دلائل الإعجاز في علم المعاني

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

دلائل الإعجاز في علم المعاني

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦

ولما ذكروا معجزات الأنبياء عليهم‌السلام وقالوا : إنّ الله تعالى قد جعل معجزة كلّ نبي فيما كان أغلب على الذين بعث فيهم ، وفيما كانوا يتباهون به ، وكانت عوامّهم تعظّم به خواصّهم قالوا : إنّه لما كان السّحر الغالب على قوم فرعون ، ولم يكن قد استحكم في زمان استحكامه في زمانه ، جعل تعالى معجزة موسى عليه‌السلام في إبطاله وتوهينه ولمّا كان الغالب على زمان عيسى عليه‌السلام الطبّ ، جعل الله تعالى معجزته في إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ولما انتهوا إلى ذكر نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر ما كان الغالب على زمانه ، لم يذكروا إلا البلاغة والبيان والتصرّف في ضروب النّظم.

وقد ذكرت في الذي تقدّم غير ما ذكرته هاهنا ، مما يدلّ على سقوط هذا القول ، وما دعاني إلى إعادة ذكره إلّا أنه ليس لتهالك النّاس في حديث «اللّفظ» ، والمحاماة على الاعتقاد الذي اعتقدوه فيه وضنّ أنفسهم به حدّ ، فأحببت لذلك أن لا أدع شيئا مما يجوز أن يتعلّق به متعلّق ، ويلجأ إليه لاجئ ، ويقع منه في نفس سامع شكّ ، إلّا استقصيت في الكشف عن بطلانه.

وهاهنا أمر عجيب ، وهو أنه معلوم لكل من نظر ، أن الألفاظ من حيث هي ألفاظ وكلم ونطق لسان ، لا تختصّ بواحد دون آخر ، وأنها إنما تختصّ إذا توخّى فيها النظم. وإذا كان كذلك ، كان من رفع «النّظم» من البين ، وجعل الإعجاز بجملته في سهولة الحروف وجريانها ، جاعلا له فيما لا يصحّ إضافته إلى الله تعالى. وكفى بهذا دليلا على عدم التوفيق ، وشدّة الضّلال عن الطريق.

فصل

[في ختام كتابه دلائل الإعجاز يصف به عمله]

قد بلغنا في مداواة النّاس من دائهم ، وعلاج الفساد الذي عرض في آرائهم كلّ مبلغ ، وانتهينا إلى كلّ غاية ، وأخذنا بهم عن المجاهل التي كانوا يتعسّفون فيها إلى السّنن اللّاحب ، ونقلناهم عن الآجن المطروق إلى النّمير الذي يشفي غليل الشّارب ، ولم ندع لباطلهم عرقا ينبض إلا كويناه ، ولا للخلاف لسانا ينطق إلّا أخرسناه ، ولم نترك غطاء كان على بصر ذي عقل إلّا حسرناه ، فيا أيها السامع لما قلناه ، والناظر فيما كتبناه ، والمتصفّح لما دوّنّاه ، إن كنت سمعت سماع صادق الرّغبة في أن تكون في أمرك على بصيرة ، ونظرت نظر تامّ العناية في أن يورد ويصدر عن معرفة ، وتصفّحت

٣٠١

تصفّح من إذا مارس بابا من العلم لم يقنعه إلا أن يكون على ذروة السّنام ، ويضرب بالمعلّى من السّهام ، فقد هديت لضالّتك ، وفتح لك الطريق إلى بغيتك ، وهيئ لك الأداة التي بها تبلغ بها ، وأوتيت الآلة التي معها تصل. فخذ لنفسك بالتي هي أملأ ليديك ، وأعوذ بالحظّ عليك ، ووازن بين حالك الآن وقد تنبهت من رقدتك ، وأفقت من غفلتك ، وصرت تعلم إذا أنت خضت في أمر «اللّفظ» و «النظم» معنى ما تذكر ، وتعلم كيف تورد وتصدر ، وبينها وأنت من أمرها في عمياء ، وخابط خبط عشواء ، قصاراك أن تكرّر ألفاظا لا تعرف لشيء منها تفسيرا ، وضروب كلام للبلغاء إن سئلت عن أغراضهم فيها لم تستطع لها تبيينا ، فإنّك تراك تطيل التعجّب من غفلتك ، وتكثر الاعتذار إلى عقلك من الذي كنت عليه طول مدّتك. ونسأل الله تعالى أن يجعل كل ما نأتيه ، ونقصده وننتحيه ، لوجهه خالصا ، وإلى رضاه عزوجل مؤدّيا ، ولثوابه مقتضيا ، وللزّلفى عنده موجبا ، بمنّه وفضله ورحمته.

