دلائل الإعجاز في علم المعاني

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

دلائل الإعجاز في علم المعاني

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦

إنما يكون في المعنى. كيف؟ وهم يعتقدون أن اللفظ إذا استعير لشيء ، نقل عن معناه الذي وضع له بالكلية. وإذا كان الأمر كذلك ، فلو لا إهمالهم أنفسهم وتركهم النّظر ، لقد كان يكون في هذا ما يوقظهم من غفلتهم ، ويكشف الغطاء عن أعينهم.

فصل

[في علاقة الفكر بمعاني النحو]

ومما ينبغي أن يعلمه الإنسان ويجعله على ذكر ، أنّه لا يتصوّر أن يتعلّق الفكر بمعاني الكلم أفرادا ومجرّدة من معاني النّحو ، فلا يقوم في وهم ولا يصحّ في عقل ، أن يتفكّر متفكّر في معنى «فعل» من غير أن يريد إعماله في «اسم» ، ولا أن يتفكّر في معنى «اسم» من غير أن يريد إعمال «فعل» فيه ، وجعله فاعلا له أو مفعولا ، أو يريد فيه حكما سوى ذلك من الأحكام ، مثل أن يريد جعله مبتدأ ، أو خبرا ، أو صفة أو حالا ، أو ما شاكل ذلك.

وإن أردت أن ترى ذلك عيانا فاعمد إلى أيّ كلام شئت ، وأزل أجزاءه عن مواضعها ، وضعها وضعا يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو فيها ، فقل في : [من الطويل]

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (١)

«من نبك قفا حبيب ذكرى منزل» ، ثم انظر هل يتعلّق منك فكر بمعنى كلمة منها؟

واعلم أني لست أقول إن الفكر لا يتعلق بمعاني الكلم المفردة أصلا ، ولكني أقول إنه لا يتعلّق بها مجرّدة من معاني النحو ، ومنطوقا بها على وجه لا يتأتّى معه تقدير معاني النحو وتوخّيها فيها ، كالذي أريتك ، وإلّا فإنك إذا فكّرت في الفعلين أو الاسمين ، تريد أن تخبر بأحدهما عن الشيء أيّهما أولى أن تخبر به عنه وأشبه بغرضك ، مثل أن تنظر : أيّهما أمدح وأذمّ ، أو فكّرت في الشيئين تريد أن تشبّه الشيء بأحدهما أيّهما أشبه به كنت قد فكّرت في معاني أنفس الكلم ، إلا أن فكرك ذلك لم يكن إلّا من بعد أن توخّيت فيها معنى من معاني النحو ، وهو أن أردت جعل الاسم الذي فكّرت فيه خبرا عن شيء أردت فيه مدحا أو ذمّا أو تشبيها ، أو غير ذلك

__________________

(١) راجع ص (٢٣٦) هامش (١).

٢٦١

من الأغراض ولم تجيء إلى فعل أو اسم ففكرت فيه فردا ، ومن غير أن كان لك قصد أن تجعله خبرا أو غير خبر. فاعرف ذلك.

وإن أردت مثالا فخذ بيت بشّار : [من الطويل]

كأنّ مثال النّقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (١)

وانظر هل يتصوّر أن يكون بشار قد أخطر معاني هذه الكلم بباله أفردا عارية من معاني النحو التي تراها فيها وأن يكون قد وقع «كأنّ» في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التّشبيه منه على شيء وأن يكون فكّر في «مثار النقع» ، من غير أن يكون أراد إضافة الأول إلى الثاني وفكّر في «فوق رءوسنا» ، من غير أن يكون قد أراد أن يضيف «فوق» إلى «الرءوس» وفي «الأسياف» من دون أن يكون أراد عطفها بالواو على «مثار» وفي «الواو» من دون أن يكون أراد العطف بها وأن يكون كذلك فكّر في «الليل» ، من دون أن يكون أراد أن يجعله خبرا «لكأنّ» وفي «تهاوى كواكبه» ، من دون أن يكون أراد أن يجعل «تهاوى» فعلا للكواكب ، ثم يجعل الجملة صفة لليل ، ليتمّ الذي أراد من التشبيه؟ أم لم يخطر هذه الأشياء بباله إلّا مرادا منها هذه الأحكام والمعاني التي تراها فيها؟

وليت شعري ، كيف يتصوّر وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى؟ ومعنى «القصد إلى معاني الكلم» ، أن تعلم السامع بها شيئا لا يعلمه. ومعلوم أنك ، أيّها المتكلم ، لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلّمه بها ، فلا تقول : «خرج زيد» ، لتعلمه معنى «خرج» في اللغة ، ومعنى «زيد». كيف؟ ومحال أن تكلّمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف. ولهذا لم يكن الفعل وحده من دون الاسم ، ولا الاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل ، كلاما. وكنت لو قلت «خرج» ، ولم تأت باسم ، ولا قدّرت فيه ضمير الشيء ، أو قلت : «زيد» ، ولم تأت بفعل ولا اسم آخر ولم تضمره في نفسك ، كان ذلك وصوتا تصوّته سواء ، فاعرفه.

واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعا من الذهب أو الفضّة فيذيب

__________________

(١) البيت في ديوانه ، وذكره الطيبي في التبيان (١ / ٢٧٨) وعزاه لبشار ، وأورده أيضا في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١٠٦) ، والقزويني في الإيضاح ، والسكاكي في المفتاح (٤٤٤ ، ٤٦١) ، وأورده الرازي في نهاية الإيجاز (١٥٥) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (١٨٠) ، والعلوي في الطراز.

٢٦٢

بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة. وذلك أنّك إذا قلت : «ضرب زيد عمرا يوم الجمعة ضربا شديدا تأديبا له» ، فإنّك تحصل من مجموع هذه الكلم كلّها على مفهوم ، هو معنى واحد لا عدّة معان ، كما يتوهّمه الناس. وذلك لأنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها ، وإنما جئت بها لتفيده وجوه التعلّق التي بين الفعل الذي هو «ضرب» ، وبين ما عمل فيه ، والأحكام الّتي هي محصول التعلّق.

وإذا كان الأمر كذلك ، فينبغي لنا أن ننظر في المفعولية من «عمرو» ، وكون «يوم الجمعة» زمانا للضرب ، وكون «الضرب» ضربا شديدا ، وكون «التأديب» علّة للضرب ، أيتصوّر فيها أن تفرد عن المعنى الأوّل الذي هو أصل الفائدة ، وهو إسناد «ضرب» إلى «زيد» ، وإثبات «الضرب» به له ، حتى يعقل كون «عمرو» مفعولا به ، وكون «يوم الجمعة» مفعولا فيه وكون «ضربا شديدا» مصدرا ، وكون «التأديب مفعولا له من غير أن يخطر ببالك كون «زيد» فاعلا للضرب؟

وإذا نظرنا وجدنا ذلك لا يتصوّر ، لأن «عمرا» مفعول لضرب وقع من زيد عليه ، و «يوم الجمعة» زمان لضرب وقع من زيد ، و «ضربا شديدا» بيان لذلك الضرب كيف هو وما صفته ، و «التأديب» علة له وبيان أنه كان الغرض منه. وإذا كان ذلك كذلك ، بان منه وثبت ، أنّ المفهوم من مجموع الكلم معنى واحد لا عدّة معان ، وهو إثباتك زيدا فاعلا ضربا لعمرو في وقت كذا ، وعلى صفة كذا ، ولغرض كذا. ولهذا المعنى قول إنّه كلام واحد.

