دلائل الإعجاز في علم المعاني

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

دلائل الإعجاز في علم المعاني

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦

الخبر جاز أن تأتي بمبتدإ ثان ، على أن تشركه بحرف العطف في المعنى الذي أخبرت به عن الأول ، وإذا عرّفت لم يجز ذلك.

تفسير هذا أنك تقول : «زيد منطلق وعمرو» ، تريد «وعمرو منطلق أيضا» ، ولا تقول : «زيد المنطلق وعمرو» ، ذلك لأن المعنى مع التعريف على أنك أردت أن تثبت انطلاقا مخصوصا قد كان من واحد ، فإذا أثبته لزيد لم يصحّ إثباته لعمرو.

ثم إن كان قد كان ذلك الانطلاق من اثنين ، فإنه ينبغي أن تجمع بينهما في الخبر فتقول : «زيد وعمرو هما المنطلقان» ، لا أن تفرّق فتثبته أوّلا لزيد ، ثم تجيء فتثبته لعمرو.

ومن الواضح في تمثيل هذا النحو قولنا : «هو القائل بيت كذا» ، كقولك : جرير هو القائل : [من الطويل]

وليس لسيفي في العظام بقيّة (١)

فأنت لو حاولت أن تشرك في هذا الخبر غيره ، فتقول : «جرير هو القائل هذا البيت وفلان» ، حاولت محالا ، لأنه قول بعينه ، فلا يتصوّر أن يشرك جريرا فيه غيره.

واعلم أنك تجد «الألف واللام» في الخبر على معنى الجنس ، ثم ترى له في ذلك وجوها :

أحدها : أن تقصر جنس المعنى على المخبر عنه لقصدك المبالغة ، وذلك قولك : «زيد هو الجواد» و «عمرو هو الشجاع» ، تريد أنه الكامل ، إلا أنك تخرج الكلام في صورة توهم أن الجود أو الشجاعة لم توجد إلا فيه ، وذلك لأنك لم تعتدّ بما كان من غيره ، لقصوره عن أن يبلغ الكمال. فهذا كالأول في امتناع العطف عليه للإشراك ، فلو قلت : «زيد هو الجواد وعمرو» ، كان خلفا من القول.

والوجه الثاني : أن تقصر جنس المعنى الذي تفيده بالخبر على المخبر عنه ، لا على معنى المبالغة وترك الاعتداد بوجوده في غير المخبر عنه ، بل على دعوى أنه لا يوجد إلا منه. ولا يكون ذلك إلّا إذا قيّدت المعنى بشيء يخصّصه ويجعله في حكم

__________________

(١) البيت في ديوانه (٤٦١) من قصيدة قالها للفرزدق ويعاتب جده الخطفي ، وتمامه والبيت قبله :

أنا ابن صريحي خندق غير دعوة

يكون مكان القلب منها مكانيا

 ...........

وللسيف أشوى وقعة من لسانيا

الشوى دون القتل قد قصد أن لسانه أمرّ وأمضى من السيف.

١٢١

نوع برأسه ، وذلك كنحو أن يقيّد بالحال والوقت ، كقولك : «هو الوفيّ حين لا تظن نفس بنفس خيرا» (١). وهكذا إذا كان الخبر بمعنى يتعدّى ، ثم اشترطت له مفعولا مخصوصا ، كقول الأعشى : [من المتقارب]

هو الواهب المائة المصطفاة ،

إمّا مخاضا وإمّا عشارا (٢)

فأنت تجعل الوفاء في الوقت الذي لا يفي فيه أحد ، نوعا خاصّا من الوفاء ، وكذلك تجعل هبة المائة من الإبل نوعا خاصّا ، وكذا الباقي. ثم إنّك تجعل كل هذا خبرا على معنى الاختصاص ، وأنه للمذكور دون من عداه.

ألا ترى أن المعنى في بيت الأعشى : أنه لا يهب هذه الهبة إلّا الممدوح؟ وربما ظنّ الظانّ أن «اللام» في «هو الواهب المائة المصطفاة» بمنزلتها في نحو «زيد هو المنطلق» ، من حيث كان القصد إلى هبة مخصوصة ، كما كان القصد إلى انطلاق مخصوص. وليس الأمر كذلك ، لأن القصد هاهنا إلى جنس من الهبة مخصوص ، لا إلى هبة مخصوصة بعينها. يدلّك على ذلك أنّ المعنى على أنه يتكرّر منه ، وعلى أن يجعله يهب المائة مرة بعد أخرى ، وأما المعنى في قولك : «زيد هو المنطلق» ، فعلى القصد إلى انطلاق كان مرة واحدة ، لا إلى جنس من الانطلاق. فالتكرر هناك غير متصوّر ، كيف؟ وأنت تقول : جرير هو القائل :

وليس لسيفي في العظام بقية

تريد أن تثبت له قيل هذا البيت وتأليفه. فافصل بين أن تقصد إلى نوع فعل ، وبين أن تقصد إلى فعل واحد متعيّن ، حاله في المعاني حال زيد في الرجال ، في أنه ذات بعينها.

والوجه الثالث : أن لا يقصد قصر المعنى في جنسه على المذكور ، لا كما كان في «زيد هو الشجاع» ، تريد أن لا تعتدّ بشجاعة غيره ولا كما ترى في قوله : «هو

__________________

(١) قالها جبار بن مسلم بن سلمى عند ما وقف على قبر عامر بن الطفيل (كان والله لا يضل حتى يضل النجم ولا يعطش حتى يعطش البعير ولا يهاب حتى يهاب السيف وكان والله خير ما يكون حين لا تظن نفس بنفس خيرا). الإصابة (١٠٥١).

(٢) البيت في ديوانه (٤٠) ، والإيضاح (١٠٥) ، تحقيق د. هنداوي ، المخاض : الحوامل من النوق واحدتها «خلف» بفتح فكسر ففتح ، من غير لفظ الجمع ، العشار : المناسب من معانيها لما في البيت من تفصيل أنها الوالدات من الإبل ، واحدتها «عشراء». كنفساء زنة ومعنى ، الأول في الإبل ، والثاني في النساء.

١٢٢

الواهب المائة المصطفاة» ، ولكن على وجه ثالث ، وهو الذي عليه قول الخنساء : [من الوافر]

إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا (١)

لم ترد أن ما عدا البكاء عليه فليس بحسن ولا جميل ، ولم تقيّد الحسن بشيء فيتصوّر أن يقصر على البكاء ، كما قصر الأعشى هبة المائة على الممدوح ، ولكنها أرادت أن تقرّه في جنس ما حسنه الحسن الظاهر الذي لا ينكره أحد ، ولا يشك فيه شاك.

ومثله قول حسان : [من الطويل]

وإنّ سنام المجد من آل هاشم

بنو بنت مخزوم ووالدك العبد (٢)

أراد أن يثبت العبوديّة ، ثم يجعله ظاهر الأمر فيها ومعروفا بها ، ولو قال : «ووالدك عبد» ، لم يكن قد جعل حاله في العبودية حالة ظاهرة متعارفة وعلى ذلك قول الآخر : [من الطويل]

أسود إذا ما أبدت الحرب نابها

وفي سائر الدّهر الغيوث المواطر

واعلم أن للخبر المعرّف «بالألف واللام» معنى غير ما ذكرت لك ، وله مسلك ثمّ دقيق ولمحة كالخلس ، يكون المتأمل عنده كما يقال : «يعرف وينكر» ، وذلك قولك : «هو البطل المحامي» و «هو المتّقى المرتجى» ، وأنت لا تقصد شيئا مما تقدم ، فلست تشير إلى معنى قد علم المخاطب أنه كان ، ولم يعلم أنه ممن كان كما مضى في قولك : «زيد هو المنطلق» ، ولا تريد أن تقصر معنى عليه على معنى أنه لم يحصل لغيره على الكمال ، كما كان في قولك : «ووالدك العبد» ، ولكنّك تريد أن تقول لصاحبك : هل سمعت بالبطل المحامي؟ وهل حصّلت معنى هذه الصفة؟ وكيف ينبغي أن يكون الرجل حتى يستحق أن يقال ذلك له وفيه؟ فإن كنت قتلته علما ، وتصوّرته حقّ تصوّره ، فعليك صاحبك واشدد به يدك ، فهو ضالّتك وعنده بغيتك ، وطريقه طريق قولك : «هل سمعت بالأسد؟ وهل تعرف ما هو؟ فإن كنت تعرف ، فزيد هو هو بعينه».