٣٠٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فصل

[في كشف شبهة جعل الفصاحة للألفاظ]

اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث «اللفظ» كالداء الذي يسري في العروق ، ويفسد مزاج البدن ، وجب أن يتوخّى دائبا فيهم ما يتوخّاه الطبيب في النّاقة ، من تعهّده بما يزيد في منّته ، ويبقيه على صحّته ، ويؤمنه النّكس في علّته.

وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة ، هو ذهابهم عن أن من شأن المعاني أن تختلف عليها الصّور ، وتحدث فيها خواصّ ومزايا من بعد أن لا تكون.

وإنّك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل ، فصنع فيه ما يصنع الصّانع الحاذق إذا هو أغرب في صنعة خاتم وعمل شنف وغيرهما من أصناف الحليّ. فإنّ جهلهم بذلك من حالها ، هو الذي أغواهم واستهواهم ، وورّطهم فيما تورّطوا فيه من الجهالات ، وأدّاهم إلى التّعلّق بالمحالات. وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصّورة ، وضعوا لأنفسهم أساسا ، وبنوا على قاعدة فقالوا : إنه ليس إلا المعنى واللفظ ، ولا ثالث ـ وإنه إذا كان كذلك ، وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر ، ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصّة ، وأن لا يكون لها مرجع إلى المعنى ، من حيث أنّ ذلك ، زعموا ، يؤدّي إلى التناقض ، وأن يكون معناهما متغايرا وغير متغاير معا.

ولمّا أقرّوا هذا في نفوسهم ، حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى «اللّفظ» على ظاهره ، وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى «اللّفظ» ، مثل قولهم : «لفظ متمكّن غير قلق ولا ناب به موضعه» ، إلى سائر ما ذكرناه قبل ، فيعلموا أنّهم لم يوجبوا للّفظ ما أوجبوه من الفضيلة ، وهم يعنون نطق اللّسان وأجراس الحروف ، ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا «اللفظ» ، وهم يريدون الصّورة التي تحدث في المعنى ، والخاصّة التي حدثت فيه ، ويعنون الذي عناه الجاحظ حيث قال.

٣٠٣

«وذهب الشّيخ إلى استحسان المعاني ، والمعاني مطروحة وسط الطريق ، يعرفها العربيّ والعجميّ ، والحضريّ والبدويّ ، وإنما الشعر صياغة وضرب من التّصوير».

وما يعنونه إذا قالوا : «إنه يأخذ الحديث فيشنّفه ويقرّطه ، ويأخذ المعنى خرزة فيردّه جوهرة ، وعباءة فيجعله ديباجة ، ويأخذه عاطلا فيردّه حاليا». وليس كون هذا مرادهم ، بحيث كان ينبغي أن يخفى هذا الخفاء ويشتبه هذا الاشتباه ، ولكن إذا تعاطى الشيء غير أهله ، وتولّى الأمر غير البصير به ، أعضل الداء ، واشتدّ البلاء. ولو لم يكن من الدّليل على أنهم لم ينحلوا «اللّفظ» الفضيلة وهم يريدونه نفسه وعلى الحقيقة إلّا واحد ، وهو وصفهم له بأنه يزين المعنى ، وأنّه حلي له لكان فيه الكفاية. وذاك أن الألفاظ أدلّة على المعاني ، وليس للدّليل إلّا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه ، فأمّا أن يصير الشيء بالدليل ، على صفة لم يكن عليها ، فما لا يقوم في عقل ، ولا يتصوّر في وهم.

وممّا إذا تفكّر فيه العاقل أطال التعجّب من أمر النّاس ، ومن شدة غفلتهم قول العلماء حيث ذكروا «الأخذ» و «السرقة» : «إنّ من أخذ معنى عاريا ، فكساه لفظا من عنده كان أحقّ به» (١) ، وهو كلام مشهور متداول يقرأه الصّبيان في أوّل كتاب «عبد الرحمن» ، ثم لا ترى أحدا من هؤلاء الذين لهجوا بجعل الفضيلة في «اللّفظ» ، يفكّر في ذلك فيقول : من أين يتصوّر أن يكون هاهنا معنى عار من لفظ يدلّ عليه؟ ثم من أين يعقل أن يجيء الواحد منّا لمعنى من المعاني بلفظ من عنده ، إن كان المراد باللفظ نطق اللسان؟

