دلائل الإعجاز في علم المعاني

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

دلائل الإعجاز في علم المعاني

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦

هذا ، وكما أن من شأن الكناية الواقعة في نفس الصّفة أن تجيء على صور مختلفة ، كذلك من شأنها إذا وقعت في طريق إثبات الصّفة أن تجيء على هذا الحدّ ، ثم يكون في ذلك ما يتناسب ، كما كان ذلك في الكناية عن الصفة نفسها.

تفسير هذا : أنك تنظر إلى قول يزيد بن الحكم (١) يمدح به يزيد بن المهلّب ، وهو في حبس الحجّاج : [من المنسرح]

أصبح في قيدك السّماحة والمج

د وفضل الصّلاح والحسب

فتراه نظيرا لبيت «زياد» ، وتعلم أن مكان «القيد» هاهنا هو مكان «القبة» هناك.

كما أنك تنظر إلى قوله : «جبان الكلب» ، فتعلم أنه نظير لقوله : [من الطويل]

زجرت كلابي أن يهرّ عقورها (٢)

من حيث لم يكن ذلك «الجبن» إلا لأن دام منه الزّجر واستمرّ ، حتى أخرج الكلب بذلك عما هو عادته من الهرير والنّبح في وجه من يدنو من دار هو مرصد لأن يعسّ دونها.

وتنظر إلى قوله : «مهزول الفصيل» ، فتعلم أنه نظير قول ابن هرمة :

لا أمتع العوذ بالفصال

وتنظر إلى قول نصيب : [من المتقارب]

لعبد العزيز على قومه

وغيرهم منن ظاهره

فبابك أسهل أبوابهم

ودارك مأهولة عامره

وكلبك آنس بالزّائرين

من الأمّ بالابنة الزّائره (٣)

__________________

(١) يزيد بن الحكم : شاعر عالي الطبقة من أعيان العصر الأموي من أهل الطائف توفي سنة (١٠٥) ه.

(٢) البيت : لعوف بن الأحوص الكلابي ، وهو شاعر جاهلي ، (الوحشيات ٦ / ٢) ، والمفضليات (١٧٦). ونسبه في الحماسة إلى أخيه شريح وعجز البيت :

«رقعت له ثاري فلما اهتدى بها عقورها»

عقر الفرس والبعير عقرا : قطع قوائمه / اللسان مادة / عقر (٤ / ٢٢٩).

(٣) الأبيات لنصيب الشاعر الأموي في مدح عبد العزيز بن مروان ، والأبيات في الإيضاح (٢٨٨) ، والمفتاح (٥١٦) ، وأوردها محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٢٤٢) ، وعزاها لنصيب ، والتبيان (٣٩). ونصيب كان عبدا أسود لرجل من أهل وادي القرى ، أتى عبد العزيز بن مروان ، بعد ذلك أصبح النصيب مولى بني مروان ، كانت أمه سوداء ، فوقع بها سيدها فولدت نصيبا ، فوثب عليه عمه بعد موت أبيه واستعبده. ترجمته في الشعر والشعراء (٤١٧ ، ٤١٩) ، وطبقات الشعراء ، والأغاني ، والآلي ، ومعجم الأدباء ، والأبيات المذكورة ، يمدح بها سيده عبد العزيز بن مروان.

٢٠١

فتعلم أنه من قول الآخر : [من الطويل]

يكاد إذا ما أبصر الضّيّف مقبلا

يكلّمه من حبّه وهو أعجم (١)

وأن بينهما قرابة شديدة ونسبا لاصقا ، وأن صورتهما في فرط التناسب صورة بيتي «زياد» و «يزيد».

وممّا هو إثبات للصّفة على طريق الكناية والتعريض ، قولهم : «المجد بين ثوبيه ، والكرم في برديه» ، وذلك أن قائل هذا يتوصّل إلى إثبات المجد والكرم للممدوح ، بأن يجعلهما في ثوبه الذي يلبسه ، كما توصّل «زياد» إلى إثبات السماحة والمروءة والندى لابن الحشرج ، بأن جعلها في القبّة التي هو جالس فيها.

ومن ذلك قوله : [من البسيط] وحيثما يك أمر صالح فكن (٢) وما جاء في معناه من قوله : [من المتقارب]

يصير أبان قرين السّماح

والمكرمات معا حيث صارا (٣)

وقول أبي نواس : [من الطويل]

فما جازه جود ولا حلّ دونه

ولكن يصير الجود حيث يصير (٤)

__________________

(١) البيت لابن هرمة ، وهو غير منسوب في الحيوان (١ / ٣٧٧) ، والحماسة (١ / ٢٦٠) ، ومنسوب لابن هرمة في البيان والتبيين (٣ / ٢٠٥) ، وهو في ديوان ابن هرمة (١٩٨) ، والتبيان (٣٩) ، والطراز ، والإيضاح (٢٨٨) ، والمفتاح (٥١٦).

(٢) البيت : لزهير بن أبي سلمى (الديوان ٢٨٢) وهو عجز البيت ، وصدر البيت :

«هنّاك ربّك ما أعطاك من حسن»

وهنّاك : هنّأك.

(٣) البيت : للكميت بن زيد صاحب الهاشميات ورد البيت في (سرقات أبي نواس ٣٦).

(٤) البيت في ديوانه (٩٤) ، من قصيدة قالها عند ما قدم على الخصيب صادف في مجلسه جماعة من الشعراء ينشدونه مدائح فيه فلما فرغوا ، قال الخصيب ألا تنشدنا أبا علي؟ فقال : أنشدك أيها الأمير قصيدة هي بمنزلة عصا موسى تلقف ما يأفكون. قال : هات إذا فأنشده هذه فاهتز لها ، وأمر له بجائزة سنية ، والبيتان قبله :

إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا

فأي فتى بعد الخصيب تزور

فتى يشتري حسن الثناء بماله

ويعلم أن الدائرات تدور

والبيت فيه كناية عن كرم وسخاء ممدوحه حتى لا يخلو مجال لذكر الكرماء من ذكره معهم ، والبيت في المفتاح (٥٢٠) ، والإيضاح (٢٩١) ، وأورده بدر الدين بن مالك في المصباح (١٥٣) ، وعزاه لابن هانئ ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٢٤٦) ، والطيبي في التبيان (١ / ٣٣١) ، وعزوه جميعا لأبي نواس.

٢٠٢

كل ذلك توصّل إلى إثبات الصفة في الممدوح بإثباتها في المكان الذي يكون فيه ، وإلى لزومها له بلزومها الموضع الذي يحله. وهكذا إن اعتبرت قول الشّنفرى يصف امرأة بالعفة : [من الطويل]

يبيت بمنجاة من اللّؤم بيتها

إذا ما بيوت بالملامة حلّت (١)

وجدته يدخل في معنى بين «زياد» ، وذلك أنه توصّل إلى نفي اللّؤم عنها وإبعادها عنه ، بأن نفاه عن بيتها وباعد بينه وبينه ، وكان مذهبه في ذلك مذهب «زياد» في التوصل إلى جمع «السماحة والمروءة والندى» في ابن الحشرج ، بأن جعلها في القبة المضروبة عليها. وإنّما الفرق أنّ هذا ينفي ، وذاك يثبت. وذلك فرق لا في موضع الجمع ، فهو لا يمنع أن يكونا من نصاب واحد.

