دلائل الإعجاز في علم المعاني

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

دلائل الإعجاز في علم المعاني

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦

ثم يعرف فيما حقّه الوصل موضع «الواو» من موضع «الفاء» ، وموضع «الفاء» من موضع «ثم» ، وموضع «أو» من موضع «أم» ، وموضع «لكن» من موضع «بل».

ويتصرّف في التعريف ، والتنكير ، والتقديم ، والتأخير ، في الكلام كله ، وفي الحذف ، والتكرار ، والإضمار ، والإظهار ، فيصيب بكلّ من ذلك مكانه ، ويستعلمه على الصّحة وعلى ما ينبغي له.

هذا هو السبيل ، فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا ، وخطؤه إن كان خطأ إلى «النظم» ، ويدخل تحت هذا الاسم ، إلّا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ، ووضع في حقه ، أو عومل بخلاف هذه المعاملة ، فأزيل عن موضعه ، واستعمل في غير ما ينبغي له ، فلا ترى كلاما قد وصف بصحّة نظم أو فساده ، أو وصف بمزيّة وفضل فيه ، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل ، إلى معاني النحو وأحكامه ، ووجدته يدخل في أصل من أصوله ، ويتّصل بباب من أبوابه.

هذه جملة لا تزداد فيها نظرا ، إلا ازددت لها تصوّرا ، وازدادت عندك صحة ، وازددت بها ثقة. وليس من أحد تحرّكه لأن يقول في أمر «النظم» شيئا ، إلا وجدته قد اعترف لك بها أو ببعضها ، ووافق فيها درى ذلك أو لم يدر. ويكفيك أنّهم قد كشفوا عن وجه ما أردناه حيث ذكروا فساد «النظم» ، فليس من أحد يخالف في نحو قول الفرزدق : [من الطويل]

وما مثله في النّاس إلّا مملّكا

أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه (١)

وقول المتنبي : [من الكامل]

ولذا اسم أغطية العيون جفونها

من أنّها عمل السّيوف عوامل (٢)

وقوله : [من الكامل]

الطّيب أنت إذا أصابك طيبه ،

والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل (٣)

__________________

(١) البيت في ديوانه يمدح فيه هشام بن عبد الملك بن مروان أحد ملوك بني أمية ، وخاله الممدوح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي. انظر اللسان (ملك) ، ومعاهد التنصيص (١ / ٤٣) ، وهو بلا نسبة في الخصائص (١ / ١٤٦ ، ٣٢٩) ، (٢ / ٣٩٣).

(٢) في ديوانه فانظره ، ضمير أنها للعيون ، أي : أنها تعمل عمل السيوف ، ولذا سميت أغطية العيون جفونا ، والجفون : أغماد السيوف ، أي : لأنها تعمل عمل السيوف.

(٣) في ديوانه ، والمعنى : إذا أصابك الطيب يتنشق طيبك لأنك أنت طيبة ، وإذا اغتسلت بالماء فأنت الغاسل له.

٦١

وقوله : [من الطويل]

وفاؤكما كالرّبع أشجاه طاسمه

بأن تسعدا ، والدّمع أشفاه ساجمه (١)

وقول أبو تمام : [من الكامل]

ثانيه كبد السّماء ، ولم يكن

كاثنين ثان إذ هما في الغار (٢)

وقوله : [من البسيط]

يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعا

من راحتيك درى ما الصّاب والعسل (٣)

وفي نظائر ذلك (٤) مما وصفوه بفساد النظم ، وعابوه من جهة سوء التأليف ، أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب ، وصنع في تقديم أو تأخير ، أو حذف وإضمار ، أو غير ذلك مما ليس له أن يصنعه ، وما لا يسوغ ولا يصحّ على أصول هذا العلم. وإذا ثبت أن سبب فساد النظم واختلاله ، أن لا يعمل بقوانين هذا الشأن ، ثبت أنّ سبب صحّته أن يعمل عليها ، ثم إذا ثبت أنّ مستنبط صحّته وفساده من هذا العلم ، ثبت أن الحكم كذلك في مزيّته والفضيلة التي تعرض فيه ، وإذا ثبت جميع ذلك ، ثبت أن ليس هو شيئا غير توخّي معاني هذا العلم وأحكامه فيما بين الكلم ، والله الموفق للصواب.

وإذ قد عرفت ذلك ، فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن ، وتشاهدوا له بالفضل ، ثمّ جعلوه كذلك من أجل «النظم» خصوصا ، دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر ، من معنى لطيف أو حكمة أو أدب أو استعارة أو تجنيس أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم ، وتأمّله ، فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت ، فانظر إلى حركات الأريحيّة ممّ كانت؟ وعند ما ذا ظهرت؟ فإنك ترى عيانا أن الذي قلت لك كما قلت. اعمد إلى قول البحتري : [من المتقارب]

__________________

(١) البيت في ديوانه فانظره ، والتبيان (٢ / ٢٥٤). وشجاه شجوا : أحزنه وأشجاه تفضيل من شجى ، والطاسم : الدارس ، والساجم : السائل سجم الدمع سجوما وسجاما : سال وانسجم ، وسجمت العين دمعها وعين سجوم وأسجمت السماء : صبت. والمعنى : الشاعر يخاطب صاحبيه الذين عاهداه على مساعدته بالبكاء عند ربع الأحبة ، ويبرر شدة حزنه بقلة مساعدتهما له بالبكاء ، ويعذر دمعه لأن صاحبيه خاليان ولا يعرفان ما فيه من حزن.

(٢) البيت في ديوانه (ص ١٤٥) ، ونهاية الإعجاز (ص ٢٧٩) ، والموازنة (ص ٢٩) ، والإيضاح (ص ١٦٠).

(٣) البيت في ديوانه (ص ٢١٥) ، والصاب : عصير نبات مرّ ، وقيل : شجر إذا اعتصر خرج منه كهيئة اللّبن.

(٤) الجملة مرتبطة ببداية الكلام ، وهو قوله : «فليس من أحد يخالف».

٦٢

بلونا ضرائب من قد نرى

فما إن رأينا لفتح ضريبا

هو المرء أبدت له الحادثا

ت عزما وشيكا ورأيا صليبا

تنقّل في خلقي سؤدد

سماحا مرجّا وبأسا مهيبا

فكالسّيف إن جئته صارخا ،

وكالبحر إن جئته مستثيبا (١)

فإذا رأيتها قد راقتك وكثرت عندك ، ووجدت لها اهتزازا في نفسك ، فعد فانظر في السبب واستقص في النظر ، فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدّم وأخّر ، وعرّف ونكّر ، وحذف وأمر ، وأعاد وكرّر ، وتوخّى على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها «علم النحو» ، فأصاب في ذلك كله ، ثم لطّف موضع صوابه ، وأتى مأتى يوجب الفضيلة.

أفلا ترى أن أول شيء يروقك منها قوله : «هو المرء أبدت له الحادثات» ، ثم قوله : «تنقّل في خلقي سؤدد» بتنكير «السؤدد» وإضافة «الخلقين» إليه ، ثم قوله : «فكالسيف» وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ ، لأن المعنى لا محالة : فهو كالسيف ثم تكريره «الكاف» في قوله : «وكالبحر» ، ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطا جوابه فيه ، ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالا على مثال ما أخرج من الآخر ، وذلك قوله «صارخا» هناك «ومستثيبا» هاهنا؟ لا ترى حسنا تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت ، أو ما هو في حكم ما عددت ، فاعرف ذلك.