ثم هب أنه يصحّ له أن يفعل ذلك ، فمن أين يجب إذا وضع لفظا على معنى ، أن يصير أحقّ به من صاحبه الذي أخذه منه ، إن كان هو لا يصنع بالمعنى شيئا ، ولا يحدث فيه صفة ، ولا يكسبه فضيلة؟ وإذا كان كذلك ، فهل يكون لكلامهم هذا وجه سوى أن يكون «اللفظ» في قولهم «فكساه لفظا من عنده» (٢) ، عبارة عن صورة يحدثها الشاعر أو غير الشاعر للمعنى؟

فإن قالوا : بلى يكون ، وهو أن يستعير للمعنى لفظا.

قيل : الشأن في أنّهم قالوا : «إذا أخذ معنى عاريا فكساه لفظا من عنده ، كان أحق به» ، و «الاستعارة» عندكم مقصورة على مجرّد اللّفظ ، ولا ترون المستعير يصنع

__________________

(١) كلام في مقدمة «الألفاظ الكتابية» لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني.

(٢) الكلام لعبد الرحمن في كتابه «الألفاظ الكتابية».

٣٠٤

بالمعنى شيئا ، وترون أنه لا يحدث فيه مزية على وجه من الوجوه. وإذا كان كذلك ، فمن أين ، ليت شعري ، يكون أحقّ به؟ فاعرفه.

ثم إن أردت مثالا في ذلك ، فإنّ من أحسن شيء فيه ، ما صنع أبو تمام في بيت أبي نخيلة ، وذلك أن أبا نخيلة قال في مسلمة بن عبد الملك : [من الطويل]

أمسلم ، إنّي يا ابن كلّ خليفة ،

ويا جبل الدّنيا ، ويا واحد الأرض

شكرتك ، إنّ الشّكر حبل من التّقى ،

وما كلّ من أوليته صالحا يقضي

وأنبهت لي ذكري ، وما كان خاملا ،

ولكنّ بعض الذّكر أنبه من بعض (١)

فعمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير فقال : [من الطويل]

لقد زدت أوضاحي امتدادا ، ولم أكن

بهيما ، ولا أرضي من الأرض مجهلا

ولكن أياد صادفتني جسامها

أغرّ ، فأوفت بي أغرّ محجّلا (٢)

وفي «كتاب الشعر والشعراء» للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن. قال : ومن الأمثال القديمة قولهم : «حرّا أخاف على جاني كمأة لا قرّا» (٣) ، يضرب مثلا للذي يخاف من شيء فيسلم منه ويصيبه غيره مما لم يخفه ، فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال : [من الكامل]

وحذرت من أمر فمرّ بجانبي

لم ينكني ، ولقيت ما لم أحذر (٤)

__________________

(١) الأبيات في الأغاني (٢٠ / ٤٠٥) يمدح فيها مسلمة بن عبد الملك ، وجاء البيت الأول برواية أخرى لفظها :

أمسلم إني يا ابن كلّ خليفة

ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض

والبيت الأول في زهر الآداب (٢ / ٩٢٥) ، وطبقات الشعراء (ص ٦٤) ، ولسان العرب (نفض) ، وبلا نسبة في الإنصاف. والثاني : في تاج العروس (بعض) ، والثالث : في لسان العرب (شكر) وجاء بلفظ :

ونوّهت لي ذكري وما كان خاملا

ولكن بعض الذكر أنبه من بعض

(٢) البيتان لأبي تمام في ديوانه (ص ٢٣٧) من قصيدة يمدح فيها محمد بن عبد الملك الزيّات ، وجاء البيت الثاني بلفظ : «ألفت» بدلا من «أوفت» ، والأوضاح : جمع وضح وهو الغرّة في جبهة الفرس والتحجيل. والمجهل : المفازة التي لا أعلام فيها ألفت : لقيت ، وقال الشيخ شاكر : «وأرضي» يعني دياره وديار قومه ليست بمجهل من الأرض ، يعني شهرتهم ومن ضبط «أرضى» فعلا مضارعا فقد أخطأ المعنى.

(٣) في جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري (١ / ٣٧٣) ، وفي مجمع الأمثال (٢١٢ / ١).

(٤) نكي العدوّ نكاية : أصاب منه ، ونكيت في العدوّ نكاية إذا قلت فيهم وجرحت وهزمت وغلبت.