وإذ قد عرفت هذا ، فهو العبرة أبدا. فبيت بشّار إذا تأملته وجدته كالحلقة المفرغة التي لا تقبل التقسيم ، ورأيته قد صنع في الكلم التي فيه ما يصنع الصّانع حين يأخذ كسرا من الذهب فيذيبها ثم يصبّها في قالب ، ويخرجها لك سوارا أو خلخالا. وإن أنت حاولت قطع بعض ألفاظ البيت عن بعض ، كنت كمن يكسر الحلقة ويفصم السوار. وذلك أنه لم يرد أن يشبّه «النّقع» بالليل على حدة ، و «الأسياف» بالكواكب على حدة ، ولكنه أراد أن يشبّه النّقع والأسياف تجول فيه بالليل في حال ما تنكدر (١) الكواكب وتتهاوى فيه. فالمفهوم من الجميع مفهوم واحد ، والبيت من أوّله إلى آخره كلام واحد.

فانظر الآن ما تقول في اتّحاد هذه الكلمة التي هي أجزاء البيت؟ أتقول : إنّ ألفاظها اتّحدت فصارت لفظة واحدة؟ أم تقول : إنّ معانيها اتّحدت فصارت الألفاظ

__________________

(١) انكدر : أسرع. القاموس مادة «كدر» (٦٠٣).

٢٦٣

من أجل ذلك كأنّها لفظة واحدة؟ فإن كنت لا تشكّ أن الاتّحاد الذي تراه هو في المعاني ، إذ كان من فساد العقل ، ومن الذّهاب في الخبل ، أن يتوهّم متوهّم أن الألفاظ يندمج بعضها في بعض حتى تصير لفظة واحدة.

فقد أراك ذلك ، إن لم تكابر (١) عقلك ، أن «النظم» يكون في معاني الكلم دون ألفاظها ، وأن نظمها هو توخّي معاني النحو فيها. وذلك أنه إذا ثبت الاتّحاد ، وثبت أنه في المعاني ، فينبغي أن تنظر إلى الذي به اتّحدت المعاني في بيت بشّار. وإذا نظرنا لم نجدها اتّحدت إلّا بأن جعل «مثار النقع» اسم «كأن» ، وجعل الظّرف الذي هو «فوق رءوسنا» معمولا «لمثار» ومعلّقا به ، وأشرك «الأسياف» في «كأن» بعطفه لها على «مثار» ، ثم بأن قال : «ليل تهاوى كواكبه» ، فأتى بالليل نكرة ، وجعل جملة قوله : «تهاوى كواكبه» له صفة ، ثم جعل مجموع : «ليل تهاوى كواكبه» ، خبرا «لكأنّ».

فانظر هل ترى شيئا كان الاتّحاد به غير ما عدّدناه؟ وهل تعرف له موجبا سواه؟

فلو لا الإخلاد إلى الهوينا ، وترك النّظر وغطاء ألقي على عيون أقوام ، لكان ينبغي أن يكون في هذا وحده الكفاية وما فوق الكفاية. ونسأل الله تعالى التوفيق.

واعلم أن الذي هو آفة هؤلاء الذين لهجوا بالأباطيل في أمر «اللفظ» أنهم قوم قد أسلموا أنفسهم إلى التّخيّل ، وألقوا مقادتهم إلى الأوهام ، حتى عدلت بهم عن الصواب كلّ معدل ، ودخلت بهم من فحش الغلط في كلّ مدخل ، وتعسّفت بهم في كلّ مجهل ، وجعلتهم يرتكبون في نصرة رأيهم الفاسد القول بكلّ محال ، ويقتحمون في كلّ جهالة ، حتى أنك لو قلت لهم : إنه لا يتأتّى للناظم نظمه إلّا بالفكر والرويّة ، فإذا جعلتم «النظم» في الألفاظ ، لزمكم من ذلك أن تجعلوا فكر الإنسان إذا هو فكّر في نظم الكلام ، فكرا في الألفاظ التي يريد أن ينطق بها دون المعاني لم يبالوا أن يرتكبوا ذلك ، وأن يتعلّقوا فيه بما في العادة ومجرى الجبلّة من أن الإنسان يخيّل إليه إذا هو فكّر ، أنه كأنّه ينطق في نفسه بالألفاظ التي يفكر في معانيها ، حتى يرى أنّه يسمعها سماعة لها حين يخرجها من فيه ، وحين يجري بها اللسان.

وهذا تجاهل ، لأنّ سبيل ذلك سبيل إنسان يتخيّل دائما في الشيء قد رآه وشاهده أنه كأنّه يراه وينظر إليه ، وأنّ مثاله نصب عينيه. فكما لا يوجب هذا أن

__________________

(١) تعظّم. اللسان مادة «كبر» (٥ / ١٢٩).

٢٦٤

يكون رائيا له ، وأن يكون الشيء موجودا في نفسه ، كذلك لا يكون تخيّله أنّه كأنّه ينطق بالألفاظ ، موجبا أن يكون ناطقا بها ، وأن تكون موجودة في نفسه ، حتّى يجعل ذلك سببا إلى جعل الفكر فيها.

ثمّ إنّا نعمل على أنه ينطق بالألفاظ في نفسه ، وأنه يجدها فيها على الحقيقة ، فمن أين لنا أنه إذا فكر كان الفكر منه فيها؟ أم ما ذا يروم ، ليت شعري ، بذلك الفكر؟ ومعلوم أن الفكر من الإنسان يكون في أن يخبر عن شيء بشيء ، أو يصف شيئا بشيء ، أو يضيف شيئا إلى شيء ، أو يشرك شيئا في حكم شيء ، أو يخرج شيئا من حكم قد سبق منه لشيء ، أو يجعل وجود شيء شرطا في وجود شيء ، وعلى هذا السبيل؟ وهذا كلّه فكر في أمور معقولة زائدة على اللفظ.

وإذا كان هذا كذلك ، لم يخل هذا الذي يجعل في الألفاظ فكرا من أحد أمرين : إمّا أن يخرج هذه المعاني من أن يكون لواضع الكلام فيها فكر ويجعل الفكر كلّه في الألفاظ وإمّا أن يجعل له فكرا في اللفظ مفردا عن الفكرة في هذه المعاني. فإن ذهب إلى الأوّل لم يكلّم ، وإن ذهب إلى الثاني لزمه أن يجوّز وقوع فكر من الأعجمي الذي لا يعرف معاني ألفاظ العربية أصلا ، في الألفاظ. وذلك ممّا لا يخفى مكان الشّنعة (١) والفضيحة فيه.

وشبيه بهذا التوهّم منهم ، أنّك قد ترى أحدهم يعتبر حال السامع ، فإذا رأى المعاني لا تترتّب في نفسه إلّا بترتّب الألفاظ في سمعه ، ظنّ عند ذلك أن المعاني تبع للألفاظ ، وأن التّرتّب فيها مكتسب من الألفاظ ، ومن ترتّبها في نطق المتكلم.

وهذا ظن فاسد ممن يظنّه ، فإن الاعتبار ينبغي أن يكون بحال الواضع للكلام والمؤلّف له ، والواجب أن ينظر إلى حال المعاني معه لا مع السامع ، وإذا نظرنا علمنا ضرورة أنه محال أن يكون التّرتّب فيها تبعا لترتّب الألفاظ ومكتسبا عنه ، لأن ذلك يقتضي أن تكون الألفاظ سابقة للمعاني ، وأن تقع في نفس الإنسان أوّلا ، ثم تقع المعاني من بعدها وتالية لها ، بالعكس مما يعلمه كلّ عاقل إذا هو لم يؤخذ عن نفسه ، ولم يضرب حجاب بينه وبين عقله. وليت شعري ، هل كانت الألفاظ إلّا من أجل المعاني؟ وهل هي إلّا خدم لها ، ومصرّفة على حكمها؟ أو ليست هي سمات لها ، وأوضاعا قد وضعت لتدلّ عليها؟ فكيف يتصوّر أن تسبق المعاني وأن تتقدّمها في تصوّر النفس؟ إن جاز ذلك ، جاز أن تكون أسامي الأشياء قد وضعت قبل أن

__________________

(١) شنع فلان استقبحه. القاموس «شنع» (٩٤٩).

