ، من حيث لا يبقى بعد الجنس إلّا العين. والنّكرة لا تدلّ على عين شيء فيسأل بها عنه.

فإن قلت : «أرجل طويل جاءك أم قصير؟» ، كان السؤال عن أن الجائي كان ، من جنس طوال الرجال أم قصارهم؟ فإن وصفت النكرة بالجملة فقلت : «أرجل كنت عرفته من قبل أعطاك هذا أم رجل لم تعرفه» ، كان السؤال عن المعطي ، أكان ممّن عرفه قبل ، أم كان إنسانا لم تتقدّم منه معرفة [له].

وإذ قد عرفت الحكم في الابتداء بالنكرة في «الاستفهام» ، فابن «الخبر» عليه. فإذا قلت : «رجل جاءني» : لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أن الذي جاءك رجل لا امرأة ، ويكون كلامك مع من قد عرف أن قد أتاك آت. فإن لم ترد ذاك ، كان الواجب أن تقول : «جاءني رجل» ، فتقدّم الفعل.

وكذلك إن قلت : «رجل طويل جاءني» ، لم يستقم حتّى يكون السامع قد ظنّ أنه قد أتاك قصير ، أو نزّلته منزلة من ظنّ ذلك.

وقولهم : «شرّ أهرّ ذا ناب» (١) ، إنما قدّم فيه «شرّ» ، لأن المراد أن يعلم أن الذي أهرّ ذا الناب هو من جنس الشّرّ لا جنس الخير ، فجرى مجرى أن تقول : «رجل

__________________

(١) ورد في مجمع الأمثال للميداني (١ / ٣٢٦) ، وهو يضرب عند ظهور علامات الشر.

٩٨

جاءني» ، تريد أن رجل لا امرأة ، وقول العلماء إنه إنما يصلح (١) ، لأنه بمعنى «ما أهرّ ذا ناب إلّا شرّ».

بيان لذلك : ألا ترى أنك لا تقول : «ما أتاني إلّا رجل» ، إلا حيث يتوهّم السامع أنه قد أتتك امرأة ، وذاك لأنّ الخبر ينقض النّفي يكون حيث يراد أن يقصر الفعل على شيء ، وينفى عمّا عداه. فإذا قلت : «ما جاءني إلّا زيد» ، كان المعنى أنك قد قصرت المجيء على زيد ، ونفيته عن كل من عداه. وإنّما يتصوّر قصر الفعل على معلوم ، ومتى لم يرد بالنكرة الجنس ، لم يقف منها السامع على معلوم ، حتى تزعم أني أقصر له الفعل عليه ، وأخبره أنه كان منه دون غيره.

واعلم أنّا لم نرد بما قلناه ، من أنه إنما حسن الابتداء بالنكرة في قولهم : «شرّ أهرّ ذا ناب» ، لأنه أريد به الجنس ، أنّ معنى «شرّ» و «الشرّ» سواء ، وإنما أردنا أن الغرض من الكلام أن نبيّن أنّ الذي أهرّ ذا الناب هو من جنس الشر لا جنس الخير ، كما أنا إذا قلنا في قولهم : «أرجل أتاك أم امرأة؟» ، أن السؤال عن الجنس ، لم نرد بذلك أنه بمنزلة أن يقال : «الرّجل أم المرأة أتاك» ، ولكنّا نعني أن المعنى على أنك سألت عن الآتي أهو من جنس الرجال أم جنس النساء؟ فالنكرة إذن على أصلها من كونها لواحد من الجنس ، إلا أنّ القصد منك لم يقع إلى كونه واحدا ، وإنما وقع إلى كونه من جنس الرجال.

وعكس هذا أنك إذا قلت : «أرجل أتاك أم رجلان؟» ، كان القصد منك إلى كونه واحدا ، دون كونه رجلا ، فاعرف ذلك أصلا ، وهو أنّه قد يكون في اللفظ دليل على أمرين ، ثم يقع القصد إلى أحدهما دون الآخر ، فيصير ذلك الآخر ـ بأن لم يدخل في القصد ـ كأنه لم يدخل في دلالة اللفظ.