اللسان (نكى). والبيت لسهم بن حنظلة في المؤتلف والمختلف للآمدي (ص ١٣٥).

٣٠٥

وقال لبيد : [من المنسرح]

أخشى على أربد الحتوف ، ولا

أرهب نوء السّماك والأسد (١)

قال : وأخذه البحتريّ فأحسن وطغى اقتدارا على العبارة ، واتّساعا في المعنى ، فقال : [من الكامل]

لو أنّني أوفي التّجارب حقّها

فيما أرت ، لرجوت ما أخشاه

وشبيه بهذا الفصل فصل آخر من هذا الكتاب (٢) أيضا ، أنشد لإبراهيم بن المهديّ : [من السريع]

يا من لقلب صيغ من صخرة

في جسد من لؤلؤ رطب

جرحت خدّيه بلحظي ، فما

برحت حتّى اقتصّ من قلبي (٣)

ثم قال : قال عليّ بن هارون : أخذه أحمد بن أبي فنن معنى ولفظا فقال :

أدميت باللّحظات وجنته

فاقتصّ ناظره من القلب (٤)

قال : ولكنه بنقاء عبارته وحسن مأخذه ، قد صار أولى به.

ففي هذا دليل لمن عقل أنهم لا يعنون بحسن العبارة مجرّد اللفظ ، ولكن صورة وصفة وخصوصية تحدث في المعنى ، وشيئا طريق معرفته على الجملة العقل دون السمع ، فإنّه على كل حال لم يقل في البحتري أنه «أحسن فطغى اقتدارا على العبارة» ، من أجل حروف.

__________________

(١) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه (ص ٣٩) ، وفي الكامل (٣ / ٢٢٩) ، وفي الأغاني (١٧ / ٥٩ ، ٦٠ ، ٦٧) ، وهو من مجموعة أبيات قالها يرثي أخاه أربد الذي قتل بسحابة ارتفعت فرمته بصاعقة فأحرقته نتيجة دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومما قاله لبيد في رثاء أخيه قوله :

ما إن تعرى المنون من أحد

لا والد مشفق ولا ولد

فجعني الرعد والصواعق بال

فارس يوم الكريهة النّجد

يا عين هلّا بكيت أربد إذ

قمنا وقام الخصوم في كبد

(تعرى المنون) للبناء للمفعول تترك وتهمل ويقال لكل شيء أهملته وضليت سبيله قد عريته.

والنّجد : البطل ذو النجدة أو المنجد. والكبد : الشدّة والمشقة هكذا فسر أبو عبيدة قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) ، ومعنى البيت الذي معنا : أن الشاعر يخشى المنون على أربد ولم يظن أن تصيبه صاعقة ذت وتكون السبب الأول من أسباب موته.

(٢) المراد به كتاب «الشعر والشعراء» «للمرزباني» ، وتقدم التعريف به.

(٣) لإبراهيم بن المهدي أخو هارون الرشيد (المتوفى سنة ٢٢٤ ه‍) الشذرات (٢ / ٥٣).

(٤) لأحمد بن أبي فنن من شعراء الدولة العباسية. البيتان : تقدم تخريجهما.

٣٠٦

لو أنني أوفي التّجارب حقّها

وكذلك لم يصف ابن أبي فنن بنقاء العبارة ، من أجل حروف.

أدميت باللّحظات وجنته

واعلم أنك إذا سبرت أحوال هؤلاء الذين زعموا أنه إذا كان المعبّر عنه واحدا ، والعبارة اثنتين ، ثم كانت إحدى العبارتين أفصح من الأخرى وأحسن ، فإنه ينبغي أن يكون السبب في كونها أفصح وأحسن ، اللّفظ نفسه وجدتهم قد قالوا ذلك من حيث قاسوا الكلامين على الكلمتين ، فلمّا رأوا أنّه إذا قيل في «الكلمتين» إن معناهما واحد ، لم يكن بينهما تفاوت ، ولم يكن للمعنى في إحداهما حال لا يكون له في الأخرى ظنّوا أن سبيل الكلامين هذا السبيل. ولقد غلطوا فأفحشوا ، لأنه لا يتصوّر أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين ، مثل صورة في الآخر البتّة ، اللهم إلّا أن يعمد عامد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منه لفظة في معناها ، ولا يعرض لنظمه وتأليفه ، كمثل أن يقول في بيت حطيئة : [من البسيط]

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي

ذر المفاخر لا تذهب لمطلبها

واجلس فإنّك أنت الآكل اللّابس (١)