__________________

(١) البيت في ديوانها.

(٢) البيت في ديوانه (٧٤)، من قصيدة يهجو أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قبل إسلامه ، والبيتان قبله:

لقد علم الأقوام أن ابن هاشم

هو الغصن ذو الأفتان لا الواحد الوغد

ومالك فيهم محتد يعرفونه

فدونك فالصق مثل ما لصق القرد

سنام المجد : أعلاه.

١٢٣

ويزداد هذا المعنى ظهورا بأن تكون الصّفة التي تريد الإخبار بها عن المبتدأ مجراة على موصوف ، كقول ابن الرومي : [من الطويل]

هو الرّجل المشروك في جلّ ماله

ولكنّه بالمجد والحمد مفرد (١)

تقديره ، كأنه يقول للسامع : فكّر في رجل لا يتميّز عفاته وجيرانه ومعارفه عنه في ماله وأخذ ما شاءوا منه ، فإذا حصّلت صورته في نفسك ، فاعلم أنه ذلك الرجل.

وهذا فنّ عجيب الشأن ، وله مكان من الفخامة والنّبل ، وهو من سحر البيان الذي تقصر العبارة عن تأدية حقّه. والمعوّل فيه على مراجعة النفس واستقصاء التأمّل ، فإذا علمت أنه لا يريد بقوله : «الرجل المشروك في جلّ ماله» أن يقول : هو الذي بلغك حديثه ، وعرفت من حاله وقصّته أنّه يشرك في جلّ ماله ، على حدّ قولك : «هو الرجل الذي بلغك أنه أنفق كذا ، والذي وهب المائة المصطفاة من الإبل» ولا أن يقول إنه على معنى : «هو الكامل في هذه الصفة» ، حتى كأنّ هاهنا أقواما يشركون في جلّ أموالهم ، إلّا أنه في ذلك أكمل وأتم ؛ لأن ذلك لا يتصوّر. وذلك أن كون الرجل بحيث يشرك في جلّ ماله ، ليس بمعنى يقع فيه تفاضل ، كما أن بذل الرجل كل ما يملك كذلك ، ولو قيل : «الذي يشرك في ماله» ، جاز أن يتفاوت. وإذا كان كذلك ، علمت أنه معنى ثالث. وليس إلا ما أشرت إليه من أنه يقول للمخاطب : «ضع في نفسك معنى قولك : رجل مشروك في جلّ ماله ، ثم تأمل فلانا ، فإنك تستملي هذه الصورة منه ، وتجده يؤديها لك نصّا ، ويأتيك بها كملا».

وإن أردت أن تسمع في هذا المعنى ما تسكن النفس إليه سكون الصّادي إلى برد الماء ، فاسمع قوله : [من الطويل]

أنا الرّجل المدعوّ عاشق فقره

إذا لم تكارمني صروف زماني

وإن أردت أعجب من ذلك فقوله : [من الكامل]

أهدى إليّ أبو الحسين يدا

أرجو الثّواب بها لديه غدا

وكذاك عادات الكريم إذا

أولى يدا حسبت عليه يدا

إن كان يحسد نفسه أحد ،

فلأزعمنّك ذلك الأحدا (٢)

فهذا كلّه على معنى الوهم والتقدير ، وأن يصوّر في خاطره شيئا لم يره ولم يعلمه ، ثم يجريه مجرى ما عهد وعلم.

__________________

(١) البيت في ديوانه (٥٨٩).

(٢) الأبيات لابن الرومي في ديوانه (٧٨٦).

١٢٤

وليس شيء أغلب على هذا الضرب الموهوم من «الذي» ، فإنه يجيء كثيرا على أنك تقدّر شيئا في وهمك ، ثم تعبر عنه «بالذي» ، ومثال ذلك قوله : [من الطويل]

أخوك الّذي إن تدعه لملمّة

يجبك ، وإن تغضب إلى السّيف يغضب (١)

وقول الآخر : [من الطويل]

أخوك الّذي إن ربته قال : إنّما

أربت ، وإن عاتبته لان جانبه (٢)

فهذا ونحوه على أنك قدّرت إنسانا هذه صفته وهذا شأنه ، وأحلت السامع على من يعنّ في الوهم ، دون أن يكون قد عرف رجلا بهذه الصفة ، فأعلمته أن المستحقّ لاسم الأخوّة هو ذلك الذي عرفه ، حتى كأنك قلت : «أخوك زيد الذي عرفت أنّك إن تدعه لملمة يجبك».

ولكون هذا الجنس معهودا من طريق الوهم والتخيّل ، جرى على ما يوصف بالاستحالة ، كقولك للرجل وقد تمنّى : «هذا هو الذي لا يكون» ، و «هذا ما لا يدخل في الوجود» ، وكقوله : [من الكامل]

ما لا يكون فلا يكون بحيلة

أبدا وما هو كائن سيكون (٣)

ومن لطيف هذا الباب قوله : [من الطويل]

وإنّي لمشتاق إلى ظلّ صاحب

يروق ويصفو إن كدرت عليه (٤)

قد قدّر كما ترى ما لم يعلمه موجودا ، ولذلك قال المأمون : «خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب». فهذا التعريف الذي تراه في الصاحب لا يعرض فيه شك أنه موهوم.

وأمّا قولنا : «المنطلق زيد» ، والفرق بينه وبين أن تقول : «زيد المنطلق» ، فالقول في ذلك أنك وإن كنت ترى في الظاهر أنّهما سواء من حيث كان الغرض في

__________________

(١) البيت لأبي حوط ، حجية بن المضرب الكندي ، وفي شرح الحماسة للتبريزي (٣ / ٩٨).

(٢) البيت لبشار بن برد في ديوانه ، إن ربته أي : أتيت بما يرتاب فيه قال لك أربت أي : انتفت عنك الريبة.

(٣) البيت لعبد الله بن محمد بن أبي عيينة يقوله لذي اليمينين ، وذو اليمينين طاهر بن الحسن بن رزيق مولى طلحة الطلحات الخزاعي وكان طاهر من أكبر أعوان المأمون ويحكى عنه في سبب التسمية بذي اليمينين أنه ضرب إنسانا بيساره فجعله قسمين. والبيت في الكامل للمبرد (٢٦) ، وقبله :

لما رأيتك قاعدا مستثقلا

أيقنت أنك للهموم قرين

فارفض بها وتعرّ من أثوابها

إن كان عندك للقضاء يقين

(٤) البيت لأبي العتاهية في ديوانه.

١٢٥

الحالين إثبات انطلاق قد سبق العلم به لزيد فليس الأمر كذلك ، بل بين الكاملين فصل ظاهر.

وبيانه : أنك إذا قلت : «زيد المنطلق» ، فأنت في حديث انطلاق قد كان ، وعرف السامع كونه ، إلّا أنه لم يعلم أمن زيد كان أم من عمرو؟ فإذا قلت : «زيد المنطلق» ، أزلت عنه الشك وجعلته يقطع بأنه كان من زيد ، بعد أن كان يرى ذلك في سبيل الجواز.

وليس كذلك إذا قدّمت «المنطلق» فقلت : «المنطلق زيد» ، بل يكون المعنى حينئذ على أنك رأيت إنسانا ينطلق بالبعد منك ، فلم تثبته ، ولم تعلم أزيد هو أم عمرو ، فقال لك صاحبك : «المنطلق زيد» ، أي هذا الشخص الذي تراه من بعد هو زيد.