وممّا هو في حكم المناسب لبيت «زياد» وأمثاله التي ذكرت ، وإن كان قد أخرج في صورة أغرب وأبدع ، قول حسان رضي‌الله‌عنه : [من الطويل]

بنى المجد بيتا فاستقرّت عماده

علينا ، فأعيى النّاس أن يتحوّلا (٢)

وقول البحتري : [من الكامل]

أو ما رأيت المجد ألقى رحله

في آل طلحة ثمّ لم يتحوّل (٣)

ذاك لأنّ مدار الأمر على أنه جعل المجد والممدوح في مكان ، وجعله يكون حيث يكون.

__________________

(١) البيت في المفضليات (١٠٨) رقم (٢٠) ، وقبله :

لقد أعجبتني لا سقوطا قناعها

إذا ما مشت ولا بذات تلفت

تبيت بعيد النوم تهدي عنوقها

لجارتها إذا ما الهدية قلت

والشنفرى شاعر جاهلي من بني الحارث بن ربيعة. والشنفرى اسمه ، وقيل : لقب له ، ومعناه عظيم الشفة. والبيت أورده القزويني في الإيضاح (٢٩٢) ، والمفتاح (٥١٩) ، والطيبي في التبيان (١ / ٣٣٢) ، والطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١٢٦) ، ونهاية الإيجاز (٢٧١) ، والطراز (١ / ٤٢٤).

(٢) البيت في ديوانه (١٦٢) ط ، دار ابن خلدون من قصيدة مطلعها :

لك الخير غضي اللوم عني فإنني

أحب من الأخلاق ما كان أجملا

ذريني وعلمي بالأمور وشيمتي

فما طائري يوما عليك بأخيلا

(٣) البيت في ديوانه ، وأورده القزويني في الإيضاح (٢٩٣) ، والطيبي في التبيان (١ / ٣٣١) ، ومحمد ابن علي السكاكي في المفتاح (٥٢٢) ، والعلوي في الطراز (١ / ٤٢٤) ، والإشارات للجرجاني (٢٤٨) ، والبيت في شرح ديوان أبي تمام لشاهين عطية (١٠٥).

٢٠٣

واعلم أنه ليس كلّ ما جاء كناية في إثبات الصفة يصلح أن يحكم عليه بالتناسب.

معنى هذا : أن جعلهم الجود والكرم والمجد يمرض بمرض الممدوح كما قال البحتريّ : [من الطويل]

ظللنا نعود الجود من وعك الّذي

وجدت ، وقلنا اعتلّ عضو من المجد (١)

وإن كان يكون القصد منه إثبات الجود والمجد للممدوح ، فإنه لا يصحّ أن يقال إنه نظير لبيت «زياد» كما قلنا ذاك في بيت أبي نواس :

ولكن يصير الجود حيث يصير

وغيره مما ذكرنا أنه نظير له كما أنه لا يجوز أن يجعل قوله :

وكلبك أرأف بالزّائرين (٢)

مثلا ، نظيرا لقوله :

مهزول الفصيل

وإن كان الغرض منهما جميعا الوصف بالقرى والضيافة ، وكانا جميعا كنايتين عن معنى واحد ، لأن تعاقب الكنايات على المعنى الواحد لا يوجب تناسبها ، لأنه في عروض أن تتّفق الأشعار الكثيرة في كونها مدحا بالشجاعة مثلا أو بالجود أو ما أشبه ذلك. وقد يجتمع في البيت الواحد كنايتان ، المغزى منهما شيء واحد ، ثم لا تكون إحداهما في حكم النظير للأخرى. مثال ذلك أنه لا يكون قوله : «جبان الكلب» نظيرا لقوله : «مهزول الفصيل» ، بل كل واحدة من هاتين الكنايتين أصل بنفسه ، وجنس على حدة ، وكذلك قول ابن هرمة : [من المنسرح]

لا أمتع العوذ بالفصال ولا

أبتاع إلّا قريبة الأجل (٣)

ليس إحدى كنايتيه في حكم النظير للأخرى ، وإن كان المكنيّ بهما عنه واحدا ، فاعرفه.

وليس لشعب هذا الأصل وفروعه وأمثلته وصوره وطرقه ومسالكه حدّ ونهاية. ومن لطيف ذلك ونادره قول أبي تمام : [من الوافر]

__________________

(١) البيت : للبحتري في مدح إبراهيم بن المدبّر (الديوان ١ / ٣٦٥).

(٢) سبق تخريجه قريبا.

(٣) راجع ص (١٨١) هامش (١).

٢٠٤

أبين فما يزرن سوى كريم

وحسبك أن يزرن أبا سعيد (١)

ومثله ، وإن لم يبلغ مبلغه ، قول الآخر : [من الوافر]

متى تخلو تميم من كريم

ومسلمة بن عمرو من تميم

وكذلك قول بعض العرب : [من المتقارب]

إذا الله لم يسق إلّا الكرام

فسقّى وجوه بني حنبل

وسقّى ديارهم باكرا

من الغيث في الزّمن الممحل (٢)

وفنّ منه غريب ، قول بعضهم في البرامكة : [من الطويل]

سألت النّدى والجود : ما لي أراكما

تبدّلتما ذلّا بعزّ مؤيّد

وما بال ركن المجد أمسى مهدّما؟

فقالا : أصبنا بابن يحيى محمّد

فقلت : فهلّا متّما عند موته

فقد كنتما عبديه في كلّ مشهد؟

فقالا : أقمنا كي نعزّى بفقده

مسافة يوم ، ثمّ نتلوه في غد (٣)

__________________

(١) البيت في ديوانه (١٠٥) ط ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، من قصيدة قالها في مدح أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري ، وقبله :

قلائص شوقهن يزيد شوقا

ويمنعن الرقاد من الرقود

إذا انبعثت على أمل بعيد

فقد أدنت من الأمل البعيد

والبيت أورده بدر الدين بن مالك في المصباح (١٥٥) ، والعلوي في الطراز (١ / ٤٢٤) ، والسكاكي في المفتاح (٥٢١) ، والقزويني في الإيضاح (٥٩٣) ، والتبيان (٤٠). وأبو سعيد : هو محمد بن يوسف التعري الطائي.

(٢) البيتان أوردهما بدر الدين بن مالك في المصباح (١٥٥) ، ونسبهما لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت ، ورواية المصباح : «الأمحل» بدل «الممحل» ، وأوردهما محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٢٤٨) ، والقزويني في الإيضاح (٢٩٣ ، ٢٩٤) ، والسكاكي في المفتاح (٥٢٢) ، ولسان العرب (ريب) ، وتاج العروس (ريب) ، والأغاني (٢٢ / ٢٧٠) ، ولزهير السكب التميمي المازني ، والبيتان لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت ، وفيهما كناية عن وصف الممدوحين بالكرم. سقى : من السقيا وضعف للمبالغة ، الممحل : الجديب.

(٣) الأبيات أوردها محمد بن علي السكاكي في المفتاح (٥٢٢) ، وبدر الدين بن مالك في المصباح (١٥٦) ، ورواية كل من المفتاح والمصباح : «بعز مؤبد» بدل من «عز مؤيد» التي في مطبوعة العلامة محمود محمد شاكر. وقال : عز مؤيد : من أيده إذا قواه وعززه ، وكان في المطبوعة والمخطوطتين «مؤبد» بالباء الموحدة ، وهو عندي ليس بشيء.