وما كان هذا سبيله كان بمعزل من أن يكون به اعتداد ، وأن يدخل في قبيل ما يفاضل فيه بين عبارتين ، بل لا يصح أن يجعل ذلك عبارة ثانية ، ولا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحلّ من يوصف بأنه أخذ معنى. ذلك لأنه لا يكون ذلك صانعا شيئا يستحق أن يدعى من أجله واضع كلام ، ومستأنف عبارة وقائل شعر. ذاك لأنّ بيت حطيئة لم يكن كلاما وشعرا من أجل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه ، مجرّدة معرّاة من معاني النظم والتأليف ، بل منها متوخّى فيها ما ترى من كون «المكارم» مفعولا «لدع» ، وكون قوله «لا ترحل لبغيتها» جملة أكدت الجملة قبلها ، وكون «اقعد» معطوفا بالواو على مجموع ما مضى ، وكون جملة «أنت الطاعم الكاسي» ، معطوفة بالفاء على «اقعد» ، فالذي يجيء فلا يغيّر شيئا من هذا الّذي به كان كلاما وشعرا ، لا يكون قد أتى بكلام ثان وعبارة ثانية ، بل لا يكون قد قال من عند نفسه شيئا البتّة.

وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضّة أو الذهب خاتما أو سوارا أو غيرهما من

__________________

(١) سبق تخريجه.

٣٠٧

أصناف الحلي بأنفسهما ، ولكن بما يحدث فيهما من الصّورة ، كذلك لا تكون الكلم المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف ، وكلاما وشعرا ، من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته توخّي معاني النحو وأحكامه.

فإذن ليس لمن يتصدّى لما ذكرنا ، من أن يعمد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منها لفظة في معناها ، إلا أن يستركّ عقله ، ويستخفّ ، ويعدّ معدّ الذي حكي أنه قال : «إني قلت بيتا هو أشعر من بيت حسّان ، قال حسّان : [من الكامل]

يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ،

لا يسألون عن السّواد المقبل (١)

وقلت :

يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم

أبدا ولا يسلون من ذا المقبل

فقيل : هو بيت حسّان ، ولكنّك قد أفسدته.

واعلم أنه إنما أتي القوم من قلّة نظرهم في الكتب التي وضعها العلماء في اختلاف العبارتين على المعنى الواحد ، وفي كلامهم في أخذ الشاعر من الشاعر ، وفي أن يقول الشاعران على الجملة في معنى واحد ، وفي الأشعار التي دوّنوها في هذا المعنى. ولو أنّهم كانوا أخذوا أنفسهم بالنظر في تلك الكتب ، وتدبّروا ما فيها حقّ التدبّر ، لكان يكون ذلك قد أيقظهم من غفلتهم ، وكشف الغطاء عن أعينهم.

وقد أردت أن أكتب جملة من الشّعر الذي أنت ترى الشاعرين فيه قد قالا في معنى واحد ، وهو ينقسم قسمين :

قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلا ساذجا ، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب.

وقسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصوّر.

وأبدا بالقسم الأول الّذي يكون المعنى في أحد البيتين غفلا ، وفي الآخر مصوّرا

__________________

(١) البيت له في ديوانه (ص ١٤٠) ، وفي التبيان للطيبي (ص ٣٢٩) ، وخزانة الأدب (٢ / ٤١٢) ، والدرر (٤ / ٧٦) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٦٩) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٣٧٨) ، ومغني اللبيب (١ / ١٢٩) ، وهمع الهوامع (٢ / ٩) ، وتاج العروس (جبن) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني (٣ / ٥٦٢). يقول : قد أنست كلابهم بكثرة من يأتيهم ، فلا تهر على أحد أي : أن منازلهم لا تخلو من الطراق والعفاة ، حتى تعودت كلابهم أن ترى من يقصد منازلهم. لا يسألون عن السواد المقبل : أي : أنهم في سعة لا يبالون من نزل بهم من الناس ولا يهمهم الجمع الكثير ، وهو السواد ، إذا قصدوا إليهم.

٣٠٨

مصنوعا ، ويكون ذلك إمّا لأن متأخّرا قصّر عن متقدم ، وإمّا لأن هدي متأخّر لشيء لم يهتد إليه المتقدّم.

