دلائل الإعجاز في علم المعاني

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

دلائل الإعجاز في علم المعاني

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦

واعلم أنه إن نظر ناظر في شأن المعاني والألفاظ إلى حال السامع ، فإذا رأى المعاني تقع في نفسه من بعد وقوع الألفاظ في سمعه ، ظنّ لذلك أنّ المعاني تبع للألفاظ في ترتيبها. فإنّ هذا الذي بيّنّاه يريه فساد هذا الظنّ. وذلك أنه لو كانت المعاني تكون تبعا للألفاظ في ترتيبها ، لكان محالا أن تتغيّر المعاني والألفاظ بحالها لم تزل عن ترتيبها. فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغيّر من غير أن تتغيّر الألفاظ وتزول عن إمكانها ، علمنا أن الألفاظ هي التابعة ، والمعاني هي المتبوعة.

واعلم أنه ليس من كلام يعمد واضعه فيه إلى معرفتين فيجعلهما مبتدأ وخبرا ، ثم يقدّم الذي هو الخبر ، إلّا أشكل الأمر عليك فيه ، فلم تعلم أن المقدّم خبر ، حتى ترجع إلى المعنى وتحسن التدبّر.

أنشد الشّيخ أبو علي في «التّذكرة» (١) : [من الخفيف]

نم وإن لم أنم كراي كراكا (٢)

ثم قال : «ينبغي أن يكون «كراي» خبرا مقدّما ، ويكون الأصل : «كراك كراي» ، أي نم ، وإن لم أنم فنومك نومي ، كما تقول : «قم ، وإن جلست ، فقيامك قيامي ، هذا هو عرف الاستعمال في نحوه» ثم قال : «وإذا كان كذلك ، فقد قدّم الخبر وهو معرفة ، وهو ينوي به التأخير من حيث كان خبرا» قال : «فهو كبيت الحماسة: [من الطويل]

بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرّجال الأباعد

فقدّم خبر المبتدأ وهو معرفة ، وإنّما دلّ على أنه ينوي التأخير المعنى ، ولو لا ذلك لكانت المعرفة ، إذا قدّمت ، هي المبتدأ لتقدّمها ، فافهم ذلك». هذا كلّه لفظه.

واعلم أن الفائدة تعظم في هذا الضّرب من الكلام ، إذا أنت أحسنت النظر فيما ذكرت لك ، من أنك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة ، من غير

__________________

(١) وهو للإمام الحسن بن أحمد الفارسي ، وهو كبير من مجلدات لخصه ابن جني. كشف الظنون (١ / ٣٨٤).

(٢) صدر بيت لأبي تمام في ديوانه (٤٦١) ، وبعده :

طال صبري تفديك نفسي وقلّت

نفس مثلي عن أن تكون فداكا

ورواية الديوان :

نم فإن لم أنم كراي كراكا

شاهدي منك أن ذاك كذاكا

٢٤١

أن تغيّر من لفظه شيئا ، أو تحوّل كلمة عن مكانها إلى مكان آخر ، وهو الذي وسّع مجال التأويل والتفسير ، حتى صاروا يتأوّلون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر ، ويفسّرون البيت الواحد عدّة تفاسير. وهو ، على ذاك ، الطريق المزلّة الّذي ورّط كثيرا من الناس في الهلكة ، وهو مما يعلم به العاقل شدّة الحاجة إلى هذا العلم ، ويكشف معه عوار الجاهل به ، ويفتضح عنده المظهر الغنى عنه. ذاك لأنه قد يدفع إلى الشيء لا يصحّ إلا بتقدير غير ما يريه الظاهر ، ثم لا يكون له سبيل إلى معرفة ذلك التقدير إذا كان جاهلا بهذا العلم ، فيتسكّع عند ذلك في العمى ، ويقع في الضلال.

مثال ذلك أنّ من نظر إلى قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء : ١١٠] ، ثمّ لم يعلم أن ليس المعنى في «ادعوا» الدّعاء ، ولكن الذّكر بالاسم ، كقولك : «هو يدعى زيدا» و «يدعى الأمير» ، وأنّ في الكلام محذوفا ، وأن التقدير : قل ادعوه الله ، أو ادعوه الرحمن ، أيّا ما تدعو فله الأسماء الحسنى كان بعرض أن يقع في الشّرك ، من حيث أنه إن جرى في خاطره أن الكلام على ظاهره ، خرج ذلك به ، والعياذ بالله تعالى ، إلى إثبات مدعوّين ، تعالى الله عن أن يكون له شريك. وذلك من حيث كان محالا أن تعمد إلى اسمين كلاهما اسم شيء واحد ، فتعطف أحدهم على الآخر ، فتقول مثلا : «ادع لي زيدا أو الأمير» ، و «الأمير» هو زيد. وكذلك محال أن تقول : «أيّا ما تدعوا» وليس هناك إلا مدعوّ واحد ، لأن من شأن «أيّ» أن تكون أبدا واحدا من اثنين أو جماعة ، ومن ثمّ لم يكن له بدّ من الإضافة ، إمّا لفظا وإمّا تقديرا.

وهذا باب واسع. ومن المشكل فيه قراءة من قرأ : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ، بغير تنوين. وذلك أنهم قد حملوها على وجهين :

أحدهما : أن يكون القارئ له أراد التنوين ثم حذفه لالتقاء الساكنين ، ولم يحرّكه ، كقراءة من قرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص : ١ ـ ٢] ، بترك التنوين من «أحد» ، وكما حكي عن عمارة بن عقيل أنه قرأ : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : ٤٠] ، بالنصب ، فقيل له : ما تريد؟ فقال : أريد سابق النّهار. قيل : فهلّا قلته؟ فقال : فلو قلته لكان أوزن وكما جاء في الشعر من قوله : [من المتقارب]

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (١)

__________________

(١) هو لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ، والأغاني (١١ / ١٧) ، والبيت في كتاب سيبويه (١ / ٨٥).

٢٤٢

إلى نظائر ذلك ، فيكون المعنى في هذه القراءة مثله في القراءة الأخرى ، سواء.

والوجه الثاني : أن يكون الابن صفة ، ويكون التنوين قد سقط على حدّ سقوطه في قولنا : «جاءني زيد بن عمرو» ، ويكون في الكلام محذوف. ثم اختلفوا في المحذوف ، فمنهم من جعله مبتدأ فقدّر : «وقالت اليهود هو عزيز بن الله» ومنهم من جعله خبرا فقدّر؟ «وقالت اليهود عزيز بن الله معبودنا».

وفي هذا أمر عظيم ، وذلك أنك إذا حكيت عن قائل كلاما أنت تريد أن تكذّبه فيه ، فإنّ التكذيب ينصرف إلى ما كان فيه خبرا ، دون ما كان صفة.

تفسير هذا : أنك إذا حكيت عن إنسان أنه قال : «زيد بن عمرو سيّد» ، ثم كذّبته فيه ، لم تكن قد أنكرت بذلك أن يكون زيد بن عمرو ، ولكن أن يكون سيّدا.

وكذلك إذا قال : «زيد الفقيه قد قدم» ، فقلت له : «كذبت» أو «غلطت». لم تكن قد أنكرت أن يكون زيد فقيها ، ولكن أن يكون قد قدم. هذا ما لا شبهة فيه ، وذلك أنّك إذا كذّبت قائلا في كلام أو صدّقته ، فإنما ينصرف التكذيب منك والتصديق إلى إثباته ونفيه ، والإثبات والنّفي يتناولان الخبر دون الصّفة. يدلّك على ذلك أنك تجد الصّفة ثابتة في حال النفي ، كثبوتها في حال الإثبات. فإذا قلت : «ما جاءني زيد الظّريف» ، كان «الظرف» ثابتا لزيد كثبوته إذا قلت : «جاءني زيد الظّريف» وذلك أن ليس ثبوت الصّفة للذي هي صفة له ، بالمتكلّم وبإثباته لها فتنتفي بنفيه ، وإنما ثبوتها بنفسها ، وبتقرّر الوجود فيها عند المخاطب ، مثله عند المتكلم ، لأنّه إذا وقعت الحاجة في العلم إلى الصفة ، كان الاحتياج إليها من أجل خيفة اللّبس على المخاطب.

