دلائل الإعجاز في علم المعاني

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

دلائل الإعجاز في علم المعاني

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦

فقوله : «لا ترى» في موضع حال. ومثله في اللّطف والحسن قول أعشى همدان ، وصحب عبّاد بن ورقاء إلى أصبهان فلم يحمده فقال : [من الوافر]

أتينا أصبهان فهزّلتنا

وكنّا قبل ذلك في نعيم

وكان سفاهة منّي وجهلا

مسيري ، لا أسير إلى حميم (١)

قوله : «لا أسير إلى حميم» ، حال من ضمير المتكلم الذي هو «الياء» في «مسيري» ، وهو فاعل في المعنى ، فكأنه قال : وكان سفاهة منّي وجهلا ، أن سرت غير سائر إلى حميم ، وأن ذهبت غير متوجّه إلى قريب : وقال خالد بن يزيد بن معاوية : [من الكامل]

لو أنّ قوما لارتفاع قبيلة

دخلوا السّماء دخلتها لا أحجب (٢)

وهو كثير إلّا أنه لا يهتدي إلى وضعه بالموضع المرضيّ إلا من كان صحيح الطّبع.

ومما يجيء بالواو وغير «الواو» ، الماضي ، وهو لا يقع حالا إلا مع «قد» مظهرة أو مقدّرة. أما مجيئها بالواو فالكثير الشائع ، كقولك : «أتاني وقد جهده السير» ، وأما بغير «الواو» فكقوله : [من البسيط]

متى أرى الصّبح قد لاحت مخايله

واللّيل قد مزّقت عنه السّرابيل (٣)

وقول الآخر : [من الوافر]

فآبوا بالرّماح مكسّرات

وأبنا بالسّيوف قد انحنينا (٤)

وقال آخر ، وهو لطيف جدّا : [من الكامل]

يمشون قد كسروا الجفون (٥) إلى الوغى

متبسّمين وفيهم استبشار

ومما يجيء بالواو في الأكثر الأشيع ، ثم يأتي في مواضع بغير «الواو» فيلطف مكانه ويدلّ على البلاغة ، الجملة قد دخلها «ليس» تقول : «أتانى وليس عليه ثوب»

__________________

(١) البيتان في مجموع شعر الأعشية (٣٤١) ، وغير متتابعين وهما في الإيضاح (١٦٦) ، والإشارات (١٣٨) ، والتبيان لابن الزملكاني (١٢٢) ..

(٢) البيت في الإيضاح (١٦٦) ، والإشارات والتنبيهات (١٣٨) ، والبيت منسوب لخالد بن زيد بن معاوية من أحفاد معاوية بن أبي سفيان وكان عالما فيلسوفا كما في الإشارات والتبيان.

(٣) البيت لحندج بن حندج المري ، وهو في الإيضاح (١٦٦).

(٤) البيت في شرح الحماسة للتبريزي (٢ / ٢٢٩ ، ٢٣٤).

(٥) قوله : يكسرون أغماد السيوف كناية عن استقبالهم للحرب وهي صفة من صفات الخوارج والجفون مفردها الجفن وهو غمد السيف.

١٤١

و «رأيته وليس معه غيره» ، فهذا هو المعروف المستعمل ، ثم قد جاء بغير «الواو» فكان من الحسن على ما ترى ، وهو قول الأعرابي : [من الرجز]

لنا فتى وحبّذا الأفتاء

تعرفه الأرسان والدّلاء

إذا جرى في كفّه الرّشاء

خلّى القليب ليس فيه ماء (١)

ومما ينبغي أن يراعى في هذا الباب : أنك ترى الجملة قد جاءت حالا بغير «واو» ويحسن ذلك ، ثم تنظر فترى ذلك إنّما حسن من أجل حرف دخل عليها. مثاله قول الفرزدق : [من الطويل]

فقلت عسى أن تبصريني كأنّما

بنيّ حواليّ الأسود الحوارد (٢)

قوله : «كأنما بنيّ» إلى آخره ، في موضع الحال من غير شبهة ، ولو أنك تركت «كأن» فقلت : «عسى أن تبصريني بنيّ حوالي كالأسود» ، رأيته لا يحسن حسنه الآن ، ورأيت الكلام يقتضي «الواو» كقولك : «عسى أن تبصريني وبنيّ حوالي كالأسود الحوارد».

وشبيه بهذا أنك ترى الجملة قد جاءت حالا بعقب مفرد ، فلطف مكانها ، ولو أنك أردت أن تجعلها حالا من غير أن يتقدمها ذلك المفرد لم يحسن ، مثال ذلك قول ابن الرومي : [من السريع]

والله يبقيك لنا سالما ،

برداك تبجيل وتعظيم (٣)

فقوله : «برداك تبجيل» ، في موضع حال ثانية ، ولو أنك أسقطت «سالما» ، من البيت فقلت : «والله يبقيك برداك تبجيل» ، لم يكن شيئا.

وإذا قد رأيت الجمل الواقعة حالا قد اختلف بها الحال هذا الاختلاف الظاهر ، فلا بدّ من أن يكون ذلك إنّما كان من أجل علل توجبه وأسباب تقتضيه ، فمحال أن يكون هاهنا جملة لا تصلح إلا مع «الواو» ، وأخرى لا تصلح فيها «الواو» ، وثالثة تصلح أن تجيء فيها «بالواو» وأن تدعها فلا تجيء بها ، ثم لا يكون لذلك سبب وعلّة ، وفي الوقوف على العلّة في ذلك إشكال وغموض ، ذاك لأنّ الطريق إليه غير

__________________

(١) الأفتاء : جمع فتي بتشديد الياء وهو الشاب ، والأرسان : الحبال. والرشاء : حبل الدلو. والقليب : البئر.

(٢) لم أعثر عليه في ديوانه (طبعة دار صادر) ، وهو في الإيضاح (١٧١). الحوارد : جمع حارد وهو المهيب المنظر من حرد إذا غضب.

(٣) البيت في ديوانه ، والإيضاح (١٧١).

١٤٢

مسلوك ، والجهة التي منها تعرف غير معروفة ، وأنا أكتب لك أصلا في «الخبر» إذا عرفته انفتح لك وجه العلّة في ذلك.

اعلم أن «الخبر» ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة لا تتم الفائدة دونه ، وخبر ليس بجزء من الجملة ، ولكنّه زيادة في خبر آخر سابق له. فالأوّل خبر المبتدأ ، كمنطلق في قولك : «زيد منطلق» ، والفعل كقولك : «خرج زيد» ، وكل واحد من هذين جزء من الجملة ، وهو الأصل في الفائدة. والثاني هو الحال كقولك : «جاءني زيد راكبا» ، وذاك لأن الحال خبر في الحقيقة ، من حيث أنك تثبت بها المعنى لذي الحال كما تثبت بخبر المبتدأ للمبتدإ ، وبالفعل للفاعل. ألا تراك قد أثبتّ الركوب في قولك : «جاءني زيد راكبا» لزيد؟ إلا أنّ الفرق أنّك جئت به لتزيد معنى في إخبارك عنه بالمجيء ، وهو أن تجعله بهذه الهيئة في مجيئه ، ولم تجرّد إثباتك للركوب ولم تباشره به ابتداء ، بل بدأت فأثبتّ المجيء ، ثم وصلت به الركوب ، فالتبس به الإثبات على سبيل التّبع لغيره ، وبشرط أن يكون في صلته. وأمّا في الخبر المطلق نحو : «زيد منطلق» و «خرج عمرو» ، فإنك أثبت المعنى إثباتا جرّدته له ، وجعلته يباشره من غير واسطة ، ومن غير أن يتسبّب بغيره إليه.