ومثال ذلك قول المتنبّي : [من السريع]

بئس اللّيالي سهدت من طربي

شوقا إلى من يبيت يرقدها (١)

مع قول البحتري : [من الكامل]

ليل يصادفني ومرهفة الحشا

ضدّين أسهره لها وتنامه (٢)

وقول البحتري : [من البسيط]

ولو ملكت زماعا ظلّ يجذبني

قودا لكان ندى كفّيك من عقلي (٣)

مع قول المتنبي : [من الطويل]

وقيّدت نفسي في ذراك محبّة

ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا (٤)

وقول المتنبي : [من الكامل]

إذا اعتلّ سيف الدّولة اعتلّت الأرض

ومن فوقها والبأس والكرم المحض (٥)

__________________

(١) البيت له في ديوانه (ص ٥٠) ، والتبيان (١ / ٢٠٦) ، وجاءت الرواية بلفظ : «سهدت» بدلا من «سهرت» ، وبئس للذّم. سهدت : سهرت. أي : أنا أسهر الليالي أرقا متشوقا إلى الحبيب الذي ينام ملء عينيه وهو غير مشوق لي. فهو يذم الليالي التي سهر فيها ولم ينم لما أخذه من القلق وخفة الشّوق إلى من يحب.

(٢) يمدح به ابن بسطام (الديوان ٣ / ٢٠٣٧).

(٣) الزّمع والزّماع : المضاء في الأمر والعزم عليه ويقال : أزمعت الأمر ولا يقال أزمعت عليه والزّماع هنا العزم على الرحيل. والعقل : جمع عقال وهو الحبل الذي يشدّ به البعير.

(٤) البيت في ديوانه (٢ / ١٢٧) ، والتبيان (١ / ٢٠٢) ، والبيت من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة ويهنئه بعيد الأضحى سنة اثنتين وأربعين وثلاث مائة (٩٥٣ م) وأنشده إياها في ميدانه بحلب وهما على فرسيها والقصيدة مطلعها :

لكل امرئ من دهره ما تعوّدا

وعادة سيف الدولة الطعن في العدى

والذري الستر والكنف ، والمعنى : يقول : أقمت عندك حبالك وبين سبب الإقامة بالمصراع الأخير وأن إحسانه إليه هو الذي قيده وفيه نظر إلى قول الطائي :

وتركي سرعة الصدر اغتباطا

يدل على موافقة الورود

وكقوله :

هممي معلقة عليك رقابها

مغلولة أن الوفاء إسار

(٥) البيت له في ديوانه (٢ / ١١٤) ، وفي شرح التبيان على ديوان للعكبري (١ / ٤١٤) ، وهو مطلع قصيدة قالها في سيف الدولة يعوده من مرض ، اعتل : مرض ، ومن فوقها : البشر ، والمحض : الخالص ، واليأس : الشدة والسّطوة. والمعنى : إذا اعتل سيف الدولة اعتلت لعلته الأرض ومن

٣٠٩

مع قول البحتري : [من الكامل]

ظللنا نعود الجود من وعكك الّذي

وجدت وقلنا اعتلّ عضو من المجد (١)

وقول المتنبي : [من الكامل]

يعطيك مبتدرا فإن أعجلته

أعطاك معتذرا كمن قد أجرما (٢)

مع قول أبي تمام : [من الكامل]

أخو عزمات فعله فعل محسن

إلينا ولكن عذره عذر مذنب (٣)

وقول المتنبي : [من الطويل]

كريم متى استوهبت ما أنت راكب

وقد لقحت حرب فإنّك نازل (٤)

مع قول البحتريّ : [من البسيط]

ماض على عزمه في الجود لو وهب الشّ

باب يوم لقاء البيض ما ندما (٥)

وقول المتنبي : [من الخفيف]

والّذي يشهد الوغى ساكن القل

ب كأن القتال فيها ذمام (٦)

__________________

عليها من الناس والقوة والكرم الخالص لأنه قوام كل شيء فإذا اعتلّ اعتلّ له كل شيء وهو منقول من قول لمسلم بن الوليد :

نالتك يا خير الخلائق علة

يفديك من مكروهها الثقلان

فبكل قلب من شكاتك علة

موصوفة الشكوى بكل لسان

(١) يمدح به إبراهيم بن المدبر (الديوان ٢ / ٢٣٤).

(٢) البيت له في ديوانه (ص ٥٧) ، وفي التبيان (٢ / ٣٢٩) ، وجاء البيت بلفظ «مبتدئا» بدلا من «مبتدرا» والجرم : التعدّي ، مبتدرا : بادئا سابقا ، والجرم : الذنب والجمع أجرام وقد جرم وأجرم فهو مجرم وجريم. والمعنى : أنه يعطى من قبل أن تسأله فإن أعجلته أعطاك معتذرا إليك كأنه قد أتى بذنب.