وإذا اعتبرت ما قدّمته من قول صاحب الكتاب : «إنّما قلت : «عبد الله» فنبهته له ، ثم بنيت عليه الفعل» (٢) ، وجدته يطابق هذا. وذاك أنّ التنبيه لا يكون إلّا على معلوم ، كما أن قصر الفعل لا يكون إلا على معلوم ، فإذا بدأت بالنكرة فقلت : «رجل» ، وأنت لا تقصد بها الجنس ، وأن تعلم السامع أنّ الذي أردت بالحديث رجل لا امرأة ، كان محالا أن تقول : «إني قدّمته لأنبّه المخاطب له» ، لأنه يخرج بك إلى أن تقول : إنّي أردت أن أنبه السّامع لشيء لا يعلمه في جملة ولا تفصيل. وذلك ما لا يشكّ في استحالته ، فاعرفه.

__________________

(١) أي الابتداء بالنكرة.

(٢) القول لسيبويه في كتابه (١ / ٤١).

٩٩

القول في الحذف

هو باب دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر ، شبيه بالسّحر ، فإنك ترى به ترك الذّكر ، أفصح من الذكر ، والصّمت عن الإفادة ، أزيد للإفادة ، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتمّ ما تكون بيانا إذا لم تبن.

وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر ، وتدفعها حتى تنظر ، وأنا أكتب لك بديئا أمثلة مما عرض فيه الحذف ، ثم أنبهك على صحّة ما أشرت إليه ، وأقيم الحجّة من ذلك عليه. أنشد صاحب الكتاب : [من البسيط]

اعتاد قلبك من ليلى عوائده

وهاج أهواءك المكنونة الطلل

ربع قواء أذاع المعصرات به

وكلّ حيران سار ماؤه خضل (١)

قال : أراد ، «ذاك ربع قواء أو هو ربع». قال : ومثله قول الآخر : [من البسيط]

هل تعرف اليوم رسم الدّار والطّللا

كما عرفت بجفن الصّيقل الخللا

دار لمروة إذ أهلي وأهلهم

بالكانسيّة نرعى اللهو والغزلا (٢)

كأنه قال : تلك دار. قال شيخنا (٣) رحمه‌الله : ولم يحمل البيت الأول على أن «الرّبع» بدل من «الطّلل» ، لأن الرّبع أكثر من الطّلل ، والشيء يبدل مما هو مثله أو أكثر منه ، فأما الشيء من أقلّ منه ففاسد لا يتصوّر. وهذه طريقة مستمرّة لهم إذا ذكروا الديار والمنازل.

وكما يضمرون المبتدأ فيرفعون ، فقد يضمرون الفعل فينصبون ، كبيت الكتاب أيضا : [من البسيط]

__________________

(١) هو سيبويه ، ونسبهما البغدادي في شرح المغني لعمر بن أبي ربيعة ، وليسا في ديوانه ، والقواء : المكان القفر. أذاع المعصرات به : وهي الرياح العاصفات ذوات الغبار. والرهج ، وأذاع به ، ذهبت به وطمست معالمه ، وحيران : صفة لمحذوف ، وهو السحاب المتردد ، وسار : يسير ليلا ، وماؤه خضل : يحمل ماء غزيرا.

(٢) البيتان في الكتاب لسيبويه : (١ / ٢٨٢) ، وينسبان لعمر بن أبي ربيعة ، وهما في ملحقات ديوانه (٤٩٧) ، والبيت الثاني في اللسان (كنس) بدون نسبة. الخلل : جمع خلة بالكسر ، وهي بطانة يغشى بها تنقش بالذهب ، والصيقل : شحاذ السيوف وجلاؤها. مروة : اسم صاحبته ، الكانسية : موضع. نرعى اللهو والغزل : نلتزمهما ونحافظ عليهما وشبه رسوم الدار في اختلافها أو حسنها في عينه بخلل جفون السيوف التي صنعها الصيقل.

(٣) شيخنا : المقصود به أبو الحسن الفارسي.

١٠٠