وإذا قد عرفت هذا ، فاعلم أن كل جملة وقعت حالا ثم امتنعت من «الواو» ، فذاك لأجل أنك عمدت إلى الفعل الواقع في صدرها فضممته إلى الفعل الأول في إثبات واحد ، وكل جملة جاءت حالا ، ثم اقتضت «الواو» فذاك لأنك مستأنف بها خبرا ، وغير قاصد إلى أن تضمها إلى الفعل الأوّل في الإثبات.

وتفسير هذا : أنك إذا قلت : «جاءني زيد يسرع» ، كان بمنزلة قولك : «جاءني زيد مسرعا» ، في أنك تثبت مجيئا فيه إسراع ، وتصل أحد المعنيين بالآخر ، وتجعل الكلام خبرا واحدا ، وتريد أن تقول : «جاءني كذلك ، وجاءني بهذه الهيئة» ، وهكذا قوله : [من البسيط]

وقد علوت قتود الرّحل يسفعني

يوم قديديمة الجوزاء مسموم

كأنه قال : «وقد علوت قتود الرحل بارزا للشمس ضاحيا» ، وكذلك قوله : [من البسيط]

متى أرى الصّبح قد لاحت مخايله

لأنه في معنى : «متى أرى الصبح باديا لائحا بيّنا متجلّيا» ، على هذا القياس أبدا. وإذا قلت : «جاءني وغلامه يسعى بين يديه» و «رأيت زيدا وسيفه على كتفه» ،

١٤٣

كان المعنى على أنك بدأت فأثبتّ المجيء والرؤية ، ثم استأنفت خبرا ، وابتدأت إثباتا ثانيا لسعي الغلام بين يديه ، ولكون السيف على كتفه. ولما كان المعنى على استئناف الإثبات ، احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى ، فجيء بالواو كما جيء بها في قولك : «زيد منطلق وعمرو ذاهب» و «العلم حسن والجهل قبيح» ، وتسميتنا لها «واو حال» ، لا يخرجها عن أن تكون مجتلبة لضمّ جملة إلى جملة.

ونظيرها في هذا «الفاء» في جواب الشرط نحو : «إن تأتني فأنت مكرم» ، فإنها وإن لم تكن عاطفة ، فإن ذلك لا يخرجها من أن تكون بمنزلة العاطفة في أنها جاءت لتربط جملة ليس من شأنها أن ترتبط بنفسها ، فاعرف ذلك ، ونزّل الجملة في نحو : «جاءني زيد يسرع» و «قد علوت قتود الرّحل يسفعني يوم» ، منزلة الجزاء الذي يستغني عن «الفاء» ، لأنّ من شأنه أن يرتبط بالشرط من غير رابط ، وهو قولك : «إن تعطني أشكرك» ، ونزّل الجملة في «جاءني زيد وهو راكب» ، منزلة الجزاء الذي ليس من شأنه أن يرتبط بنفسه ، ويحتاج إلى «الفاء» ، كالجملة في نحو : «إن تأتني فأنت مكرم» ، قياسا سويّا وموازنة صحيحة.

فإن قلت : قد علمنا أن علّة دخول «الواو» على الجملة أن تستأنف الإثبات ، ولا تصل المعنى الثاني بالأوّل في إثبات واحد ، ولا تنزّل الجملة منزلة المفرد ، ولكن بقي أن تعلم لم كان بعض الجمل ، بأن يكون تقديرها تقدير المفرد في أن لا يستأنف بها الإثبات ، أولى من بعض؟ وما الذي منع في قولك : «جاءني زيد وهو يسرع ، أو «وهو مسرع» أن يدخل الإسراع في صلة المجيء ويضمّه في الإثبات ، كما كان ذلك حين قلت : «جاءني زيد يسرع»؟.

فالجواب أن السّبب في ذلك أن المعنى في قولك : «جاءني زيد وهو يسرع» ، على استئناف إثبات للسّرعة ، ولم يكن ذلك في «جاءني زيد يسرع». وذلك أنك إذا أعدت ذكر «زيد» فجئت بضميره المنفصل المرفوع ، كان بمنزلة أن تعيد اسمه صريحا فتقول : «جاءني زيد وزيد يسرع» في أنك لا تجد سبيلا إلى أن تدخل «يسرع» في صلة المجيء ، وتضمّه إليه في الإثبات. وذلك أنّ إعادتك ذكر «زيد» لا يكون حتى تقصد استئناف الخبر عنه بأنه يسرع ، وحتى تبتدئ إثباتا للسرعة ، لأنّك إن لم تفعل ذلك ، تركت المبتدأ ، الذي هو ضمير «زيد» أو اسمه الظاهر ، بمضيعة ، وجعلته لغوا في البين ، وجرى مجرى أن تقول : «جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه» ، ثم تزعم أنك لم تستأنف كلاما ولم تبتدئ للسرعة إثباتا ، وأن حال «يسرع» هاهنا ، حاله إذا قلت : «جاءني زيد يسرع» ، فجعلت السرعة له ، ولم تذكر «عمرا» ، وذلك محال.

١٤٤

فإن قلت : إنما استحال في قولك : «جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه» أن تردّ «يسرع» إلى «زيد» وتنزله منزلة قولك : «جاءني زيد يسرع» ، من حيث كان في «يسرع» ضمير لعمرو ، وتضمّنه ضمير عمرو يمنع أن يكون لزيد ، وأن يقدّر حالا له ، وليس كذلك : «جاءني زيد وهو يسرع» ، لأنّ السرعة هناك لزيد لا محالة ، فكيف ساغ أن تقيس إحدى المسألتين على الأخرى؟.

قيل : ليس المانع أن يكون «يسرع» في قولك : «جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه»؟ حالا من زيد أنّه فعل لعمرو ، فإنك لو أخّرت «عمرا» فرفعته «بيسرع» ، وأوليت «يسرع» زيدا فقلت : «جاءني زيد يسرع عمرو أمامه» وجدته قد صلح حالا لزيد ، مع أنه فعل لعمرو ، وإنما المانع ما عرفتك ، من أنك تدع «عمرا» بمضيعة ، وتجيء به مبتدأ ، ثم لا تعطيه خبرا.

ومما يدلّ على فساد ذلك أنّه يؤدّي إلى أن يكون «يسرع» قد اجتمع في موضعه النّصب والرفع ، وذلك أنّ جعله حالا من «زيد» يقتضي أن يكون في موضع نصب ، وجعله خبرا عن «عمرو» المرفوع بالابتداء يقتضي أن يكون في موضع رفع.

وذلك بيّن التّدافع. ولا يجب هذا التّدافع إذا أخرت «عمرا» فقلت : «جاءني زيد يسرع عمرو أمامه» ، لأنك ترفعه حينئذ بيسرع ، على أنه فاعل له ، وإذا ارتفع به لم يوجب في موضعه إعرابا ، فيبقى مفرّغا لأن يقدّر فيه النصب على أنه حال من «زيد» وجرى مجرى أن تقول : «جاءني زيد مسرعا عمرو أمامه».