وإن أردت أظهر أمرا في هذا المعنى ، فانظره إلى قول إبراهيم بن العباس :

فلو إذ نبا دهر ، وأنكر صاحب ،

وسلّط أعداء ، وغاب نصير

تكون عن الأهواز داري بنجوة ،

ولكن مقادير جرت وأمور

وإنّي لأرجو بعد هذا محمّدا

لأفضل ما يرجى أخ ووزير (٢)

فإنك ترى ما ترى من الرّونق والطّلاوة ، ومن الحسن والحلاوة ، ثم تتفقّد السبب في ذلك ، فتجده إنّما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو «إذ نبا» على

__________________

(١) الأبيات في ديوانه ، في مدح الفتح بن خاقان ، والضرائب جمع ضريبة وهي الطبيعة والسّجية وهذه ضريبته التي ضرب عليها وهي الخليقة. يقال : خلق الناس على ضرائب شتى. وإنه لكريم الضرائب. والضريب : الشكل في القدّ والخلق ، يقال : فلان ضريب فلان أي : نظيره وضريب الشكل مثله وشكله. والمستثيب : طالب الثواب.

(٢) في ديوانه قالها لمّا عزل عن الأهواز في أيّام محمد بن عبد الملك الزّيات. الأغاني (١٠ / ٦١ ، ٦٢). والنجوة : ما ارتفع من الأرض فلم يعله السّيل ، والأهواز سبع كور بين البصرة وفارس ، لكل كورة منها اسم ويجمعهن الأهواز ..

٦٣

عامله الذي هو «تكون» ، وأن لم يقل : فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر ، ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد ، ثم أن قال : «وأنكر صاحب» ولم يقل : وأنكرت صاحبا ، لا ترى في البيتين الأوّلين شيئا غير الذي عددته لك تجعله حسنا في «النظم» ، وكله من معاني النحو كما ترى. وهكذا السبيل أبدا في كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى «النظم» ، وفضل ، وشرف أحيل فيهما عليه.

فصل

«في أن هذه المزايا في النظم ، بحسب المعاني والأغراض التي تؤمّ».

وإذ قد عرفت أنّ مدار أمر «النظم» على معاني النحو ، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه ، فاعلم أنّ الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها ، ونهاية لا تجد لها ازديادا بعدها ، ثمّ اعلم أن ليست المزيّة بواجبة لها في أنفسها ، ومن حيث هي على الإطلاق ، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام ، ثم بحسب موقع بعضها من بعض ، واستعمال بعضها مع بعض.

تفسير هذا : أنه ليس إذا راقك التنكير في «سؤدد» (١) من قوله «تنقّل في خلقي سؤدد» ، وفي «دهر» من قوله : «فلو إذ نبا دهر» ، فإنه يجب أن يروقك أبدا وفي كل شيء ، ولا إذا استحسنت لفظ ما لم يسمّ فاعله في قوله «وأنكر صاحب» ، فإنه ينبغي أن لا تراه في مكان إلا أعطيته مثل استحسانك هاهنا ، بل ليس من فضل ومزيّة إلا بحسب الموضع ، وبحسب المعنى الذي تريد والغرض الذي تؤمّ. وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش ، فكما أنك ترى الرجل قد تهدّى في الأصباغ التي عمل منها الصّورة والنقش في ثوبه الذي نسج ، إلى ضرب من التخيّر والتدبّر في أنفس الأصباغ وفي مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها وترتيبه إياها ، إلى ما لم يتهدّ إليه صاحبه ، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب ، وصورته أغرب ، كذلك حال الشاعر والشاعر في توخّيهما معاني النّحو ووجوهه التي علمت أنها محصول «النّظم».

واعلم أنّ من الكلام ما أنت ترى المزيّة في نظمه والحسن ، كالأجزاء من الصّبغ تتلاحق وينضمّ بعضها إلى بعض حتى تكثر في العين ، فأنت لذلك لا تكبر شأن

__________________

(١) كلمة وردت سابقا في أبيات البحتري «ودهر» وردت في أبيات الصولي.

٦٤

صاحبه ، ولا تقضي له بالحذق والأستاذية وسعة الذّرع وشدة المنّة (١) ، حتى تستوفي القطعة وتأتي على عدة أبيات. وذلك ما كان من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري ، ومنه ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة ، ويأتيك منه ما يملأ العين ضربة ، حتى تعرف من البيت الواحد مكان الرجل من الفضل ، وموضعه من الحذق ، وتشهد له بفضل المنّة وطول الباع ، وحتى تعلم ، إن لم تعلم القائل ، أنّه من قيل شاعر فحل ، وأنه خرج من تحت يد صناع ، وذلك ما إذا أنشدته وضعت فيه اليد على شيء فقلت : هذا ، هذا! وما كان كذلك فهو الشّعر الشاعر ، والكلام الفاخر ، والنّمط العالي الشريف ، والذي لا تجده إلّا في شعر الفحول البزّل (٢) ، ثم المطبوعين الذين يلهمون القول إلهاما.

ثم إنّك تحتاج إلى أن تستقري عدّة قصائد ، بل أن تفلي (٣) ديوانا من الشعر ، حتى تجمع منه عدّة أبيات. وذلك ما كان مثل قول الأوّل ، وتمثّل به أبو بكر الصّدّيق رضوان الله عليه حين أتاه كتاب خالد بالفتح في هزيمة الأعاجم : [من الوافر]

تمنّانا ليلقانا بقوم

تخال بياض لأمهم السّرابا

فقد لاقيتنا فرأيت حربا

عوانا تمنع الشّيخ الشرابا (٤)

انظر إلى موضع «الفاء» في قوله :

فقد لاقيتنا فرأيت حربا

ومثل قول العباس بن الأحنف : [من البسيط]

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ،

ثمّ القفول ، فقد جئنا خراسانا (٥)

__________________

(١) بالضم : القوة. القاموس / منن / (١٥٩٤).

(٢) تقول جمل وناقة بازل وبزول جمل بزّل أي في تاسع سنة والرجل الكامل في تجربته. القاموس / بزل / (١٢٤٨).

(٣) تقول فلاه بالسيف يفليه وفلي الشعر تدبره واستخرج معانيه. فلى رأسه بحث عن القمل. القاموس / فلي / (١٤٠٧).

(٤) من شعر الصحابي الجليل زياد بن حنظلة التميمي وهما من قصيدة وردت في خبر ذكره الطبري في تاريخه (٣ / ٢٢٢ ـ ٢٢٥). اللأم : جمع لأمة : الدرع. القاموس / لأم / (١٤٩٢).

(٥) في ديوانه من أبيات قالها للرشيد ، وهو ذاهب إلى أرمينية ومنها :

ما أقدر الله أن يدني على شحط

سكان دجلة من سكان جيحانا

متى الذي كنت أرجوه وآمله

أمّا الذي كنت أخشاه فقد كانا

عين الزمان أصابتنا فلا نظرت

وعذّبت بصنوف الهجر ألوانا

انظر الأغاني (٨ / ٣٨٨) ، وجيحان : نهر بالمصيصة بالثغر الشامي ، ومخرجه من بلاد الروم ويمر حتى يصب بمدينة تعرف بكفربيّا بإزاء المصيصة.