٢٠٥

فصل

[من التوكيد]

واعلم أن ممّا أغمض الطريق إلى معرفة ما نحن بصدده ، أنّ هاهنا فروقا خفيّة تجهلها العامة وكثير من الخاصّة ، ليس أنهم يجهلونها في موضع ويعرفونها في آخر ، بل لا يدرون أنّها هي ، ولا يعلمونها في جملة ولا تفصيل.

روي عن ابن الأنباريّ (١) أنه قال : ركب الكنديّ (٢) المتفلسف إلى أبي العباس (٣) وقال له : إنّي لأجد في كلام العرب حشوا! فقال له أبو العباس : في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال : أجد العرب يقولون : «عبد الله قائم» ، ثم يقولون «إنّ عبد الله قائم» ، ثم يقولون : «إنّ عبد الله لقائم» ، فالألفاظ متكرّرة والمعنى واحد. فقال أبو العباس : بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم : «عبد الله قائم» ، إخبار عن قيامه وقولهم : «إنّ عبد الله قائم» ، جواب عن سؤال سائل وقوله : «إنه عبد الله لقائم» ، جواب عن إنكار منكر قيامه ، فقد تكرّرت الألفاظ لتكرّر المعاني. قال فما أحار المتفلسف جوابا.

وإذا كان الكنديّ يذهب هذا عليه حتى يركب فيه ركوب مستفهم أو معترض ، فما ظنّك بالعامّة ، ومن هم في عداد العامّة ، ممن لا يخطر شبه هذا بباله؟. واعلم أنّ هاهنا دقائق لو أنّ الكنديّ استقرى وتصفّح وتتبع مواقع «إنّ» ، ثم ألطف النّظر وأكثر التدبّر ، لعلم علم ضرورة أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل. فأوّل ذلك وأعجبه ما قدّمت لك ذكره في بيت بشّار : [من الخفيف]

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير

إنّ ذاك النّجاح في التّبكير (٤)

وما أنشدته معه من قول بعض العرب : [من الرجز]

فغنّها وهي لك الفداء

إنّ غناء الإبل الحداء (٥)

__________________

(١) ابن الأنباري : محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن الأنباري أبو بكر أديب نحوي لغوي مفسر من كتبه (الكافي في النحو) ، (غريب الحديث) توفي عام ٣٢٨ ه‍ (شذرات الذهب ٢ / ٣١٥) ، ومعجم المؤلفين (١١ / ١٤٣).

(٢) الكندي : يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي أبو يوسف فيلسوف العرب والإسلام في عصره اشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى وغيرها ، ألف وترجم كتبا كثيرة توفي ٢٦٠ ه‍ (الأعلام).

(٣) إلى أبي العباس والمراد به أبو العباس المبرد صاحب الكامل. (٨ / ١٩٥).

(٤) سبق ص (١٨٤) ، هامش (١).

(٥) سبق ص (١٨٤) ، هامش (٢).

٢٠٦

وذلك أنه هل شيء أبين في الفائدة ، وأدلّ على أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل ، أنك ترى الجملة إذا هي دخلت ترتبط بما قبلها وتأتلف معه وتتّحد به ، حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغا واحدا ، وكأن أحدهما قد سبك في الآخر؟

هذه هي الصّورة ، حتى إذا جئت إلى «إنّ» فأسقطتها ، ورأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول ، وتجافى معناه عن معناه ، ورأيته لا يتّصل به ولا يكون منه بسبيل ، حتى تجيء «بالفاء» فتقول : «بكّرا صاحبي قبل الهجير ، فذاك النجاح في التبكير» ، و «غنّها وهي لك الفداء ، فغناء الإبل الحداء» ، ثم لا ترى «الفاء» تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة ، ولا تردّ عليك الذي كنت تجد «بإنّ» من المعنى.

وهذا الضرب كثير في التنزيل جدّا ، من ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] ، وقوله عزّ اسمه : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان : ١٧] ، وقوله سبحان : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣] ، ومن أبين ذلك قوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) [هود : ٣٧] [المؤمنون : ٢٧] ، وقد يتكرّر في الآية الواحدة كقوله عز اسمه : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف ٥٣] ، وهي على الجملة من الكثرة بحيث لا يدركها الإحصاء.

ومن خصائصها أنك ترى لضمير الأمر والشأن معها من الحسن واللّطف ما لا تراه إذا هي لم تدخل عليه ، بل تراه لا يصلح حيث صلح إلا بها ، وذلك في مثل قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف : ٩] وقوله : (أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ ، فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) [التوبة : ٦٣] ، (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ) [الأنعام : ٥٤] ، وقوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [المؤمنون : ١١٧] ، ومن ذلك قوله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) [الحج : ٤٦] ، وأجاز أبو الحسن (١) فيها وجها آخر ، وهو أن يكون الضمير في «إنها» للأبصار ، أضمرت قبل الذكر على شريطة التفسير. والحاجة في هذا الوجه أيضا إلى «إنّ» قائمة ، كما كانت في الوجه الأوّل فإنه لا يقال : «هي لا تعمى الأبصار» كما لا يقال : «هو من يتّق ويصبر فإن الله لا يضيع».

__________________

(١) أبو الحسن : المراد به الأخفش الأوسط وهو سعيد بن مسعد.

٢٠٧

فإن قلت : أو ليس قد جاء ضمير الأمر مبتدأ به معرّى من العوامل في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)؟.

قيل : هو وإن جاء هاهنا ، فإنه لا يكاد يوجد مع الجملة من الشرط والجزاء ، بل تراه لا يجيء إلا «بإنّ» ، على أنّهم قد أجازوا في «قل هو الله أحد» ، أن لا يكون الضمير للأمر.

ومن لطيف ما جاء في هذا الباب ونادره ، ما تجده في آخر هذه الأبيات ، أنشدها الجاحظ لبعض الحجازيّين : [من الطويل]

إذا طمع يوما عراني قريته

كتائب يأس ، كرّها وطرادها

أكد ثمادي ، والمياه كثيرة

أعالج منها حفرها واكتدادها

وأرضى بها من بحر آخر ، إنّه

هو الرّيّ أن ترضى النّفوس ثمادها (١)

المقصود قوله : «إنّه هو الرّيّ» ، وذلك أن الهاء في «إنّه» تحتمل أمرين :

أحدهما : أن تكون ضمير الأمر ، ويكون قوله : «هو» ضمير «أن ترضى» ، وقد أضمره قبل الذكر على شريطة التفسير. الأصل : «إن الأمر ، أن ترضى النفوس ثمادها ، الريّ» ، ثم أضمر قبل الذكر كما أضمرت «الأبصار» في «فإنها لا تعمى الأبصار» على مذهب أبي الحسن ، ثم أتى بالمضمر مصرّحا به في آخر الكلام ، فعلم بذلك أن الضمير السابق له ، وأنه المراد به.

والثاني : أن تكون الهاء في «إنه» ضمير «أن ترضى» قبل الذكر ، ويكون «هو» فصلا ، ويكون أصل الكلام : «إنّ أن ترضى النفوس ثمادها هو الرّيّ» ثم أضمر على شريطة التفسير.