فإن قلت : فقد ينبغي على هذا الأصل أن لا تجيء جملة من مبتدأ وخبر حالا إلا مع «الواو» ، وقد ذكرت قبل أن ذلك قد جاء في مواضع من كلامهم.

فالجواب أنّ القياس والأصل أن لا تجيء جملة من مبتدأ وخبر حالا إلا مع «الواو» ، وأمّا الذي جاء من ذلك فسبيله سبيل الشيء يخرج عن أصله وقياسه والظاهر فيه ، بضرب من التأويل ونوع من التشبيه ، فقولهم : «كلّمته فوه إلى فيّ» ، إنّما حسن بغير «واو» من أجل أن المعنى : كلمته مشافها له ، وكذلك قولهم : «رجع عوده على بدئه» ، إنما جاء الرفع فيه والابتداء من غير «واو» ، لأن المعنى : رجع ذاهبا في طريقه الذي جاء فيه ، وأما قوله : «وجدته حاضراه الجود والكرم» فلأنّ تقديم الخبر الذي هو «حاضراه» ، يجعله كأنه قال : «وجدته حاضرا عنده الجود والكرم».

وليس الحمل على المعنى ، وتنزيل الشيء منزلة غيره ، بعزيز في كلامهم ، وقد قالوا : «زيد اضربه» ، فأجازوا أن يكون مثال الأمر في موضع الخبر ، لأن المعنى على

١٤٥

النصب نحو : «اضرب زيدا» ، ووضعوا الجملة ، من المبتدأ والخبر موضع الفعل والفاعل في نحو قوله تعالى : (أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) [الأعراف : ١٩٣] ، لأن الأصل في المعادلة أن تكون الثانية كالأولى نحو : «أدعوتموهم أم صمتّم».

ويدل على أن ليس مجيء الجملة من المبتدأ والخبر حالا بغير «الواو» أصلا ، قلّته (١) ، وأنه لا يجيء إلا في الشيء بعد الشيء.

هذا ، ويجوز أن يكون ما جاء من ذلك إنما جاء على إرادة «الواو» ، كما جاء الماضي على إرادة «قد».

واعلم أنّ الوجه فيما كان مثل قول بشار : [من الطويل]

خرجت مع البازي عليّ سواد (٢)

أن يؤخذ فيه بمذهب أبي الحسن الأخفش ، فيرفع «سواد» بالظرف دون الابتداء ، ويجري الظّرف هاهنا مجراه إذا جرت الجملة صفة على النكرة نحو : «مررت برجل معه صقر صائدا به غدا» ، وذلك أن صاحب الكتاب يوافق أبا الحسن في هذا الموضع فيرفع «صقرا» بما في «معه» من معنى الفعل ، فلذلك يجوز أن يجرى الحال مجرى الصفة ، فيرفع الظاهر بالظرف إذا هو جاء حالا ، فيكون ارتفاع «سواد» بما في «عليّ» من معنى الفعل ، لا بالابتداء.

ثم ينبغي أن يقدّر هاهنا خصوصا أنّ الظرف في تقدير اسم فاعل لا فعل ، أعني أن يكون المعنى : «خرجت كائنا عليّ سواد ، وباقيا عليّ سواد» ، ولا يقدّر : «يكون عليّ سواد» ، و «يبقى عليّ سواد» ، اللهمّ إلّا أن تقدر فيه فعلا ماضيا مع «قد» كقولك : «خرجت مع البازي قد بقي عليّ سواد» ، والأوّل أظهر.

وإذا تأمّلت الكلام وجدت الظرف وقد وقع مواقع لا يستقيم فيها إلّا أن يقدّر تقدير اسم فاعل ، ولذلك قال أبو بكر بن السّراج في قولنا : «زيد في الدار» ، أنك مخيّر بين أن تقدر فيه فعلا فتقول : «استقر في الدار» ، وبين أن تقدر اسم فاعل فتقول : «مستقر في الدار» ، وإذا عاد الأمر إلى هذا ، كان الحال في ترك «الواو» ظاهرة ، وكان «سواد» في قوله : «خرجت مع البازي عليّ سواد» ، بمنزلة «قضاء الله» في قوله : [من الطويل]

__________________

(١) قلّته : فاعل للفعل «يدلّ».

(٢) راجع هامش (١) ص (١٤٢).

١٤٦

سأغسل عنّي العار بالسّيف جالبا

عليّ قضاء الله ما كان جالبا (١)

في كونه اسما ظاهرا قد ارتفع باسم فاعل قد اعتمد على ذي حال ، فعمل عمل الفعل.

ويدلّك على أن التقدير فيه ما ذكرت ، وأنه من أجل ذلك حسن ، أنك تقول : «جاءني زيد والسّيف على كتفه» و «خرج والتاج عليه» ، فتجده لا يحسن إلا بالواو ، وتعلم أنك لو قلت : «جاءني زيد السيف على كتفه» و «خرج التاج عليه» ، كان كلاما نافرا لا يكاد يقع في الاستعمال ، وذلك لأنه بمنزلة قولك : «جاءني وهو متقلّد سيفه» و «خرج وهو لابس التاج» ، في أن المعنى على أنك استأنفت كلاما وابتدأت إثباتا ، وأنّك لم ترد : «جاءني كذلك» ولكن «جاءني وهو كذلك» ، فاعرفه.

__________________

(١) شعر سعد بن ناشب المازني ، شرح الحماسة للتبريزي (١ / ٣٥).

١٤٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

لقول في الفصل والوصل

اعلم أنّ العلم ـ بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض ، أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورة ، تستأنف واحدة منها بعد أخرى ـ من أسرار البلاغة (١) ، وممّا لا يتأتّى لتمام الصواب فيه إلا الأعراب الخلّص ، وإلا قوم طبعوا على البلاغة ، وأوتوا فنّا من المعرفة في ذوق الكلام هم بها أفراد. وقد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حدّا للبلاغة ، فقد جاء عن بعضهم أنه سئل عنها فقال : «معرفة الفصل من الوصل» ، ذاك (٢) لغموضه ودقّة مسلكه ، وأنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد ، إلا كمل لسائر معاني البلاغة.

واعلم أنّ سبيلنا أن ننظر إلى فائدة العطف في المفرد ، ثم نعود إلى الجملة فننظر فيها ونتعرّف حالها.

ومعلوم أنّ فائدة العطف في المفرد أن يشرك الثاني في إعراب الأول ، وأنه إذا أشركه في إعرابه فقد أشركه في حكم ذلك الإعراب ، نحو أن المعطوف على المرفوع بأنه فاعل مثله ، والمعطوف على المنصوب بأنه مفعول به أو فيه أو له شريك له في ذلك.