٦٥

انظر إلى موضع «الفاء» و «ثم» قبلها.

ومثل قول ابن الدّمينة : [من الطويل]

أبيني أفي يمنى يديك جعلتني

فأفرح ، أم صيّرتني في شمالك

أبيت كأنّي بين شقّين من عصا

حذار الرّدى ، أو خيفة من زيالك

تعاللت كي أشجى ، وما بك علّة ،

تريدين قتلي قد ظفرت بذلك (١)

انظر إلى الفصل والاستئناف في قوله : «تريدين قتلي ، قد ظفرت بذلك».

ومثل قول أبي حفص الشّطرنجيّ ، وقال على لسان عليّة أخت الرّشيد ، وقد كان الرشيد عتب عليها : [من البسيط]

لو كان يمنع حسن الفعل صاحبه

من أن يكون له ذنب إلى أحد

كانت عليّة أبرى النّاس كلّهم

من أن تكافا بسوء آخر الأبد

ما أعجب الشّيء ترجوه فتحرمه! قد كنت أحسب أنّي قد ملأت يدي (٢) انظر إلى قوله : «قد كنت أحسب» وإلى مكان هذا الاستئناف.

ومثل قول أبي دؤاد : [من الخفيف]

ولقد أغتدي يدافع ركني

أحوذي ذو ميعة إضريج (٣)

سلهب شرجب ، كأنّ رماحا

حملته ، وفي السّراة دموج (٤)

__________________

(١) الأبيات لابن الدمينة في ديوانه ، والأغاني (١٧ / ٩٦). وزيالك : فراقك.

(٢) أبو حفص الشطرنجي ، شاعر علية بنت المهدي بن المنصور أخت هارون الرشيد الأديبة الشاعرة والشعر في الأغاني (٢٢ / ٥٢). وسقط من الأبيات بيت قام عليه معنى البيت الرابع وهو :

ما لي إذا غبت لم أذكر بواحدة؟

وإن سقمت فطال السّقم لم أعد

(٣) البيت لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه (ص ٢٩٩) ، ولسان العرب (ضرج) ، وتاج العروس (ضرج) ، وتهذيب اللغة (١٠ / ٥٥٣) ، وكتاب العين (٦ / ٤٢) ، والأغاني (١٦ / ٤٠٦) ، وبلا نسبة في لسان العرب (جول) ، وكتاب العين. والأحوذيّ : السريع في كل ما أخذ وقيل : الخفيف في الشيء بحذقه ، وقيل : المشمر في الأمور القاهر لها. وكل المعاني تدور في فلك السرعة والإقدام والحذق في كل شيء. اللسان (حوذ). والإضريج : الجيد من الخيل ، وقيل : الواسع اللّبان وقيل : الفرس الجواد الشديد العدو.

(٤) البيت لأبي دؤاد في ديوانه ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (سرا) ، وأساس البلاغة (ص ١٣٥ دمج) ، وتاج العروس (سرو) ، والأغاني (١٦ / ٤٠٦) ، وجاءت الرواية بلفظ : «شوقب» بدلا من «سلهب». والسلهب من الخيل : الطويل على وجه الأرض وفرس مسلهبّ : ماض. وسلهب : الطويل العظام ، والسّراة : الظهر والجمع : سروات. والدّموج : دخول الشيء في الشيء. ويقال : تدامج القوم على فلان إذا تعاونوا واتحدوا وتضافروا عليه ، ويقال صلح دماج : محكم ، والشرجب : الطويل وهو نعت للفرس الجواد وقيل : الفرس الكريم. اللسان (شرجب).

٦٦

انظر إلى التنكير في قوله «كأن رماحا».

ومثل قول ابن البواب : [من مجزوء الوافر]

أتيتك عائذا بك من

ك لمّا ضاقت الحيل

وصيّرني هواك وبي

لحيني يضرب المثل

فإن سلمت لكم نفسي

فما لاقيته جلل

وإن قتل الهوى رجلا ،

فإني ذلك الرّجل (١)

انظر إلى الإشارة والتعريف في قوله : «فإني ذلك الرجل».

ومثل قول عبد الصمد : [من السريع]

مكتئب ذو كبد حرّى

تبكي عليه مقلة عبرى

يرفع يمناه إلى ربّه

يدعو ، وفوق الكبد اليسرى (٢)

انظر إلى لفظة : «يدعو» وإلى موقعها.

ومثل قول جرير : [من الكامل]

لمن الدّيار ببرقة الرّوحان

إذ لا نبيع زماننا بزمان

صدع الغواني ؛ إذ رمين ، فؤاده

صدع الزّجاجة ، ما لذاك تدان (٣)

انظر إلى قوله : «ما لذاك تدان» ، وتأمّل حال هذا الاستئناف.

ليس من بصير عارف بجوهر الكلام ، حسّاس متفهّم لسرّ هذا الشأن ، ينشد أو يقرأ هذه الأبيات ، إلّا لم يلبث أن يضع يده في كل بيت منها على الموضع الذي أشرت إليه ، يعجب ويعجّب ويكبر شأن المزيّة فيه والفضل.

__________________

(١) الأبيات في الأغاني (٦ / ١٧٨) ، منسوبة إلى سليم بن سلام الكوفي المغني صاحب إبراهيم الموصلي.

(٢) هو «عبد الصمد بن المعذل» والشعر في ديوانه المجموع ، وهي في الزهرة (١ / ٢٤) ، أربعة أبيات هذان ثم بعدهما :

يبقى إذا كلّمته باهتا

ونفسه ممّا به سكرى

تحسبه مستمعا ناصتا

وقلبه في أمة أخرى

(٣) البيتان لجرير في ديوانه وهما على غير هذا الترتيب ، وجاء الثاني برواية لفظها :

صدع الظعائن يوم بنّ فؤاده

صدع الزجاجة ، ما لذاك تدان

٦٧

فصل

«في النظم يتّحد في الوضع ، ويدقّ فيه الصّنع»

واعلم أنّ ممّا هو أصل في أن يدقّ النظر ، ويغمض المسلك ، في توخّي المعاني التي عرفت : أن تتّحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض ، ويشتدّ ارتباط ثان منها بأوّل ، وأن تحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعا واحدا ، وأن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع بيساره هناك. نعم. وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأوّلين. وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حدّ يحصره ، وقانون يحيط به ، فإنه يجيء على وجوه شتّى ، وأنحاء مختلفة.

فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء معا ، كقول البحتري : [من الطويل]

إذا ما نهى النّاهي فلجّ بي الهوى ،

أصاخت إلى الواشي فلجّ بها الهجر (١)

وقوله : [من الطويل]

إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها ،

تذكّرت القربى ففاضت دموعها (٢)

فهذا نوع.

ونوع منه آخر ، قول سليمان بن داود القضاعيّ : [من الوافر]

فبينا المرء في علياء أهوى ،

ومنحطّ أتيح له اعتلاء

وبينا نعمة إذ حال بؤس ،

وبؤس إذ تعقّبه ثراء

ونوع ثالث وهو ما كان كقول كثير : [من الطويل]

وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما

تخلّيت ممّا بيننا وتخلّت

لكالمرتجى ظلّ الغمامة كلّما

تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت (٣)

وكقول البحتري : [من الطويل]

__________________

(١) البيت في التبيان للطيبي (٢ / ٤٠٠) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي ويروى (أصاخ) بدل (أصاخت).