وأيّ الأمرين كان ، فإنه لا بدّ فيه من «إن» ، ولا سبيل إلى إسقاطها ، لأنك إن أسقطتها أفضى ذلك بك إلى شيء شنيع ، وهو أن تقول : «وأرضى بها من بحر آخر هو هو الريّ أن ترضى النفوس ثمادها». هذا ، وفي «إنّ» هذه شيء آخر يوجب الحاجة إليها ، وهو أنها تتولى من ربط الجملة بما قبلها نحوا مما ذكرت لك في بيت بشار. ألا ترى أنّك لو أسقطت «إنّ» والضميرين معا ، واقتصرت على ذكر ما يبقى من

__________________

(١) البيت الثاني في لسان العرب (كدد) ، منسوب لثعلب ومعناه : أرضى بالقليل وأقنع به. ثماد : جمع ثمد وهو الماء القليل ، وكدّ الشيء يكدّه واكتدّه : نزعه بيده ، يكون ذلك في الجامد والسائل.

٢٠٨

الكلام ، لم تقله إلا «بالفاء» كقولك : «وأرضى بها من بحر آخر ، فالرّيّ أن ترضى النفوس ثمادها».

فلو أنّ الفيلسوف قد كان تتبع هذه المواضع ، لما ظنّ الذي ظن. هذا ، وإذا كان خلف الأحمر وهو القدوة ، ومن يؤخذ عنه ، ومن هو بحيث يقول الشعر فينحله الفحول الجاهليّين فيخفى ذلك له ، ويجوز أن يشتبه ما نحن فيه عليه حتّى يقع له أن ينتقد على بشار ، فلا غرو أن تدخل الشّبهة في ذلك على الكنديّ.

ومما تصنعه «إنّ» في الكلام ، أنك تراها تهيّئ النكرة وتصلحها لأن يكون لها حكم المبتدأ ، أعني أن تكون محدّثا عنها بحديث من بعدها. ومثال ذلك قوله : [من البسيط المنخلع]

إنّ شواء ونشوة

وخبب البازل الأمون (١)

قد ترى حسنها وصحة المعنى معها ، ثم إنك إن جئت بها من غير : «إنّ» فقلت : «شواء ونشوة وخبب البازل الأمون» لم يكن كلاما.

فإن كانت النكرة موصوفة ، وكانت لذلك تصلح أن يبتدأ بها ، فإنك تراها مع «إن» أحسن ، وترى المعنى حينئذ أولى بالصحة وأمكن ، أفلا ترى إلى قوله : [من الخفيف]

إنّ دهرا يلفّ شملي بسعدى

لزمان يهمّ بالإحسان (٢)

ليس بخفيّ وإن كان يستقيم أن تقول : «دهر يلف شملي بسعدى دهر صالح» أن ليس الحالان على سواء ، وكذلك ليس بخفيّ أنك لو عمدت إلى قوله : [من المديد المشطور]

إنّ أمرا فادحا

عن جوابي شغلك (٣)

فأسقطت منه «إنّ» لعدمت منه الحسن والطّلاوة والتمكّن الذي أنت واجده الآن ، ووجدت ضعفا وفتورا.

__________________

(١) الشعر لسلمى بن ربيعة التميمي. والبازل : يقال للبعير إذا استكمل السنة الثامنة وطعن في التاسعة وفطر نابه فهو حينئذ بازل وكذلك الأنثى بغير هاء ، جمل بازل وناقة بازل ، وهو أقصى أسنان للبعير ، سمي بازلا من البزل ، وهو الشق ، وذلك أن نابه وإذا اطلع يقال له : بازل لشقه عن اللحم عن منبته شقا. وقال النابغة في السّنّ وسماها بازلا :

مقذوفة بدخيس النحض بازلها

له صريف صريف القعو بالمسد

اللسان (بزل). الأمون : الناقة الموثقة الخلق المأمونة العثار.

(٢) البيت : لحسان بن ثابت (الديوان ١ / ٥١٧) «بسعدى» ، ورد في الديوان «بجمل».

(٣) الشعر لأم السليك بن السلكة ترش ولدها ، وشعرها في شرح الحماسة للتبريزي (٢ / ١٩١ ، ١٩٢).

٢٠٩

ومن تأثير «إنّ» في الجملة ، أنها تغني إذا كانت فيها من الخبر ، في بعض الكلام. ووضع صاحب الكتاب في ذلك بابا فقال : «هذا باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة ، لإضمارك ما يكون مستقرّا لها وموضعا لو أظهرته. وليس هذا المضمر بنفس المظهر ، وذلك : «إنّ مالا» و «إنّ ولدا» ، و «إنّ عددا» ، أي : «إنّ لهم مالا» فالذي أضمرت هو «لهم» ويقول الرجل للرجل : «هل لكم أحد؟ إنّ الناس ألب عليكم؟» ، فتقول : «إنّ زيدا وإنّ عمرا» أي : «لنا» ، وقال الأعشى : [من المنسرح]

إنّ محلّا وإنّ مرتحلا

وإنّ في السّفر إذ مضوا مهلا (١)

ويقول : «إنّ غيرها إبلا وشاء» كأنه قال : «إنّ لنا ، أو : عندنا ، غيرها» ، قال : وانتصب «الإبل» و «الشّاء» كانتصاب «الفارس» إذا قلت : «ما في الناس مثله فارسا» ، وقال : ومثل ذلك قوله : [من الرجز]

يا ليت أيّام الصّبا رواجعا (٢)

قال : فهذا كقولهم : «ألا ماء باردا» ، كأنه قال : «ألا ماء لنا باردا» وكأنّه قال : «يا ليت أيّام الصبا أقبلت رواجع».

فقد أراك في هذا كلّه أنّ الخبر محذوف ، وقد ترى حسن الكلام وصحّته مع حذفه وترك النّطق به. ثم إنك إن عمدت إلى «إنّ» فأسقطتها ، وجدت الذي كان حسن من حذف الخبر ، لا يحسن أو لا يسوغ. فلو قلت : «مال» ، و «عدد» و «محلّ» و «مرتحل»

__________________

(١) البيت للأعشى في ديوانه (١٧٠) ، والأعشى : هو ميمون بن قيس يمدح سلامة ذا قائش ، والبيت في الإيضاح (٨٩) ، والإشارات والتنبيهات (٦٣) ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١ / ١٠٣) ، وخزانة الأدب (١٠ / ٤٥٢ ، ٤٥٩) ، والخصائص (٢ / ٣٧٣) ، والشعر والشعراء (٧٥) ، وأمالي ابن الحاجب (١ / ٣٤٥).

(٢) الشعر للعجاج في ملحقات ديوانه (٤٠٥) ط ، دار صادر ، والعجاج هو : عبد الله بن رؤبة بن لبيد ابن صخر بن كثيف بن ربيعة بن سعد بن مالك بن تميم ، وكنيته أبو الشعثاء ، والشعثاء ابنته وكبرى أولاده ، ولقب بالعجاج لقوله :

حتى يعجّ عنده من عجعجا

والبيت في لسان العرب (ليت) بلا نسبة. والمعنى : إنما أراد : يا ليت أيام الصبا لنا رواجع ، نصبه على الحال ، وحكى النحويون أن بعض العرب يستعملها بمنزلة وجدت فيعديها إلى مفعولين ، ويجريها مجرى الأفعال ، فيقول : ليت زيدا شاخصا فيكون البيت على هذه اللغة. لسان العرب (ليت).