وقد ترى الرجل قائما بين يديك وعليه ثوب ديباج ، والرجل ممن عرفته قديما ثم بعد عهدك به فتناسيته ، فيقال لك : «اللابس الديباج صاحبك الذي كان يكون عندك في وقت كذا ، أما تعرفه؟ لشدّ ما نسيت» ، ولا يكن الغرض أن يثبت له لبس الديباج ، لاستحالة ذلك ، من حيث أن رؤيتك الديباج عليه تغنيك عن إخبار مخبر وإثبات مثبت لبسه له.

فمتى رأيت اسم فاعل أو صفة من الصفات قد بدئ به ، فجعل مبتدأ ، وجعل الذي هو صاحب الصفة في المعنى خبرا ، فاعلم أنّ الغرض هناك ، غير الغرض إذا كان اسم الفاعل أو الصفة خبرا ، كقولك : «زيد المنطلق».

واعلم أنه ربّما اشتبهت الصورة في بعض المسائل من هذا الباب ، حتّى يظنّ أن المعرفتين إذا وقعتا مبتدأ وخبرا ، لم يختلف المعنى فيهما بتقديم وتأخير. ومما يوهم ذلك قول النحويين في «باب كان» : «إذا اجتمع معرفتان كنت بالخيار في جعل أيّهما شئت اسما ، والآخر خبرا ، كقولك : «كان زيد أخاك» و «كان أخوك زيدا» ، فيظن من هاهنا أن تكافؤ الاسمين في التّعريف يقتضي أن لا يختلف المعنى بأن تبدأ بهذا وتثنّي بذاك ، وحتى كأنّ الترتيب الذي يدّعى بين المبتدأ والخبر وما يوضع لهما من المنزلة في التقدّم والتأخّر ، يسقط ويرتفع إذا كان الجزآن معا معرفتين.

ومما يوهم ذلك أنك تقول : «الأمير زيد» ، و «جئتك والخليفة عبد الملك». فيكون المعنى على إثبات الإمارة لزيد ، والخلافة لعبد الملك ، كما يكون إذا قلت : «زيد الأمير» و «عبد الملك الخليفة» ، وتقوله لمن لا يشاهد ، ومن هو غائب عن حضرة الإمارة ومعدن الخلافة.

١٢٦

وهكذا من يتوهّم في نحو قوله : [من الطويل]

أبوك حباب سارق الضّيف برده

وجدّي يا حجّاج فارس شمرا (١)

أنّه لا فصل بينه وبين أن يقال : «حباب أبوك ، وفارس شمّر جدّي». وهو موضع غامض.

والذي يبيّن وجه الصواب ، ويدلّ على وجوب الفرق بين المسألتين :

أنّك إذا تأملت الكلام وجدت ما لا يحتمل التسوية ، وما تجد الفرق قائما فيه قياما لا سبيل إلى دفعه ، هو الأعمّ الأكثر.

وإن أردت أن تعرف ذلك ، فانظر إلى ما قدّمت لك من قولك : «اللابس الدّيباج زيد» ، وأنت تشير له إلى رجل بين يديه ، ثم انظر إلى قول العرب : «ليس الطيب إلّا المسك» ، وقول جرير : [من الوافر] ألستم خير من ركب المطايا (٢) ونحو قول المتنبي : [من الوافر] ألست ابن الألى سعدوا وسادوا (٣) وأشباه ذلك ممّا لا يحصى ولا يعدّ المعنى على أن يسلم لك مع قلب طرفي الجملة ، وقل : «ليس المسك إلا الطيب» ، و «أليس خير من ركب المطايا إياكم؟» ، «أليس ابن الألى سعدوا وسادوا إياك»؟ تعلم أن الأمر على ما عرّفتك من وجوب اختلاف المعنى بحسب التقديم والتأخير.

__________________

(١) البيت لجميل في مجموع شعره ، وفي اللسان (شمر) ، ويروى في اللسان : وجدّي يا عبّاس فارس شمرا بدل «يا حجاج». وشمّر : اسم فرس.

(٢) البيت في ديوانه (٧٤) من قصيدة في مدح عبد الملك بن مروان. وتمام البيت والبيتان قبله :

فإني قد رأيت عليّ حقا

زيارتي الخليفة وامتداحي

سأشكر أن رددت عليّ ريشي

وأثبت القوادم في جناحي

 ..............

وأندى العالمين بطون راح

القوادم : الريش الكبير في الطائر ، المطايا : الركائب ، واحدتها مطية على وزن فعلية ، أندى : أكرم ، من الندى وهو الكرم، والراح هنا الأكف واحدتها : راحة ، الأكف : جمع كف. والبيت في الإيضاح : (١٤٢).

(٣) البيت في ديوانه (٢٤٠) ، وتمامه والبيت قبله :

يريك النزع بين القوس منه

وبين رمية الهدف اللهيبا

 ...............

ولم يلدوا امرأ إلا بخيبا

الألى : الذين ، والاستفهام للتقرير. والبيت في شرح التبيان للعكبري (١ / ١٠٥).

١٢٧

وها هنا نكتة يجب القطع معها بوجوب هذا الفرق أبدا ، وهي أن المبتدأ لم يكن مبتدأ لأنه منطوق به أوّلا ، ولا كان الخبر خبرا لأنه مذكور بعد المبتدأ ، بل كان المبتدأ مبتدأ لأنه مسند إليه ومثبت له المعنى ، والخبر خبرا لأنه مسند ومثبت به المعنى.

تفسير ذلك : أنك إذا قلت : «زيد منطلق» فقد أثبتّ الانطلاق لزيد وأسندته إليه ، فزيد مثبت له ، ومنطلق مثبت به ، وأما تقديم المبتدأ على الخبر لفظا ، فحكم واجب من هذه الجهة ، أي من جهة أن كان المبتدأ هو الذي يثبت له المعنى ويسند إليه ، والخبر هو الذي يثبت به المعنى ويسند. ولو كان المبتدأ مبتدأ لأنه في اللفظ مقدّم مبدوء به ، لكان ينبغي أن يخرج عن كونه مبتدأ بأن يقال : «منطلق زيد» ، ولوجب أن يكون قولهم : «إن الخبر مقدّم في اللّفظ والنّيّة به التأخير» ، محالا. وإذا كان هذا كذلك ثم جئت بمعرفتين فجعلتهما مبتدأ وخبرا فقد وجب وجوبا أن تكون مثبتا بالثاني معنى للأول. فإذا قلت : «زيد أخوك» ، كنت قد أثبتّ معنى لزيد ، وإذا قدّمت وأخّرت فقلت : «أخوك زيد» ، وجب أن تكون مثبتا بزيد معنى لأخوك ، وإلّا كان تسميتك له الآن مبتدأ وإذ ذاك خبرا ، تغييرا للاسم عليه من غير معنى ، ولأدّى إلى أن لا يكون لقولهم «المبتدأ والخبر» فائدة غير أن يتقدّم اسم في اللفظ على اسم ، من غير أن ينفرد كل واحد منهما بحكم لا يكون لصاحبه. وذلك ممّا لا يشكّ في سقوطه.

وممّا يدلّ دلالة واضحة على اختلاف المعنى ، إذا جئت بمعرفتين ، ثم جعلت هذا مبتدأ وذلك خبرا تارة ، وتارة بالعكس ، قولهم : «الحبيب أنت» ، و «أنت الحبيب» ، وذاك أن معنى «الحبيب أنت» ، أنه لا فصل بينك وبين من تحبّه إذا صدقت المحبّة ، وأنّ مثل المتحابّين مثل نفس يقتسمها شخصان ، كما جاء عن بعض الحكماء أنه قال : «الحبيب أنت إلّا أنه غيرك». فهذا كما ترى فرق لطيف ونكتة شريفة ، ولو حاولت أن تفيدها بقولك : «أنت الحبيب» ، حاولت ما لا يصحّ ، لأن الذي يعقل من قولك : «أنت الحبيب» هو ما عناه المتنبي في قوله : [من البسيط]

أنت الحبيب ولكنّي أعوذ به

من أن أكون محبّا غير محبوب (١)

__________________

(١) البيت في ديوانه (٢١٤) وهو آخر بيت في قصيدة في مدح كافور ، وقبله :

يا أيها الملك الغاني بتسمية

في الشرق والغرب عن وصف وتلقيب

ومعنى البيت : يقول : أنا محبك وأنت محبوب لي ، وأعوذ بك من أن لا تحبني فإن أشقى الشقاوة أن تحب من لا يحبك كما قال ومن الشقاوة أن تحب ولا يحبك من تحبه. التبيان للعكبري (١ / ١٢٦).