تفسير ذلك : أنّك إذا قلت : «جاءني زيد الظريف» ، فإنّك إنما تحتاج إلى أن تصفه بالظّريف ، إذا كان فيمن يجيء إليك واحد آخر يسمى «زيدا» ، فأنت تخشى إن قلت : «جاءني زيد» ولم تقل «الظريف» ، أن يلتبس على المخاطب فلا يدري أهذا عنيت أم ذاك؟ وإذا كان الغرض من ذكر الصّفة إزالة اللّبس والتبيين ، كان محالا أن تكون غير معلومة عند المخاطب ، وغير ثابتة ، لأنه يؤدي إلى أن تروم تبيين الشّيء للمخاطب بوصف هو لا يعلمه في ذلك الشيء. وذلك ما لا غاية وراءه في الفساد.

وإذا كان الأمر كذلك ، كان جعل «الابن» صفة في الآية ، مؤدّيا إلى الأمر العظيم ،

٢٤٣

وهو إخراجه عن موضع النّفي والإنكار ، إلى موضع الثّبوت والاستقرار ، جلّ الله وتعالى عن شبه المخلوقين ، وعن جميع ما يقول الظالمون ، علوّا كبيرا.

فإن قيل : إنّ هذه قراءة معروفة ، والقول بجواز الوصفية في «الابن» كذلك معروف ومدوّن في الكتب ، وذلك يقتضي أن يكونوا قد عرفوا في الآية تأويلا يدخل به «الابن» في الإنكار مع تقدير الوصفية فيه.

قيل : إن القراءة كما ذكرت معروفة ، والقول بجواز أن يكون «الابن» صفة مثبت مسطور في الكتب كما قلت ، ولكنّ الأصل الذي قدمناه من أن الإنكار إذا لحق لحق الخبر دون الصفة ليس بالشيء الذي يعترض فيه شكّ أو تتسلّط عليه شبهة. فليس يتّجه أن يكون «الابن» صفة ثمّ يلحقه الإنكار مع ذلك ، إلّا على تأويل غامض ، وهو أن يقال : إن الغرض الدّلالة على أن اليهود قد كان بلغ من جهلهم ورسوخهم في هذا الشّرك ، أنهم كانوا يذكرون «عزيرا» هذا الذكر ، كما تقول في قوم تريد أن تصفهم بأنهم قد استهلكوا في أمر صاحبهم وغلوا في تعظيمه : «إنّي أراهم قد اعتقدوا أمرا عظيما ، فهم يقولون أبدا : زيد الأمير» ، تريد أنه كذلك يكون ذكرهم إذا ذكروه ، إلّا أنه إنما يستقيم هذا التأويل فيه ، إذا أنت لم تقدّر له خبرا معيّنا ، ولكن تريد أنّهم كانوا لا يخبرون عنه بخبر إلا كان ذكرهم له هكذا.

وممّا هو من هذا الذي نحن فيه قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء : ١٧١]. وذلك أنّهم قد ذهبوا في رفع «ثلاثة» إلى أنها خبر مبتدأ محذوف ، وقالوا : إن التقدير : «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة». وليس ذلك بمستقيم.

وذلك أنا إذا قلنا : «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة» ، كان ذلك ، والعياذ بالله ، شبه الإثبات أنّ هاهنا آلهة ، من حيث أنك إذا نفيت ، فإنما تنفي المعنى المستفاد من الخبر عن المبتدأ ، ولا تنفي معنى المبتدأ ، فإذا قلت : «ما زيد منطلقا» ، كنت نفيت الانطلاق الذي هو معنى الخبر عن زيد ، ولم تنف معنى زيد ولم توجب عدمه. وإذا كان ذلك كذلك ، فإذا قلنا : «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة» ، كنا قد نفينا أن تكون عدّة الآلهة ثلاثة ، ولم ننف أن تكون آلهة ، جلّ الله تعالى عن الشّريك والنّظير كما أنك إذا قلت : «ليس أمراؤنا ثلاثة» ، كنت قد نفيت أن تكون عدّة الأمراء ثلاثة ، ولم تنف أن يكون لكم أمراء. هذا ما لا شبهة فيه. وإذا أدّى هذا التقدير إلى هذا الفساد ، وجب أن يعدل عنه إلى غيره.

والوجه ، والله أعلم ، أن تكون «ثلاثة» صفة مبتدأ لا خبر مبتدأ ، ويكون

٢٤٤

التقدير : «ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ـ أو : في الوجود آلهة ثلاثة» ، ثم حذف الخبر الذي هو «لنا» أو «في الوجود» كما حذف من : «لا إله إلا الله» و (ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٦٢] ، فبقي «ولا تقول آلهة ثلاثة» ، ثم حذف الموصوف الذي هو «آلهة» ، فبقي : «ولا تقولوا ثلاثة». وليس في حذف ما قدّرنا حذفه ما يتوقّف في صحّته. أما حذف الخبر الذي قلنا أنه «لنا» أو «في الوجود» ، فمطّرد في كلّ ما معناه التّوحيد ، ونفي أن يكون مع الله ، تعالى عن ذلك ، إله.

وأمّا حذف الموصوف بالعدد ، فكذلك شائع ، وذلك أنه كما يسوغ أن تقول : «عندي ثلاثة» ، وأنت تريد «ثلاثة أثواب» ، ثم تحذف ، لعلمك أن السامع يعلم ما تريد ، كذلك يسوغ أن تقول : «عندي ثلاثة» ، وأنت تريد «أثواب ثلاثة ، لأنه لا فصل بين أن تجعل المقصود بالعدد مميّزا ، وبين أن تجعله موصوفا بالعدد ، في أنه يحسن حذفه إذا علم المراد.

يبيّن ذلك أنك ترى المقصود بالعدد قد ترك ذكره ، ثم لا تستطيع أن تقدّره إلا موصوفا ، وذلك في قولك : «عندي اثنان» ، و «عندي واحد» ، يكون المحذوف هاهنا موصوفا لا محالة ، نحو : «عندي رجلان اثنان» و «عندي درهم واحد» ، ولا يكون مميّزا البتّة ، من حيث كانوا قد رفضوا إضافة «الواحد» و «الاثنين» إلى الجنس ، فتركوا أن يقولوا : «واحد رجال» و «اثنا رجال» على حدّ «ثلاثة رجال» ، ولذلك كان قول الشاعر : [من الرجز]

ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل (١)

شاذّا. هذا ، ولا يمتنع أن يجعل المحذوف من الآية في موضع التمييز دون موضع الموصوف ، فيجعل التّقدير : «ولا تقولوا ثلاثة آلهة» ، ثم يكون الحكم في الخبر على ما مضى ، ويكون المعنى ، والله أعلم ، «ولا تقولوا لنا ثلاثة آلهة ، أو في الوجود ثلاثة آلهة».

فإن قلت : فلم صار لا يلزم على هذا التقدير ما لزم على قول من قدّر : «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة»؟.

فذاك لأنّا إذا جعلنا التّقدير : «ولا تقولوا لنا ، أو : في الوجود ، آلهة ثلاثة ، أو

__________________

(١) الرجز : لخطام المجاشعي أو لجندل بن المثنى أو لسلمى الهذلية أو لشماء الهذلية (خزانة الأدب ٧ / ٤٠٠ ، ٤٠٤) ، وغير منسوب في (شرح الحماسة للتبريزي ٤ / ١٦٦). ورواية أبي تمام في الحماسة : «سحق جراب فيه ثنتا حنظل». فذاك : جواب السؤال.