(٢) البيت في ديوانه ، وفي الإيضاح (ص ٣١٠).

(٣) البيتان لكثير عزة في ديوانه ، والأول منهما في خزانة الأدب (٥ / ٢١٤) ، والخصائص (١ / ٣٤٠) ، وسر صناعة الإعراب (ص ١٣٩) ، وشرح شواهد المغني (ص ٨١٢) ، ولسان العرب (هيم) ، ومغني اللبيب (٣٨٩) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٤٠٩) ..

٦٨

لعمرك إنّا والزّمان كما جنت

على الأضعف الموهون عادية الأقوى (١)

ومنه «التقسيم» ، وخصوصا إذا قسّمت ثم جمعت ، كقول حسان : [من البسيط]

قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم

أو حاولوا النّفع في أشياعهم نفعوا

سجيّة تلك منهم غير محدثة ،

إنّ الخلائق ، فاعلم ، شرّها البدع (٢)

ومن ذلك ، وهو شيء في غاية الحسن ، قول القائل : [من البسيط]

لو أنّ ما أنتم فيه يدوم لكم

ظننت ما أنا فيه دائما أبدا

لكن رأيت اللّيالي غير تاركة

ما سرّ من حادث أو ساء مطّردا

فقد سكنت إلى أنّي وأنّكم

سنستجدّ خلاف الحالتين غدا (٣)

قوله : «سنستجد خلاف الحالتين غدا» ، جمع فيما قسّم لطيف ، وقد ازداد لطفا بحسن ما بناه عليه ، ولطف ما توصّل به إليه من قوله : «فقد سكنت إلى أنّي وأنّكم».

وإذ قد عرفت هذا النّمط من الكلام ، وهو ما تتّحد أجزاؤه حتى يوضع وضعا واحدا ، فاعلم أنه النّمط العالي والباب الأعظم ، والذي لا ترى سلطان المزيّة يعظم في شيء كعظمه فيه.

ومما ندر ـ منه ولطف مأخذه ، ودقّ نظر واضعه ، وجلّى لك معن شأو قد تحسر دونه العتاق (٤) ، وغاية يعيا من قبلها المذاكي (٥) القرّح (٦) ـ الأبيات المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين ، كبيت امرئ القيس : [من الكامل]

كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي (٧)

__________________

(١) الموهون : الذي أصابه وجمع وإن كانت أنثى يقال لها واهنة ، يقال : أوهنه الله فهو موهون كما يقال أحمّه الله فهو محموم.

(٢) البيتان لحسان بن ثابت في ديوانه (ص ٢٣٨) ، والطراز (٣ / ١٤٤) ، والمصباح (ص ٢٤٩) ، والإيضاح (ص ٣١٦).

(٣) الأبيات لإبراهيم بن العباس الصولي ونسبها البعض إلى ابن الرومي.

(٤) عتاق الطير : الجوارح منها ، الأرحبيات العتاق : النجائب منها. اللسان / عتق / (١٠ / ٢٣٥).

(٥) هي الخيل التي أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان. اه اللسان مادة / ذكا / (١٤ / ٢٨٨).

(٦) جمع قارح وهي الناقة أول ما تحمل. اه اللسان / قرح / (٢ / ٥٥٩).

(٧) البيت في ديوانه من قصيدة مطلعها :

ألا عم صباحا أيها الطلل البالي

وهل يعمن من كان في العصر الخالي

وفي الأغاني (٣ / ١٩٢) ، وشرح التصريح (١ / ٣٨٢) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٣٤٢ ، ٢ / ٥٩٥ ، ٨١٩) ، والصاحبي في فقه اللغة (ص ٢٤٤) ، ولسان العرب (أدب) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٢١٦) ، والمنصف (٢ / ١١٧) ، وتاج العروس (بال) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر

٦٩

وبيت الفرزدق : [من الكامل]

والشّيب ينهض في الشّباب كأنّه

ليل يصيح بجانبيه نهار (١)

وبيت بشّار : [من الطويل]

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ، ليل تهاوى كواكبه (٢)

ومما أتى في هذا الباب مأتى أعجب مما مضى كله ، قول زياد الأعجم : [من الطويل]

وإنّا وما تلقي لنا إن هجوتنا

لكالبحر ، مهما يلق في البحر يغرق (٣)

وإنما كان أعجب ، لأن عمله أدقّ ، وطريقه أغمض ، ووجه المشابكة فيه أغرب.

واعلم أنّ من الكلام ما أنت تعلم إذا تدبرته أن لم يحتج واضعه إلى فكر ورويّة حتى انتظم ، بل ترى سبيله في ضمّ بعضه إلى بعض ، سبيل من عمد إلى لآل فخرطها في سلك ، لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرّق ، وكمن نضد أشياء بعضها على بعض ، لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة ، بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي العين. وذلك إذا كان معناك ، معنى لا تحتاج أن تصنع فيه شيئا غير أن تعطف لفظا على مثله ، كقول الجاحظ :

__________________

ـ (٧ / ٦٤) ، وأوضح المسالك (٢ / ٣٢٩) ، ومغني اللبيب (١ / ٢١٨ ، ٢ / ٣٩٢ ، ٤٣٩). والعنّاب : ثمر يطلق على شجر العنّاب وهو أحمر حلو لذيذ الطعم على شكل ثمرة النبق. والحشف من التمر : أردؤه ، وهو الذي يجف قبل نضجه فلا يكون له نوى ولا لحاء ولا حلاوة ولا لحم.

(١) البيت للفرزدق في ديوانه من قصيدة مطلعها :

أعرفت بين رويتين وحنبل

دمنا تلوح كأنها الأسطار

ورويتين وحنبل : موضعان. الأسطار : أراد الأثر الخفي محته الأمطار ، يقال : صاح العنقود يصيح إذا استتم خروجه من أكمته وطال وهو في ذلك غضّ ، وتصيّح البقل والشّعر أي : تشقق ، وقول رؤية : كالكرم إذ نادى من الكافور : أراد : صاح.

(٢) البيت لبشار بن برد في ديوانه (١ / ٣١٨) ، والمصباح (١٠٦) ويروى «رءوسهم» بدل «رءوسنا». الأغاني (٣ / ١٩٢) ، والنقع : الغبار ، وتهاوى : تتهاوى أي : تتساقط.

(٣) البيت في الأغاني (١٥ / ٣٩٢) ، قاله حينما همّ الفرزدق أن يهجو عبد القيس فأسمعه زياد بيتين وكان هذا البيت أحدهما قال : أي زياد :

وما ترك الهاجون لي إن هجوته

مصحّا أراه في أديم الفرزدق

فإنّا وما تهدي لنا إن هجوتنا

لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق

فقال له الفرزدق : حسبك وما عاوده بشيء. والبيت في الإيضاح (٢٣١). ويروى البيت «وإنّا» بدل «فإنا».

٧٠

«جنّبك الله الشبهة ، وعصمك من الحيرة ، وجعل بينك وبين المعرفة نسبا ، وبين الصّدق سببا ، وحبّب إليك التثبّت ، وزيّن في عينك الإنصاف ، وأذاقك حلاوة التّقوى ، وأشعر قلبك عزّ الحق ، وأودع صدرك برد اليقين ، وطرد عنك ذلّ اليأس ، وعرّفك ما في الباطل من الذّلة ، وما في الجهل من القلّة» (١).