١٢٨

ولا يخفى بعد ما بين الغرضين. فالمعنى في قولك : «أنت الحبيب» أنك الذي أختصّه بالمحبة من بين الناس ، وإذا كان كذلك ، عرفت أنّ الفرق واجب أبدا ، وأنه لا يجوز أن يكون «أخوك زيد» و «زيد أخوك» بمعنى واحد.

وهاهنا شيء يجب النظر فيه ، وهو أنّ قولك : «أنت الحبيب» ، كقولنا «أنت الشجاع» ، تريد أنّه الذي كملت فيه الشجاعة ، أم كقولنا : «زيد المنطلق» ، تريد أنه الذي كان منه الانطلاق الّذي سمع المخاطب به؟ وإذا نظرنا وجدناه لا يحتمل أن يكون كقولنا : «أنت الشجاع» ، لأنه يقتضي أن يكون المعنى أنه لا محبّة في الدنيا إلا ما هو به حبيب ، كما أنّ المعنى في «هو الشجاع» أنه لا شجاعة في الدنيا إلّا ما تجده عنده وما هو شجاع به. وذلك محال.

وأمر آخر وهو أن الحبيب «فعيل» بمعنى «مفعول» ، فالمحبة إذن ليست هي له بالحقيقة ، وإنما هي صفة لغيره قد لابسته وتعلّقت به تعلق الفعل بالمفعول.

والصّفة إذا وصفت بكمال وصفت به على أن يرجع ذلك الكمال إلى من هي صفة له ، دون من تلابسه ملابسة المفعول. وإذا كان كذلك ، بعد أن تقول : «أنت المحبوب» ، على معنى أنت الكامل في كونك محبوبا ، كما أن بعيدا أن يقال : «هو المضروب» ، على معنى أنه الكامل في كونه مضروبا.

وإن جاء شيء من ذلك جاء على تعسّف فيه وتأويل لا يتصوّر هاهنا ، وذلك أن يقال مثلا : «زيد هو المظلوم» ، على معنى أنّه لم يصب أحدا ظلم يبلغ في الشدة والشّناعة الظّلم الذي لحقه ، فصار كلّ ظلم سواه عدلا في جنبه ، ولا يجيء هذا التأويل في قولنا : «أنت الحبيب» ، لأنا نعلم أنهم لا يريدون بهذا الكلام أن يقولوا : إن أحدا لم يحبّ أحدا محبتي لك ، وأنّ ذلك قد أبطل المحبّات كلّها حتى صرت الذي لا يعقل للمحبة معنى إلّا فيه ، وإنما الذي يريدون أن المحبة منّي بجملتها مقصورة عليك ، وأنه ليس لأحد غيرك حظ في محبّة مني.

وإذا كان كذلك بان أنّه لا يكون بمنزلة «أنت الشجاع» ، تريد الذي يتكامل الوصف فيه ، إلا أنه ينبغي من بعد أن تعلم أن بين «أنت الحبيب» وبين «زيد المنطلق» فرقا ، وهو أنّ لك في المحبة التي أثبتّها طرفا من الجنسية ، من حيث كان المعنى أنّ المحبّة منّي بجملتها مقصورة عليك ، ولم تعمد إلى محبة واحدة من محبّاتك. ألا ترى أنك قد أعطيت بقولك : «أنت الحبيب» أنك لا تحبّ غيره ، وأن لا محبّة لأحد سواه عندك؟ ولا يتصوّر هذا في «زيد المنطلق» ، لأنه لا وجه هناك

١٢٩

للجنسية ، إذ ليس ثمّ إلا انطلاق واحد قد عرف المخاطب أنه كان ، واحتاج أن يعيّن له الذي كان منه وينصّ له عليه. فإن قلت : «زيد المنطلق في حاجتك» ، تريد الذي من شأنه أن يسعى في حاجتك ، عرض فيه معنى الجنسية حينئذ على حدّها في «أنت الحبيب».

وهاهنا أصل يجب أن تحكمه : وهو أن من شأن أسماء الأجناس كلّها إذا وصفت ، أن تتنوّع بالصّفة ، فيصير «الرّجل» الذي هو جنس واحد إذا وصفته فقلت : «رجل ظريف» ، و «رجل طويل» ، و «رجل قصير» ، «رجل شاعر» ، و «رجل كاتب» ، أنواعا مختلفة يعدّ كل نوع منها شيئا على حدة ، وتستأنف في اسم «الرجل» بكل صفة تقرنها إليه جنسية.

وهكذا القول في «المصادر» ، تقول : «العلم» و «الجهل» و «الضّرب» و «القتل» و «السّير» و «القيام» و «القعود» ، فتجد كل واحد من هذه المعاني جنسا كالرجل والفرس والحمار. فإذا وصفت فقلت : «علم كذا» و «علم كذا» كقولك : «علم ضروريّ» و «علم مكتسب» ، و «علم جليّ» و «علم خفيّ» و «ضرب شديد» و «ضرب خفيف» و «سير سريع» و «سير بطيء» وما شاكل ذلك ، انقسم الجنس منها أقساما ، وصار أنواعا ، وكان مثلها مثل الشيء المجموع المؤلّف تفرّقه فرقا وتشعّبه شعبا. وهذا مذهب معروف عندهم ، وأصل متعارف في كل جيل وأمّة.

ثم إن هاهنا أصلا هو كالمتفرّع على هذا الأصل أو كالنّظير له ، وهو أنّ من شأن «المصدر» أن يفرّق بالصّلات كما يفرق بالصّفات.

ومعنى هذا الكلام أنك تقول «الضرب» ، فتراه جنسا واحدا ، فإذا قلت : «الضّرب بالسيف» ، صار بتعديتك له إلى السيف ، نوعا مخصوصا. ألا تراك تقول : «الضّرب بالسيف غير الضّرب بالعصا» ، تريد أنهما نوعان مختلفان ، وأنّ اجتماعهما في اسم «الضرب» لا يوجب اتفاقهما ، لأنّ الصلة قد فصلت بينهما وفرّقتهما. ومن المثال البيّن في ذلك قول المتنبي : [من الكامل]

وتوهّموا اللّعب الوغى ، والطّعن في ال

هيجاء غير الطّعن في الميدان (١)

__________________

(١) البيت في ديوانه (٢ / ١٧٢) من قصيدة في مدح سيف الدولة ، ومدحه إياها بآمد ، وكان منصرفا من بلاد الروم ، وذلك في شهر صفر سنة خمس وأربعين وثلاث مائة (١٥٦ م) ، وقبله :

وسعى فقصر عن مداه في العلى

أهل الزمان وأهل كل زمان

اتخذوا المجالس في البيوت وعنده

أن السروج مجلس الفتيان

الوغى : الهيجاء من أسماء الحرب أي : إذا لعبوا فيما بينهم بالطعان اعتقدوا أن ذلك هو الحرب ولكن أين هول الحرب من متعة اللعب.

١٣٠

لو لا أنّ اختلاف صلة المصدر تقتضي اختلافه في نفسه ، وأن يحدث فيه انقسام وتنوّع ، لما كان لهذا الكلام معنى ، ولكان في الاستحالة كقولك : و «الطعن غير الطعن». فقد بان إذن أنه إنما كان كلّ واحد من الطعنين جنسا برأسه غير الآخر ، بأن كان هذا في الهيجاء ، وذاك في الميدان.