٢١٠

و «غيرها إبلا وشاء» لم يكن شيئا. وذلك أنّ «إنّ» كانت السبب في أن حسن حذف الذي حذف من الخبر ، وأنها حاضنته ، والمترجم عنه ، والمتكفّل بشأنه.

واعلم أن الذي قلنا في «إن» من أنها تدخل على الجملة ، من شأنها إذا هي أسقطت منها أن يحتاج فيها إلى «الفاء» لا يطّرد في كلّ شيء وكلّ موضع ، بل يكون في موضع دون موضع ، وفي حال دون حال ، فإنك قد تراها قد دخلت على الجملة ليست هي مما يقتضي «الفاء» ، وذلك فيما لا يحصى كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ، وذاك أنّ قبله (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) [الدخان : ٥٠ ـ ٥٢]. ومعلوم أنك لو قلت : «إنّ هذا ما كنتم به تمترون ، فالمتقون في جنات وعيون» ، لم يكن كلاما وكذلك قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) ، لأنك لو قلت : «(لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) [الأنبياء : ١٠٠ ـ ١٠١] فالذين سبقت لهم منا الحسنى» ، لم تجد لإدخالك «الفاء» فيه وجها وكذلك قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الحج : ١٧] ، «الذين آمنوا» اسم «إنّ» ، وما بعده معطوف عليه ، وقوله «إن الله يفصل بينهم يوم القيامة» ، جملة في موضع الخبر ، ودخول «الفاء» فيها محال ، لأن الخبر لا يعطف على المبتدأ ومثله سواء : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف : ٣٠].

فإذا ، إنما يكون الذي ذكرنا في الجملة من حديث اقتضاء «الفاء» ، إذا كان مصدرها مصدر الكلام يصحّح به ما قبله ، يحتجّ له ، ويبيّن وجه الفائدة فيه. ألا ترى أن الغرض من قوله :

إنّ ذاك النّجاح في التبكير

جلّه أن يبيّن المعنى في قوله لصاحبيه : «بكّرا» ، وأن يحتجّ لنفسه في الأمر بالتبكير ، ويبيّن وجه الفائدة فيه؟

وكذلك الحكم في الآي التي تلوناها فقوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) ، بيان للمعنى في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) ، ولم أمروا بأن يتّقوا وكذلك قوله (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) ، بيان للمعنى في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلاة ، أي بالدعاء لهم. وهذا سبيل كلّ ما أنت ترى فيه الجملة يحتاج فيها إلى «الفاء» ، فاعرف ذلك.

٢١١

فأما الذي ذكر عن أبي العباس (١) ، من جعله لها جواب سائل إذا كانت وحدها ، وجواب منكر إذا كان معها اللّام ، فالذي يدلّ على أن لها أصلا في الجواب ، أنّا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر إذا كانت جوابا للقسم ، نحو : «والله إنّ زيدا منطلق» ، وامتنعوا من أن يقولوا : «والله زيد منطلق».

ثمّ إنّا إذا استقرينا الكلام وجدنا الأمر بيّنا في الكثير من مواقعها ، أنّه يقصد بها إلى الجواب كقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) [الكهف : ٨٣ ـ ٨٤] ، وكقوله عزوجل في أول السورة : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ)) [الكهف : ١٣] ، وكقوله تعالى : (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [الشعراء : ٢١٦] ، وقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الأنعام : ٥٦] [غافر : ٦٦] ، وقوله : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) [الحجر : ٨٩] ، وأشباه ذلك ممّا يعلم به أنه كلام أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا وناظروا فيه. وعلى ذلك قوله تعالى : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦] ، وذاك أنه يعلم أن المعنى : فأتياه ، فإذا قال لكما ما شأنكما؟ وما جاء بكما؟ وما تقولان؟ فقولا : إنّا رسول رب العالمين. وكذا قوله : (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ١٠٤] ، هذا سبيله.

ومن البيّن في ذلك قوله تعالى في قصّة السّحرة : (قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) [الأعراف : ١٢٥] ، وذلك لأنه عيان أنه جواب فرعون عن قوله : (آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [الأعراف : ١٢٣] ، فهذا هو وجه القول في نصرة هذه الحكاية.

ثم إنّ الأصل الذي ينبغي أن يكون عليه البناء ، هو الذي دوّن في الكتب ، من أنّها للتأكيد ، وإذا كان قد ثبت ذلك ، فإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظنّ في خلافه البتة ، ولا يكون قد عقد في نفسه أن الذي تزعم أنّه كائن غير كائن ، وأن الذي تزعم أنه لم يكن كائن ـ فأنت لا تحتاج هناك إلى «إنّ» ، وإنما تحتاج إليها إذا كان له ظنّ في الخلاف ، وعقد قلب على نفي ما تثبت أو إثبات ما تنفي. ولذلك تراها تزداد حسنا إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله في الظن ، ولشيء قد جرت عادة الناس بخلافه ، كقول أبي نواس : [من السريع]

__________________

(١) المقصود به المبرد.

٢١٢

عليك باليأس من النّاس

إنّ غنى نفسك في الياس (١)

فقد ترى حسن موقعها ، وكيف قبول النفس لها ، وليس ذلك إلّا لأن الغالب على الناس أنهم لا يحملون أنفسهم على اليأس ، ولا يدعون الرّجاء والطّمع ، ولا يعترف كل أحد ولا يسلّم أن الغنى في اليأس. فلما كان كذلك ، كان الموضع موضع فقر إلى التأكيد ، فلذلك كان من حسنها ما ترى.

ـ ومثله سواء قول محمد بن وهيب : [من الطويل]

أجارتنا إنّ التّعفّف بالياس

وصبرا على استدرار دنيا بإبساس

حريّان أن لا يقذفا بمذلّة

كريما ، وأن لا يحوجاه إلى النّاس

أجارتنا إنّ القداح كواذب

وأكثر أسباب النّجاح مع الياس (٢)

هو : كما لا يخفى ، كلام مع من لا يرى أن الأمر كما قال ، بل ينكره ويعتقد خلافه. ومعلوم أنه لم يقله إلا والمرأة تحدوه وتبعثه على التعرّض للناس ، وعلى الطّلب.

ومن طيف مواقعها أن يدّعى على الخاطب ظنّ لم يظنّه ، ولكن يراد التهكم به ، وأن يقال : «إن حالك والذي صنعت يقتضي أن تكون قد ظننت ذلك». ومثال ذلك قول الأوّل : [من السريع]

جاء شقيق عارضا رمحه ،

إنّ بني عمّك فيهم رماح (٣)

يقول : إن مجيئه هكذا مدلّا بنفسه وبشجاعته قد وضع رمحه عرضا ، دليل على إعجاب شديد ، وعلى اعتقاد منه أنه لا يقوم له أحد ، حتى كأن ليس مع أحد منّا رمح يدفعه به ، وكأنّا كلّنا عزل.