(٣) البيت في الديوان (ص ٣١) ، وجاء البيت في الديوان بلفظ : «أزمات» بدلا من (عزمات).

والأزمات : الشدائد. والبيت من قصيدة قالها يمدح عياش بن لهيعة الحضرميّ مطلعها :

تقي جمحاتي لست طوع مؤنبي

وليس حنيني إن عذلت بمصحبي

(٤) البيت له في ديوانه (ص ١٣٠) من قصيدة قالها يمدح فيها سيف الدولة بعد دخول رسول الروم عليه ومطلعها :

دروع لملك الروم هذي الرسائل

يرد بها عن نفسه ويشاغل

ولحقت الحرب : نشبت ، أي : لكرمك إذا سئلت فرسك في غمرة الحرب وأنت بحاجة إليها فإنك تنزل عنها وتعطيها للسائل.

(٥) في مدح رافع بن هزيمة (الديوان ٢ / ٨٤).

(٦) البيت في ديوانه (٢ / ٩) ، والتبيان (٢ / ٢٧٠) ، والواو : عطف ، والوغى : الحرب وأصوات الحرب يقال بالعين والغين والحاء ، والذمام : العهد وساكن القلب : مطمئنه. والمعنى : يقول والذي يشهد الحرب غير مضطرب الجأش كأن القتال عاهده أن لا يقتل فهو يسكن إلى القتل سكونه إلى الذمام فهو يحضرها ثابت النفس غير حافل بشدّتها.

٣١٠

مع قول البحتريّ : [من الطويل]

لقد كان ذاك الجأش جأش مسالم

على أنّ ذاك الزّيّ زيّ محارب (١)

وقول أبي تمام : [من الكامل]

الصّبح مشهور بغير دلائل

من غيره ابتغيت ولا أعلام (٢)

مع قول المتنبي : [من الوافر]

وليس يصحّ في الأفهام شيء

إذا احتاج النّهار إلى دليل (٣)

وقول أبي تمام : [من الوافر]

وفي شرف الحديث دليل صدق

لمختبر على الشّرف القديم (٤)

مع قول المتنبي : [من البسيط]

أفعاله نسب لو لم يقل معها

جدّي الخصيب عرفنا العرق بالغصن (٥)

__________________

(١) الجأش : القلب. وفلان قويّ الجأش أي : القلب ، ورجل رابط الجأش أي : يربط نفسه عن الفرار يكفّها لجرأته وشجاعته.

(٢) البيت من قصيدة له في ديوانه (ص ٢٦٢) يهنئ الواثق بالخلافة ويعزّيه بالمعتصم أبيه مطلعها :

ما للدموع تروم كلّ مرام

والجفن ثاكل هجعة ومنام

والثاكل : الفاقد.

(٣) البيت في ديوانه (٢ / ٩٥) من أبيات قالها يعارض بها بعض الحاضرين في مجلس سيف الدولة ومنها :

أتيت بمنطق العرب الأصيل

وكان بقدر ما عاينت قيلي

فعارضه كلام كان منه

بمنزلة النساء من البعول

وهذا الدّرّ مأمون التشظّي

وأنت السيف مأمون الفلول

وليس يصح في الأفهام شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

وجاءت الرواية بلفظ : «الأفهام» بدلا من «الأذهان».

(٤) البيت في ديوانه (ص ٢٧١) من قصيدة له يمدح فيها بعض بني عبد الكريم الطائيين مطلعها :

أرامة كنت مألف كلّ ريم

لو استمتعت بالأنس القديم

ورامة : موضع بالبادية قد لهجت فيه الشعراء لطيب مكانه. والأنس : الحيّ.