وهكذا الحكم في كل شيء تعدّى إليه «المصدر» وتعلّق به. فاختلاف مفعولي المصدر يقتضي اختلافه ، وأن يكون المتعدّي إلى هذا المفعول غير المتعدّي إلى ذاك. وعلى ذلك تقول : «ليس إعطاؤك الكثير كإعطائك القليل» ، وهكذا إذا عدّيته إلى الحال كقولك : «ليس إعطاؤك معسرا كإعطائك موسرا» و «ليس بذلك وأنت مقلّ ، كبذلك وأنت مكثر».

وإذ قد عرفت هذا من حكم «المصدر» ، فاعتبر به حكم الاسم المشتقّ منه.

وإذا اعتبرت ذلك علمت أن قولك : «هو الوفيّ حين لا يفي أحد» ، و «هو الواهب المائة المصطفاة» (١) ، وقوله : [من الخفيف]

وهو الضّارب الكتيبة ، والطّع

نة تغلو ، والضّرب أغلى وأغلى (٢)

وأشباه ذلك كلّها أخبار فيها معنى الجنسية ، وأنها في نوعها الخاص بمنزلة الجنس المطلق إذا جعلته خبرا فقلت : «أنت الشجاع».

وكما أنت لا تقصد بقولك : «أنت الشّجاع» إلى شجاعة بعينها قد كانت وعرفت من إنسان ، وأردت أن تعرف ممن كانت ، بل تريد أن تقصر جنس الشجاعة عليه ، ولا تجعل لأحد غيره فيه حظّا ، كذلك لا تقصد بقولك : «أنت الوفيّ حين لا يفي أحد» إلى وفاء واحد. كيف؟ وأنت تقول : «حين لا يفي أحد».

وهكذا محال أن يقصد في قوله : «هو الواهب المائة المصطفاة» ، إلى هبة واحدة ، لأنه يقتضي أن يقصد إلى مائة من الإبل قد وهبها مرة ، ثم لم يعد لمثلها.

ومعلوم أنه خلاف الغرض ، لأنّ المعنى أنه الذي من شأنه أن يهب المائة أبدا ، والذي يبلغ عطاؤه هذا المبلغ ، كما تقول : «هو الذي يعطي مادحه الألف والألفين» ، وكقوله : [من الرجز]

__________________

(١) المصطفاة : تعقيب على بيت للأعشى.

(٢) البيت للمتنبي في ديوانه (٢ / ١٦٢) ، ويروى في الديوان : «أغلى وأغلى» بدل : «أغلى وأعلى» ، والبيت من قصيدة طويلة في رثاء أخت سيف الدولة الصغرى ويسليه ببقاء الكبرى. تغلو : من غلاء الثمن ، أغلى وأغلى للتأكيد ، أي : أنه يأتي الضرب بالسيف عند ما يخاف غير أنه يطعن بالرمح.

١٣١

وحاتم الطّائيّ وهّاب المئي (١)

وذلك أوضح من أن يخفى.

وأصل آخر : وهو أنّ من حقّنا أن نعلم أنّ مذهب الجنسية في الاسم وهو خبر ، غير مذهبها وهو مبتدأ.

تفسير هذا : أنّا وإن قلنا إن «اللام» في قولك : «أنت الشجاع» للجنس ، كما هو له في قولهم : «الشّجاع موقّى ، والجبان ملقّى» (٢) ، فإنّ الفرق بينهما عظيم.

وذلك أن المعنى قولك : «الشجاع موقى» ، أنك تثبت الوقاية لكل ذات من صفتها الشّجاعة ، فهو في معنى قولك : الشّجعان كلّهم موقّون. ولست أقول إن الشجاع كالشجعان على الإطلاق ، وإن كان ذلك ظنّ كثير من الناس ، ولكني أريد أنّك تجعل الوقاية تستغرق الجنس وتشمله وتشيع فيه ، وأما في قولك : «أنت الشجاع» ، فلا معنى فيه للاستغراق ، إذ لست تريد أن تقول : «أنت الشجعان كلهم» حتى كأنك تذهب به مذهب قولهم : «أنت الخلق كلهم» و «أنت العالم» ، كما قال : [من السريع]

وليس لله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد (٣)

ولكن لحديث «الجنسية» هاهنا مأخذ آخر غير ذلك ، وهو أنّك تعمد بها إلى المصدر المشتق منه الصفة وتوجّهها إليه ، لا إلى نفس الصفة. ثم لك في توجيهها إليه مسلك دقيق. وذلك أنه ليس القصد أن تأتي إلى شجاعات كثيرة فتجمعها له وتوجدها فيه ، ولا أن تقول : إن الشجاعات التي يتوهّم وجودها في الموصوفين بالشجاعة هي موجودة فيه لا فيهم ، هذا كلّه محال ، بل المعنى على أنك تقول : كنّا

__________________

(١) البيت لامرأة من بني عقيل تفخر بأخوالها من اليمن ، وقبله :

حيدة خالي ولقيط وعلي

نوادر أبي زيد (٩١) ، واللسان (مأى) وغيرهما وهو مشهور ، وفي هامش المخطوطة ما نصه : «مائة تجمع على مئي ويكون الأصل : مؤوى ..... ثم تقلب الواو ياء كما يقال مضيّ في مضى يمضي : والأصل مضوي ، كعقود ، والمعروف الجمع بالواو والنون كقولك : مائة ومئون مثل رئة ورئون ، وثبة وثبون» (شاكر).

(٢) الشجاع موقى : مثل قاله حنين بن خشرم السعدي ، الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام ١١٦ رقم (٢٩٧).

(٣) البيت لأبي نواس في ديوانه (٨٢) من قصيدة يمدح فيها الفضل بن الربيع ، والبيت في الإيضاح (٣٥٦) ، والإشارات (٣١٣) ، ورواية الديوان : وليس له بمستنكر» بدل «ليس على الله بمستنكر».

١٣٢

قد عقلنا الشجاعة وعرفنا حقيقتها ، وما هي؟ وكيف ينبغي أن يكون الإنسان في إقدامه وبطشه حتّى يعلم أنّه شجاع على الكمال؟ واستقرينا الناس فلم نجد في واحد منهم حقيقة ما عرفناه ، حتى إذا صرنا إلى المخاطب ، وجدناه قد استكمل هذه الصفة ، واستجمع شرائطها ، وأخلص جوهرها ، ورسخ فيه سنخها (١). ويبيّن لك أن الأمر كذلك ، اتفاق الجميع على تفسيرهم له بمعنى الكامل ، ولو كان المعنى على أنه استغرق الشجاعات التي يتوهّم كونها في الموصوفين بالشجاعة ، لما قالوا إنه بمعنى الكامل في الشجاعة ، لأن الكمال هو أن تكون الصفة على ما ينبغي أن تكون عليه ، وأن لا يخالطها ما يقدح فيها ، وليس الكمال أن تجتمع آحاد الجنس وينضم بعضها إلى بعض. فالغرض إذن بقولنا : «أنت الشجاع» ، هو الغرض بقولهم : «هذه هي الشجاعة على الحقيقة ، وما عداها جبن» و «هكذا يكون العلم ، وما عداه تخيّل» ، و «هذا هو الشعر ، وما سواه فليس بشيء». وذلك أظهر من أن يخفى.