٢٤٥

ثلاثة آلهة» ، كنا قد نفينا الوجود عن الآلهة ، كما نفيناه في «لا إله إلا الله» ، و (ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٦٢] وإذا زعموا أن التقدير «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة» ، كانوا قد نفوا أن تكون عدة الآلهة ثلاثة ، ولم ينفوا وجود الآلهة.

فإن قيل : فإنه يلزم على تقديرك الفساد من وجه آخر ، وذاك أنه يجوز إذا قلت : «ليس لنا أمراء ثلاثة» ، أن يكون المعنى : ليس لنا أمراء ثلاثة ، ولكن لنا أميران اثنان. وإذا كان كذلك : كان تقديرك وتقديرهم جميعا خطأ.

قيل : إنّ هاهنا أمرا قد أغفلته ، وهو أن قولهم «آلهتنا» ، يوجب ثبوت آلهة ، جلّ الله وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا. وقولنا : «ليس لنا آلهة ثلاثة» ، لا يوجب ثبوت اثنين البتّة.

فإن قلت : إن كان لا يوجبه ، فإنه لا ينفيه.

قيل : ينفيه ما بعده من قوله تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النساء : ١٧١].

فإن قيل : فإنه كما ينفي الإلهين ، كذلك ينفي الآلهة. وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون تقديرهم صحيحا كتقديرك.

قيل : هو كما قلت ينفي الآلهة ، ولكنهم إذا زعموا أن التقدير : «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة» ، وكان ذلك ـ والعياذ بالله من الشّرك ـ يقتضي إثبات آلهة ، كانوا قد دفعوا هذا النّفي وخالفوه وأخرجوه إلى المناقضة. فإذا كان كذلك ، كان محالا أن يكون للصّحّة سبيل إلى ما قالوه. وليس كذلك الحال فيما قدّرناه ، لأننا لم نقدّر شيئا يقتضي إثبات إليهن ، تعالى الله ، حتى يكون حالنا حال من يدفع ما يوجبه هذا الكلام من نفيهما.

يبيّن لك ذلك : أنّه يصحّ لنا أن نتبع ما قدّرناه نفي الاثنين ، ولا يصحّ لهم.

تفسير ذلك : أنه يصح أن تقول : «ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان» ، لأن ذلك يجري مجرى أن تقول : «ليس لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان» ، وهذا صحيح ولا يصحّ لهم أن يقولوا : «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ولا إلهان» ، لأنّ ذلك يجري مجرى أن يقولوا : «ولا تقولوا آلهتنا إلهان». وذلك فاسد ، فاعرفه وأحسن تأمّله.

ثم إن هاهنا طريقا آخر ، وهو أن تقدّر : «ولا تقولوا الله والمسيح وأمّه ثلاثة» ، أي نعبدهما كما نعبد الله.

٢٤٦

يبين ذلك قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣] وقد استقرّ في العرف أنهم إذا أرادوا إلحاق اثنين بواحد في وصف من الأوصاف ، وأن يجعلوهما شبيهين له ، قالوا : «هم ثلاثة» ، كما يقولون إذا أرادوا إلحاق واحد بآخر وجعله في معناه : «هما اثنان» ، وعلى هذا السبيل كأنهم يقولون : «هم يعدّون معدّا واحدا» ، ويوجب لهم التساوي والتّشارك في الصفة والرّتبة ، وما شاكل ذلك.

واعلم أنه لا معنى لأن يقال : إنّ القول حكاية ، وأنه إذا كان حكاية لم يلزم منه إثبات الآلهة ، لأنه يجري مجرى أن تقول : «إنّ من دين الكفّار أن يقولوا : الآلهة ثلاثة» ، وذلك لأن الخطاب في الآية للنّصارى أنفسهم. ألا ترى إلى قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء : ١٧١]. وإذا كان الخطاب للنصارى ، كان تقدير الحكاية محالا ، «فلا تقولوا» إذن في معنى : «لا تعتقدوا» ، وإذا كان في معنى الاعتقاد ، لزم إذا قدر «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة» ، ما قلنا إنّه يلزم من إثبات الآلهة. وذلك لأنّ الاعتقاد يتعلق بالخبر لا بالمخبر عنه. فإذا قلت : «لا تعتقد أن الأمراء ثلاثة» ، كنت نهيته عن أن يعتقد كون الأمراء على هذه العدّة ، لا عن أن يعتقد أن هاهنا أمراء. هذا ما لا يشكّ فيه عاقل. وإنما يكون النّهي عن ذلك إذا قلت : «لا تعتقد أن هاهنا أمراء» ، لأنك حينئذ تصير كأنك قلت : لا تعتقد وجود أمراء.

هذا ، ولو كان الخطاب مع المؤمنين ، لكان تقدير الحكاية لا يصحّ أيضا. ذاك لأنه لا يجوز أن يقال : «إن المؤمنين نهوا عن أن يحكوا عن النصارى مقالتهم ، ويخبروا عنهم بأنهم يقولون كيت وكيت» ، كيف؟ وقد قال الله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠]؟ ومن أين يصحّ النهي عن حكاية قول المبطل ، وفي ترك حكايته ترك له وكفره ، وامتناع من النّعي عليه ، والإنكار لقوله ، والاحتجاج عليه ، وإقامة الدّليل على بطلانه ، لأنه لا سبيل إلى شيء من ذلك إلّا من بعد حكاية القول والإفصاح به ، فاعرفه.

٢٤٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قد أردنا أن نستأنف تقريرا نزيد به النّاس تبصيرا أنّهم في عمياء من أمرهم حتّى يسلكوا المسلك الذي سلكناه ، يفرغوا خواطرهم لتأمّل ما استخرجناه ، وأنّهم ـ ما لم يأخذوا أنفسهم بذلك ، ولم يجرّدوا عناياتهم له ـ في غرور ، كمن يعد نفسه الرّيّ من السّراب اللامع ، ويخادعها بأكاذيب المطامع.

يقال لهم : إنكم تتلون قول الله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨] ، وقوله عزوجل : (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) [هود : ١٣] ، وقوله : (بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] ، فقولوا الآن : أيجوز أن يكون تعالى قد أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يتحدّى العرب إلى أن يعارضوا القرآن بمثله ، من غير أن يكونوا قد عرفوا الوصف الذي إذا أتوا بكلام على ذلك الوصف ، كانوا قد أتوا بمثله؟.

ولا بدّ من «لا» ، لأنهم إن قالوا : «يجوز» ، أبطلوا التحدّي ، من حيث أن التّحدّي ، كما لا يخفى ، مطالبة بأن يأتوا بكلام على وصف ، ولا تصحّ المطالبة بالإتيان به على وصف من غير أن يكون ذلك الوصف معلوما للمطالب ، ويبطل بذلك دعوى الإعجاز أيضا. وذلك لأنه لا يتصوّر أن يقال : «إنّه كان عجز ، حتى يثبت معجوز عنه معلوم. فلا يقوم في عقل عاقل أن يقول لخصم له : «قد أعجزك أن تفعل مثل فعلي» ، وهو لا يشير له إلى وصف يعلمه في فعله ، ويراه قد وقع عليه. أفلا ترى أنه لو قال رجل لآخر : «إنّي قد أحدثت في خاتم عملته صنعة أنت لا تستطيع مثلها» ، لم تتّجه له عليه حجّة ، ولم يثبت به أنّه قد أتى بما يعجزه ، إلا من بعد أن يريه الخاتم ، ويشير له إلى ما زعم أنه أبدعه فيه من الصّنعة ، لأنه لا يصحّ وصف الإنسان بأنه قد عجز عن شيء ، حتى يريد ذلك الشيء ويقصد إليه ، ثم لا يتأتّى له. وليس يتصوّر أن يقصد إلى شيء لا يعلمه ، وأن تكون منه إرادة لأمر لم يعلمه في جملة ولا تفصيل.