وإذا كان كذلك ، وجب إذا قيل إنها جواب سائل ، أن يشترط فيه أن يكون

__________________

(١) البيت في ديوانه (١٤٤) ط ، دار العرب للبستاني ، وهو في الباب الرابع (باب العتاب) ، ورواية الديوان :

ألا ليت شعري هكذا أنت للناس

فأقدع عنك القلب يا صاح بالياس

(٢) الأبيات في الأغاني (١٩ / ٨٢ ، ٨٣) ، لمحمد بن وهيب (ط) دار الكتب العلمية ، بيروت. من قصيدة عددها (٧٢) بيتا ، استحسنها الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك ، وأمر له باثنين وسبعين ألف درهم.

(٣) البيت لحجل بن نضلة الباهلي ، وهو شاهر جاهلي ، وهو في الإيضاح (٢٢٤) ، والمفتاح (٢٦٣) ، والمصباح لبدر الدين بن مالك (٦) ، والبيت الذي يليه :

هل أحدث الدهر لنازلة

أم هل رنت أم شقيق سلام.

٢١٣

للسائل ظنّ في المسئول عنه على خلاف ما أنت تجيبه به. فأمّا أن يجعل مجرّد الجواب أصلا فيه فلا ، لأنه يؤدي إلى أن لا يستقيم لنا إذا قال الرجل : «كيف زيد؟» أن تقول : «صالح» ، وإذا قال : «أين هو؟» أن تقول : «في الدار» ـ وأن لا يصح حتّى تقول : «إنه صالح» ، «إنّه في الدار» ، وذلك ما لا يقوله أحد.

وأمّا جعلها إذا جمع بينها وبين «اللام» نحو : «إنّ عبد الله لقائم» ـ للكلام مع المنكر ، فجيّد ، لأنه إذا كان الكلام مع المنكر ، كانت الحاجة إلى التأكيد أشدّ. وذلك أنك أحوج ما تكون إلى الزيادة في تثبيت خبرك ، إذا كان هناك من يدفعه وينكر صحّته ، إلّا أنه ينبغي أن يعلم أنه كما يكون للإنكار قد كان من السامع ، فإنه يكون للإنكار يعلم أو يرى أنه يكون من السامعين. وجملة الأمر أنك لا تقول : «إنه لكذلك» ، حتى تريد أن تضع كلامك وضع من يزع (١) فيه عن الإنكار.

واعلم أنها قد تدخل للدلالة على أن الظّن قد كان منك أيّها المتكلم في الذي كان أنّه لا يكون. وذلك قولك للشيء هو بمرأى من المخاطب ومسمع : «إنّه كان من الأمر ما ترى ، وكان منّي إلى فلان إحسان ومعروف ، ثمّ أنّه جعل جزائي ما رأيت» ، فتجعلك كأنك تردّ على نفسك ظنّك الذي ظننت ، وتبيّن الخطأ الذي توهمت. وعلى ذلك ، والله أعلم ، قوله تعالى حكاية عن أمّ مريم رضي‌الله‌عنها : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦] ، وكذلك قوله عزوجل حكاية عن نوح عليه‌السلام : (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) [الشعراء : ١١٧]. وليس الذي يعرض بسبب هذا الحرف من الدقائق والأمور الخفيّة ، بالشيء يدرك بالهوينا. ونحن نقتصر الآن على ما ذكرنا ، ونأخذ في القول عليها إذا اتّصلت بها «ما».

فصل

في مسائل «إنّما»

قال الشيخ أبو علي في «الشّيرازيّات» (٢) : «يقول ناس من النحويين في نحو قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأعراف : ٣٣] ،

__________________

(١) يزع : وزعته : كففته ا. ه القاموس / وزع / ٩٩٥.

(٢) أبو علي : هو الشيخ أبو علي الفارسي وله كتاب الشيرازيات في النحو ا. ه ، كشف الظنون (٢ / ١٠٦٨).

٢١٤

إن المعنى : ما حرّم ربّي إلّا الفواحش. قال : وأصبت ما يدلّ على صحّة قولهم في هذا ، وهو قول الفرزدق : [من الطويل]

أنا الذّائد الحامي الذّمار ، وإنّما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (١)

فليس يخلو هذا الكلام من أن يكون موجبا أو منفيّا. فلو كان المراد به الإيجاب لم يستقم ، ألا ترى أنك لا تقول : «يدافع أنا» و «لا يقاتل أنا» ، وإنما تقول : «أدافع» و «أقاتل» إلا أنّ المعنى لما كان : «ما يدافع إلّا أنا» ، فصلت الضمير كما تفصله مع النفي إذا ألحقت معه «إلّا» ، حملا على المعنى. وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) [البقرة : ١٧٣] ، [النحل : ١١٥] ، النّصب في «الميتة» هو القراءة ، ويجوز : «إنّما حرّم عليكم». قال أبو إسحاق : والذي أختاره أن تكون «ما» هي التي تمنع «إنّ» من العمل ، ويكون المعنى : «ما حرّم عليكم إلّا الميتة» ، لأن «إنّما» تأتي إثباتا لما يذكر بعدها ، ونفيا لما سواه ، وقول الشاعر :

وإنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

المعنى : ما يدافع عن أحسابهم إلّا أو مثلي». انتهى كلام أبي علي.

اعلم أنّهم ، وإن كانوا قد قالوا هذا الذي كتبته لك ، فإنهم لم يعنوا بذلك أن المعنى في هذا هو المعنى في ذلك بعينه ، وأن سبيلهما سبيل اللفظين يوضعان لمعنى واحد. وفرق بين أن يكون في الشّيء معنى الشيء ، وبين أن يكون الشيء الشيء على الإطلاق.

يبيّن لك أنهما لا يكونان سواء ، أنه ليس كلّ كلام يصلح فيه «ما» و «إلّا» ، يصلح فيه «إنّما». ألا ترى أنّها لا تصلح في مثل قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٦٢] ، ولا في نحو قولنا : «ما أحد إلّا وهو يقول ذاك» ، إذ لو قلت : «إنّما من إله الله» و «إنّما أحد وهو يقول ذاك» ، قلت ما لا يكون له معنى.

__________________

(١) البيت في ديوانه (٢ / ١٥٣) ، من قصيدة قالها عند ما بلغ نساء مجاشع فحش جرير بهن فأتين الفرزدق مقيدا فقلن : قبح الله قيدك ، فقد هتك جرير عورات نسائك فلحيت شاعر قوم ، فأحفظنه ففض قيده وقد كان قيد نفسه قبل ذلك وحلف أن لا يطلق قيده حتى يجمع القرآن ، ورواية الديوان : «أنا الضامن الراعي عليهم وإنما ....». والبيت في الإيضاح (١٢٦) ، والمفتاح (٤٠٣) ، ومعاهد التنصيص (١ / ٢٦٠) ، وخزانة الأدب (٤ / ٤٦٥) ، ولسان العرب (قلا) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر (٢ / ١١١) ، ولسان العرب (أنن) ، وتاج العروس (ما) ، والمصباح (٩٦).

٢١٥

فإن قلت : إن سبب ذلك أن «أحدا» لا يقع إلّا في النّفي وما يجري مجرى النفي من النهي والاستفهام ، وأن «من» المزيدة في «ما من إله إلّا الله» ، كذلك لا تكون إلّا في النفي.