وضرب آخر من الاستدلال في إبطال أن يكون «أنت الشجاع» بمعنى أنّك كأنّك جميع الشجعان ، على حدّ «أنت الخلق كلهم» ، وهو أنك في قولك : «أنت الخلق» و «أنت الناس كلّهم» و «قد جمع العالم منك في واحد» ، تدّعي له جميع المعاني الشريفة المتفرّقة في الناس ، من غير أن تبطل تلك المعاني وتنفيها عن الناس ، بل على أن تدّعي له أمثالها. ألا ترى أنك إذا قلت في الرجل : «إنه معدود بألف رجل» ، فلست تعني أنه معدود بألف رجل لا معنى فيهم ولا فضيلة لهم بوجه ، بل تريد أنّه يعطيك من معاني الشجاعة أو العلم أو كذا أو كذا مجموعا ، ما لا تجد مقداره مفرّقا إلا في ألف رجل ، وأمّا في نحو «أنت الشجاع» ، فإنّك تدّعي له أنه قد انفرد بحقيقة الشجاعة ، وأنه قد أوتي فيها مزيّة وخاصيّة لم يؤتها أحد ، حتى صار الذي كان يعدّه الناس شجاعة غير شجاعة ، وحتى كأنّ كلّ إقدام إحجام ، وكلّ قوة عرفت في الحرب ضعف. وعلى ذلك قالوا : «جاد حتى بخّل كلّ جواد ، وحتّى منع أن يستحقّ اسم الجواد أحد» ، كما قال : [من الوافر]

وأنّك لا تجود على جواد

هباتك أن يلقّب بالجواد (٢)

__________________

(١) سنخها : أي أصلها.

(٢) البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه (١٣٠) ، وهو من قصيدة في مدح علي بن إبراهيم التنوخي وقبله :

تهلّل قبل تسليمي عليه

وألقى ما له قبل الوساد

فلومك يا عليّ لغير ذنب

لأنك قد زريت على العباد

الجواد : الكريم ، هباتك فاعل يجود أي : هباتك لا تسمح لأحد أن يظهر كريما مقارنة بك.

١٣٣

وكما يقال : «جاد حتى كأن لم يعرف لأحد جود ، وحتّى كأن قد كذب الواصفون الغيث بالجود» ، كما قال : [من البسيط]

أعطيت حتّى تركت الرّيح حاسرة

وجدت حتّى كأنّ الغيث لم يجد (١)

هذا فصل

في «الذي» خصوصا

اعلم أن لك في «الذي» علما كثيرا ، وأسرارا جمّة ، وخفايا إذا بحثت عنها وتصوّرتها اطلعت على فوائد تؤنس النفس وتثلج الصدر بما يفضي بك إليه من اليقين ، ويؤدّيه إليك من حسن التبيين.

والوجه في ذلك أن تتأمّل عبارات لهم فيه لم وضع ، ولأيّ غرض اجتلب ، وأشياء وصفوه بها. فمن ذلك قولهم : «إنّ الذي» اجتلب ليكون وصلة إلى وصف المعارف بالجمل (٢) ، كما اجتلب «ذو» ليتوصّل به إلى الوصف بأسماء الأجناس» ، يعنون بذلك أنك تقول : «مررت بزيد الذي أبوه منطلق» و «بالرجل الذي كان عندنا أمس» ، فتجدك قد توصّلت ب «الذي» إلى أن أبنت زيدا من غيره ، بالجملة التي هي «أبوه منطلق» ولو لا «الذي» لم تصل إلى ذلك كما أنك تقول : «مررت برجل ذي مال» فتتوصّل ب «ذي» إلى أن تبين الرجل من غيره بالمال ، ولو لا «ذو» لم يتأتّ لك ذلك ، إذ لا تستطيع أن تقول : «برجل مال»

فهذه جملة مفهومة؟ إلا أن تحتها خبايا تحتاج إلى الكشف عنها. فمن ذلك أن تعلم من أين امتنع أن توصف المعرفة بالجملة ، ولم لم يكن حالها في ذلك حال النّكرة التي تصفها بها في قولك : «مررت برجل أبوه منطلق» : و «رأيت إنسانا تقاد الجنائب (٣) بين يديه».

وقالوا : إنّ السبب في امتناع ذلك : أنّ الجمل نكرات كلّها ، بدلالة أنها

__________________

(١) البيت : للبحتري في مدح محمد بن حميد بن عبد الحميد الطوسي (الديوان ٢ / ٤٢٥). حاسرة : حسر البصر : كلّ وانقطع من طول المدى القاموس «حسر» (٤٧٩).

(٢) ذكره ابن منظور في اللسان مادة «لذا» (١٥ / ٢٤٥).

(٣) الجنائب : رجل جنيب كأنه يمشي في جانب والجنيبة الدابة : القاموس «جنب» (٨٨).

١٣٤

تستفاد ، وإنما يستفاد المجهول دون المعلوم. قالوا : فلما كانت كذلك ، كانت وفق (١) النّكرة ، فجاز وصفها بها ، ولم يجز أن توصف بها المعرفة ، إذ لم تكن وفقا لها.

والقول البيّن في ذلك أن يقال : إنه إنّما اجتلب حتّى إذا كان قد عرف رجل بقصة وأمر جرى له ، فتخصّص بتلك القصّة وبذلك الأمر عند السامع ، ثم أريد القصد إليه ، ذكر «الّذي».

تفسير هذا أنك لا تصل «الذي» إلّا بجملة من الكلام قد سبق من السّامع علم بها ، وأمر قد عرفه له ، نحو أن ترى عنده رجلا ينشده شعرا فتقول له من غد : «ما فعل الرجل الذي كان عندك بالأمس ينشدك الشعر؟».

هذا حكم الجملة بعد «الذي» ، إذا أنت وصفت به شيئا. فكان معنى قولهم : «إنه اجتلب ليتوصّل به إلى وصف المعارف بالجمل» ، أنه جيء به ليفصل بين أن يراد ذكر الشيء بجملة قد عرفها السامع له ، وبين أن لا يكون الأمر كذلك.

فإن قلت : قد يؤتى بعد «الذي» بالجملة غير المعلومة للسامع ، وذلك حيث يكون «الذي» خبرا ، كقولك : «هذا الذي كان عندك بالأمس» و «هذا الذي قدم رسولا من الحضرة» ، أنت في هذا وشبهه تعلم المخاطب أمرا لم يسبق له به علم ، وتفيده في المشار إليه شيئا لم يكن عنده ، ولو لم يكن كذلك ، لم يكن «الذي» خبرا ، إذ كان لا يكون الشيء خبرا حتى يفاد به.

فالقول في ذلك : أن الجملة في هذا النّحو ، وإن كان المخاطب لا يعلمها لعين من أشرت إليه ، فإنه لا بدّ من أن يكون قد علمها على الجملة وحدّث بها. فإنّك على كلّ حال لا تقول : «هذا الذي قدم رسولا» ، لمن لم يعلم أن رسولا قدم ولم يبلغه ذلك في جملة ولا تفصيل ، وكذا لا تقول : «هذا الذي كان عندك أمس» ، لمن قد نسي أنه كان عنده إنسان وذهب عن وهمه ، وإنّما تقوله لمن ذاك على ذكر منه ، إلّا أنه رأى رجلا يقبل من بعيد ، فلا يعلم أنه ذاك ، ويظنه إنسانا غيره.

وعلى الجملة ، فكلّ عاقل يعلم بون ما بين الخبر بالجملة مع «الذي» وبينها مع غير «الذي» ، فليس من أحد به طرق (٢) إلّا وهو لا يشكّ أن ليس المعنى في قولك : «هذا الذي قدم رسولا» ، كالمعنى إذا قلت : «هذا قدم رسولا من الحضرة»

__________________

(١) وفقا : وفقت أمرك صادفته موافقا (أي مطابقا). القاموس / وفق / (١١٩٩).

(٢) طرق : هو ضعف العقل والطرق قوة العقل. القاموس / طرق / (١١٦٦).

١٣٥

ولا «الذي يسكن في محلّة كذا» ، كقولك : «هذا يسكن محلة كذا» ، وليس ذاك إلا أنّك في قولك : «هذا قدم رسولا من الحضرة» مبتدئ خبرا بأمر لم يبلغ السامع ولم يبلّغه ولم يعلمه أصلا وفي قولك : «هذا الّذي قدم رسولا» ، معلم في أمر قد بلغه أنّ هذا صاحبه ، فلم يخل إذن من الذي بدأنا به في أمر الجملة مع «الذي» ، من أنه ينبغي أن تكون جملة قد سبق من السامع علم بها فاعرفه ، فإنه من المسائل التي من جهلها جهل كثيرا من المعاني ، ودخل عليه الغلط في كثير من الأمور ، والله الموفّق للصواب.