ثم إن هذا الوصف ينبغي أن يكون وصفا قد تجدّد بالقرآن ، وأمرا لم يوجد في غيره ، ولم يعرف قبل نزوله. وإذا كان كذلك ، فقد وجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون في «الكلم المفردة» ، لأن تقدير كونه فيها يؤدّي إلى المحال ، وهو أن تكون

٢٤٨

الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة ، قد حدث في مذاقة حروفها وأصدائها أوصاف لم تكن ، لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن ، وتكون قد اختصّت في أنفسها بهيئات وصفات يسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوّة في القرآن ، لا يجدون لها تلك الهيئات والصفات خارج القرآن.

ولا يجوز أن تكون في «معاني الكلم المفردة» ، التي هي لها بوضع اللغة ، لأنّه يؤدي إلى أن يكون قد تجدّد في معنى «الحمد» و «الرب» ، ومعنى «العالمين» و «الملك» و «اليوم» و «الدين» ، وهكذا ، وصف لم يكن قبل نزول القرآن. وهذا ما لو كان هاهنا شيء أبعد من المحال وأشنع لكان إيّاه.

ولا يجوز أن يكون هذا الوصف في «ترتيب الحركات والسّكنات» ، حتى كأنهم تحدّوا إلى أن يأتوا بكلام تكون كلماته على تواليه في زنة كلمات القرآن ، وحتّى كأنّ الذي بان به القرآن من الوصف في سبيل بينونة بحور الشعر بعضها من بعض ، لأنّه يخرج إلى ما تعاطاه مسيلمة من الحماقة في : «إنا أعطيناك الجماهر ، فصلّ لربّك وجاهر» ، «والطاحنات طحنا».

وكذلك الحكم إن زعم زاعم «أن الوصف الذي تحدّوا إليه هو أن يأتوا بكلام يجعلون له مقاطع ، وفواصل ، كالذي تراه في القرآن» ، لأنّه أيضا ليس بأكثر من التّعويل على مراعاة وزن. وإنما الفواصل في الآي كالقوافي في الشّعر ، وقد علمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو ، فلو لم يكن التحدّي إلّا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي ، لم يعوزهم ذلك ، ولم يتعذّر عليهم. وقد خيّل إلى بعضهم ـ إن كان الحكاية صحيحة ـ شيء من هذا ، حتى وضع على ما زعموا فصول كلام أواخرها كأواخر الآي ، مثل «يعلمون» و «يؤمنون» وأشباه ذلك.

ولا يجوز أن يكون الإعجاز بأن لم يلتق في حروفه ما يثقل على اللسان.

وجملة الأمر أنه لن يعرض هذا وشبهه من الظنون لمن يعرض له إلا من سوء المعرفة بهذا الشّأن ، أو للخذلان ، أو لشهوة الإغراب في القول. ومن هذا الذي يرضى من نفسه أن يزعم أنّ البرهان الذي بان لهم ، والأمر الذي بهرهم ، والهيبة التي ملأت صدورهم ، والرّوعة التي دخلت عليهم فأزعجتهم حتى قالوا : إنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أسفله لمعذق ، وإنّ أعلاه لمثمر» (١) ، إنّما كان لشيء راعهم من مواقع

__________________

(١) ذكرها في (سيرة ابن هشام) ... وأن الوليد بن المغيرة قال : «إن لقوله حلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة» هذه رواية ابن إسحاق. أما ابن هشام فرواه : إن أصله لغدق» انظر النهاية في غريب الحديث (٣ / ١٣٧) وانظر الخبر مفصلا في سيرة ابن هشام (١ / ٢١٦).

٢٤٩

حركاته ، ومن ترتيب بينها وبين سكناته؟ أم لفواصل في أواخر آياته؟ من أين تليق هذه الصّفة وهذا التشبيه بذلك؟.

أم ترى أنّ ابن مسعود حين قال في صفة القرآن : «لا يتفه ولا يتشانّ» (١) ، وقال : «إذا وقعت في آل حم ، وقعت في روضات دمثات أتأنّق فيهنّ» (٢) ، أي أتتبّع محاسنهن ، قال ذلك من أجل أوزان الكلمات ، ومن أجل الفواصل في أواخر الآيات؟.

أم ترى أنهم لذلك قالوا : «لا تفنى عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرّدّ».

أم ترى الجاحظ حين قال في كتاب النبوة : «ولو أنّ رجلا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة ، لتبيّن له في نظامها ومخرجها ، من لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها ، لو تحدّي بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها» ، لغا ولغط فليس كلامه (٣) هذا مما ذهبوا إليه في شيء.

وينبغي أن تكون موازنتهم بين بعض الآي وبين ما قاله الناس في معناها ، كموازنتهم بين : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] ، وبين : «قتل البعض إحياء للجميع» ، خطأ منهم ، لأنا لا نعلم لحديث التّحريك والتّسكين وحديث الفاصلة مذهبا في هذه الموازنة ، ولا نعلمهم أرادوا غير ما يريده الناس إذا وازنوا بين كلام وكلام في الفصاحة والبلاغة ودقّة النّظم وزيادة الفائدة ، ولو لا أنّ الشيطان قد استحوذ على كثير من الناس في هذا الشأن ، وأنّهم بترك النّظر ، وإهمال التدبّر وضعف النّية ، وقصر الهمّة ، قد طرّقوا له حتى جعل يلقي في نفوسهم كلّ محال وكلّ باطل ، وجعلوا هم يعطون الذي يلقيه حظّا من قبولهم ، ويبوّءونه مكانا من قلوبهم ، لما بلغ من قدر هذه الأقوال الفاسدة أن تدخل في تصنيف ، ويعاد ويبدأ في تبيين لوجه الفساد فيها وتعريف.

ثمّ إن هذه الشّناعات التي تقدّم ذكرها ، تلزم أصحاب «الصّرفة» (٤) أيضا ، وذاك

__________________

(١) يتشان : الخبر بهذا اللفظ في غريب الحديث لابن الأثير وهو في مسند أحمد بن حنبل رقم (٣٨٤٥). «إن هذا القرآن لا يختلف ولا يستشنّ ولا يتفه لكثرة الرد» ولا يتشان : لا يبلى.

(٢) خبر عبد الله بن مسعود هذا موجود في تفسير ابن كثير في أول سورة غافر (٤ / ٧٥) بدون إسناد ، دمثات : جمع دمثة : وهي المحقبة اللينة السهلة المعشبة. لغا ولغط : أتى بكلام لا يعتد به وأصوات مبهمة لا يفهم معناها.

(٣) كلامه : الضمير هنا يعود على الجاحظ.

(٤) أصحاب الصرفة أصحاب الضلال.

٢٥٠

أنه لو لم يكن عجزهم عن معارضة القرآن وعن أن يأتوا بمثله ، لأنه معجز في نفسه ، لكن لأن أدخل عليهم العجز عنه ، وصرفت هممهم وخواطرهم عن تأليف كلام مثله ، وكان حالهم على الجملة حال من أعدم العلم بشيء قد كان يعلمه ، وحيل بينه وبين أمر قد كان يتّسع له ، لكان ينبغي أن لا يتعاظمهم ، ولا يكون منهم ما يدلّ على إكبارهم أمره ، وتعجّبهم منه ، وعلى أنّه قد بهرهم ، وعظم كل العظم عندهم ، بل كان ينبغي أن يكون الإكبار منهم والتّعجّب للذي دخل من العجز عليهم ، ورأوه من تغيّر حالهم ، ومن أن حيل بينهم وبين شيء قد كان عليهم سهلا ، وأن سدّ دونه باب كان لهم مفتوحا ، أرأيت لو أن نبيّا قال لقومه : «إنّ آيتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة ، وتمنعون كلّكم من أن تستطيعوا وضع أيديكم على رءوسكم» ، وكان الأمر كما قال ، ممّ يكون تعجّب القوم ، أمن وضعه يده على رأسه ، أم من عجزهم أن يضعوا أيديهم على رءوسهم؟.