قيل : ففي هذا كفاية ، فإنه اعتراف بأن ليسا سواء ، لأنهما لو كانا سواء لكان ينبغي أن يكون في «إنّما» من النّفي مثل ما يكون في «ما» و «إلّا» وكما وجدت «إنما» لا تصلح فيما ذكرنا ، كذلك تجد «ما» و «إلّا» لا تصلح في ضرب من الكلام قد صلحت فيه «إنما ، وذلك في مثل قولك : «إنما هو درهم لا دينار» ، لو قلت : «ما هو إلّا درهم لا دينار» ، لم يكن شيئا. وإذ قد بان بهذه الجملة أنهم حين جعلوا «إنما» في معنى «ما» و «إلا» ، لم يعنوا أن المعنى فيهما واحد على الإطلاق ، وأن يسقطوا الفرق فإني أبيّن لك أمرهما ، وما هو أصل في كل واحد منهما ، بعون الله وتوفيقه.

اعلم أن موضع «إنما» على أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحّته ، أو لما ينزّل هذه المنزلة.

تفسير ذلك أنّك تقول للرجل : «إنّما هو أخوك» و «إنما هو صاحبك القديم» : لا تقوله لمن يجهل ذلك ويدفع صحّته ، ولكن لمن يعلمه ويقرّ به ، إلّا أنك تريد أن تنبّهه للذي يجب عليه من حقّ الأخ وحرمة الصاحب ، ومثله قوله : [من الخفيف]

إنّما أنت والد ، والأب القا

طع أحنى من واصل الأولاد (١)

لم يرد أن يعلم كافورا أنه والد ، ولا ذاك مما يحتاج كافور فيه إلى الإعلام ، ولكنه أراد أن يذكّره منه بالأمر المعلوم ليبني عليه استدعاء ما يوجبه كونه بمنزلة الوالد.

ومثل ذلك قولهم : «إنّما يعجل من يخشى الفوت» ، وذلك أن من المعلوم الثابت في النفوس أنّ من لم يخش الفوت لم يعجل.

ومثاله من التنزيل قوله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) [الأنعام : ٣٦] ، وقوله عزوجل : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) [يس :

__________________

(١) البيت للمتنبي في ديوانه (٢ / ٢٢٦) ، ط ، دار الكتب العلمية ، بيروت. من قصيدة مطلعها :

جسم الصلح ما اشتهته الأعادي

وأذاعته ألسن الحساد

وأرادته أنفس حال تدبي

رك ما بينها وبين المراد

والقاطع : أي المقاطع ، أي : أنت والده ، والوالد دائما أحن على الولد من حنو الولد على والده وإن كان الوالد مقاطعا والابن واصلا.

٢١٦

١١] ، وقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] ، كلّ ذلك تذكير بأمر ثابت معلوم. وذلك أنّ كل عاقل يعلم أنه لا تكون استجابة إلا ممّن يسمع ويعقل ما يقال له ويدعى إليه ، وأنّ من لم يسمع ولم يعقل لم يستجب وكذلك معلوم أن الإنذار إنما يكون إنذار ويكون له تأثير ، إذا كان مع من يؤمن بالله ويخشاه ويصدّق بالبعث والساعة ، فأمّا الكافر الجاهل ، فالإنذار وترك الإنذار معه واحد. فهذا مثال ما الخبر فيه خبر بأمر يعلمه المخاطب ولا ينكره بحال.

وأمّا مثال ما ينزّل هذه المنزلة ، فكقوله : [من الخفيف]

إنّما مصعب شهاب من اللّ

ه تجلّت عن وجهه الظّلماء (١)

ادّعى في كون الممدوح بهذه الصفة ، أنه أمر ظاهر معلوم للجميع ، على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدّعوا في الأوصاف التي يذكرون بها الممدوحين أنّها ثابتة لهم ، وأنهم قد شهروا بها ، وأنهم لم يصفوا إلا بالمعلوم الظاهر الذي لا يدفعه أحد ، كما قال : [من الطويل]

وتعذلني أفناء سعد عليهم

وما قلت إلّا بالّذي علمت سعد (٢)

وكما قال البحتريّ :

لا أدّعي لأبي العلاء فضيلة

حتّى يسلّمها إليه عداه (٣)

ومثله قولهم : «إنما هو أسد» ، و «إنّما هو نار» ، و «إنما هو سيف صارم» ، وإذا أدخلوا «إنما» جعلوا ذلك في حكم الظاهر المعلوم الذي لا ينكر ولا يدفع ولا يخفى.

__________________

(١) البيت لعبيد الله به قيس الرقيات يمدح مصعب بن الزبير بن العوام وبعده :

ملكه ملك رأفة ليس فيه

جبروت منه ولا كبرياء

يتقي الله في الأمور وقد

أفلح من كان همه الاتقاء

والبيت أورده القزويني في الإيضاح (١٢٩) ، والسكاكي في المفتاح (٤٠٧) ، وأورده بدر الدين ابن مالك في المصباح (٩٨) ، وفخر الدين الرازي في نهاية الإيجاز (٣٦١) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٩٥) ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١ / ١٤٤).

(٢) البيت للحطيئة في ديوانه ، وأورده القزويني في الإيضاح (١٢٩) ، والسكاكي في المفتاح (٤٠٨) ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١ / ١٤٤).

(٣) البيت في ديوانه من قصيدة يمدح فيها صاعد بن مخلد وابنه أبا عيسى العلاء. وأورده القزويني في الإيضاح (١٢٩) ، والسكاكي في المفتاح (٤٠٨) ، وأورده بدر الدين بن مالك في المصباح (٩٩) بلا عزو ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١ / ١٤٤).

٢١٧

وأما الخبر بالنّفي والإثبات نحو : «ما هذا إلا كذا» ، و «إن هو إلّا كذا» ، فيكون للأمر ينكره المخاطب ويشكّ فيه. فإذا قلت : «ما هو إلّا مصيب» أو «ما هو إلّا مخطئ» ، قلته لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلت ، وإذا رأيت شخصا من بعيد فقلت : «ما هو إلّا زيد» ، لم تقله إلّا وصاحبك يتوّهم أنه ليس بزيد ، وأنه إنسان آخر ، ويجدّ في الإنكار أن يكون «زيدا».

وإذا كان الأمر ظاهر كالذي مضى ، لم تقله كذلك ، فلا تقول للرجل ترقّقه على أخيه وتنبّهه للذي يجب عليه من صلة الرّحم ومن حسن التّحابّ : «ما هو إلّا أخوك» وكذلك لا يصلح في «إنّما أنت والد» : «ما أنت إلّا والد» ، فأما نحو : «إنّما مصعب شهاب» ، فيصلح فيه أن تقول : «ما مصعب إلّا شهاب» ، لأنه ليس من المعلوم على الصحّة ، وإنما ادّعى الشاعر فيه أنه كذلك. وإذا كان هذا هكذا ، جاز أن تقوله بالنّفي والإثبات ، إلا أنك تخرج المدح حينئذ عن أن يكون على حدّ المبالغة ، من حيث لا تكون قد ادّعيت فيه أنه معلوم ، وأنه بحيث لا ينكره منكر ، ولا يخالف فيه مخالف.