وكقول بعضهم : «لله درّ خطيب قام عندك ، يا أمير المؤمنين ، ما أفصح لسانه ، وأحسن بيانه ، وأمضى جنانه ، وأبلّ ريقه ، وأسهل طريقه».

ومثل قول النابغة في الثناء المسجوع : «أيفاخرك الملك اللّخمي ، فو الله لقفاك خير من وجهه ، ولشمالك خير من يمينه ، ولأخمصك خير من رأسه ، ولخطؤك خير من صوابه ، ولعيّك خير من كلامه ، ولخدمك خير من قومه».

وكقول بعض البلغاء في وصف اللسان : «اللّسان أداة يظهر بها حسن البيان ، وظاهر يخبر عن الضمير ، وشاهد ينبئك عن غائب ، وحاكم يفصل به الخطاب ، وواعظ ينهى عن القبيح ، ومزيّن يدعو إلى الحسن ، وزارع يحرث المودّة ، وحاصد يحصد الضّغينة ، ومُلهٍ يونق الأسماع».

فما كان من هذا وشبهه لم يجب به فضل إذا وجب ، إلّا بمعناه أو بمتون ألفاظه ، دون نظمه وتأليفه ، وذلك لأنه لا فضيلة حتى ترى في الأمر مصنعا ، وحتى تجد إلى التخيّر سبيلا ، وحتى تكون قد استدركت صوابا.

فإن قلت : أفليس هو كلاما قد اطّرد على الصواب ، وسلم من العيب؟ أفما يكون في كثرة الصواب فضيلة؟

قيل : أمّا والصواب كما ترى فلا. لأنا لسنا في ذكر تقويم اللسان ، والتحرّز من اللحن وزيغ الإعراب ، فنعتدّ بمثل هذا الصواب. وإنما نحن في أمور تدرك بالفكر اللطيفة ، ودقائق يوصل إليها بثاقب الفهم ، فليس درك صواب دركا فيما نحن فيه حتّى يشرف موضعه ويصعب الوصول إليه ، وكذلك لا يكون ترك خطاء تركا حتى يحتاج في التحفّظ منه إلى لطف نظر ، وفضل رويّة ، وقوّة ذهن ، وشدة تيقّظ. وهذا باب ينبغي أن تراعيه وأن تعنى به ، حتى إذا وازنت بين كلام وكلام دريت كيف تصنع ، فضممت إلى كلّ شكل شكله ، وقابلته بما هو نظير له ، وميّزت ما الصنعة منه في لفظه ، ممّا هي منه في نظمه.

واعلم أن هذا ـ أعني الفرق بين أن تكون المزية في اللفظ ، وبين أن تكون في النّظم ـ باب يكثر فيه الغلط ، فلا تزال ترى مستحسنا قد أخطأ بالاستحسان موضعه ،

__________________

(١) انظر الحيوان للجاحظ (١ / ٣). في المقدمة.

٧١

فينحل اللّفظ ما ليس له ، ولا تزال ترى الشّبهة قد دخلت عليك في الكلام قد حسن من لفظه ونظمه ، فظننت أن حسنه ذلك كلّه للّفظ منه دون النظم.

مثال ذلك : أن تنظر إلى قول ابن المعتز : [من الطويل]

وإنّي على إشفاق عيني من العدى

لتجمح منّي نظرة ثمّ أطرق (١)

فترى أنّ هذه الطّلاوة وهذا الظرف ، إنما هو لأن جعل النّظر «يجمح» وليس هو لذلك ، بل لأن قال في أول البيت «وإنّي» حتى دخل اللّام في قوله «لتجمح» ، ثم قوله : «منّي» ثم لأن قال «نظرة» ولم يقل «النّظر» مثلا ، ثم لمكان «ثم» في قوله : «ثم أطرق» ، وللطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف ، وهي اعتراضه بين اسم «إن» وخبرها بقوله : «على إشفاق عيني من العدى».

وإن أردت أعجب من ذلك فيما ذكرت لك ، فانظر إلى قوله ، وقد تقدم إنشاده قبل : [من البسيط]

سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا

أنصاره بوجوه كالدّنانير (٢)

فإنك ترى هذه الاستعارة ، على لطفها وغرابتها ، إنما تمّ لها الحسن وانتهى إلى حيث انتهى ، بما توخّى في وضع الكلام من التقديم والتأخير ، وتجدها قد ملحت ولطفت بمعاونة ذلك ومؤازرته لها. وإن شككت فاعمد إلى الجارّين والظرف ، فأزل كلّا منها من مكانه الذي وضعه الشاعر فيه ، فقل : «سالت شعاب الحيّ بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره» ، ثم انظر كيف يكون الحال ، وكيف يذهب الحسن والحلاوة؟ وكيف تعدم أريحيّتك التي كانت؟ وكيف تذهب النّشوة التي كنت تجدها؟.

وجملة الأمر أن هاهنا كلاما حسنه للّفظ دون النظم ، وآخر حسنه للنظم دون اللفظ ، وثالثا قد أتاه الحسن من الجهتين ، ووجبت له المزيّة بكلا الأمرين. والإشكال في هذه الثالث ، وهو الذي لا تزال ترى الغلط قد عارضك فيه ، وتراك قد حفت فيه (٣) على النّظم ، فتركته وطمحت ببصرك إلى اللفظ ، وقدّرت في حسن كان به وباللّفظ ، أنه للّفظ خاصة. وهذا هو الذي أردت حين قلت لك : «إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلّا من بعد العلم بالنظم والوقوف على حقيقته».

__________________

(١) انظر ديوان ابن المعتز (١ / ٣٠٧).

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) الحيف : الميل في الحكم والجور والظلم. اه اللسان مادة / حيف / (٩ / ٦٠).

٧٢

ومن دقيق ذلك وخفيّه ، أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] ، لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة ، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها ، ولم يروا للمزيّة موجبا سواها. هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم. وليس الأمر على ذلك ، ولا هذا الشرف العظيم ، ولا هذه المزيّة الجليلة ، وهذه الرّوعة التي تدخل على النفوس عند هذا الكلام لمجرّد الاستعارة ، ولكن لأن سلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء ، وهو لما هو من سببه ، فيرفع به ما يسند إليه ، ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى منصوبا بعده ، مبيّنا أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأوّل ، إنّما كانا من أجل هذا الثاني ، ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة ، كقولهم : «طاب زيد نفسا» ، و «قرّ عمرو عينا» ، و «تصبّب عرقا» ، و «كرم أصلا» ، و «حسن وجها» ، وأشباه ذلك مما تجد الفعل فيه منقولا عن الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه.