٢٦٥

عرفت الأشياء ، وقبل أن كانت. وما أدري ما أقول في شيء يجرّ الذاهبين إليه إلى أشباه هذا من فنون المحال ، ورديء الأقوال.

هذا سؤال لهم من جنس آخر في «النظم». قالوا : لو كان «النظم» يكون في معاني النحو ، لكان البدويّ الذي لم يسمع بالنحو قطّ ، ولم يعرف المبتدأ والخبر وشيئا ممّا يذكرونه ، لا يتأتّى له نظم كلام. وإنّا لنراه يأتي في كلامه بنظم لا يحسنه المتقدّم في علم النحو.

قيل : هذه شبهة من جنس ما عرض للذين عابوا المتكلمين فقالوا : «إنّا نعلم أنّ الصحابة رضي‌الله‌عنهم والعلماء في الصّدر الأوّل ، لم يكونوا يعرفون «الجوهر» و «العرض» ، و «صفة النفس» و «صفة المعنى» وسائر العبارات التي وضعتموها ، فإن كان لا تتمّ الدّلالة على حدوث العالم والعلم بوحدانيّة الله ، إلا بمعرفة هذه الأشياء التي ابتدأتموها ، فينبغي لكم أن تدّعوا أنكم قد علمتم في ذلك ما لم يعلموه ، وأن منزلتكم في العلم أعلى من منازلهم.

وجوابنا هو مثل جواب المتكلمين ، وهو أن الاعتبار بمعرفة مدلول العبارات ، لا بمعرفة العبارات. فإذا عرف البدويّ الفرق بين أن يقول : «جاءني زيد راكبا» ، وبين قوله : «جاءني زيد الرّاكب» ، لم يضرّه أن لا يعرف أنه إذا قال : «راكبا» ، كانت عبارة النحويين فيه أن يقولوا في «راكب» : «إنه حال» ، وإذا قال : «الراكب» ، أنه صفة جارية على «زيد» وإذا عرف في قوله : «زيد منطلق» أن «زيدا» مخبر عنه ، و «منطلق» خبر ، لم يضرّه أن لا يعلم أنّا نسمّي «زيدا» مبتدأ وإذا عرف في قولنا : «ضربته تأديبا له» ، أن المعنى في التأديب أنه غرضه من الضرب ، وأنه ضربه ليتأدب ، لم يضرّه أن لا يعلم أنا نسمي «التأديب» مفعولا له.

ولو كان عدمه العلم بهذه العبارات ، يمنعه العلم بما وضعناها له وأردناه بها لكان ينبغي أن لا يكون له سبيل إلى بيان أغراضه ، وأن لا يفصل فيما يتكلّم به بين نفي وإثبات ، وبين «ما» إذا كان استفهاما وبينه إذا كان بمعنى «الذي» ، وإذا كان بمعنى المجازاة ، لأنه لم يسمع عباراتنا في الفرق بين هذه المعاني.

أترى الأعرابيّ حين سمع المؤذّن يقول : «أشهد أنّ محمدا رسول الله» بالنصب ، فأنكر وقال : صنع ما ذا؟ أنكر عن غير علم أن النصب يخرجه عن أن يكون خبرا ويجعله والأوّل في حكم اسم واحد ، وأنه إذا صار والأوّل في حكم اسم واحد ، احتيج إلى اسم آخر أو فعل ، حتى يكون كلاما ، وحتى يكون قد ذكر ما له فائدة؟ إن كان لم يعلم ذلك ، فلما ذا قال : «صنع ما ذا؟» ، فطلب ما يجعله خبرا؟

٢٦٦

ويكفيك أنه يلزم على ما قالوه أن يكون امرؤ القيس حين قال : [من الطويل]

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (١)

قاله وهو لا يعلم ما نعنيه بقولنا : أن «قفا» أمر ، و «نبك» جواب الأمر ، و «ذكرى» مضاف إلى «حبيب» ، و «منزل» معطوف على الحبيب وأن تكون هذه الألفاظ قد ترتّبت له من غير قصد منه إلى هذه المعاني. وذلك يوجب أن يكون قال : «نبك» بالجزم من غير أن يكون عرف معنى يوجب الجزم ، وأتى به مؤخرا عن «قفا» ، من غير أن عرف لتأخيره موجبا سوى طلب الوزن.

ومن أفضت به الحال إلى أمثال هذه الشناعات ، ثم لم يرتدع ، ولم يتبيّن أنه على خطأ ، فليس إلّا تركه والإعراض عنه.

ولو لا أنّا نحبّ أن لا ينبس أحد في معنى السّؤال والاعتراض بحرف إلّا أريناه الذي استهواه ، لكان ترك التشاغل بإيراد هذا وشبهه أولى. ذاك لأنّا قد علمنا علم ضرورة أنّا لو بقينا الدهر الأطول نصعّد ونصوّب ، ونبحث وننقّب ، نبتغي كلمة قد اتصلت بصاحبة لها ، ولفظة قد انتظمت مع أختها ، من غير أن توخّي فيما بينهما معنى من معاني النحو ، طلبنا ممتنعا ، وثنينا مطايا الفكر ظلّعا. فإن كان هاهنا من يشكّ في ذلك ، ويزعم أنه قد علم لاتّصال الكلم بعضها ببعض ، وانتظام الألفاظ بعضها مع بعض ، معاني غير معاني النحو ، فإنا نقول له : هات ، فبيّن لنا تلك المعاني ، وأرنا مكانها ، واهدنا لها ، فلعلّك قد أوتيت علما قد حجب عنّا ، وفتح لك باب قد أغلق دوننا : [من الوافر]

وذاك له إذا العنقاء صارت

مربّبة وشبّ ابن الخصيّ (٢)

__________________

(١) راجع هامش رقم (١) ص (٢٣٦).

(٢) البيت لأبي تمام في ديوانه (٣٣٠) من قصيدة في مدح الحسن بن وهب ، وقبله :

ويتبع نعمتي بك عين ضغن

كما نظر اليتيم إلى الوصيّ

رجاء أنه يوري بزندي

لديك وأنه يعزى فرييّ

والبيت فيه تعليق أمر مستحيل على أمر مستحيل. والعنقاء : طائر ضخم ، وقيل : طائر خرافي مثله مثل الغول. مرببة : أي يربّيها الناس كما يربى الحمام وهذا محال ، الخصيّ : لا ولد له فأنى يكون له ولد يشيب.

٢٦٧

فصل

[في مسألة التعبير عن المعنى

بلفظين أحدهما فصيح والآخر غير فصيح]

قد أردت أن أعيد القول في شيء هو أصل الفساد ومعظم الآفة ، والذي صار حجازا بين القوم وبين التأمّل ، وأخذ بهم عن طريق النّظر ، وحال بينهم وبين أن يصغوا إلى ما يقال لهم ، وأن يفتحوا للذي تبيّن أعينهم ، وذلك قولهم : «إنّ العقلاء قد اتّفقوا على أنه يصحّ أن يعبّر عن المعنى الواحد بلفظين ، ثم يكون أحدهما فصيحا ، والآخر غير فصيح. وذلك ، قالوا ، يقتضي أن يكون للّفظ نصيب في المزيّة ، لأنها لو ، كانت مقصورة على المعنى ، لكان محالا أن يجعل لأحد اللفظين فضل على الآخر ، مع أن المعبّر عنه واحد».

وهذا شيء تراهم يعجبون به ويكثرون ترداده ، مع أنهم يؤكّدونه فيقولون : «لو لا أنّ الأمر كذلك ، لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشّعر فضل على تفسير المفسّر له ، لأنّه إن كان اللّفظ إنما يشرف من أجل معناه ، فإنّ لفظ المفسّر يأتي على المعنى ويؤدّيه لا محالة ، إذ لو كان لا يؤدّيه ، لكان لا يكون تفسيرا له».