وإذا كان هذا أصله في المفرد ، فإنّ الجمل المعطوف بعضها على بعض على ضربين :

أحدهما : أن يكون للمعطوف عليها موضع من الإعراب ، وإذا كانت كذلك كان حكمها حكم المفرد ، إذ لا يكون للجملة موضع من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد ، وإذا كانت الجملة واقعة موقع المفرد ، كان عطف الثانية عليها جاريا مجرى عطف المفرد على المفرد ، وكان وجه الحاجة إلى «الواو» ظاهرا ، والإشراك بها

__________________

(١) قوله : بما ينبغي إلى قوله بعد أخرى : اعتراض بين اعلم أن العلم ... من أسرار البلاغة.

(٢) ذاك : المقصود منه الفصل.

١٤٨

في الحكم موجودا. فإذا قلت : «مررت برجل خلقه حسن وخلقه قبيح» كنت قد أشركت الجملة الثانية في حكم الأولى ، وذلك الحكم كونها في موضع جرّ بأنّها صفة للنكرة. ونظائر ذلك تكثر ، والأمر فيها يسهل.

والذي يشكل أمره هو الضرب الثاني ، وذلك أن تعطف على الجملة العارية الموضع من الإعراب جملة أخرى ، كقولك : «زيد قائم ، وعمرو قاعد» و «العلم حسن ، والجهل قبيح» ، لا سبيل لنا إلى أن ندّعي أن «الواو» أشركت الثانية في إعراب قد وجب للأولى بوجه من الوجوه. وإذا كان كذلك ، فينبغي أن تعلم المطلوب من هذا العطف والمغزى منه ، ولم لم يستو الحال بين أن تعطف وبين أن تدع العطف فتقول : «زيد قائم ، عمرو قاعد» ، بعد أن لا يكون هنا أمر معقول يؤتى بالعاطف ليشرك بين الأولى والثانية فيه؟.

واعلم أنّه إنما يعرض الإشكال في «الواو» دون غيرها من حروف العطف ، وذاك لأن تلك تفيد مع الإشراك معاني ، مثل أنّ «الفاء» توجب الترتيب من غير تراخ ، و «ثم» توجبه مع تراخ ، و «أو» تردّد الفعل بين شيئين وتجعله لأحدهما لا بعينه ، فإذا عطفت بواحدة منها الجملة على الجملة ، ظهرت الفائدة. فإذا قلت : «أعطاني فشكرته» ، ظهر بالفاء أن الشكر كان معقّبا على العطاء ومسبّبا عنه ، وإذا قلت : «خرجت ثم خرج زيد» ، أفادت «ثم» أن خروجه كان بعد خروجك ، وأنّ مهلة وقعت بينهما ، وإذا قلت : «يعطيك أو يكسوك» ، دلّت «أو» على أنه يفعل واحدا منهما لا بعينه.

وليس «للواو» معنى سوى الإشراك في الحكم الذي يقتضيه الإعراب الذي أتبعت فيه الثاني الأوّل. فإذا قلت : «جاءني زيد وعمرو» لم تفد بالواو شيئا أكثر من إشراك عمرو في المجيء الذي أثبته لزيد ، والجمع بينه وبينه ، ولا يتصوّر إشراك بين شيئين حتى يكون هناك معنى يقع ذلك الإشراك فيه وإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن معنا في قولنا : «زيد قائم وعمرو قاعد» معنى تزعم أنّ «الواو» أشركت بين هاتين الجملتين فيه ، ثبت إشكال المسألة.

ثم إنّ الذي يوجبه النظر والتأمّل أن يقال في ذلك : إنّا وإن كنّا إذا قلنا : «زيد قائم وعمرو قاعد» ، فإنّا لا نرى هاهنا حكما نزعم أن «الواو» جاءت للجمع بين الجملتين فيه ، فإنا نرى أمرا آخر نحصل معه على معنى الجمع. وذلك أنّا لا نقول : «زيد قائم وعمرو قاعد» ، حتى يكون عمرو بسبب من زيد ، وحتى يكونا كالنظيرين

١٤٩

والشريكين ، وبحيث إذا عرف السامع حال الأوّل عناه أن يعرف حال الثاني. يدلّك على ذلك أنك إن جئت فعطفت على الأول شيئا ليس منه بسبب ، ولا هو ممّا يذكر بذكره ويتّصل حديثه بحديثه ، لم يستقم. فلو قلت : «خرجت اليوم من داري» ، ثم قلت : «وأحسن الذي يقول بيت كذا» ، قلت ما يضحك منه ، ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله : [من الكامل]

لا والّذي هو عالم أنّ النّوى

صبر وأنّ أبا الحسين كريم (١)

وذلك لأنه لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى ، ولا تعلّق لأحدهما بالآخر ، وليس يقتضي الحديث بهذا الحديث بذاك.

واعلم أنّه كما يجب أن يكون المحدّث عنه في إحدى الجملتين بسبب من المحدّث عنه في الأخرى ، كذلك ينبغي أن يكون الخبر عن الثاني مما يجري مجرى الشّبيه والنظير أو النقيض للخبر عن الأوّل. فلو قلت : «زيد طويل القامة وعمرو شاعر» ، كان خلفا ، لأنه لا مشاكلة ولا تعلّق بين طول القامة وبين الشّعر ، وإنما الواجب أن يقال : «زيد كاتب وعمرو شاعر» ، و «زيد طويل القامة وعمرو قصير».

وجملة الأمر أنها لا تجيء حتّى يكون المعنى في هذه الجملة لفقا (٢) لمعنى في الأخرى ومضامّا له ، مثل أنّ «زيدا» و «عمرا» إذا كانا أخوين أو نظيرين أو مشتبكي الأحوال على الجملة ، كانت الحال التي يكون عليها أحدهما ، من قيام أو قعود أو ما شاكل ذلك ، مضمومة في النفس إلى الحال التي عليها الآخر من غير شكّ. وكذا السبيل أبدا.

والمعاني في ذلك كالأشخاص ، فإنّما قلت مثلا : «العلم حسن والجهل قبيح» ، لأنّ كون العلم حسنا مضموم في العقول إلى كون الجهل قبيحا.

واعلم أنه إذا كان المخبر عنه في الجملتين واحدا كقولنا : «هو يقول ويفعل ويضرّ وينفع ، ويسيء ويحسن ، ويأمر وينهى ، ويحلّ ويعقد ، ويأخذ ويعطى ، ويبيع

__________________

(١) البيت في ديوانه (٢٨٢) من قصيدة يمدح فيها أبا الحسين محمد بن الهيثم بن شبانة ، وقبله :

زعمت هواك عفا الغداة كما عفت

منها طلول باللوى ورسوم

والبيت في مفتاح العلوم للسكاكي (٣٨١) ، والإيضاح (١٤٩) ، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (١٢٢) ، وعزاه إليه ، والطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح بتحقيقي (١ / ٨٧) ، وشرح الصولي للديوان (٢ / ٤١٩) ، ومعاهد التنصيص ، وانظر نهاية الإيجاز (٣٢٣) ، وعقود الجمان (١٧٣) والصبر : عصارة شجرة حامض.

(٢) لفقا له : لفق الثوب يلفقه : ضم شقة إلى أخرى. القاموس «لفق» (١١٩٠).

١٥٠

ويشتري ، ويأكل ويشرب» وأشباه ذلك ، ازداد معنى الجمع في «الواو» قوة وظهورا ، وكان الأمر حينئذ صريحا.