وذلك أنّا نعلم أنّ «اشتعل» للشيب في المعنى ، وإن كان هو للرأس في اللّفظ ، كما أن «طاب» للنفس ، و «قرّ» للعين ، و «تصبّب» للعرق ، وإن أسند إلى ما أسند إليه. يبيّن أنّ الشرف كان لأن سلك فيه هذا المسلك ، وتوخّي به هذا لمذهب أن تدع هذا الطريق فيه ، وتأخذ اللّفظ فتسنده إلى الشيب صريحا فتقول : «اشتعل شيب الرأس» ، أو «الشيب في الرأس» ، ثم تنظر هل تجد ذلك الحسن وتلك الفخامة؟ وهل ترى الرّوعة التي كنت تراها؟

فإن قلت : فما السبب في أن كان «اشتعل» إذا استعير للشيب على هذا الوجه ، كان له الفضل؟ ولم بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة؟

فإنّ السبب أنه يفيد ، مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى ، الشمول ، وأنه قد شاع فيه ، وأخذه من نواحيه ، وأنه قد استغرقه وعمّ جملته ، حتى لم يبق من السواد شيء ، أو لم يبق منه إلا ما لا يعتدّ به. وهذا ما لا يكون إذا قيل : «اشتعل شيب الرأس ، أو الشيب في الرأس» ، بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة. ووزان هذا أنك تقول : «اشتعل البيت نارا» فيكون المعنى : أن النار قد وقعت فيه وقوع الشّمول ، وأنها قد استولت عليه وأخذت في طرفيه ووسطه. وتقول : «اشتعلت النار في البيت» ، فلا يفيد ذلك ، بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه ، وإصابتها جانبا منه. فأما الشمول ، وأن تكون قد استولت على البيت وابتزّته ، فلا يعقل من اللفظ البتة.

ونظير هذا في التنزيل قوله عزوجل : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] ،

٧٣

«التفجير» للعيون في المعنى ، وأوقع على الأرض في اللفظ ، كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس. وقد حصل بذلك من معنى الشّمول هاهنا ، مثل الذي حصل هناك. وذلك أنه قد أفاد أنّ الأرض قد كانت صارت عيونا كلّها ، وأن الماء قد كان يفور من كل مكان منها. ولو أجري اللفظ على ظاهره فقيل : «وفجّرنا عيون الأرض ، أو العيون في الأرض» ، لم يفد ذلك ولم يدلّ عليه ، ولكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرّقة في الأرض ، وتبجّس من أماكن منها.

واعلم أنّ في الآية الأولى شيئا آخر من جنس «النظم» ، وهو تعريف «الرأس» بالألف واللام ، وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة ، وهو أحد ما أوجب المزيّة. ولو قيل : «واشتعل رأسي» ، فصرّح بالإضافة ، لذهب بعض الحسن ، فاعرفه.

وأنا أكتب لك شيئا مما سبيل «الاستعارة» فيه هذا السبيل ، ليستحكم هذا الباب في نفسك ، ولتأنس به.

فمن عجيب ذلك قول بعض الأعراب : [من الرجز]

اللّيل داج كنفا جلبابه

والبين محجور على غرابه

ليس كلّ ما ترى من الملاحة لأن جعل للّيل جلبابا ، وحجر على الغراب ، ولكن في أن وضع الكلام الذي ترى ، فجعل «الليل» مبتدأ ، وجعل «داج» خبرا له وفعلا لما بعده وهو «الكنفان» ، وأضاف «الجلباب» إلى ضمير «الليل» ، ولأن جعل كذلك «البين» مبتدأ ، وأجرى محجورا خبرا عنه ، وأن أخرج اللفظ على «مفعول». يبيّن ذلك أنك لو قلت : «وغراب البيت محجور عليه ، أو : قد حجر لي غراب البيت» ، لم تجد له هذه الملاحة. وكذلك لو قلت : «قد دجا كنفا جلباب الليل» ، لم يكن شيئا.

ومن النادر فيه قول المتنبي : [من الخفيف]

غصب الدّهر والملوك عليها

فبناها في وجنة الدّهر خالا (١)

__________________

(١) البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه (ص ١٦٨) من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة ويذكر نهوضه إلى ثغر الحدث لمّا بلغه أن الروم أحاطت به وذلك في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثلاث مائة (٩٥٥ م) والقصيدة مطلعها :

ذي المعالي فليعلون من تعالى

هكذا هكذا وإلا فلا لا

وذي اسم إشارة ، وهو خبر مقدم على اسمه المعالي. وفي البيت الآخر : غصب بمعنى قهر ، شبهه بالخال الذي يزين الوجه. ويروى البيت ب «الأرض» بدل «الدهر».

٧٤

قد ترى في أوّل الأمر أنّ حسنه أجمع في أن جعل للدهر «وجنة» ، وجعل البنيّة «خالا» في الوجنة ، وليس الأمر على ذلك ، فإن موضع الأعجوبة في أن أخرج الكلام مخرجه الذي ترى ، وأن أتى «بالخال» منصوبا على الحال من قوله «فبناها». أفلا ترى أنك لو قلت : «وهي خال في وجنة الدهر» ، لوجدت الصورة غير ما ترى؟ وشبيه بذلك أنّ ابن المعتز قال : [من المجتث]

يا مسكة العطّار

وخال وجه النهار (١)

وكانت الملاحة في الإضافة بعد الإضافة ، لا في استعارة لفظة «الخال» ؛ إذ معلوم أنه لو قال : «يا خالا في وجه النهار» أو «يا من هو خال في وجه النهار» ، لم يكن شيئا.

ومن شأن هذا الضّرب أن يدخله الاستكراه ، قال الصاحب (٢) : «إياك والإضافات المداخلة ، فإن ذلك لا يحسن» ، وذكر أنه يستعمل في الهجاء كقول القائل : [من الخفيف]

يا عليّ بن حمزة بن عماره

أنت والله ثلجة في خياره (٣)

ولا شبهة في ثقل ذلك في الأكثر ، ولكنه إذا سلم من الاستكراه لطف وملح.

ومما حسن فيه قول ابن المعتز أيضا : [من الطويل]

وظلّت تدير الرّاح أيدي جآذر

عتاق دنانير الوجوه ملاح (٤)

ومما جاء منه حسنا جميلا قول الخالديّ في صفة غلام له : [من المنسرح]

__________________

(١) البيت في ديوانه (ص ٢٥٣) فانظره ، ويليه :

ولعبة أحكتها عناية النجّار

من آبنوس تسمى باليمن بين الجواري.

(٢) هو الصاحب بن عباد وزير البويهيين.

(٣) البيت لم أعثر على قائله ، وهو في الإيضاح (ص ٩) ، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي ، ولعلي بن حمزة المهجو في هذا البيت ترجمته في الجزء الخامس من معجم الأدباء لياقوت ، وفي قوله : «ثلجة في خياره» قلب والأصل خيارة في ثلجة.

(٤) البيت في ديوانه (١٤٥) (طبعة دار صادر) وهو ثاني بيتين في الديوان والبيت الذي قبله :

لبسنا إلى الخمار والنجم غائر

غلالة ليل طرّزت بصباح

والبيت في الإيضاح (ص ١٠) ، والراح : الخمر ، الجآذر : جمع جؤذر وهو ولد البقرة الوحشية ، وعتاق : جمع عتيق أي كريم ، وإضافة دنانير إلى الوجوه من إضافة المشبه به إلى المشبه ، والشاهد في قوله : عتاق دنانير الوجوه.