ثم يقولون : «وإذا لزم ذلك في تفسير البيت من الشّعر ، لزم مثله في الآية من القرآن» وهم إذا انتهوا في الحجاج إلى هذا الموضع ، ظنّوا أنّهم قد أتوا بما لا يجوز أن يسمع عليهم معه كلام ، وأنه نقض ليس بعده إبرام ، وربما أخرجهم الإعجاب به إلى الضحك والتعجّب ممن يرى أنّ إلى الكلام عليه سبيلا ، وأنّه يستطيع أن يقيم على بطلان ما قالوه دليلا.

والجواب ، وبالله التوفيق ، أن يقال للمحتج بذلك : قولك إنّه يصحّ أن يعبّر عن المعنى الواحد بلفظين ، يحتمل أمرين :

أحدهما : أن تريد باللفظين كلمتين معناهما واحد في اللغة ، مثل «الليث» و «الأسد» ، ومثل «شحط» و «بعد» ، وأشباه ذلك مما وضع اللفظان فيه لمعنى.

والثاني : أن تريد كلامين.

فإن أردت الأوّل خرجت من المسألة ، لأن كلامنا نحن في فصاحة تحدث من بعد التأليف ، دون الفصاحة التي توصف بها اللفظة مفردة ، ومن غير أن يعتبر حالها مع غيرها.

٢٦٨

وإن أردت الثاني ، ولا بدّ لك من أن تريده ، فإن هاهنا أصلا ، من عرفه عرف سقوط هذا الاعتراض. وهو أن يعلم أن سبيل المعاني سبيل أشكال الحليّ ، كالخاتم والشّنف والسّوار ، فكما أن من شأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غفلا ساذجا ، لم يعمل صانعه فيه شيئا أكثر من أن أتى بما يقع عليه اسم الخاتم إن كان خاتما ، والشّنف إن كان شنفا ، وأن يكون مصنوعا بديعا قد أغرب صانعه فيه. كذلك سبيل المعاني ، أن ترى الواحد منها غفلا ساذجا عامّيا موجودا في كلام الناس كلّهم ، ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصّور في المعاني ، فيصنع فيه ما يصنع الصّنع الحاذق ، حتى يغرب في الصّنعة ، ويدقّ في العمل ، ويبدع في الصّياغة. وشواهد ذلك حاضرة لك كيف شئت ، وأمثلته نصب عينيك من أين نظرت.

تنظر إلى قول النّاس : «الطبع لا يتغيّر» ، و «لست تستطيع أن تخرج الإنسان عمّا جبل عليه» ، فترى معنى غفلا عامّيا معروفا في كل جيل وأمة ، ثم تنظر إليه في قول المتنبي : [من المتقارب]

يراد من القلب نسيانكم

وتأبى الطّباع على النّاقل (١)

فتجده قد خرج في أحسن صورة ، وتراه قد تحوّل جوهرة بعد أن كان خرزة ، وصار أعجب شيء بعد أن لم يكن شيئا.

وإذ قد عرفت ذلك ، فإن العقلاء إلى هذا قصدوا حين قالوا : «إنّه يصحّ أن يعبّر عن المعنى الواحد بلفظين ، ثم يكون أحدهما فصيحا والآخر غير فصيح» ، كأنهم قالوا : إنه يصح أن تكون هاهنا عبارتان أصل المعنى فيهما واحد ، ثم يكون لإحداهما في تحسين ذلك المعنى وتزيينه ، وإحداث خصوصيّة فيه تأثير لا يكون للأخرى.

واعلم أن المخالف لا يخلو من أن ينكر أن يكون للمعنى في إحدى العبارتين حسن ومزيّة لا يكونان له في الأخرى ، وأن تحدث فيه على الجملة صورة لم تكن أو يعرف ذلك ، فإن أنكر لم يكلّم ، لأنه يؤديه إلى أن لا يجعل للمعنى في قوله :

وتأبى الطباع على الناقل

__________________

(١) البيت في ديوانه (٢ / ١٧) من قصيدة في مدح سيف الدولة ويذكر استنقاذه أبا وائل بن داود بن حمدان العدوي من أسر الخارجي سنة سبع وثلاثين وثلاث ومائة ومطلعها :

إلام طماعية العاذل

ولا رأي في الحب للعاقل

٢٦٩

مزية على الذي يعقل من قولهم : «الطبع لا يتغير» ، و «لا يستطيع أن يخرج الإنسان عمّا جبل عليه» وأن لا يرى لقول أبي نواس : [من السريع]

وليس لله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

مزيّة على أن يقال : «غير بديع في قدرة الله تعالى أن يجمع فضائل الخلق كلّهم في رجل واحد». ومن أدّاه قول يقوله إلى مثل هذا ، كان الكلام معه محالا ، وكنت إذا كلّفته أن يعرف ، كمن يكلّف أن يميّز بحور الشعر بعضها من بعض ، فيعرف المديد من الطّويل ، والبسيط من السّريع من ليس له ذوق يقيم به الشعر من أصله.

وإن اعترف بأنّ ذلك يكون ، قلنا له : أخبرنا عنك ، أتقول في قوله :

وتأبى الطّباع على الناقل (١)

أنه غاية في الفصاحة؟ فإذا قال : نعم. قيل له : أفكان كذلك عندك من أجل حروفه ، أم من أجل حسن ومزيّة حصلا في المعنى فإن قال : من أجل حروفه : دخل في الهذيان وإن قال : من أجل حسن ومزيّة حصلا في المعنى ، قيل له : فذاك ما أردناك عليه حين قلنا : إن اللفظ يكون فصيحا من أجل مزية تقع في معناه ، لا من أجل جرسه وصداه.

واعلم أنه ليس شيء أبين وأوضح وأحرى أن يكشف الشبهة عن متأمّله في صحة ما قلناه ، من «التشبيه». فإنّك تقول : «زيد كالأسد» أو «مثل الأسد» أو «شبيه بالأسد» ، فتجد ذلك كلّه تشبيها غفلا ساذجا ثم تقول : «كأن زيدا الأسد» ، فيكون تشبيها أيضا ، إلّا أنّك ترى بينه وبين الأول بونا بعيدا ، لأنك ترى له صورة خاصّة ، وتجدك قد فخّمت المعنى وزدت فيه ، بأن أفدت أنه من الشّجاعة وشدّة البطش ، وأنّ قلبه قلب لا يخامره الذّعر ولا يدخله الرّوع ، بحيث يتوهّم أنه الأسد بعينه ثم تقول : «لئن لقيته ليلقينّك منه الأسد» ، فتجده قد أفاد هذه المبالغة ، لكن في صورة أحسن ، وصفة أخصّ ، وذلك أنك تجعله في «كأن» ، يتوهّم أنه الأسد ، وتجعله هاهنا يرى منه الأسد على القطع ، فيخرج الأمر عن حدّ التوهّم إلى حدّ اليقين ثم نظرت إلى قوله : [من الطويل]

__________________

(١) راجع هامش رقم (١) ص (٢٧١).

٢٧٠

أأن أرعشت كفّا أبيك وأصبحت

يداك يدي ليث فإنّك غالبه (١)

وجدته قد بدا لك في صورة آنق وأحسن ثم نظرت إلى قول أرطاة بن سهيّة : [من البسيط]

إن تلقني لا ترى غيري بناظرة

تنس السّلاح وتعرف جبهة الأسد (٢)

وجدته قد فضل الجميع ، ورأيته قد أخرج في صورة غير تلك الصّور كلّها.