وذلك أنك إذا قلت : «هو يضرّ وينفع» ، كنت قد أفدت «بالواو» أنك أوجبت له الفعلين جميعا ، وجعلته يفعلهما معا. ولو قلت : «يضرّ ينفع» : من غير «واو» لم يجب ذلك ، بل قد يجوز أن يكون قولك «ينفع» رجوعا عن قولك «يضر» وإبطالا له.

وإذا وقع الفعلان في مثل هذا في الصّلة ، ازداد الاشتباك والاقتران حتى لا يتصوّر تقدير إفراد في أحدهما عن الآخر ، وذلك في مثل قولك : «العجب من أنّي أحسنت وأسأت» و «يكفيك ما قلت وسمعت» و «أيحسن أن تنهى عن شيء وتأتي مثله؟» ، وذلك أنه لا يشتبه على عاقل أن المعنى على جعل الفعلين في حكم فعل واحد. ومن البيّن في ذلك قوله : [من البسيط]

لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ،

وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا (١)

المعنى : لا تطمعوا أن تروا إكرامنا قد وجد مع إهانتكم ، وجامعها في الحصول.

ومما له مأخذ لطيف في هذا الباب قول أبي تمام : [من الطويل]

لهان علينا أن نقول وتفعلا

ونذكر بعض الفضل منك وتفضلا (٢)

واعلم أنه كما كان في الأسماء ما يصله معناه بالاسم قبله ، فيستغني بصلة معناه له عن واصل يصله ورابط يربطه ، وذلك كالصفة التي لا تحتاج في اتّصالها بالموصوف إلى شيء يصلها به ، وكالتأكيد الذي لا يفتقر كذلك إلى ما يصله بالمؤكد ، كذلك يكون في الجمل ما تتّصل من ذات نفسها بالتي قبلها ، وتستغني بربط معناها لها عن حرف عطف يربطها. وهي كلّ جملة كانت مؤكّدة للتي قبلها ومبيّنة لها ، وكانت إذا حصّلت لم تكن شيئا سواها ، كما لا تكون الصفة غير الموصوف ، والتأكيد غير المؤكد. فإذا قلت : «جاءني زيد الظريف» ، و «جاءني القوم كلهم» ، لم يكن «الظريف» و «كلّهم» غير زيد وغير القوم.

ومثال ما هو من الجمل كذلك قوله تعالى : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)

__________________

(١) من شعر الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب ، شرح الحماسة للتبريزي (١ / ١٢١).

(٢) البيت في ديوانه (ص ٢٣٧) ، مطلع قصيدة في مدح محمد بن عبد الملك الزيات. ويروى : «فتفضلا» بدل من «وتفضلا» وبعده :

أبا جعفر أجريت في كل تلعة

لنا جعفرا من سيب كفيك سلسلا

لهان : أي والله لقد هان.

١٥١

[البقرة : ١ ـ ٢] قوله : «لا ريب فيه» ، بيان وتوكيد وتحقيق لقوله «ذلك الكتاب» ، وزيادة تثبيت له ، وبمنزلة أن تقول : «هو ذلك الكتاب ، هو ذلك الكتاب» ، فتعيده مرة ثانية لتثبته ، وليس يثبت الخبر غير الخبر ، ولا شيء يتميّز به عنه فيحتاج إلى ضامّ يضمّه إليه ، وعاطف يعطفه عليه.

ومثل ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [البقرة : ٦ ـ ٧] قوله تعالى : (لا يُؤْمِنُونَ) ، تأكيد لقوله (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) ، وقوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) ، تأكيد ثان أبلغ من الأوّل ، لأن من كان حاله إذا أنذر مثل حاله إذا لم ينذر ، كان في غاية الجهل ، وكان مطبوعا على قلبه لا محالة.

وكذلك قوله عزوجل : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) [البقرة : ٨ ـ ٩] ، إنّما قال : «يخادعون» ولم يقل : «ويخادعون» لأن هذه المخادعة ليست شيئا غير قولهم : «آمنّا» ، من غير أن يكونوا مؤمنين ، فهو إذن كلام أكّد به كلام آخر هو في معناه ، وليس شيئا سواه.

وهكذا قوله عزوجل : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] ، وذلك لأن معنى قولهم : «إنّا معكم» : إنّا لم نؤمن بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم نترك اليهوديّة. وقولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ، خبر بهذا المعنى بعينه ، لأنه لا فرق بين أن يقولوا : «إنّا لم نقل ما قلناه من أنا آمنا إلّا استهزاء» ، وبين أن يقولوا : «إنّا لم نخرج من دينكم وإنّا معكم» ، بل هما في حكم الشيء الواحد ، فصار كأنهم قالوا : «إنا معكم لم نفارقكم» فكما لا يكون «إنّا لم نفارقكم» شيئا غير «إنّا معكم» ، كذلك لا يكون «إنّما نحن مستهزءون» غيره ، فاعرفه.

ومن الواضح البيّن في هذا المعنى قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) [لقمان : ٧] ، لم يأت معطوفا نحو «وكأنّ في أذنيه وقرا» ، لأنّ المقصود من التشبيه بمن في أذنيه وقر ، هو بعينه المقصود من التشبيه بمن لم يسمع ، إلّا أنّ الثاني أبلغ وآكد في الذي أريد. وذلك أن المعنى في التشبيهين جميعا أن ينفي أن يكون لتلاوة ما تلي عليه من الآيات فائدة معه ، ويكون لها تأثير فيه ، وأن يجعل حاله إذا تليت عليه كحاله إذا لم تتل.

١٥٢

ولا شبهة في أن التشبيه بمن في أذنيه وقر أبلغ وآكد في جعله كذلك ، من حيث كان من لا يصحّ منه السمع وإن أراد ذلك ، أبعد من أن يكون لتلاوة ما يتلى عليه فائدة ، من الذي يصحّ منه السمع إلّا أنه لا يسمع ، إمّا اتفاقا وإما قصدا إلى أن لا يسمع. فاعرفه وأحسن تدبّره.

ومن اللطيف في ذلك قوله تعالى : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف : ٣١] ، وذلك أن قوله : «إن هذا إلّا ملك كريم» ، مشابك لقوله : «ما هذا بشرا» ومداخل في ضمنه من ثلاثة أوجه : وجهان هو فيهما شبيه بالتأكيد ، ووجه هو فيه شبيه بالصفة.

فأحد وجهي كونه شبيها بالتأكيد ، هو أنه إذا كان ملكا لم يكن بشرا ، وإذا كان كذلك كان ، إثبات كونه ملكا تحقيقا لا محالة ، وتأكيدا لنفي أن يكون بشرا.

والوجه الثاني أن الجاري في العرف والعادة أنه إذا قيل : «ما هذا بشرا ، وما هذا بآدميّ» ، والحال حال تعظيم وتعجّب مما يشاهد في الإنسان من حسن خلق أو خلق ، أن يكون الغرض والمراد من الكلام أن يقال إنه ملك ، وأنه يكنى به عن ذلك ، حتى أنه يكون مفهوم اللفظ ، وإذا كان مفهوما من اللفظ قبل أن يذكر ، كان ذكره إذا ذكر تأكيدا لا محالة ، لأنّ حدّ «التأكيد» أن تحقّق باللفظ معنى قد فهم من لفظ آخر قد سبق منك. أفلا ترى : أنه إنّما كان «كلّهم» في قولك : «جاءني القوم كلّهم» تأكيدا من حيث كان الذي فهم منه ، وهو الشمول ، قد فهم بديئا من ظاهر لفظ «القوم» ، ولو أنه لم يكن فهم الشمول من لفظ «القوم» ، ولا كان هو من موجبه ، لم يكن «كلّ» تأكيدا ، ولكان الشمول مستفادا من «كلّ» ابتداء.