فروق في الحال لها فضل تعلّق بالبلاغة

اعلم أنّ أوّل فرق في الحال أنها تجيء مفردا وجملة ، والقصد هاهنا إلى الجملة.

وأوّل ما ينبغي أن يضبط من أمرها أنها تجيء تارة مع «الواو» وأخرى بغير «الواو» ، فمثال مجيئها مع الواو قولك : «أتاني وعليه ثوب ديباج» ، و «رأيته وعلى كتفه سيف» ، و «لقيت الأمير والجند حواليه» ، و «جاءني زيد وهو متقلّد سيفه» ، ومثال مجيئها بغير «الواو» : «جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه» و «أتاني عمرو يقود فرسه» ، وفي تمييز ما يقتضي «الواو» ممّا لا يقتضيه صعوبة.

والقول في ذلك أنّ الجملة إذا كانت من مبتدأ وخبر ، فالغالب عليها أن تجيء مع «الواو» كقولك : «جاءني زيد وعمرو أمامه» و «أتاني وسيفه على كتفه» : فإن كان المبتدأ من الجملة ضمير ذي الحال ، لم يصلح بغير «الواو» البتة ، وذلك كقولك : «جاءني زيد وهو راكب» و «رأيت زيدا وهو جالس» ، و «دخلت عليه وهو يملي الحديث» و «انتهيت إلى الأمير وهو يعبّئ الجيش» ، فلو تركت «الواو» في شيء من ذلك لم يصلح. فلو قلت : «جاءني زيد هو راكب» ، و «دخلت عليه هو يملي الحديث» ، لم يكن كلاما.

فإن كان الخبر في الجملة من المبتدأ والخبر ظرفا ، ثم كان قد قدّم على المبتدأ كقولنا : «عليه سيف» و «في يده سوط» ، كثر فيها أن تجيء بغير «واو». فمما جاء منه كذلك قول بشّار : [من الطويل]

إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها

خرجت مع البازي عليّ سواد (١)

__________________

(١) البيت في ديوانه ، وأورده القزويني في الإيضاح (١٧٠) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (١٣٦). أنكرتني : لم تعرف قدري ، نكرتها : كرهتها البازي : الصقر وهو يعني خروجه في سواد الليل.

١٣٦

يعني عليّ بقية من الليل ، وقول أمية : [من البسيط]

فاشرب هنيئا عليك التّاج مرتفقا

في رأس غمدان دارا منك محلالا (١)

وقول الآخر : [من الطويل]

لقد صبرت للذّلّ أعواد منبر

تقوم عليها في يديك قضيب (٢)

كلّ ذلك في موضع الحال ، وليس فيه «واو» كما ترى ، ولا هو محتمل لها إذا نظرت. وقد يجيء ترك «الواو» فيما ليس الخبر فيه كذلك ، ولكنه لا يكثر ، فمن ذلك قولهم : «كلّمته فوه إلى فيّ» و «رجع عوده على بدئه» ، في قول من رفع ، ومنه بيت «الإصلاح» (٣) : [من الكامل]

نصف النّهار ، الماء غامره

ورفيقه بالغيب لا يدري (٤)

ومن ذلك ما أنشده الشيخ أبو عليّ في «الإغفال» (٥) : [من الطويل]

ولو لا جنان اللّيل ما آب عامر

إلى جعفر ، سرباله لم يمزّق (٦)

ومما ظاهره أنه منه قوله : [من البسيط]

__________________

(١) ينسب البيت لأمية بن أبي الصلت ، ولأبيه ، وسيف بن ذي يزن مخلص اليمن من محتليها الحبش ، والقصة الشعبية المنسوجة حوله تقوم على أساس هذه البطولة. والبيت أورده القزويني في الإيضاح (١٧٠).

(٢) البيت لواثلة بن خليفة السدوسي ، يهجو عبد الملك بن المهلب بن أبي صفرة ، وهو في الإيضاح (١٧٠).

(٣) الإصلاح : أي كتاب «إصلاح المنطق» لابن السكيت المتوفى سنة (٢٤٤ ه‍). كشف الظنون (١ / ١٠٨).

(٤) البيت : للمسيب بن علس ، وهو خال الأعشى ، والأعشى راويته ، والبيت في ديوان الأعشى (٣٥٢) ، وقبله :

قتلت أباه فقال أتبعه

أو أستفيد رغيبة الدهر

والبيت في المفتاح (٣٨٥) ، وإصلاح المنطق لابن السكيت.

(٥) واسمه الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني للشيخ أبي علي حسن بن أحمد الفارسي النحوي المتوفى سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. كشف الظنون (١ / ١٣١).

(٦) البيت : لسلامة بن جندل ، وهو سلامة بن جندل بن عبد عمرو من بني كعب بن سعد التميمي ، شاعر جاهلي من الفرسان. والبيت في الأصمعيات (١٢٥) رقم (٤٢) ، وروايته : «لم يخرّق» بدل «لم يمزق» ، وهو في الإيضاح (١٦٩) ، وأورده بدر الدين بن مالك في المصباح (٢٧٢) ، والسكاكي في المفتاح (٣٨٥) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (١٣٥) ، وشرح عقود الجمان (١ / ٢٢٣). جنان الليل : شدة ظلمته وادلهمامه. سرباله لم يخرق : ثيابه غير ممزقة أي : ما عاد سالما.

١٣٧

إذا أتيت أبا مروان تسأله

وجدته ، حاضراه الجود والكرم

فقوله : «حاضراه الجود» ، جملة من المبتدأ والخبر كما ترى ، وليس به «واو» ، والموضع موضع حال ، ألا تراك تقول : «أتيته فوجدته جالسا» ، فيكون «جالسا» حالا ، ذاك لأن «وجدت» في مثل هذا من الكلام لا تكون المتعدّية إلى مفعولين ، ولكن المتعدّية إلى مفعول واحد كقولك : «وجدت الضّالّة» إلا أنه ينبغي أن تعلم أن لتقديمه الخبر الذي هو «حاضراه» تأثيرا في معنى الغنى عن «الواو» ، وأنه لو قال : «وجدته ، الجود والكرم حاضراه» لم يحسن حسنه الآن ، وكان السبب في حسنه مع التقديم ، أنه يقرب في المعنى من قولك : «وجدته حاضره الجود والكرم» أو «حاضرا عنده الجود والكرم».

وإن كانت الجملة من فعل وفاعل ، والفعل مضارع مثبت غير منفي ، لم يكد يجيء بالواو ، بل ترى الكلام على مجيئها عارية من «الواو» ، كقولك : «جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه» ، وكقوله : [من البسيط]

وقد علوت قتود الرّحل يسفعني

يوم قديديمة الجوزاء مسموم (١)

وقوله : [من الخفيف]

ولقد أغتدي يدافع ركني

أحوذيّ ذو ميعة إضريج (٢)

وكذلك قولك : «جاءني زيد يسرع» ، لا فصل بين أن يكون الفعل لذي الحال ، وبين أن يكون لمن هو من سببه ، فإن ذلك كلّه يستمر على الغنى عن «الواو» ، وعليه التنزيل والكلام ، ومثاله في التنزيل قوله عزوجل : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر : ٦] ، وقوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) [الليل : ١٧ ـ ١٨] ، وكقوله عزّ اسمه : (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف : ١٨٦].