ونعود إلى النّسق فنقول : فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء ممّا عدّدناه ، لم يبق إلّا أن يكون في «النّظم» ، لأنه ليس من بعد ما أبطلنا أن يكون فيه إلا «النظم» و «الاستعارة» ، ولا يمكن أن تجعل «الاستعارة» الأصل في الإعجاز وأن يقصر عليها ، لأن ذلك يؤدّي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السّور الطوال مخصوصة ، وإذا امتنع ذلك فيها ، ثبت أن «النظم» ، مكانه الذي ينبغي أن يكون فيه. وإذا ثبت أنه في «النظم» ، و «التأليف» ، وكنّا قد علمنا أن ليس «النّظم» شيئا غير توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم ، وأنّا إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكا ينظمها ، وجامعا يجمع شملها ويؤلفها ، ويجعل بعضها بسبب من بعض ، غير توخي معاني النحو وأحكامه فيها ، طلبنا ما كلّ محال دونه ، فقد بان وظهر أنّ المتعاطي القول في «النظم» ، والزاعم أنّه يحاول بيان المزيّة فيه ، وهو لا يعرض فيما يعيده ويبديه للقوانين والأصول التي قدّمنا ذكرها ، ولا يسلك إليه المسالك التي نهجناها ، في عمياء من أمره ، وفي غرور من نفسه ، وفي خداع من الأماني والأضاليل. ذاك لأنه إذا كان لا يكون «النّظم» شيئا غير توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم ، كان من أعجب العجب أن يزعم زاعم أنه يطلب المزيّة في «النظم» ، ثم لا يطلبها في معاني النحو وأحكامه التي «النّظم» عبارة عن توخّيها فيما بين الكلم.

فإن قيل : قولك «إلا النظم» ، يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز ، وذلك ما لا مساغ له.

٢٥١

قيل : ليس الأمر كما ظننت ، بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز. وذلك لأنّ هذه المعاني التي هي «الاستعارة» ، و «الكناية» و «التمثيل» ، وسائر ضروب «المجاز» من بعدها من مقتضيات «النظم» ، وعنه يحدث وبه يكون ، لأنه لا يتصوّر أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخّ فيما بينها حكم من أحكام النحو ،. فلا يتصوّر أن يكون هاهنا «فعل» أو «اسم» قد دخلته الاستعارة ، من دون أن يكون قد ألّف مع غيره ، أفلا ترى أنه إن قدّر في «اشتعل» من قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] ، أن لا يكون «الرأس» ، فاعلا له ، ويكون «شيبا» منصوبا عنه على التمييز ، لم يتصوّر أن يكون مستعارا؟ وهكذا السبيل في نظائر «الاستعارة» ، فاعرف ذلك.

واعلم أنّ السبب في أن لم يقع النظر منهم موقعه ، أنّهم حين قالوا : «نطلب المزية» ، ظنوا أن موضعها «اللفظ» بناء على أن «النظم نظم الألفاظ ، وأنه يلحقها دون المعاني ، وحين ظنّوا أنّ موضعها ذلك واعتقدوه ، وقفوا على «اللفظ» ، وجعلوا لا يرمون بأوهامهم إلى شيء سواه. إلّا أنّهم ، على ذاك لم يستطيعوا أن ينطقوا في تصحيح هذا الذي ظنّوه بحرف ، بل لم يتكلّموا بشيء إلّا كان ذلك نقضا وإبطالا لأن يكون «اللفظ» ، من حيث هو لفظ ، موضعا للمزية ، وإلا رأيتهم قد اعترفوا ، من حيث لم يدروا ، بأن ليس للمزية التي طلبوها موضع ومكان تكون فيه ، إلّا معاني النحو وأحكامه.

وذلك أنهم قالوا : «إنّ الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات ، وإنّما تظهر بالضّم على طريقة مخصوصة» ، فقولهم : «بالضّم» ، لا يصح أن يراد به النّطق باللفظة بعد اللفظة ، من غير اتّصال يكون بين معنييهما ، لأنه لو جاز أن يكون لمجرّد ضمّ اللفظ إلى اللفظ تأثير في الفصاحة ، لكان ينبغي إذا قيل : «ضحك ، خرج» أن يحدث في ضم «خرج» إلى «ضحك» فصاحة! وإذا بطل ذلك ، لم يبق إلا أن يكون المعنى في ضمّ الكلمة إلى الكلمة توخّي معنى من معاني النحو فيما بينهما.

وقولهم : «على طريقة مخصوصة» ، يوجب ذلك أيضا ، وذلك أنه لا يكون للطريقة إذا أنت أردت مجرّد اللّفظ معنى.

وهذا سبيل كلّ ما قالوه ، إذا أنت تأمّلته تراهم في الجميع قد دفعوا إلى جعل المزية في معاني النحو وأحكامه من حيث لم يشعروا ، ذلك لأنه أمر ضروريّ لا يمكن الخروج منه.

٢٥٢

ومما تجدهم يعتمدونه ويرجعون إليه قولهم : «إنّ المعاني لا تتزايد ، وإنّما تتزايد الألفاظ» ، وهذا كلام إذا تأمّلته لم تجد له معنى يصحّ عليه ، غير أن تجعل «تزايد الألفاظ» عبارة عن المزايا التي تحدث من توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم ، لأن التّزايد في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ونطق لسان ، محال.

ثم إنّا نعلم أنّ المزية المطلوبة في هذا الباب ، مزيّة فيما طريقه الفكر والنّظر من غير شبهة ، ومحال أن يكون اللفظ له صفة تستنبط بالفكر ، ويستعان عليها بالرّويّة ، اللهم إلا أن تريد تأليف النّغم ، وليس ذلك مما نحن فيه بسبيل.

ومن هاهنا لم يجز ، إذا عدّ الوجوه التي تظهر بها المزيّة ، أن يعدّ فيها الإعراب ، وذلك أن العلم بالإعراب مشترك بين العرب كلّهم ، وليس هو مما يستنبط بالفكر ، ويستعان عليه بالرويّة. فليس أحدهم ، بأنّ إعراب الفاعل الرفع أو المفعول النصب ، والمضاف إليه الجرّ ، بأعلم من غيره ، ولا ذاك مما يحتاجون فيه إلى حدّة ذهن وقوّة خاطر ، إنّما الذي تقع الحاجة فيه إلى ذلك ، العلم بما يوجب الفاعلية للشيء إذا كان إيجابها من طريق المجاز ، كقوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] ، وكقول الفرزدق : [من الطويل]

سقتها خروق في المسامع (١)

وأشباه ذلك ، ممّا يجعل الشيء فيه فاعلا على تأويل يدقّ ، ومن طريق تلطّف ، وليس يكون هذا علما بالإعراب ، ولكن بالوصف الموجب للإعراب.

ومن ثمّ لا يجوز لنا أن نعتدّ في شأننا هذا بأن يكون المتكلّم قد استعمل من اللغتين في الشيء ما يقال «إنه أفصحهما» ، أو بأن يكون قد تحفّظ مما تخطئ فيه العامّة ، ولا بأن يكون قد استعمل الغريب ، لأن العلم بجميع ذلك لا يعدو أن يكون علما باللغة ، وبأنفس الكلم المفردة ، وبما طريقه طريق الحفظ ، دون ما يستعان عليه بالنّظر ، ويوصل إليه بإعمال الفكر. ولئن كانت العامّة وأشباه العامّة لا يكادون يعرفون الفصاحة غير ذلك ، فإن من ضعف النّحيزة (٢) إخطار مثله في الفكر ، وإجراءه في الذّكر ، وأنت تزعم أنك ناظر في دلائل الإعجاز ، أترى أن العرب تحدّوا أن يختاروا الفتح في الميم من «الشّمع» ، والهاء من «النّهر» على الإسكان ، وأن يتحفظوا من

__________________

(١) راجع هامش (١) ص (١٩٦).