ـ قوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) [إبراهيم : ١٠] إنّما جاء ، والله أعلم ، «بإن» و «إلا» دون «إنّما» ، فلم يقل : «إنّما أنتم بشر مثلنا» ، لأنهم جعلوا الرسل كأنّهم بادّعائهم النبوّة قد أخرجوا أنفسهم عن أن يكونوا بشرا مثلهم ، وادّعوا أمرا لا يجوز أن يكون لمن هو بشر. ولما كان الأمر كذلك ، أخرج اللّفظ مخرجه حيث يراد إثبات أمر يدفعه المخاطب ويدعى خلافه ، ثم جاء الجواب من الرّسل الذي هو قوله تعالى : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [إبراهيم : ١١] ، كذلك «بإن» و «إلّا» دون «إنما» ، لأن من حكم من ادّعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه ، أن يعيد كلام الخصم على وجهه ، ويجيء به على هيئته ويحكيه كما هو. فإذا قلت للرجل : «أنت من شأنك كيت وكيت» ، قال : «نعم ، أنا من شأني كيت وكيت ، ولكن لا ضير عليّ ، ولا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت أنه يلزم» ، فالرسل صلوات الله عليهم كأنهم قالوا : «إنّ ما قلتم من أنّا بشر مثلكم كما قلتم ، لسنا ننكر ذلك ولا نجهله ، ولكن ذلك لا يمنعنا من أن يكون الله تعالى قد منّ علينا وأكرمنا بالرسالة.

وأما قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الكهف : ١١٠] ، [فصلت : ٦] فجاء «بإنما» ، لأنه ابتداء كلام قد أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبلّغه إياهم ويقوله معهم ، وليس

٢١٨

هو جوابا لكلام سابق قد قيل فيه : «إن أنت إلّا بشر مثلنا» ، فيجب أن يؤتى به على وفق ذلك الكلام ، ويراعى فيه حذوه ، كما كان ذلك في الآية الأولى.

وجملة الأمر أنك متى رأيت شيئا هو من المعلوم الذي لا يشك فيه قد جاء بالنفي ، فذلك التقدير معنى صار به في حكم المشكوك فيه ، فمن ذلك قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٢ ـ ٢٣] إنما جاء ، والله أعلم ، بالنفي والإثبات ، لأنه لما قال تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ، وكان المعنى في ذلك أن يقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك لن تستطيع أن تحوّل قلوبهم عما هي عليه من الإباء ، ولا تملك أن توقع الإيمان في نفوسهم ، مع إصرارهم على كفرهم ، واستمرارهم على جهلهم ، وصدّهم بأسماعهم عما تقوله لهم وتتلوه عليهم» كان اللائق بهذا أن يجعل حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حال من قد ظنّ أنه يملك ذلك ، ومن لا يعلم يقينا أنه ليس في وسعه شيء أكثر من أن ينذر ويحذّر ، فأخرج اللّفظ مخرجه إذا كان الخطاب مع من يشكّ ، فقيل : «إن أنت إلّا نذير». ويبيّن ذلك أنك تقول للرجل يطيل مناظرة الجاهل ومقاولته : «إنك لا تستطيع أن تسمع الميّت ، وأن تفهم الجماد ، وأن تحول الأعمى بصيرا ، وليس بيدك إلّا تبيّن وتحتجّ ، ولست تملك أكثر من ذلك» لا تقول هاهنا : «فإنّما الذي بيدك أن تبيّن وتحتج» ، ذلك لأنك لم تقل له «إنك لا تستطيع أن تسمع الميّت» ، حتى جعلته بمثابة من يظنّ أنه يملك وراء الاحتجاج والبيان شيئا. وهذا واضح ، فاعرفه.

ومثل هذا في أن الذي تقدّم من الكلام اقتضى أن يكون اللفظ كالذي تراه ، ومن كونه «بإن» و «إلّا» ، قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٨].

فصل

هذا بيان آخر في «إنّما»

اعلم أنها تفيد في الكلام بعدها إيجاب الفعل لشيء ، ونفيه عن غيره ، فإذا قلت : «إنّما جاءني زيد» ، عقل منه أنك أردت أن تنفي أن يكون الجائي غيره. فمعنى الكلام معها شبيه بالمعنى في قولك : «جاءني زيد لا عمرو» ، إلا أن لها مزيّة ،

٢١٩

وهي أنك تعقل معها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة في حال واحدة. وليس كذلك الأمر في : «جاءني زيد لا عمرو» ، فإنك تعقلهما في حالين ومزيّة ثانية ، وهي أنها تجعل الأمر ظاهرا في أنّ الجائي «زيد» ، ولا يكون هذا الظهور إذا جعلت الكلام «بلا» فقلت : «جاءني زيد لا عمرو».

ثم اعلم أن قولنا في «لا» العاطفة : «إنها تنفي عن الثاني ما وجب للأول» ، ليس المراد به أنها تنفي عن الثاني أن يكون قد شارك الأول في الفعل ، بل أنها تنفي أن يكون الفعل الذي قلت إنه كان من الأوّل ، قد كان من الثاني دون الأوّل. ألا ترى أن ليس المعنى في قولك : «جاءني زيد لا عمرو» ، أنه لم يكن من عمرو مجيء إليك مثل ما كان من «زيد» ، حتّى كأنه عكس قولك : «جاءني زيد وعمرو» ، بل المعنى أن الجائي هو زيد لا عمرو ، فهو كلام تقوله مع من يغلط في الفعل قد كان من هذا ، فيتوهم أنه كان من ذلك.

والنّكتة أنه لا شبهة في أن ليس هاهنا جائيان ، وأنه ليس إلّا جاء واحد ، وإنما الشّبهة في أن ذلك الجائي زيد أم عمرو ، فأنت تحقّق على المخاطب بقولك : «جاءني زيد لا عمرو» ، أنه «زيد» وليس بعمرو.

ونكتة أخرى : وهي أنك لا تقول : «جاءني زيد لا عمرو» ، حتى يكون قد بلغ المخاطب أنه كان مجيء إليك من جاء ، إلّا أنه ظنّ أنه كان من «عمرو» ، فأعلمته أنه لم يكن من «عمرو» ولكن من «زيد».

وإذ عرفت هذه المعاني في الكلام «بلا» العاطفة ، فاعلم أنها بجملتها قائمة لك في الكلام «بإنما». فإذا قلت : «إنما جاءني زيد» ، لم يكن غرضك أن تنفي أن يكون قد جاء مع «زيد» غيره ، ولكن أن تنفي أن يكون المجيء الذي قلت إنه كان منه ، كان من «عمرو». وكذلك تكون الشّبهة مرتفعة في أن ليس هاهنا جائيان ، وأن ليس إلّا جاء واحد ، وإنما تكون الشّبهة في أن ذلك الجائي «زيد» أم «عمرو». فإذا قلت : «إنما جاءني زيد» ، حقّقت الأمر في أنه «زيد». وكذلك لا تقول : «إنما جاءني زيد» ، حتى يكون قد بلغ المخاطب أن قد جاءك جاء ، ولكنه ظن أنه «عمرو» مثلا ، فأعلمته أنه «زيد».

فإن قلت : فإنّه قد يصحّ أن تقول : «إنّما جاءني من بين القوم زيد وحده ، وإنما أتاني من جملتهم عمرو فقط» ، فإن ذلك شيء كالتكلّف ، والكلام هو الأول ، ثم الاعتبار به إذا أطلق فلم يقيّد «بوحده» وما في معناه. ومعلوم أنك إذا قلت : «إنّما جاءني زيد» ، ولم تزد على ذلك ، أنّه لا يسبق إلى القلب من المعنى إلا ما قدّمنا

٢٢٠