وأمّا الوجه الثالث الذي هو فيه شبيه بالصفة ، فهو أنه إذا نفي أن يكون بشرا ، فقد أثبت له جنس سواه ، إذ من المحال أن يخرج من جنس البشر ، ثم لا يدخل في جنس آخر. وإذا كان الأمر كذلك ، كان إثباته «ملكا» تبيينا وتعيينا لذلك الجنس الذي أريد إدخاله فيه ، وإغناء عن أن تحتاج إلى أن تسأل فتقول : «فإن لم يكن بشرا ، فما هو؟ وما جنسه؟» كما أنك إذا قلت : «مررت بزيد الظريف» كان «الظريف» تبيينا وتعيينا للّذي أردت من بين من له هذا الاسم ، وكنت قد أغنيت المخاطب عن الحاجة إلى أن يقول : «أيّ الزيدين أردت؟».

وممّا جاء فيه الإثبات «بإن وإلّا» على هذا الحدّ قوله عزوجل : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [يس : ٦٩] ، وقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ

١٥٣

الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ـ ٤] ، أفلا ترى أنّ الإثبات في الآيتين جميعا تأكيد وتثبيت لنفي ما نفي؟ فإثبات ما علّمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأوحي إليه ذكرا وقرآنا ، تأكيد وتثبيت لنفي أن يكون قد علّم الشعر وكذلك إثبات ما يتلوه عليهم وحيا من الله تعالى ، تأكيد وتقرير لنفي أن يكون نطق به عن هوى.

واعلم أنّه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه : «إنه خفيّ غامض ، ودقيق صعب» إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدقّ وأصعب. وقد قنع الناس فيه بأن يقولوا إذا رأوا جملة قد ترك فيها العطف : «إن الكلام قد استؤنف وقطع عمّا قبله» ، لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك. ولقد غفلوا غفلة شديدة.

وممّا هو أصل في هذا الباب أنك قد ترى الجملة وحالها مع التي قبلها حال ما يعطف ويقرن إلى ما قبله ، ثم تراها قد وجب فيها ترك العطف ، لأمر عرض فيها صارت به أجنبية مما قبلها.

مثال ذلك قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة : ١٥] ، الظاهر كما لا يخفى يقتضي أن يعطف على ما قبله من قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] ، وذلك أنه ليس بأجنبيّ منه ، بل هو نظير ما جاء معطوفا من قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] ، وقوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] ، وما أشبه ذلك مما يردّ فيه العجز على الصّدر ، ثم إنّك تجده قد جاء غير معطوف ، وذلك لأمر أوجب أن لا يعطف ، وهو أن قوله : «إنما نحن مستهزءون» ، حكاية عنهم أنهم قالوا ، وليس بخبر من الله تعالى ، وقوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ، خبر من الله تعالى أنه يجازيهم على كفرهم واستهزائهم. وإذا كان كذلك ، كان العطف ممتنعا ، لاستحالة أن يكون الذي هو خبر من الله تعالى ، معطوفا على ما هو حكاية عنهم ، ولإيجاب ذلك أن يخرج من كونه خبرا من الله تعالى ، إلى كونه حكاية عنهم ، وإلى أن يكونوا قد شهدوا على أنفسهم بأنهم مؤاخذون ، وأن الله تعالى معاقبهم عليه.

وليس كذلك الحال في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) و «مكروا ومكر الله» ، لأن الأول من الكلامين فيهما كالثّاني ، في أنه خبر من الله تعالى وليس بحكاية. وهذا هو العلّة في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة : ١١ ـ ١٢] ، إنما جاء «إنّهم هم المفسدون» مستأنفا مفتتحا «بألا» ، لأنه خبر من الله تعالى بأنّهم

١٥٤

كذلك ، والذي قبله من قوله : «إنما نحن مصلحون» ، حكاية عنهم. فلو عطف للزم عليه مثل الذي قدّمت ذكره من الدخول في الحكاية ، ولصار خبرا من اليهود ووصفا منهم لأنفسهم بأنهم مفسدون ، ولصار كأنه قيل : قالوا : «إنما نحن مصلحون ، وقالوا إنّهم المفسدون» ، وذلك ما لا يشكّ في فساده.

وكذلك قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٣] ، ولو عطف : «إنّهم هم السّفهاء» على ما قبله ، لكان يكون قد أدخل في الحكاية ، ولصار حديثا منهم عن أنفسهم بأنهم هم السّفهاء ، من بعد أن زعموا أنهم إنّما تركوا أن يؤمنوا لئلّا يكونوا من السفهاء.

على أنّ في هذا أمرا آخر ، وهو أن قوله : «أنؤمن» استفهام ، لا يعطف الخبر على الاستفهام.

فإن قلت : هل كان يجوز أن يعطف قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) على «قالوا» من قوله : «قالوا إنّا معكم» لا على ما بعده ، وكذلك كان يفعل في «إنّهم هم المفسدون» ، و «إنّهم هم السّفهاء» ، وكان يكون نظير قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) [الأنعام : ٨] ، وذلك أنّ قوله : «ولو أنزلنا ملكا» معطوف ، من غير شك ، على «قالوا» دون ما بعده؟.

قيل : إن حكم العطف على «قالوا» فيما نحن فيه ، مخالف لحكمه في الآية التي ذكرت. وذلك أن «قالوا» هاهنا جواب شرط ، فلو عطف قوله : «الله يستهزئ بهم» عليه ، للزم إدخاله في حكمه من كونه جوابا ، وذلك لا يصحّ.

وذاك أنّه متى عطف على جواب الشرط شيء «بالواو» كان ذلك على ضربين : أحدهما : أن يكونا شيئين يتصوّر وجود كلّ واحد منهما دون الآخر ، ومثاله قولك «إن تأتني أكرمك أعطك وأكسك» ، والثاني : أن يكون المعطوف شيئا لا يكون حتى يكون المعطوف عليه ، ويكون الشّرط لذلك سببا فيه بوساطة كونه سببا للأول ، ومثاله قولك : «إذا رجع الأمير إلى الدار استأذنته وخرجت» ، فالخروج لا يكون حتى يكون الاستئذان ، وقد صار «الرجوع» سببا في الخروج ، من أجل كونه سببا في الاستئذان ، فيكون المعنى في مثل هذا على كلامين ، نحو : «إذا رجع الأمير استأذنت ، وإذا استأذنت خرجت».

وإذا قد عرفت ذلك ، فإنه لو عطف قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) على

١٥٥

«قالوا» كما زعمت ، كان الذي يتصوّر فيه أن يكون من هذا الضّرب الثاني ، وأن يكون المعنى : «وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزءون» ، فإذا قالوا ذلك استهزأ الله بهم ومدّهم في طغيانهم يعمهون.