(٢) النحيزة : أي الطبيعة. اه القاموس مادة / نحز / (٦٧٧).

٢٥٣

تخليط العامة في مثل : «هذا يسوى ألفا» ، أو إلى أن يأتوا بالغريب الوحشيّ في كلام يعارضون به القرآن؟ كيف وأنت تقرأ السّورة من السّور الطّوال فلا تجد فيها من الغريب شيئا ، وتتأمّل ما جمعه العلماء في غريب القرآن ، فترى الغريب منه إلا في القليل ، إنّما كان غريبا من أجل استعارة هي فيه ، كمثل (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ، ومثل : (خَلَصُوا نَجِيًّا) [يوسف : ٨٠] ، ومثل : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤] ، دون أن تكون اللفظة غريبة في نفسها ، إنما ترى ذلك في كلمات معدودة كمثل : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) [ص : ١٦] ، و (ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) [القمر : ١٣] ، و (جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم : ٢٤].

ثم إنّه لو كان أكثر ألفاظ القرآن غريبا ، لكان محالا أن يدخل ذلك في الإعجاز ، وأن يصحّ التّحدّي به. ذاك لأنه لا يخلو إذا وقع التحدّي به من أن يتحدّى من له علم بأمثاله من الغريب ، أو من لا علم له بذلك.

فلو تحدّي به من يعلم أمثاله ، لم يتعذّر عليه أن يعارضه بمثله. ألا ترى أنه لا يتعذّر عليك إذا أنت عرفت ما جاء من الغريب في معنى «الطويل» أن تعارض من يقول : «الشّوقب» (١) ، بأن تقول أنت «الشّوذب» (٢) ، وإذا قال «الأمقّ» (٣) أن تقول «الأشقّ» (٤)؟ وعلى هذا السبيل.

ولو تحدّي به من لا علم له بأمثال ما فيه من الغريب ، كان ذلك بمنزلة أن يتحدّى العرب إلى أن يتكلّموا بلسان التّرك.

هذا ، وكيف بأن يدخل الغريب في باب الفضيلة ، وقد ثبت عنهم أنهم كانوا يرون الفضيلة في ترك استعماله وتجنّبه؟ أفلا ترى إلى قول عمر رضي‌الله‌عنه في زهير : «إنه كان لا يعاظل بين القول ، ولا يتتبّع حوشيّ الكلام»؟ فقرن تتبّع «الحوشيّ» ، وهو الغريب من غير شبهة إلى «المعاظلة» التي هي التعقيد.

وقال الجاحظ في «كتاب البيان والتّبيين» : «ورأيت النّاس يتداولون رسالة يحيى بن يعمر على لسان يزيد بن المهلّب إلى الحجّاج : «إنّا لقينا العدوّ فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة ، ولحقت طائفة بعراعر الأودية وأهضام الغيطان ، وبتنا بعرعرة

__________________

(١) الرجل الطويل. القاموس مادة «الشقب» (١٣١).

(٢) الطويل. القاموس مادة «شذب» (١٢٨).

(٣) الطويل. القاموس «مادة مقق» (١٩٣).

(٤) الطويل : القاموس مادة «شقق» (١١٥٩).

٢٥٤

الجبل ، وبات العدوّ بحضيضه». فقال الحجاج : ما يزيد بأبي عذر هذا الكلام فقيل له : إن يحيى بن يعمر معه! فأمر بأن يحمل إليه ، فلما أتاه قال : أين ولدت؟ فقال : بالأهواز. فقال : فأنّى لك هذه الفصاحة؟ قال : أخذتها عن أبي» (١).

قال : «ورأيتهم يديرون في كتبهم : أن امرأة خاصمت زوجها إلى يحيى بن يعمر ، فانتهرها مرارا ، فقال له يحيى : أن سألتك ثمن شكرها وشبرك ، أنشأت تطلّها وتضهلها» (٢).

ثم قال : «وإن كانوا إنّما قد رووا هذا الكلام لكي يدلّ على فصاحة وبلاغة ، فقد باعده الله من صفة البلاغة والفصاحة (٣).

واعلم أنك كلّما نظرت وجدت سبب الفساد واحدا ، وهو ظنّهم الذي ظنّوه في «اللّفظ» ، وجعلهم الأوصاف التي تجري عليه كلّها أوصافا له في نفسه ، ومن حيث هو لفظ ، وتركهم أن يميزوا بين ما كان وصفا له في نفسه ، وبين ما كانوا قد كسبوه إيّاه من أجل أمر عرض في معناه. ولما كان هذا دأبهم ، ثم رأوا الناس وأظهر شيء عندهم في معنى «الفصاحة» ، تقويم الإعراب ، والتحفّظ من اللحن ، لم يشكّوا أنّه ينبغي أن يعتدّ به في جملة المزايا التي يفاضل بها بين كلام وكلام في الفصاحة ، وذهب عنهم أن ليس هو من «الفصاحة» التي يعنينا أمرها في شيء ، وأنّ كلامنا في فصاحة تجب للّفظ لا من أجل شيء يدخل في النطق ، ولكن من أجل لطائف تدرك بالفهم ، وأنّا نعتبر في شأننا هذا فضيلة تجب لأحد الكلامين على الآخر ، من بعد أن يكونا قد برئا من اللّحن ، وسلما في ألفاظهما من الخطأ.

ومن العجب أنّا إذا نظرنا في الإعراب ، وجدنا التفاضل فيه محالا ، لأنه لا يتصوّر أن يكون للرفع والنصب في كلام ، مزيّة عليهما في كلام آخر ، وإنما الذي يتصوّر أن يكون هاهنا : كلامان قد وقع في إعرابهما خلل ، ثم كان أحدهما أكثر صوابا من الآخر ، وكلامان قد استمرّ أحدهما على الصّواب ولم يستمرّ الآخر ، ولا يكون هذا تفاضلا في الإعراب ، ولكن تركا له في شيء ، واستعمالا له في آخر ، فاعرف ذلك.

__________________

(١) البيان والتبيين (٣٧٧ / ١ ، ٣٧٨) ، وشرح الجاحظ. عرار الأودية : أسافلها. عرار الجبال : أعاليها.

أهضام الغيطان : مداخلها ، والغيطان : جمع «غائط» وهو الحائط ذو الشجر.

(٢) للجاحظ في البيان والتبيين ١ / ٣٧٨. وفسر الجاحظ المفردات قالوا : «الضهل» : القليل ، و «الشّكر» : الفرج ، والشّبر : النكاح ، و «تطلّها» : تذهب بحقها ، يقال : دم مطلول ، ويقال : «بئر ضهول» أي : قليلة الماء.

(٣) في البيان ١ / ٣٧٨. والفصاحة زيادة من البيان.

٢٥٥

وجملة الأمر أنك لا ترى ظنّا هو أنأى بصاحبه عن أن يصحّ له كلام ، أو يستمرّ له نظام ، أو تثبت له قدم ، أو ينطق منه إلّا بالمحال فم ، من ظنّهم هذا الذي حام بهم حول «اللفظ» ، وجعلهم لا يعدونه ، ولا يرون للمزية مكانا دونه.