فأما قول ابن همام السّلولي : [من المتقارب]

فلمّا خشيت أظافيره

نجوت ، وأرهنهم مالكا (٣)

__________________

(١) البيت لعلقمة بن عبدة ، وهو علقمة بن عبدة بن النعمان بن ناشرة بن قيس بن عبيد بن ربيعة ، شاعر جاهلي مجيد ، كان من صدور الجاهلية وفحولها ، والبيت في المفضليات رقم (١٢٠) ص (٤٠٣). وقتود الرحل : خشب الرحل وأدواته ، يسفعني : يحرقني ويغير لوني من شمسه وحرّه ، الجوزاء : برج من أبراج الشمس يشتد الحر بنزولها فيه ، مسموم : شديد السموم ، وهي الريح الحارة. وروايته في المفضليات : «يوم تجيء به الجوزاء» بدل «يوم قديديمة الجوزاء».

(٢) سبق تخريجه (ص ٧٦).

(٣) البيت لعبد الله بن همام السلولي في الإيضاح (١٦٥) ، وإصلاح المنطق (٢٣١ ، ٢٤٩) ، وخزانة الأدب (٩ / ٣٦) ، والشعر والشعراء (٢ / ٦٥٥) ، ومعاهد التنصيص (١ / ٢٨٥).

١٣٨

في رواية من روى «وأرهنهم» ، وما شبهوه به من قولهم : «قمت وأصكّ (١) وجهه» فليست الواو فيها للحال ، وليس المعنى «نجوت راهنا مالكا» ، و «قمت صاكّا وجهه» ، ولكن «أرهن» و «أصكّ» حكاية حال ، مثل قوله : [من الكامل]

ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني ،

فمضيت ، ثمّت قلت : لا يعنيني (٢)

فكما أن «أمرّ» هاهنا في معنى «مررت» ، كذلك يكون «أرهن» و «أصكّ» هناك في معنى «رهنت» و «صككت».

ويبيّن ذلك أنك ترى «الفاء» تجيء مكان «الواو» في مثل هذا ، وذلك كنحو ما في الخبر في حديث عبد الله بن عتيك (٣) حين دخل على أبي رافع اليهوديّ حصنه قال : «فانتهيت إليه ، فإذا هو في بيت مظلم لا أدري أنّى هو من البيت ، فقلت : أبا رافع! فقال : من هذا؟ فأهويت نحو الصّوت ، فأضربه بالسّيف وأنا دهش» ، فكما أن «أضربه» مضارع قد عطفه بالفاء على ماض ، لأنه في المعنى ماض ، كذلك يكون «أرهنهم» معطوفا على الماضي قبله ، وكما لا يشكّ في أنّ المعنى في الخبر : «فأهويت فضربت» ، كذلك يكون المعنى في البيت : «نجوت ورهنت» ، إلا أن الغرض في إخراجه على لفظ الحال ، أن يحكى الحال في أحد الخبرين ، ويدع الآخر على ظاهره ، كما كان ذلك في «ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني ، فمضيت» ، إلّا أن الماضي في هذا البيت مؤخّر معطوف ، وفي بيت ابن همام وما ذكرناه معه ، مقدّم معطوف عليه. فاعرفه.

فإن دخل حرف نفي على المضارع تغيّر الحكم ، فجاء بالواو وبتركها كثيرا ، وذلك مثل قولهم : «كنت ولا أخشى بالذّئب» (٤) ، وقول مسكين الدارميّ : [من الرمل]

__________________

(١) أصك : صكه ضربه شديدا. القاموس «صكك» (١٢٢١).

(٢) البيت لشمر بن عمرو الحنفي أحد شعراء بني حنيفة باليمامة ، وهو في الأصمعيات رقم (٣٨) ص (١١٦) ، ورواه سيبويه في الكتاب ، والخزانة (١ / ١٧٣) ، وتفسير الطبري (٢ / ٣٥١). وفي الأغاني أن شمر قتل المنذر بن ماء السماء غيلة ، وكان الحارث بن جبلة الغساني قد بعث إلى المنذر بمائة غلام تحت لواء شمر هذا يسأله الأمان على أن يخرج له عن ملكه ويكون من قبله ، فركن المنذر إلى ذلك وأقام الغلمان معه فاغتاله شمر ، وتفرق من كان مع المنذر وانتهبوا عسكره. ومعنى البيت : يقول : أتجاهل شتم اللئيم لأنه أحقر من أن يعني لي شيئا.

(٣) عبد الله بن عتيك الأنصاري استشهد باليمامة سنة (١٢) ه. أسد الغابة (٣ / ٢٠٤) والإصابة (٢ / ٣٣٢).

(٤) أخشى : أخوف. مثل ذكره الميداني في مجمع الأمثال بلفظ «لقد كنت وما أخشى بالذئب». يضرب للعجوز الخرف الذي يخاف من هجوم الذئب عليه.

١٣٩

أكسبته الورق البيض أبا

ولقد كان ولا يدعى لأب (١)

وقول مالك بن رفيع ، وكان جنى جناية فطلبه مصعب بن الزّبير : [من الوافر]

بغاني مصعب وبنو أبيه ،

فأين أحيد عنهم؟ لا أحيد

أقادوا من دمي وتوعّدوني ،

وكنت وما ينهنهني الوعيد (٢)

«كان» في هذا كلّه تامة والجملة الداخل عليها «الواو» في موضع الحال. ألا ترى أن المعنى : «وجدت غير خاش للذئب» ، و «لقد وجد غير مدعوّ لأب» و «وجدت غير منهنه بالوعيد وغير مبال به» ، ولا معنى لجعلها ناقصة ، وجعل «الواو» مزيدة.

وليس مجيء الفعل المضارع حالا ، على هذا الوجه ، بعزيز في الكلام ، ألا تراك تقول : «جعلت أمشي وما أدري أين أضع رجلي» و «جعل يقول ولا يدري» ، وقال أبو الأسود : «يصيب وما يدري» ، وهو شائع كثير.

فأما مجيء المضارع منفيّا حالا من غير «الواو» فيكثر أيضا ويحسن ، فمن ذلك قوله : [من الطويل]

ثووا لا يريدون الرّواح ، وغالهم

من الدّهر أسباب جرين على قدر (٣)

وقال أرطأة بن سهيّة ، وهو لطيف جدّا : [من البسيط]

إن تلقني ، لا ترى غيري بناظرة

تنس السّلاح وتعرف جبهة الأسد (٤)

__________________

(١) البيت في مجموع شعره ، والإيضاح (١٦٦) ، والإشارات (١٣٩) ، وشرح عقود الجمان (١٩١) ، والتبيان (١٢١).

(٢) البيت في شرح عقود الجمان (١٩١) ، منسوب لمالك بن رفيع ، وفي الأمالي (٣ / ١٢٧) ، ومالك ابن أبي رفيع الأسدي كان صعلوكا فطلبه ابن الزبير فهرب منه وقال هذا الشعر وله رواية أخرى : «أتاني مصعب» ، وشرح التصريح (١ / ١٩٢) ، ولمالك بن رقية كالآتي :

تفانى مصعب وبنو أبيه

وكنت ولا ينهنهني الوعيد

والإيضاح (١٦٦).

(٣) البيت في الإيضاح (١٦٦) ، والإشارات (١٣٨) ، والتبيان في علم البيان لابن الزملكاني (١٢٢) ط. بغداد ، وقال الأستاذ محمود شاكر في نسخته من دلائل الإعجاز : هو لعكرشة العبسي أبي الشغب يرثي بنيه ، وهو في شرح الحماسة للتبريزي (٣ / ٤٩ ، ٥٠) ، ومجالس ثعلب (٢٤٢) ، والشعر بتمامه في مقطعات مراث لابن الأعرابي رقم (٤) ، ورواية البيت على الصواب كما أثبته «ثووا».

(٤) البيت في الأغاني (١٣ / ٣٧) وبعده :

ما ذا تظنك تغني في أخي رصد

من أسد خفان جابي العين ذي لبد

وكان شبيب بن البرصاء يقول : وددت أني جمعني وابن الأمة أرطاة بن سهية يوم قتال فأشفى منه غيظي ، فبلغ ذلك أرطاة فقال له : الناظرة : العين.

١٤٠