وهذا وإن كان يرى أنه يستقيم ، فليس هو بمستقيم. وذلك أن الجزاء إنما هو على نفس الاستهزاء وفعلهم له وإرادتهم إيّاه في قولهم : «آمنّا» ، لا على أنهم حدّثوا على أنفسهم بأنّهم مستهزءون ، والعطف على «قالوا» يقتضي أن يكون الجزاء على حديثهم عن أنفسهم بالاستهزاء ، لا عليه نفسه.

ويبيّن ما ذكرناه من أن الجزاء ينبغي أن يكون على قصدهم الاستهزاء وفعلهم له ، لا على حديثهم عن أنفسهم بأنا مستهزءون ، أنهم لو كانوا قالوا لكبرائهم : «إنما نحن مستهزءون» وهم يريدون بذلك دفعهم عن أنفسهم بهذا الكلام ، وأن يسلموا من شرّهم ، وأن يوهموهم أنّهم منهم وإن لم يكونوا كذلك (١) ، لكان لا يكون عليهم مؤاخذة فيما قالوه ، من حيث كانت المؤاخذة تكون على اعتقاد الاستهزاء والخديعة في إظهار الإيمان ، لا في قول : «إنّا استهزأنا» من غير أن يقترن بذلك القول اعتقاد ونيّة.

هذا ، وهاهنا أمر سوى ما مضى يوجب الاستئناف وترك العطف ، وهو أن الحكاية عنهم بأنهم قالوا كيت وكيت ، تحرّك السامعين لأن يعلموا مصير أمرهم وما يصنع بهم ، وأتنزل بهم النّقمة عاجلا أم لا تنزل ويمهلون ، وتوقع في أنفسهم التمنّي لأن يتبيّن لهم ذلك. وإذا كان كذلك ، كان هذا الكلام الذي هو قوله : «الله يستهزئ بهم» ، في معنى ما صدر جوابا عن هذا المقدّر وقوعه في أنفس السامعين. وإذا كان مصدره كذلك ، كان حقّه أن يؤتى به مبتدأ غير معطوف ، ليكون في صورته إذا قيل : «فإن سألتم قيل لكم : «الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون».

وإذا استقريت وجدت هذا الذي ذكرت لك ، من تنزيلهم الكلام إذا جاء بعقب ما يقتضي سؤالا ، منزلته إذا صرّح بذلك السؤال ، كثيرا ، فمن لطيف ذلك قوله : [من الكامل]

زعم العواذل أنّني في غمرة ،

صدقوا ، ولكن غمرتي لا تنجلي (٢)

لمّا حكى عن العواذل أنهم قالوا : «هو في غمرة» ، وكان ذلك مما يحرّك

__________________

(١) والتقدير أنهم لو كانوا ..... لكان لا يكون عليهم».

(٢) البيت في الإيضاح (١٥٧) ، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (١٢٥) بلا عزو ، والطيبي في التبيان (١٤٢) ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١٨٢) ، وهو غير منسوب. الغمرة : الشدة.

١٥٦

السامع لأن يسأله فيقول : «فما قولك في ذلك ، وما جوابك عنه؟» ، أخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له ، وصار كأنه قال : «أقول : صدقوا ، أنا كما قالوا ، ولكن لا مطمع لهم في فلاحي» ، ولو قال : «زعم العواذل أنني في غمرة وصدقوا» ، لكان يكون لم يضع في نفسه أنه مسئول ، وأن كلامه كلام مجيب.

ومثله قول الآخر في الحماسة : [من الكامل]

زعم العواذل أنّ ناقة جندب

بجنوب خبت عرّيت وأجمّت

كذب العواذل لو رأين مناخنا

بالقادسيّة قلن : لجّ وذلّت (١)

وقد زاد هذا أمر القطع والاستئناف وتقدير الجواب ، تأكيدا بأن وضع الظّاهر موضع المضمر ، فقال : «كذب العواذل» : ولم يقل «كذبن» ، وذلك أنه لما أعاد ذكر «العواذل» ظاهرا ، كان ذلك أبين وأقوى ، لكونه كلاما مستأنفا من حيث وضعه وضعا لا يحتاج فيه إلى ما قبله ، وأتى به مأتى ما ليس قبله كلام ومما هو على ذلك قول الآخر : [من الوافر]

زعمتم أنّ إخوتكم قريش!

لهم إلف ، وليس لكم إلاف (٢)

وذلك أنّ قوله : «لهم إلف» تكذيب لدعواهم أنّهم من قريش ، فهو إذن بمنزلة أن يقول : «كذبتم ، لهم إلف ، وليس لكم ذلك» : ولو قال : «زعمتم أنّ إخوتكم قريش ولهم إلف وليس لكم إلاف» ، لصار بمنزلة أن يقول : «زعمتم أن أخواتكم قريش وكذبتم» ، في أنه كان يخرج عن أن يكون موضوعا على أنه جواب سائل يقول له : «فما ذا تقول في زعمهم ذلك وفي دعواهم؟» فاعرفه.

واعلم أنّه لو أظهر «كذبتم» ، لكان يجوز له أن يعطف هذا الكلام الذي هو قوله : «لهم إلف» عليه بالفاء ، فيقول : «كذبتم فلهم إلف ، وليس لكم ذلك». فأما الآن فلا مساغ لدخول الفاء البتّة ، لأنه يصير حينئذ معطوفا بالفاء على قوله : «زعمتم

__________________

(١) البيتان في الإيضاح (١٥٧) ، وهو في شرح الحماسة للتبريزي (١ / ١٦٢) ، وجندب هو الشاعر ونسبه في معاهد التنصيص (١ / ٢٨١) ، وقال : «جندب بن عمار». خبت : موضع بالشام وبلدة بزبيد ، أجمت : أي تركت أن تركب.

(٢) البيت لمساور بن هند بن قيس بن زهير ، من شعراء الحماسة يهجو بني أسد ، وأورده القزويني في الإيضاح (١٥٨) ، والسكاكي في مفتاح العلوم (٢٧١) ، والإلف : الذي تألفه. إيلاف : العهد والذمام.

١٥٧

أنّ إخوتكم قريش» ، وذلك يخرج إلى المحال ، من حيث يصير كأنه يستشهد بقوله : «لهم إلف» ، على أن هذا الزعم كان منهم ، كما أنك إذا قلت : «كذبتم فلهم إلف» ، كنت قد استشهدت بذلك على أنهم كذبوا ، فاعرف ذلك.

ومن اللطيف في الاستئناف ، على معنى جعل الكلام جوابا في التقدير ، قول اليزيديّ : [من السريع]

ملّكته حبلي ، ولكنّه

ألقاه من زهد على غاربي

وقال إني في الهوى كاذب ، انتقم الله من الكاذب (١) استأنف قوله : «انتقم الله من الكاذب» ، لأنه جعل نفسه كأنه يجيب سائلا قال له : «فما تقول فيما اتّهمك به من أنك كاذب؟» فقال أقول «انتقم الله من الكاذب».