واعلم أنه قد يجري في العبارة منّا شيء ، هو يعيد الشّبهة جذعة عليهم ، وهو أنه يقع في كلامنا أنّ «الفصاحة» تكون في المعنى دون اللفظ ، فإذا سمعوا ذلك قالوا : كيف يكون هذا ، ونحن نراها لا تصلح صفة إلا للّفظ ، ونراها لا تدخل في صفة المعنى البتّة ، لأنا نرى الناس قاطبة يقولون : «هذا لفظ فصيح ، وهذه ألفاظ فصيحة» ، ولا نرى عاقلا يقول : «هذا معنى فصيح ، وهذه معان فصاح». ولو كانت «الفصاحة» تكون في المعنى ، لكان ينبغي أن يقال ذاك ، كما أنّا لما كان الحسن يكون فيه قيل : «هذا معنى حسن ، وهذه معان حسنة». وهذا شيء يأخذ من الغرّ مأخذا :

والجواب عنه أن يقال : إن غرضنا من قولنا : «إن الفصاحة تكون في المعنى» ، أنّ المزيّة الّتي من أجلها استحقّ اللفظ الوصف بأنه «فصيح» ، هي في المعنى دون اللفظ ، لأنّه لو كانت بها المزيّة التي من أجلها يستحقّ اللّفظ الوصف بأنه فصيح ، تكون فيه دون معناه لكان ينبغي إذا قلنا في اللّفظة : «إنها فصيحة» ، أن تكون تلك الفصاحة واجبة لها بكل حال. ومعلوم أنّ الأمر بخلاف ذلك ، فإنّا نرى اللّفظة تكون في غاية الفصاحة في موضع ، ونراها بعينها فيما لا يحصى من المواضع وليس فيها من الفصاحة قليل ولا كثير. وإنما كان كذلك ، لأن المزيّة التي من أجلها نصف اللّفظ في شأننا هذا بأنّه فصيح ، مزيّة تحدث من بعد أن لا تكون ، وتظهر في الكلم من بعد أن يدخلها النظم. وهذا شيء إن أنت طلبته فيما وقد جئت بها أفرادا لم ترم فيها نظما ، ولم تحدث لها تأليفا ، وطلبت محالا. وإذا كان كذلك ، وجب أن يعلم قطعا وضرورة أن تلك المزيّة في المعنى دون اللّفظ.

وعبارة أخرى في هذا بعينه ، وهي أن يقال : قد علمنا علما لا تعترض معه شبهة : أن «الفصاحة» فيما نحن فيه ، عبارة عن مزيّة هي بالمتكلّم دون واضع اللغة. وإذا كان كذلك ، فينبغي لنا أن ننظر إلى المتكلم ، هل يستطيع أن يزيد من عند نفسه في اللفظ شيئا ليس هو له في اللّغة حتى يجعل ذلك من صنيعه مزيّة يعبّر عنها بالفصاحة؟ وإذا نظرنا وجدناه لا يستطيع أن يصنع باللفظ شيئا أصلا ، ولا أن يحدث فيه وصفا. كيف؟ وهو إن فعل ذلك أفسد على نفسه ، وأبطل أن يكون متكلّما ، لأنه لا يكون متكلّما حتى يستعمل أوضاع لغة على ما وضعت عليه.

٢٥٦

وإذا ثبت من حاله أنّه لا يستطيع أن يصنع بالألفاظ شيئا ليس هو لها في اللغة ، وكنّا قد اجتمعنا على أن «الفصاحة» فيما نحن فيه ، عبارة عن مزيّة هي بالمتكلّم البتة وجب أن نعلم قطعا وضرورة أنهم وإن كانوا قد جعلوا «الفصاحة» في ظاهر الاستعمال من صفة اللفظ ، فإنهم لم يجعلوها وصفا له في نفسه ، ومن حيث هو صدى صوت ونطق لسان ، ولكنّهم جعلوها عبارة عن مزيّة أفادها المتكلم في المعنى ، لأنه إذا كان اتفاقا أنها عبارة عن مزيّة أفادها المتكلم ، ولم نره أفاد في اللفظ شيئا ، لم يبق إلا أن تكون عبارة عن مزيّة أفادها في المعنى.

وجملة الأمر أنّا لا نوجب «الفصاحة» للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه ، ولكنا نوجبها لها موصولة بغيرها ، ومعلّقا معناها بمعنى ما يليها. فإذا قلنا في لفظة «اشتعل» من قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] ، أنّها في أعلى رتبة من الفصاحة ، لم توجب تلك «الفصاحة» لها وحدها ، ولكن موصولا بها «الرأس» معرّفا بالألف واللام ، ومقرونا إليهما «الشيب» منكّرا منصوبا.

هذا ، وإنّما يقع ذلك في الوهم لمن يقع له أعني أن يوجب الفصاحة للفظة وحدها فيما كان «استعارة» ، فأما ما خلا من الاستعارة من الكلام الفصيح البليغ ، فلا يعرض توهّم ذلك فيه لعاقل أصلا.

أفلا ترى أنه لا يقع في نفس من يعقل أدنى شيء ، إذا هو نظر إلى قوله عزوجل : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون : ٤] ، وإلى إكبار النّاس شأن هذه الآية في الفصاحة ، أن يضع يده على كلمة كلمة منها فيقول : «إنّها فصيحة؟» وسبب الفصاحة فيها أمور لا يشكّ عاقل في أنها معنوية :

أولها : أن كانت «على» فيها متعلّقة بمحذوف في موضع المفعول الثاني.

والثاني : أن كانت الجملة التي هي «هم العدوّ» بعدها عارية من حرف عطف.

والثالث : التعريف في «العدوّ» وأن لم يقل : «هم عدوّ».

ولو أنّك علّقت «على» بظاهر ، وأدخلت على الجملة التي هي «هم العدوّ» حرف عطف ، وأسقطت «الألف واللام» من «العدوّ» فقلت : «يحسبون كلّ صيحة واقعة عليهم ، وهم عدوّ» ، لرأيت الفصاحة قد ذهبت عنها بأسرها. ولو أنك أخطرت ببالك أن يكون «عليهم» متعلّقا بنفس «الصيحة» ، ويكون حاله معها كحاله إذا قلت : «صحت عليه» ، لأخرجته عن أن يكون كلاما ، فضلا عن أن يكون فصيحا. وهذا هو الفيصل لمن عقل.

٢٥٧

ومن العجيب في هذا ، ما روي عن أمير المؤمنين عليّ رضوان الله عليه أنه قال : «ما سمعت كلمة عربية من العرب إلّا وسمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسمعته يقول : «مات حتف أنفه» (١) ، وما سمعتها من عربيّ قبله ، لا شبهة في أن وصف اللفظ «بالعربي» في مثل هذا يكون في معنى الوصف بأنه فصيح. وإذا كان الأمر كذلك ، فانظر هل يقع في وهم متوهّم أن يكون رضي‌الله‌عنه قد جعلها «عربية» من أجل ألفاظها؟ وإذا نظرت لم تشكّ في ذلك.

واعلم أنك تجد هؤلاء الذين يشكّون فيما قلناه ، تجري على ألسنتهم ألفاظ وعبارات لا يصحّ لها معنى سوى توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم ، ثم تراهم لا يعلمون ذلك.

فمن ذلك ما يقوله الناس قاطبة من أن العاقل يرتّب في نفسه ما يريد أن يتكلّم به. وإذا رجعنا إلى أنفسنا لم نجد لذلك معنى سوى أنه يقصد إلى قولك «ضرب» فيجعله خبرا عن «زيد» ، ويجعل «الضرب» الذي أخبر بوقوعه منه واقعا على «عمرو» ويجعل «يوم الجمعة» زمانه الذي وقع فيه ، ويجعل «التأديب» غرضه الذي فعل «الضرب» من أجله ، فيقول : «ضرب زيد عمرا يوم الجمعة تأديبا له». وهذا كما ترى هو توخّي معاني النحو فيما بين معاني هذه الكلم.