واعلم أن من الباطل والمحال ما يعلم الإنسان بطلانه واستحالته بالرجوع إلى النفس حتى لا يشكّ. ثم إنّه إذا أراد بيان ما يجد في نفسه والدّلالة عليه ، رأى المسلك إليه يغمض ويدقّ. وهذه الشبهة أعني قولهم : «إنه لو كان يجوز أن يكون الأمر على خلاف ما قالوه من أنّ الفصاحة وصف للّفظ من حيث هو لفظ ، لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشّعر فضل على تفسير المفسّر» ، إلى آخره من ذاك.

وقد علقت لذلك بالنّفوس وقويت فيها ، حتى إنك لا تلقي إلى أحد من المتعلقين بأمر «اللفظ» كلمة مما نحن فيه ، إلا كان هذا أوّل كلامه ، وإلّا عجّب وقال : «إنّ التفسير بيان للمفسّر ، فلا يجوز أن يبقى من معنى المفسّر شيء لا يؤدّيه التفسير ولا يأتي عليه ، لأن في تجويز ذلك القول بالمحال ، وهو أن لا يزال يبقى من معنى المفسّر شيء لا يكون إلى العلم به سبيل. وإذا كان الأمر كذلك ، ثبت أن الصحيح ما قلناه ، من أنه لا يجوز أن يكون للّفظ المفسّر فضل من حيث المعنى على لفظ التفسير. وإذ لم يجز أن يكون الفضل من حيث المعنى ، لم يبق إلا أن يكون من حيث اللفظ نفسه».

فهذا جملة ما يمكنهم أن يقولوه في نصرة هذه الشبهة ، قد استقصيته لك. وإذ قد عرفته فاسمع الجواب ، وإلى الله تعالى الرّغبة في التوفيق للصواب.

__________________

(١) البيت للفرزدق في ديوانه (١ / ١٠٥) ط ، دار صادر ، بيروت ، من خمسة أبيات قالها حيث كان له ثلاثة أولاد يقال : : لواحد منهم لبطة والآخر : حنظلة ، والثالث : سبطة ، وكان لبطة من العققة فقال له هذه الأبيات ، وهذا البيت مطلعها وبعده :

إذا غلب ابن الشباب أبا له

كبيرا فإن الله لا بد غالبه

رأيت تباشير العقوق هي التي

من ابن امرئ ما إن يزال يعاتبه

ولما رآني قد كبرت وأني

أخو الحي واستغنى عن المسح شاربه

أصاخ لغربان النعي وإنه

لأزور عن بعض المقالة جانبه

(٢) البيت سبق ص (١٤٥) ، وهو في الأغاني (١٣ / ٣٧) ، وبعده :

ما ذا تظنك تغني في أخي رصد

من أسد خفان جابي العين ذي لبد

وكان شبيب بن البرصاء يقول : وددت أني جمعني ابن الأمة أرطاة بن سهية يوم قتال فأشفي منه غيظي ، فبلغ ذلك أرطاة ، فقال له عدة أبيات منها هذا البيت. الناظرة : العين.

٢٧١

اعلم أن قولهم : «إنّ التفسير يجب أن يكون كالمفسّر» ، دعوى لا تصحّ لهم إلا من بعد أن ينكروا الذي بيّنّاه ، من أن من شأن المعاني أن تختلف بها الصّور ، ويدفعوه أصلا ، وحتّى يدّعوا أنه لا فرق بين «الكناية» و «التصريح» ، وأنّ حال المعنى مع «الاستعارة» كحاله مع ترك الاستعارة ، وحتى يبطلوا ما أطبق عليه العقلاء من أنّ «المجاز» يكون أبدا أبلغ من الحقيقة ، فيزعموا أن قولنا : «طويل النجاد» و «طويل القامة» واحد ، وأن حال المعنى في بيت ابن هرمة. [من المنسرح]

ولا أبتاع إلّا قريبة الأجل (١)

كحاله في قولك : أنا مضياف وأنك إذا قلت : «رأيت أسدا» ، لم يكن الأمر أقوى من أن تقول : «رأيت رجلا هو من الشجاعة بحيث لا ينقص عن الأسد» ، ولم تكن قد زدت في المعنى بأن ادّعيت له أنه أسد بالحقيقة ولا بالغت فيه وحتى يزعموا أنه لا فضل ولا مزيّة لقولهم : «ألقيت حبله على غاربه» ، على قولك في تفسيره : «خلّيته وما يريد ، وتركته يفعل ما يشاء» وحتّى لا يجعلوا للمعنى في قوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ، مزيّة على أن يقال : «اشتدّت محبتهم للعجل وغلبت على قلوبهم» ـ وأن تكون صورة المعنى في قوله عزوجل : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] ، صورته في قول من يقول : «وشاب رأسي كلّه» و «ابيض رأسي كلّه» وحتى لا يروا فرقا بين قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] ، وبين : «فما ربحوا في تجارتهم» وحتى يرتكبوا جميع ما أريناك الشناعة فيه ، من أن لا يكون فرق بين قول المتنبي :

وتأبى الطّباع على النّاقل (٢)

وبين قولهم : «إنّك لا تقدر أن تغيّر طباع الإنسان» ويجعلوا حال المعنى في قول أبي نواس : [من السريع]

وليس لله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

كحاله في قولنا : «إنه ليس ببديع في قدرة الله أن يجمع فضائل الخلق كلهم في واحد» ويرتكبوا ذلك في الكلام كلّه ، حتّى يزعموا أنّا إذا قلنا في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أن المعنى فيها : «أنه لما كان الإنسان إذا همّ بقتل آخر

__________________

(١) سبق ص (١٨١) هامش (١).

(٢) راجع ص (٢٧١) هامش (١).

٢٧٢

لشيء غاظه منه ، فذكر أنّه إن قتله قتل ارتدع ، صار المهموم بقتله كأنه قد استفاد حياة فيما يستقبل بالقصاص» كنا قد أدّينا المعنى في تفسيرنا هذا على صورته التي هو عليها في الآية ، حتى لا نعرف فضلا ، وحتى يكون حال الآية والتفسير حال اللّفظتين إحداهما غريبة والأخرى مشهورة ، فتفسّر الغريبة بالمشهورة ، مثل أن تقول مثلا في «الشّرجب» (١) إنه الطويل ، وفي «القطّ» إنه الكتاب ، وفي «الدّسر» إنه المسامير. ومن صار الأمر به إلى هذا ، كان الكلام معه محالا.

واعلم أنه ليس عجب أعجب من حال من يرى كلامين ، أجزاء أحدهما مخالفة في معانيها لأجزاء الآخر ، ثم يرى أنه يسع في العقل أن يكون معنى أحد الكلامين مثل معنى الآخر سواء ، حتى يقعد فيقول : «إنّه لو كان يكون الكلام فصيحا من أجل مزيّة تكون في معناه ، لكان ينبغي أن توجد تلك المزيّة في تفسيره». ومثله في العجب أنّه ينظر إلى قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] ، فيرى إعراب الاسم الذي هو «التجارة» ، قد تغير فصار مرفوعا بعد أن كان مجرورا ، ويرى أنّه قد حذف من اللفظ بعض ما كان فيه ، وهو «الواو» في «ربحوا» ، و «في» من قولنا : «في تجارتهم» ، ثم لا يعلم أن ذلك يقتضي أن يكون المعنى قد تغيّر كما تغيّر اللفظ!!

واعلم أنه ليس للحجج والدّلائل في صحة ما نحن عليه حدّ ونهاية ، وكلما انتهى منه باب انفتح فيه باب آخر. وقد أردت أن آخذ في نوع آخر من الحجاج ، ومن البسط والشّرح ، فتأمل ما أكتبه لك.

اعلم أن الكلام الفصيح ينقسم قسمين : قسم تعزى المزيّة والحسن فيه إلى اللفظ وقسم يعزى ذلك فيه إلى النّظم.

فالقسم الأول : «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل الكائن على حدّ الاستعارة» ، وكلّ ما كان فيه ، على الجملة ، مجاز واتّساع وعدول باللفظ عن الظاهر ، فما من ضرب من هذه الضّروب إلّا وهو إذا وقع على الصّواب وعلى ما ينبغي ، أوجب الفضل والمزية.