٧٥

ويعرف الشّعر مثل معرفتي

وهو على أن يزيد مجتهد

وصيرفيّ القريض ، وزّان دينا

ر المعاني الدّقاق ، منتقد (١)

ومنه قول أبي تمام : [من الكامل]

خذها ابنة الفكر المهذّب في الدّجى

واللّيل أسود رقعة الجلباب (٢)

ومما أكثر الحسن فيه بسبب النظم ، قول المتنبي : [من الطويل]

وقيّدت نفسي في ذراك محبّة

ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا (٣)

الاستعارة في أصلها مبتذلة معروفة ، فإنك ترى العامّي يقول للرجل يكثر إحسانه إليه وبرّه له ، حتى يألفه ويختار المقام عنده : «قد قيّدني بكثرة إحسانه إليّ ، وجميل فعله معي ، حتى صارت نفسي لا تطاوعني على الخروج من عنده» ، وإنما كان ما ترى من الحسن ، بالمسلك الذي سلك في النّظم والتأليف.

فصل

«القول في التقديم والتأخير»

هو باب كثير الفوائد ، جمّ المحاسن ، واسع التصرّف ، بعيد الغاية ، لا يزال يفترّ لك عن بديعة ، ويفضي بك إلى لطيفة ، ولا تزال ترى شعرا يروقك مسمعه ، ويلطف

__________________

(١) الخالدي : هو أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدي من شعراء اليتيمة ، وكان في حاشية سيف الدولة الأدبية ، وقيم دار كتبه مع أخيه أبي بكر محمد. والبيتان في الإيضاح (ص ١٠) ، والشاهد في قوله : «وزان دينار المعاني».

(٢) البيت في ديوانه (ص ٢٩) من قصيدة قالها في مدح مالك بن طوق التغلبي وقبله :

يا مالك استودعتني لك منة

تبقى ذخائرها على الأحقاب

يا خاطبا مدحي إليه بجوده

ولقد خطبت قليلة الخطاب

والبيت في المصباح (٢١١). قوله في الدجى : تتميم ، ويسميه البعض حشوا ، وهم يعيبونه ، ولكن من الدارسين من يرى غير ذلك.

(٣) البيت في ديوانه ، وهو البيت قبل الأخير من قصيدة قالها في مدح سيف الدولة يمدحه ويهنئه بعيد الأضحى سنة اثنتين وأربعين وثلاث مائة أنشده إياها في ميدانه بحلب وهما على فرسيهما ، وقبله :

تركت السّرى خلفي لمن قلّ ماله

وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا

٧٦

لديك موقعه ، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك ، أن قدّم فيه شيء ، وحوّل اللّفظ عن مكان إلى مكان.

واعلم أن تقديم الشيء على وجهين :

تقديم يقال إنه على نيّة التأخير ، وذلك في كل شيء أقررته مع التقديم على حكمه الذي كان عليه ، وفي جنسه الذي كان فيه ، كخبر المبتدأ إذا قدمته على المبتدأ ، والمفعول إذا قدّمته على الفاعل كقولك : «منطلق زيد» و «ضرب عمرا زيد» ، معلوم أنّ «منطلق» و «عمرا» لم يخرجا بالتقديم عمّا كانا عليه ، من كون هذا خبر مبتدأ ومرفوعا بذلك ، وكون ذلك مفعولا ومنصوبا من أجله (١) ، كما يكون إذا أخّرت.

وتقديم لا على نية التأخير ، ولكن على أن تنقل الشيء عن حكم إلى حكم ، وتجعل له بابا غير بابه ، وإعرابا غير إعرابه ، وذلك أن تجيء إلى اسمين يحتمل كلّ واحد منهما أن يكون مبتدأ ويكون الآخر خبرا له ، فتقدّم تارة هذا على ذاك ، وأخرى ذاك على هذا. ومثاله ما تصنعه بزيد والمنطلق ، حيث تقول مرة : «زيد المنطلق» ، وأخرى ، «المنطلق زيد» ، فأنت في هذا لم تقدم «المنطلق» على أن يكون متروكا على حكمه الذي كان عليه مع التأخير ، فيكون خبر مبتدأ كما كان ، بل على أن تنقله عن كونه خبرا إلى كونه مبتدأ ، وكذلك لم تؤخر «زيدا» على أن يكون مبتدأ كما كان ، بل على أن تخرجه عن كونه مبتدأ إلى كونه خبرا.

وأظهر من هذا قولنا : «ضربت زيدا» و «زيد ضربته» ، لم تقدم «زيدا» على أن يكون مفعولا منصوبا بالفعل كما كان ، ولكن على أن ترفعه بالابتداء ، وتشغل الفعل بضميره ، وتجعله في موضع الخبر له ؛ وإذ قد عرفت هذا التقسيم ، فإني أتبعه بجملة من الشّرح.

واعلم أنّا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئا يجري مجرى الأصل ، غير العناية والاهتمام. قال صاحب الكتاب (٢) ، وهو يذكر الفاعل والمفعول : «كأنهم يقدّمون الذي بيانه أهمّ لهم ، وهم ببيانه أعنى ، وإن كانا جميعا يهمّانهم ويعنيانهم» ، ولم يذكر في ذلك مثالا.

وقال النحويون : إن معنى ذلك أن قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع

__________________

(١) أي من أجل الفاعل.

(٢) المقصود به (سيبويه) وكتابه «الكتاب».

٧٧

بإنسان بعينه ، ولا يبالون من أوقعه ، كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجيّ يخرج فيعيث ويفسد ، ويكثر به الأذى ، أنّهم يريدون قتله ، ولا يبالون من كان القتل منه ، ولا يعنيهم منه شيء. فإذا قتل ، وأراد مريد الإخبار بذلك ، فإنه يقدّم ذكر الخارجيّ فيقول : «قتل الخارجيّ زيد» ، ولا يقول : «قتل زيد الخارجيّ» ، لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له «زيد» جدوى وفائدة ، فيعنيهم ذكره ويهمّهم ويتّصل بمسرّتهم ، ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقّعون له ومتطلّعون إليه متى يكون ، وقوع القتل بالخارجي المفسد ، وأنّهم قد كفوا شرّه وتخلّصوا منه.

ثم قالوا : فإن كان رجل ليس له بأس ولا يقدّر فيه أنّه يقتل ، فقتل رجلا ، وأراد المخبر أن يخبر بذلك ، فإنه يقدم ذكر القاتل فيقول : «قتل زيد رجلا» ، ذاك لأن الذي يعنيه ويعني الناس من شأن هذا القتل ، طرافته وموضع النّدرة فيه ، وبعده كان من الظنّ. ومعلوم أنه لم يكن نادرا وبعيدا من حيث كان واقعا بالذي وقع به ، ولكن من حيث كان واقعا من الذي وقع منه.

فهذا جيد بالغ ، إلا أنّ الشأن في أنه ينبغي أن يعرف في كل شيء قدّم في موضع من الكلام مثل هذا المعنى ، ويفسّر وجه العناية فيه هذا التفسير.

وقد وقع في ظنون النّاس أنّه يكفي أن يقال : «إنه قدم للعناية ، ولأن ذكره أهم» ، من غير أن يذكر ، من أين كانت تلك العناية؟ وبم كان أهمّ؟ ، ولتخيّلهم ذلك ، قد صغر أمر «التقديم والتأخير» في نفوسهم ، وهوّنوا الخطب فيه ، حتى إنك لترى أكثرهم يرى تتبّعه والنظر فيه ضربا من التكلّف. ولم تر ظنّا أزرى على صاحبه من هذا وشبهه.