ولو أنك فرضت أن لا تتوخّى في «ضرب» أن تجعله خبرا عن «زيد» وفي «عمرو» أن تجعله مفعولا به الضرب ، وفي «يوم الجمعة» أن تجعله زمانا لهذا الضرب ، وفي «التأديب» ، أنه تجعله غرض زيد من فعل الضرب ما تصوّر في عقل ، ولا وقع في وهم ، أن تكون مرتّبا لهذه الكلم. وإذ قد عرفت ذلك ، فهو العبرة في الكلام كله ، فمن ظنّ ظنّا يؤدّي إلى خلافه ، ظنّ ما يخرج به عن المعقول. ومن ذلك إثباتهم التعلّق والاتصال فيما بين الكلم وصواحبها تارة ، ونفيهم لهما أخرى ومعلوم علم الضرورة أن لن يتصوّر أن يكون للفظة تعلق بلفظة أخرى من غير أن يعتبر حال

__________________

(١) الحديث «مات حتف أنفه» : أخرجه أحمد في مسنده (٤ / ٣٦) من حديث عبد الله بن عتيك بلفظ «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله ـ عزوجل ـ ثم قال بأصابعه هؤلاء الثلاث ـ الوسطى والسبابة والإبهام ، فجمعهن ـ وقال : «وأين المجاهدون؟ فخرّ عن دابته ، فمات ـ فقد وقع أجره على الله أو لدغته دابة فمات وقع أجره على الله أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله ـ عزوجل ـ والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «فمات فقد وقع أجره على الله ـ ومن قتل قعصا فقد استوجب المآب». أخرجه البيهقي في سننه (٩ / ١٦٦) ، والطبراني في الكبير برقم ١٧٧٨.

٢٥٨

معنى هذه مع معنى تلك ، ويراعى هناك أمر يصل إحداهما بالأخرى ، كمراعاة كون : «نبك» ، جوابا للأمر في قوله : «قفا نبك» ، وكيف بالشّكّ في ذلك؟ ولو كانت الألفاظ يتعلّق بعضها ببعض من حيث هي ألفاظ ، ومع اطّراح النّاظر في معانيها ، ولأدّى ذلك إلى أن يكون الناس حين ضحكوا مما يصنعه المجّان من قراءة أنصاف الكتب ، ضحكوا عن جهالة ، وأن يكون أبو تمام قد أخطأ حين قال : [من الكامل].

عذلا شبيها بالجنون كأنّما

قرأت به الورهاء شطر كتاب (١)

لأنهم لم يضحكوا إلّا من عدم التعلّق ، ولم يجعله أبو تمام جنونا إلا لذلك. فانظر إلى ما يلزم هؤلاء القوم من طرائف الأمور.

فصل

[في أن الفصاحة والبلاغة للمعاني]

وهذا فنّ من الاستدلال لطيف على بطلان أن تكون «الفصاحة» صفة للفظ من حيث هو لفظ.

لا تخلو «الفصاحة» من أن تكون صفة في اللفظ محسوسة تدرك بالسّمع ، أن تكون صفة فيه معقولة تعرف بالقلب. فمحال أن تكون صفة في اللّفظ محسوسة ، لأنها لو كانت كذلك ، لكان ينبغي أن يستوي السامعون للفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحا. وإذا بطل أن تكون محسوسة ، وجب الحكم ضرورة بأنّها صفة معقولة. وإذا وجب الحكم بكونها صفة معقولة ، فإنّا لا نعرف للّفظ صفة يكون طريق معرفتها العقل دون الحس ، إلّا دلالته على معنى. وإذا كان كذلك ، لزم منه العلم بأنّ وصفنا اللّفظ بالفصاحة ، وصف له من جهة معناه ، لا من جهة نفسه ، وهذا ما لا يبقى لعاقل معه عذر في الشك ، والله الموفّق للصواب.

وبيان آخر ، وهو أنّ القارئ إذا قرأ قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] ، فإنه لا يجد الفصاحة التي يجدها إلّا من بعد أن ينتهي الكلام إلى آخره. فلو

__________________

(١) البيت في ديوانه (٢٧) ، باب المديح ، وهو من قصيدة في مدح مالك بن طوق التغلبي ، وقبله :

من كل ريم لم ترم سوءا ولم

تخلط صبا أيامها بتصابي

أذكت عليك شهاب نار في الحشا

بالعذل وهنا أخت آل شهاب

الورهاء : الحمقاء.

٢٥٩

كانت «الفصاحة» صفة للفظ «اشتعل» ، لكان ينبغي أن يحسّها القارئ فيه حال نطقه به. فمحال أن تكون للشيء صفة ، ثم لا يصحّ العلم بتلك الصفة إلا من بعد عدمه. ومن ذا رأى صفة يعرى موصوفها عنها في حال وجوده ، حتى إذا عدم صارت موجودة فيه؟ وهل سمع السامعون ، في قديم الدهر وحديثه ، بصفة شرط حصولها لموصوفها أن يعدم الموصوف؟

فإن قالوا : إنّ الفصاحة التي ادّعيناها للفظ «اشتعل» تكون فيه في حال نطقنا به ، إلّا أنّا لا نعلم في تلك الحال أنها فيه ، فإذا بلغنا آخر الكلام علمنا حينئذ أنها كانت فيه حين نطقنا به.

قيل : هذا فنّ آخر من العجب ، وهو أن تكون هاهنا صفة موجودة في شيء ، ثم لا يكون في الإمكان ولا يسع في الجواز ، أن يعلم وجود تلك الصفة في ذلك الشيء إلّا من بعد أن يعدم ، ويكون العلم بها وبكونها فيه محجوبا عنا حتى يعدم ، فإذا عدم علمنا حينئذ أنها كانت فيه حين كان.

ثم إنه لا شبهة في أن هذه الفصاحة التي يدّعونها للّفظ هي مدّعاة لمجموع الكلمة دون آحاد حروفها ، إذ ليس يبلغ بهم تهافت الرأي إلى أن يدعو لكلّ واحد من حروف «اشتعل» فصاحة ، فيجعلوا «الشين» على حدته فصيحا ، وكذلك «التاء» ، و «العين» و «اللام». وإذا كانت الفصاحة مدّعاة لمجموع الكلمة ، لم يتصوّر حصولها لها إلا من بعد أن تعدم كلّها وينقضي أمر النطق بها. ذاك لأنه لا يتصوّر أن تدخل الحروف بجملتها في النطق دفعة واحدة ، حتى تجعل «الفصاحة» موجودة فيها في حال وجودها. وما بعد هذا إلا أن نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق ، فقد بلغ الأمر في الشّناعة إلى حدّ ، إذا تنبّه العاقل لفّ رأسه حياء من العقل ، حين يراه قد قال قولا هذا مؤدّاه ، وسلك مسلكا إلى هذا مفضاه.

وما مثل من يزعم أن «الفصاحة» صفة للّفظ من حيث هو لفظ ونطق لسان ، ثم يزعم أنه يدّعيها لمجموع حروفه دون آحادها ، إلّا مثل من يزعم أن هاهنا غزلا إذا نسج منه ثوب كان أحمر ، وإذا فرّق ونظر إليه خيطا خيطا ، لم تكن فهي حمرة أصلا! ومن طريق أمرهم ، أنك ترى كافّتهم لا ينكرون أن اللّفظ المستعار إذا كان فصيحا ، كانت فصاحته تلك من أجل استعارته ، ومن أجل لطف وغرابة كانا فيها ، وتراهم مع ذلك لا يشكّون في أن الاستعارة لا تحدث في حروف اللّفظ صفة ولا تغير أجراسها عما تكون عليه إذا لم يكن مستعارا وكان متروكا على حقيقته ، وأن التأثير من الاستعارة

٢٦٠