فإذا قلت : «هو كثير رماد القدر» ، كان له موقع وحظّ من القبول لا يكون إذا قلت : «هو كثير القرى والضيافة».

وكذا إذا قلت : «هو طويل النجاد» ، كان له تأثير في النفس لا يكون إذا قلت : «هو طويل القامة».

__________________

(١) الطويل والفرس الكريم ، ا. ه القاموس «شرجب» (١٢٩).

٢٧٣

وكذا إذا قلت : «رأيت أسدا» ، كان له مزيّة لا تكون إذا قلت : «رأيت رجلا يشبه الأسد ويساويه في الشجاعة».

وكذلك إذا قلت : «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى» ، كان له موقع لا يكون إذا قلت : «أراك تتردد في الذي دعوتك إليه ، كمن يقول : أخرج ولا أخرج ، فيقدّم رجلا ويؤخّر أخرى».

وكذلك إذا قلت : «ألقى حبله على غاربه» ، كان له مأخذ من القلب لا يكون إذا قلت : «هو كالبعير الذي يلقى حبله على غاربه حتى يرعى كيف يشاء ويذهب حيث يريد».

لا يجهل المزيّة فيه إلا عديم الحسّ ميّت النفس ، وإلّا من لا يكلّم ، لأنه من مبادئ المعرفة التي من عدمها لم يكن للكلام معه معنى.

وإذ قد عرفت هذه الجملة ، فينبغي أن تنظر إلى هذه المعاني واحدا واحدا ، وتعرف محصولها وحقائقها ، وأن تنظر أوّلا إلى «الكناية» ، وإذا نظرت إليها وجدت حقيقتها ومحصول أمرها أنّها إثبات لمعنى ، أنت تعرف ذلك المعنى من طريق المعقول دون طريق اللفظ. ألا ترى أنك لما نظرت إلى قولهم : «هو كثير رماد القدر» ، وعرفت منه أنهم أرادوا أنه كثير القرى والضيافة ، لم تعرف ذلك من اللفظ ، ولكنّك عرفته بأن رجعت إلى نفسك فقلت : إنّه كلام قد جاء عنهم في المدح ، ولا معنى للمدح بكثرة الرّماد ، فليس إلا أنّهم أرادوا أن يدلّوا بكثرة الرّماد على أنه تنصب له القدور الكثيرة ، ويطبخ فيها للقرى والضّيافة. وذلك لأنه إذا كثر الطبخ في القدور كثر إحراق الحطب تحتها ، وإذا كثر إحراق الحطب كثر الرّماد لا محالة. وهكذا السبيل في كلّ ما كان «كناية». فليس من لفظ الشّعر عرفت أن ابن هرمة أراد بقوله :

ولا أبتاع إلّا قريبة الأجل (١)

التمدّح بأنه مضياف ، ولكنّك عرفته بالنّظر اللطيف ، وبأن علمت أنه لا معنى للتمدّح بظاهر ما يدلّ عليه اللّفظ من قرب أجل ما يشتريه ، فطلبت له تأويلا ، فعلمت أنه أراد أنّه يشتري ما يشتريه للأضياف ، فإذا اشترى شاة أو بعيرا ، كان قد اشترى ما قد دنا أجله ، لأنه يذبح وينحر عن قريب.

__________________

(١) راجع ص (١٨١) هامش (١).

٢٧٤

وإذ قد عرفت هذا في «الكناية» ، «فالاستعارة» في هذه القضيّة. وذاك أنّ موضوعها على أنك تثبت بها معنى لا يعرف السّامع ذلك المعنى من اللّفظ ، ولكنه يعرفه من معنى اللّفظ.

بيان هذا ، أنا نعلم أنك لا تقول : «رأيت أسدا ، إلّا وغرضك أن تثبت للرجل أنه مساو للأسد في شجاعته وجرأته ، وشدّة بطشه وإقدامه ، وفي أن الذّعر لا يخامره ، والخوف لا يعرض له. ثم تعلم أن السامع إذا عقل هذا المعنى ، لم يعقله من لفظ «أسد» ، ولكنه يعقله من معناه ، وهو أنه يعلم أنه لا معنى لجعله «أسدا» ، مع العلم بأنه «رجل» ، إلا أنك أردت أنه بلغ من شدّة مشابهته للأسد ومساواته إيّاه ، مبلغا يتوهّم معه أنه أسد بالحقيقة. فاعرف هذه الجملة وأحسن تأمّلها.

واعلم أنك ترى الناس وكأنهم يرون أنك إذا قلت : «رأيت أسدا» ، وأنت تريد التشبيه ، كنت نقلت لفظ «أسد» عما وضع له في اللغة ، واستعملته في معنى غير معناه ، حتّى كأن ليس «الاستعارة» إلّا أن تعمد إلى اسم الشيء فتجعله اسما لشبيه ، وحتى كأن لا فصل بين «الاستعارة» ، وبين تسمية المطر «سماء» ، والنّبت «غيثا» ، والمزادة «راوية» ، وأشباه ذلك مما يوقع فيه اسم الشيء على ما هو منه بسبب ، ويذهبون عمّا هو مركوز في الطّباع من أن المعنى فيه المبالغة ، وأن يدّعي في الرجل أنه ليس برجل ، ولكنه أسد بالحقيقة ، وأنّه إنما يعار اللفظ من بعد أن يعار المعنى ، وأنه لا يشرك في اسم «الأسد» ، إلّا من بعد أن يدخل في جنس الأسد. لا ترى أحدا يعقل إلّا وهو يعرف ذلك إذا رجع إلى نفسه أدنى رجوع.

ومن أجل أن كان الأمر كذلك ، رأيت العقلاء كلّهم يثبتون القول بأن من شأن «الاستعارة» أن تكون أبدا أبلغ من الحقيقة ، وإلّا فإن كان ليس هاهنا إلّا نقل اسم من شيء إلى شيء ، فمن أين يجب ، ليت شعري ، أن تكون الاستعارة أبلغ من الحقيقة ، ويكون لقولنا : «رأيت أسدا» ، مزيّة على قولنا : «رأيت شبيها بالأسد»؟ وقد علمنا أنّه محال أن يتغيّر الشيء في نفسه ، بأن ينقل إليه اسم قد وضع لغيره ، من بعد أن لا يراد من معنى ذلك الاسم فيه شيء بوجه من الوجوه ، بل يجعل كأنه لم يوضع لذلك المعنى الأصليّ أصلا. وفي أي عقل يتصوّر أن يتغيّر معنى «شبيها بالأسد» ، بأن يوضع لفظ «أسد» عليه ، وينقل إليه؟

واعلم أن العقلاء بنوا كلامهم ، إذا قاسوا وشبّهوا ، على أن الأشياء تستحق الأسامي لخواصّ معان هي فيها دون ما عداها ، فإذا أثبتوا خاصّة شيء لشيء ، أثبتوا له

٢٧٥

اسمه ، فإذا جعلوا «الرجل» بحيث لا تنقص شجاعته عن شجاعة الأسد ولا يعدم منها شيئا ، قالوا : «هو أسد» وإذا وصفوه بالتّناهي في الخير والخصال الشريفة ، أو بالحسن الذي يبهر قالوا : «هو ملك» وإذا وصفوا الشيء بغاية الطّيب قالوا : «هو مسك». وكذلك الحكم أبدا.

ثمّ إنهم إذا استقصوا في ذلك نفوا عن المشبّه اسم جنسه فقالوا : «ليس هو بإنسان ، وإنما هو أسد» ، و «ليس هو آدميّا ، وإنما هو ملك» ، كما قال الله تعالى : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف : ٣١].