وكذلك صنعوا في سائر الأبواب ، فجعلوا لا ينظرون في «الحذف والتكرار» ، و «الإظهار والإضمار» ، «الفصل والوصل» ، ولا في نوع من أنواع الفروق والوجوه إلا نظرك فيما غيره أهمّ لك ، بل فيما إن لم تعلمه لم يضرك.

لا جرم أنّ ذلك قد ذهب بهم عن معرفة البلاغة ، ومنعهم أن يعرفوا مقاديرها ، وصدّ بأوجههم عن الجهة التي هي فيها ، والشّقّ الذي يحويها. والمداخل التي تدخل منها الآفة على الناس في شأن العلم ، ويبلغ الشيطان مراده منهم في الصّد عن طلبه وإحراز فضيلته ـ كثيرة ، وهذه من أعجبها ، إن وجدت متعجّبا.

وليت شعري ، إن كانت هذه أمورا هيّنة ، وكان المدى فيها قريبا ، والجدا (١)

__________________

(١) الجدا : القطيعة. اه القاموس مادة / جدا / (١٦٣٨).

٧٨

يسيرا ، من أين كان نظم أشرف من نظم؟ وبم عظم التفاوت ، واشتد التباين ، وترقّى الأمر إلى الإعجاز ، وإلى أن يقهر أعناق الجبابرة؟ أو هاهنا أمور أخر نحيل في المزيّة عليها ، ونجعل الإعجاز كان بها ، فتكون تلك الحوالة لنا عذرا في ترك النظر في هذه التي معنا ، والإعراض عنها ، وقلة المبالاة بها؟ أو ليس هذا التهاون ، إن نظر العاقل ، خيانة منه لعقله ودينه ، ودخولا فيما يزرى بذي الخطر ، ويغضّ من قدر ذوي القدر؟ وهل يكون أضعف رأيا ، وأبعد من حسن التدبّر ، منك إذ همّك أن تعرف الوجوه في : «أأنذرتهم» ، والإمالة في «رأى القمر» وتعرف «الصّراط» و «الزّراط» ، وأشباه ذلك مما لا يعدو علمك فيه اللفظ وجرس الصوت ، ولا يمنعك إن لم تعلمه بلاغة ، ولا يدفعك عن بيان ، ولا يدخل عليك شكّا ، ولا يغلق دونك باب معرفة ، ولا يفضي بك إلى تحريف وتبديل ، وإلى الخطأ في تأويل ، وإلى ما يعظم فيه المعاب عليك ، ويطيل لسان القادح فيك ، ولا يعنيك (١) ولا يهمّك أن تعرف ما إذا جهلته عرّضت نفسك لكل ذلك ، وحصلت فيما هنالك ، وكان أكثر كلامك في التفسير ، وحيث تخوض في التأويل ، كلام من لا يبني الشيء على أصله ، ولا يأخذه من مأخذه ، ومن ربّما وقع في الفاحش من الخطأ الذي يبقى عاره ، وتشنع آثاره. ونسأل الله العصمة من الزّلل ، والتوفيق لما هو أقرب إلى رضاه من القول والعمل.

واعلم أنّ من الخطأ أن يقسّم الأمر في تقديم الشيء وتأخيره قسمين : فيجعل مفيدا في بعض الكلام ، وغير مفيد في بعض ، وأن يعلّل تارة بالعناية ، وأخرى بأنه توسعة على الشاعر والكاتب ، حتى تطّرد لهذا قوافيه ولذاك سجعه. ذاك لأنّ من البعيد أن يكون في جملة النظم ما يدل تارة ولا يدل أخرى. فمتى ثبت في تقديم المفعول مثلا على الفعل في كثير من الكلام ، أنه قد اختصّ بفائدة لا تكون تلك الفائدة مع التأخير ، فقد وجب أن تكون تلك قضية في كل شيء وكلّ حال. ومن سبيل من يجعل التقديم وترك التقديم سواء ، أن يدّعي أنه كذلك في عموم الأحوال ، فأمّا أن يجعله شريجين ، فيزعم أنه للفائدة في بعضها ، وللتصرف في اللفظ من غير معنى في بعض ، فمما ينبغي أن يرغب عن القول به.

وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التّفرقة بين تقديم ما قدّم فيها وترك تقديمه.

ومن أبين شيء في ذلك «الاستفهام بالهمزة» ، فإن موضع الكلام على أنك إذا

__________________

(١) قوله (ولا يعنيك) معطوف على قوله : (إذا همك).

٧٩

قلت : «أفعلت؟» ، فبدأت بالفعل ، كان الشكّ في الفعل نفسه ، وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده.

وإذا قلت : «أأنت فعلت؟» ، فبدأت بالاسم ، كان الشكّ في الفاعل من هو ، وكان التردّد فيه. ومثال ذلك أنك تقول : «أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟» ، «أقلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟» ، و «أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟» ، تبدأ في هذه ونحوه بالفعل ، لأن السؤال عن الفعل نفسه والشكّ فيه ، لأنك في جميع ذلك متردّد في وجود الفعل وانتفائه ، مجوّز أن يكون قد كان ، وأن يكون لم يكن.

وتقول : «أأنت بنيت هذه الدار؟» ، «أأنت قلت هذا الشعر؟» ، «أأنت كتبت هذا الكتاب؟» ، فتبدأ في ذلك كله بالاسم ، ذاك لأنّك لم تشكّ في الفعل أنه كان. كيف؟ وقد أشرت إلى الدار مبنية ، والشعر مقولا ، والكتاب مكتوبا ، وإنما شككت في الفاعل من هو؟.

فهذا من الفرق لا يدفعه دافع ، ولا يشكّ فيه شاك ، ولا يخفى فساد أحدهما في موضع الآخر.

فلو قلت : «أأنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟» ، «أأنت قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟» ، «أأنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟» ، خرجت من كلام الناس. وكذلك لو قلت : «أبنيت هذه الدار؟» ، «أقلت هذا الشعر؟» ، «أكتبت هذا الكتاب؟» ، قلت ما ليس بقول. ذاك لفساد أن تقول في الشيء المشاهد الذي هو نصب عينيك أموجود أم لا؟

وممّا يعلم به ضرورة أنه لا تكون البداية بالفعل كالبداية بالاسم أنّك تقول : «أقلت شعرا قطّ؟» ، «أرأيت اليوم إنسانا؟» ، فيكون كلاما مستقيما. ولو قلت : «أأنت قلت شعرا قط؟» ، «أأنت رأيت إنسانا» ، أحلت ، وذاك أنه لا معنى للسؤال عن الفاعل من هو في مثل هذا ، لأن ذلك إنما يتصوّر إذا كانت الإشارة إلى فعل مخصوص نحو أن تقول : «من قال هذا الشعر؟» ، و «من بنى هذه الدار؟» و «من أتاك اليوم؟» ، و «من أذن لك في الذي فعلت؟» ، وما أشبه ذلك ممّا يمكن أن ينصّ فيه على معيّن. فأمّا قيل شعر على الجملة ، ورؤية إنسان على الإطلاق ، فمحال ذلك فيه ، لأنه ليس مما يختص بهذا دون ذاك حتى يسأل عن عين فاعله.

ولو كان تقديم الاسم لا يوجب ما ذكرنا ، من أن يكون السؤال عن الفاعل من

٨٠