ومن النادر أيضا في ذلك قول الآخر : [من الخفيف]

قال لي : كيف أنت؟ قلت : عليل ،

سهر دائم وحزن طويل (٢)

لما كان في العادة إذا قيل للرجل : «كيف أنت؟» فقال : «عليل» ، أن يسأل ثانيا فيقال : «ما بك؟ وما علتك» ، قدّر كأنه قد قيل له ذلك ، فأتى بقوله : «سهر دائم» جوابا عن هذا السؤال المفهوم من فحوى الحال ، فاعرفه :

ومن الحسن البيّن في ذلك قول المتنبي : [من الوافر]

وما عفت الرّياح له محلّا ،

عفاه من حدا بهم وساقا (٣)

__________________

(١) البيتان أوردهما القزويني في الإيضاح (١٥١) ، وعزاهما لليزيدي ، والطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ٨٧) ، وعقود الجمان (١٧٦) ، إلقاء الحبل على الغارب : كناية عن الإهمال ، واليزيدي : عالم شاعر راوية توفي سنة (٢٩٢ ه‍) ، والبيتان في الأغاني لإبراهيم بن المدبر الشاعر الكاتب العباسي.

(٢) البيت أورده القزويني في الإيضاح (٣٨ ، ١٥٦) ، وهو بلا نسبة في التبيان للطيبي (١ / ١٤٦) ، ومعاهد التنصيص (١ / ١٠٠) ، والإشارات والتنبيهات (٣٤) ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١ / ٥٢) ، والشاهد من قوله : «عليل» لأن التقدير : أنا عليل ، وفي قوله : «سهر دائم» لأن التقدير : حالي سهر دائم والحذف فيه للاختصار والاحتراز عن العبث مع ضيق المقام بسبب الضجر.

(٣) البيت في ديوانه (٢ / ٤٠) ، من قصيدة في مدح سيف الدولة وقد أمر له بفرس وجارية ، وقبله :

أيدري الربع أي دم أرقا

وأي قلوب هذا أكبر لب شاقا

لنا ولأهله أبدا قلوب

تلاقى في جسوم ما تلاقى

والبيت أورده القزويني في الإيضاح (١٥٧) ، والسكاكي في المفتاح (٣٧٣). عفت : محت ، محلا : مكانا ، الحادي : من يسوق القافلة.

١٥٨

لما نفى أن يكون الذي يرى به من الدروس والعفاء من الرياح ، وأن تكون التي فعلت ذلك ، وكان في العادة إذا نفي الفعل الموجود الحاصل عن واحد فقيل : «لم يفعله فلان» ، أن يقال : «فمن فعله؟» قدّر كأن قائلا قال : «قد زعمت أن الرياح لم تعف له محلّا ، فما عفاه إذن؟» ، فقال مجيبا له : «عفاه من حدا بهم وساقا».

ومثله قول الوليد بن يزيد : [من الهزج]

عرفت المنزل الخالي

عفا من بعد أحوال

عفاه كل حنّان

عسوف الوبل هطّال (١)

لما قال : «عفا من بعد أحوال» ، قدّر كأنه قيل له : «فما عفاه؟» فقال : «عفاه كلّ حنّان».

واعلم أن السؤال إذا كان ظاهرا مذكورا في مثل هذا ، كان الأكثر أن لا يذكر الفعل في الجواب ، ويقتصر على الاسم وحده. فأمّا مع الإضمار فلا يجوز إلا أن يذكر الفعل.

تفسير هذا : أنه يجوز لك إذا قيل : «إن كانت الرياح لم تعفه فما عفاه؟» أن تقول : «من حدا بهم وساقا» ولا تقول : «عفاه من حدا» ، كما تقول في جواب من يقول : «من فعل هذا؟» : زيد ، ولا يجب أن تقول : «فعله زيد».

وأمّا إذا لم يكن السؤال مذكورا كالذي عليه البيت ، فإنه لا يجوز أن يترك ذكر الفعل. فلو قلت مثلا : «وما عفت الرياح له محلا ، من حدا بهم وساقا» : تزعم أنك أردت «عفاه من حدا بهم» ، ثم تركت ذكر الفعل ، أحلت (٢) ، لأنه إنما يجوز تركه حيث يكون السؤال مذكورا ، لأن ذكره فيه يدل على إرادته في الجواب ، فإذا لم يؤت بالسؤال لم يكن العلم به سبيل ، فاعرف ذلك.

واعلم أن الذي تراه في التّنزيل من لفظ «قال» مفصولا غير معطوف ، هذا هو التقدير فيه ، والله أعلم. أعني مثل قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ) [الذاريات :

__________________

(١) البيتان أوردهما القزويني في الإيضاح (١٥٧) ، وعزاهما للوليد ، والسكاكي في المفتاح (٣٧٣) ، وهما في شعر الوليد بن يزيد في المجموع ، والأغاني (٧ / ٣٢).

(٢) أي : جئت بالمحال.

١٥٩

٢٤ ـ ٢٨] ، جاء على ما يقع في أنفس المخلوقين من السّؤال. فلما كان العرف والعادة فيما بين المخلوقين إذا قيل لهم : «دخل قوم على فلان فقالوا كذا» ، أن يقولوا : «فما قال هو؟» ، ويقول المجيب : «قال كذا» ، أخرج الكلام ذلك المخرج ، لأنّ الناس خوطبوا بما يتعارفونه ، وسلك باللفظ معهم المسلك الذي يسلكونه.

وكذلك قوله : «قال ألا تأكلون» ، وذلك أن قوله : «فجاء بعجل سمين. فقرّبه إليهم» ، يقتضي أن يتبع هذا الفعل بقول ، فكأنه قيل والله أعلم : «فما قال حين وضع الطعام بين أيديهم؟» ، فأتى قوله : «قال ألا تأكلون» ، جوابا عن ذلك.

وكذا «قالوا لا تخف» ، لأن قوله : «فأوجس منهم خيفة» ، يقتضي أن يكون من الملائكة كلام في تأنيسه وتسكينه مما خامره ، فكأنه قيل : «فما قالوا حين رأوه وقد تغيّر ودخلته الخيفة؟» فقيل : «قالوا لا تخف».

وذلك ، والله أعلم ، المعنى في جميع ما يجيء منه على كثرته ، كالذي يجيء في قصّة فرعون عليه اللّعنة ، وفي ردّ موسى عليه‌السلام عليه كقوله : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ. قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ٢٣ ـ ٣١] ، جاء ذلك كله ، والله أعلم ، على تقدير السؤال والجواب كالذي جرت به العادة فيما بين المخلوقين ، فلما كان السامع منّا إذا سمع الخبر عن فرعون بأنه قال : «وما رب العالمين؟» ، وقع في نفسه أن يقول : «فما قال موسى له؟» أتى قوله : «قال ربّ السماوات والأرض» ، مأتى الجواب مبتدأ مفصولا غير معطوف. وهكذا التقدير والتفسير أبدا في كل ما جاء فيه لفظ «قال» هذا المجيء ، وقد يكون الأمر في بعض ذلك أشدّ وضوحا.

ـ فممّا هو في غاية الوضوح قوله تعالى : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) [الحجر : ٥٧ ـ ٥٨] ، وذلك لأنّه لا يخفى على عاقل أنه جاء على معنى الجواب ، وعلى أن نزّل السامعون كأنهم قالوا : «فما قال له الملائكة؟» ، فقيل : «قالوا إنّا أرسلنا إلى قوم مجرمين».

وكذلك قوله عزوجل في سورة يس : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ

١٦٠