ثمّ إن لم يريدوا أن يخرجوه عن جنسه جملة قالوا : «هو أسد في صورة إنسان» و «هو ملك في صورة آدميّ». وقد خرج هذا للمتنبي في أحسن عبارة ، وذلك في قوله : [من الخفيف]

نحن ركب ملجنّ في زيّ ناس

فوق طير لها شخوص الجمال (١)

ففي هذه الجملة بيان لمن عقل أن ليست «الاستعارة» نقل اسم عن شيء إلى شيء ، ولكنها ادّعاء معنى الاسم لشيء ، إذ لو كانت نقل اسم وكان قولنا : «رأيت أسدا» ، بمعنى : رأيت شبيها بالأسد ، ولم يكن ادّعاء أنّه أسد بالحقيقة لكان محالا أن يقال : «ليس هو بإنسان ، ولكنه أسدا» أو «هو أسد في صورة إنسان» ، كما أنّه محال أن يقال : «ليس هو بإنسان ، ولكنه شبيه بأسد» أو يقال : «هو شبيه بأسد في صورة إنسان».

واعلم أنّه قد كثر في كلام الناس استعمال لفظ «النقل» في «الاستعارة» ، فمن ذلك قولهم : «إنّ الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على سبيل النقل» : وقال القاضي أبو الحسن (٢) : «الاستعارة ما اكتفي فيه بالاسم المستعار عن الأصلي ، ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها».

__________________

(١) البيت في ديوانه (١ / ١٦٦) من قصيدة في مدح عبد الرحمن بن المبارك الأنطاكي ، ومطلعها :

صلة الهجر لي وهجر الوصال

فكساني في السقم نكس الهلال

الركب : جمع راكب ، ملجن : أي من الجن لغة ، الزي : الهيئة. أي : نحن كالجن نألف المجاهل وركائبنا كالطير في قطع المسافات. المعنى : يقول نحن ركب وهم ركاب الإبل يقال : ركب وركبان من الجن في زي الناس فوق طير إلا أنها في صورة الجمال يرد لسرعة سيرها كأنها تطير كما يطير الطير. والبيت في شرح التبيان للعكبري (٢ / ١٥٩) ، والإيضاح (٢٦٠) ، ورواية الإيضاح : «نحن قوم الجن في زي ناس» ، والمفتاح (٤٨٠) ، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٢١١) وعزاه للمتنبي.

(٢) علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت ٣٩٢) صاحب كتاب «الوساطة بين المتنبي وخصومه». شذرات الذهب (٣ / ٥٦).

٢٧٦

ومن شأن ما غمض من المعاني ولطف ، أن يصعب تصويره على الوجه الذي هو عليه لعامّة الناس ، فيقع لذلك في العبارات التي يعبّر بها عنه ، ما يوهم الخطأ ، وإطلاقهم في «الاستعارة» أنها «نقل للعبارة عمّا وضعت له» ، من ذلك ، فلا يصحّ الأخذ به. وذلك أنّك إذا كنت لا تطلق اسم «الأسد» على «الرجل» ، إلا من بعد أن تدخله في جنس الأسود من الجهة التي بيّنّا ، لم تكن نقلت الاسم عما وضع له بالحقيقة ، لأنك إنّما تكون ناقلا ، إذا أنت أخرجت معناه الأصليّ من أن يكون مقصودك ، ونفضت به يدك. فأمّا أن تكون ناقلا له عن معناه ، مع إرادة معناه ، فمحال متناقض.

واعلم أن في «الاستعارة» ما لا يتصوّر تقدير النقل فيه البتّة ، وذلك مثل قول لبيد : [من الكامل]

وغداة ريح قد كشفت وقرّة

إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (١)

لا خلاف في أن «اليد» استعارة ، ثم إنك لا تستطيع أن تزعم أنّ لفظ «اليد» قد نقل عن شيء إلى شيء. وذلك أنه ليس المعنى على أنه شبّه شيئا باليد ، فيمكنك أن تزعم أنه نقل لفظ «اليد» إليه ، وإنما المعنى على أنه أراد أن يثبت للشّمال في تصريفها «الغداة» على طبيعتها ، شبه الإنسان قد أخذ الشيء بيده يقبله ويصرّفه كيف يريد. فلما أثبت لها مثل فعل الإنسان باليد ، استعار لها «اليد». وكما لا يمكنك تقدير «النقل» في لفظ «اليد» ، كذلك لا يمكنك أن تجعل الاستعارة فيه من صفة اللفظ. ألا ترى أنه محال أن تقول : إنه استعار لفظ «اليد» للشّمال؟ وكذلك سبيل نظائره ، مما تجدهم قد أثبتوا فيه للشيء عضوا من أعضاء الإنسان ، من أجل إثباتهم له المعنى الذي يكون في ذلك العضو من الإنسان كبيت الحماسة : [من الطويل]

إذا هزّه في عظم قرن تهلّلت

نواجذ أفواه المنايا الضّواحك (٢)

فإنه لما جعل «المنايا» تضحك ، جعل لها «الأفواه والنواجذ» التي يكون الضّحك فيها وكبيت المتنبّي : [من الطويل]

__________________

(١) البيت في ديوانه (٢٣٠) ط ، دار القاموس الحديث ، وأورده القزويني في الإيضاح (٢٧٧) ، والمبرد في الكامل وعزاه للبيد ، وأساس البلاغة (يدي). والبيت من معلقته المشهورة ، والقرة والقر : البرد ، يقول : كم من غداة تهب فيها الشمال وهي أبرد الرياح ، وقد كففت عادية البرد عن الناس بنحر الجزر لهم.

(٢) البيت لتأبط شرا في شرح الحماسة للتبريزي (١ / ٤٩) ، القرن بالكسر : المثل والكفؤ ، وتهللت : لاحت وظهرت من البشر والسرور.

٢٧٧

خميس بشرق الأرض والغرب زحفه

وفي أذن الجوزاء منه زمازم (١)

لما جعل «الجوزاء» تسمع على عادتهم في جعل النّجوم تعقل ، ووصفهم لها بما يوصف به الأناسيّ أثبت لها «الأذن» التي بها يكون السمع من الأناسيّ.

فأنت الآن لا تستطيع أن تزعم في بيت الحماسة أنّه استعار لفظ «النواجذ» ولفظ «الأفواه» ، لأن ذلك يوجب المحال ، وهو أن يكون في المنايا شيء قد شبّهه بالنواجذ ، وشيء قد شبّهه بالأفواه ، فليس إلّا أن تقول : إنه لمّا ادّعى أنّ المنايا تسرّ وتستبشر إذا هو هزّ السيف ، وجعلها لسرورها بذلك تضحك أراد أن يبالغ في الأمر ، فجعلها في صورة من يضحك حتى تبدو نواجذه من شدة السرور.

وكذلك لا تستطيع أن تزعم أن المتنبي قد استعار لفظ «الأذن» ، لأنه يوجب أن يكون في «الجوزاء» شيء قد أراد تشبيهه بالأذن. وذلك من شنيع المحال.

فقد تبيّن من غير وجه أنّ «الاستعارة» إنما هي ادّعاء معنى الاسم للشيء ، لا نقل الاسم عن الشيء. وإذا ثبت أنها ادّعاء معنى الاسم للشيء ، علمت أن الذي قالوه من «أنها تعليق للعبارة على غير ما وضعت له في اللغة ، ونقل لها عمّا وضعت له» كلام قد تسامحوا فيه ، لأنه إذا كانت «الاستعارة» ادعاء معنى الاسم ، لم يكن الاسم مزالا عما وضع له ، بل مقرّا عليه.

واعلم أنك تراهم لا يمتنعون إذا تكلموا في «الاستعارة» من أن يقولوا : «إنه أراد المبالغة فجعله أسدا» ، بل هم يلجئون إلى القول به. وذلك صريح في أن الأصل فيها المعنى ، وأنه المستعار في الحقيقة ، وأن قولنا : «استعير له اسم الأسد» ، إشارة إلى أنه استعير له معناه ، وأنه جعل إياه.

وذلك أنّا لو لم نقل ذلك ، لم يكن «لجعل» هاهنا معنى ، لأن «جعل» لا يصلح إلا حيث يراد إثبات صفة للشيء ، كقولنا : «جعلته أميرا» و «جعلته لصّا» ، تريد أنك أثبت له الإمارة ، ونسبته إلى اللصوصية وادّعيتها عليه ورميته بها.

وحكم «جعل» ، إذا تعدّى إلى مفعولين ، حكم «صيّر» ، فكما لا تقول :

__________________

(١) البيت في ديوانه : (٢ / ١٣٩) ، من قصيدة في مدح سيف الدولة ، ويذكر بناءه ثغر الحدث سنة ثلاث وأربعين وثلاث مائة ومطلعها :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها

وتصغر في عين العظيم العظائم

والخميس : الجيش العظيم له الميمنة والميسرة والقلب والجناحان ، والزحف : التقدم. الجوزاء : أنجم معروفة ، والزمازم : جمع زمزمة ، وهي صوت لا يفهم لتداخله ، والمعنى : يقول هذا الجيش لكثرته قد عم الشرق والغرب وبلغ صوتهم الجوزاء وخصها بالذكر من سائر البروج لأنها على صورة الإنسان هذا قول الواحدي.

٢٧٨

«صيّرته أميرا» ، إلا على معنى أنك أثبتّ له صفة الإمارة ، كذلك لا يصحّ أن تقول : «جعلته أسدا» ، إلا على معنى أنك أثبتّ له معاني الأسد. وأمّا ما تجده في بعض كلامهم من أن «جعل» يكون بمعنى «سمّى» ، فمما تسامحوا فيه أيضا ، لأن المعنى معلوم ، وهو مثل أن تجد الرجل يقول : «أنا لا أسمّيه إنسانا» ، وغرضه أن يقول : إني لا أثبت له المعاني التي بها كان الإنسان إنسانا. فأما أن يكون «جعل» في معنى «سمّى» ، هكذا غفلا ، فممّا لا يخفى فساده. ألا ترى أنك لا تجد عاقلا يقول : «جعلته زيدا» ، بمعنى : سميته زيدا ولا يقال للرجل : «اجعل ابنك زيدا» ، بمعنى : سمّه زيدا و «ولد ابن فجعله عبد الله» ، أي : سمّاه عبد الله. هذا ما لا يشك فيه ذو عقل إذا نظر.

وأكثر ما يكون منهم هذا التسامح ، أعني قولهم إنّ «جعل» يكون بمعنى «سمّى» في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] ، فقد ترى في التفسير أن «جعل» يكون بمعنى «سمّى» ، وعلى ذاك فلا شبه في أن ليس المعنى على مجرّد التسمية ، ولكن على الحقيقة التي وصفتها لك. وذاك أنّهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث ، واعتقدوا وجودها فيهم ، وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم أعني إطلاق اسم «البنات» وليس المعنى أنّهم وضعوا لها لفظ «الإناث» ولفظ «البنات» ، من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة. هذا محال.

أو لا ترى إلى قوله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [الزخرف : ١٩] ، فلو كانوا لم يزيدوا على إجراء الاسم على الملائكة ، ولم يعتقدوا إثبات صفة لما قال الله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ). هذا ولو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة ، ولم يكن غير أن وضعوا اسما لا يريدون به معنى ، لما استحقّوا إلّا اليسير من الذمّ ، ولما كان هذا القول منهم كفرا. والتّفسير الصحيح والعبارة المستقيمة ، ما قاله أبو إسحاق الزجاج رحمه‌الله ، فإنه قال : إنّ «الجعل» هاهنا في معنى القول والحكم على الشيء ، تقول : «قد جعلت زيدا أعلم الناس» ، أي وصفته بذلك وحكمت به.

ونرجع إلى الغرض فنقول : فإذا ثبت أن ليست «الاستعارة» نقل الاسم ، ولكن ادّعاء معنى الاسم وكنّا إذا عقلنا من قول الرجل : «رأيت أسدا» ، أنه أراد به المبالغة في وصفه بالشجاعة ، وأن يقول : إنه من قوة القلب ، ومن فرط البسالة وشدّة البطش ، وفي أن الخوف لا يخامره ، والذّعر لا يعرض له ، بحيث لا ينقص عن الأسد لم نعقل ذلك من لفظ «أسد» ، ولكن من ادّعائه معنى الأسد الذي رآه ثبت بذلك أن «الاستعارة كالكناية ، في أنك تعرف المعنى فيها من طريق المعقول دون طريق اللّفظ.

٢٧٩

وإذ قد عرفت أنّ طريق العلم بالمعنى في «الاستعارة» و «الكناية» معا ، المعقول ، فاعلم أن حكم «التّمثيل» في ذلك حكمهما ، بل الأمر في «التمثيل» أظهر.

وذلك أنه ليس من عاقل يشكّ إذا نظر في كتاب يزيد بن الوليد (١) إلى مروان ابن محمّد ، حين بلغه أنه يتلكأ في بيعته :

«أمّا بعد ، فإنّي أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى ، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّتهما شئت ، والسّلام» (٢).

يعلم أنّ المعنى أنه يقول له : بلغني أنّك في أمر البيعة بين رأيين مختلفين ، ترى تارة أن تبايع ، ، وأخرى أن تمتنع من البيعة ، فإذا أتاك كتابي هذا فاعمل على أي الرأيين شئت وأنّه لم يعرف ذلك من لفظ «التقديم والتأخير» ، أو من لفظ «الرّجل» ، ولكن بأن علم أنه لا معنى لتقديم الرّجل وتأخيرها في رجل يدعى إلى البيعة ، وأنّ المعنى على أنه أراد أن يقول : إنّ مثلك في تردّدك بين أن تبايع ، وبين أن تمتنع ، مثل رجل قائم ليذهب في أمر ، فجعلت نفسه تريه تارة أن الصواب في أن يذهب ، وأخرى أنه في أن لا يذهب ، فجعل يقدّم رجلا تارة ، ويؤخّر أخرى.

وهكذا كلّ كلام كان ضرب مثل ، لا يخفى على من له أدنى تمييز أن الأغراض التي تكون للناس في ذلك لا تعرف من الألفاظ ، ولكن تكون المعاني الحاصلة من مجموع الكلام أدلّة على الأغراض والمقاصد. ولو كان الذي يكون غرض المتكلم يعلم من اللفظ ، ما كان لقولهم : «ضرب كذا مثلا لكذا» ، معنى ، فما اللفظ «يضرب مثلا» ولكن المعنى. فإذا قلنا في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إيّاكم وخضراء الدّمن» (٣) ، إنه ضرب عليه‌السلام «خضراء الدّمن» مثلا للمرأة الحسناء في منبت السّوء ، لم يكن المعنى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب لفظ «خضراء الدّمن» مثلا لها. هذا ما لا يظنّه من به مسّ ، فضلا عن العاقل.

فقد زال الشكّ وارتفع في أنّ طريق العلم بما يراد إثباته والخبر به في هذه الأجناس الثلاثة ، التي هي «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل» المعقول دون اللّفظ ،

__________________

(١) هو أبو عبد الملك بلغ من العمر (٤٠) سنة ودامت ولايته خمسة أشهر توفي (١٢٦) ه. شذرات الذهب (١ / ١٧١).

(٢) انظر البيان والتبيين (١ / ٣٠١) مع بعض الإضافة ، وورد الحديث عنها سابقا.

(٣) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (١ / ٢٧٢) ، وقال : رواه الدارقطني في الأفراد ، والعسكري في الأمثال ، وابن عدي في الكامل.

٢٨٠