(٥) البيت في ديوانه (١ / ٢١٦) ، والتبيان (٢ / ٤٦٤) من قصيدة يمدح فيها أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الخطيب الخصيبي وهو يومئذ يتقلّد القضاء بأنطاكية مطلعها :

أفاضل الناس أغراض لدى الزمن

يخلو من الهمّ أخلاهم من الفطن

والمعنى يقول : هو معروف عند الناس بأفعاله الكريمة وقد عرف أنه من ولد الخصيب فلو لم ينتسب مع أفعاله لعرفناه كما يستدل بالغصن على الأصل ، وهذا كقول حبيب :

فروع لا تزف إليك إلا

شهدت لها على طيب الأروم

وكقول الآخر :

إذا جهلت من امرئ أعراقه

وأصوله فانظر إلى ما يصنع

٣١١

وقول البحتري : [من الكامل]

وأحبّ آفاق البلاد إلى الفتى

أرض ينال بها كريم المطلب (١)

مع قول المتنبي : [من الطويل]

وكلّ امرئ يولي الجميل محبّب

وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب (٢)

وقول المتنبي : [من الطويل]

يقرّ له بالفضل من لا يودّه

ويقضي له بالسّعد من لا ينجّم (٣)

مع قول البحتري : [من الكامل]

لا أدّعي لأبي العلاء فضيلة

حتّى يسلّمها إليه عداه (٤)

وقول خالد الكاتب : [من المتقارب]

رقدت ولم ترث للسّاهر

وليل المحبّ بلا آخر (٥)

مع قول بشار : [من الطويل]

لخدّك من كفّيك في كلّ ليلة

إلى أن ترى ضوء الصّباح وساد

تبيت تراعي اللّيل ترجو نفاده

وليس لليل العاشقين نفاد (٦)

__________________

(١) البيت في التبيان (١ / ١٣١) ، وجاء البيت بلفظ «الفتى» بدلا من «فتى».

(٢) البيت في ديوانه (٢ / ٢٣٢) ، من قصيدة له يمدح فيها سيف الدولة في شوّال سنة سبع وأربعين وثلاث مائة (٩٥٨ م) مطلعها :

أغالب فيك الشوق والشوق أغلب

وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب

أما تغلط الأيّام فيّ بأن أرى

بغيضا تنائي أو حبيبا تقرّب

والبيت في التبيان (١ / ١٣١) ، ويولي الجميل : يصنعه ويعطيه. والمعنى : يريد أن الممدوح يوليه الجميل ويحبه فهو عنده طيب يختاره على أهله قال ابن جني : كل من حصل في خدمتك علا قدره ومثال البيت قول البحتري :

وأحب أوطان البلاد إلى الفتى

أرض ينال بها كريم المطلب

(٣) البيت في الديوان (٢ / ٥٤) ، وفي التبيان (١ / ٢٧٦) ، ويقرّ : يعترف. ومن لا يودّه : المقصود عدوّه ، ويقال : رجل منجّم : هو الذي ينظر في النجوم. والمعنى : يقول من لا يودّه يقرّ بفضله ولا يدفعه لبيانه ومن لا ينجم يقضي له بالسعد ولا ينكره لاتصاله فلظهوره ووضوحه لا ينكر فضله ولظهور آثار السعادة عليه يحكم له بالسعادة من لا يعرف أحكام النجوم من السعادة والنحوسة وهو مأخوذ من قول الآخر :

والفضل ما شهدت به الأعداء

(٤) قاله البحتري في مدح صاعد بن مخلد (الديوان ١ / ١٩١).

(٥) أمالي القالي (١ / ١٠٠) ، ومعه بيت آخر :

ولم تدر بعد ذهاب الرّقاد

ما صنع الدّمع من ناظري

(٦) (الديوان ٣ / ١٢٧).

٣١٢

وقول أبي تمام : [من الوافر]

ثوى بالمشرقين لها ضجاج

أطار قلوب أهل المغربين (١)

وقول البحتري : [من الطويل]

تناذر أهل الشّرق منه وقائعا

أطاع لها العاصون في بلد الغرب (٢)

مع قول مسلم : [من البسيط]

لمّا نزلت على أدنى ديارهم

ألقى إليك الأقاصي بالمقاليد (٣)

وقول محمد بن بشير : [من البسيط]

افرغ لحاجتنا ما دمت مشغولا

فلو فرغت لكنت الدّهر مبذولا (٤)

مع قول أبي علي البصير : [من الطويل]

فقل لسعيد أسعد الله جدّه

لقد رثّ حتّى كاد ينصرم الحبل

فلا تعتذر بالشّغل عنّا فإنّما

تناط بك الآمال ما اتّصل الشّغل (٥)

وقول البحتري : [من الكامل]

من غادة منعت ، وتمنع وصلها

فلو انّها بذلت لنا لم تبذل (٦)

مع قول ابن الرومي : [من مجزوء الكامل]

ومن البليّة أنّني

علّقت ممنوعا منوعا (٧)

وقول أبي تمام : [من الطويل]

__________________

(١) البيت في ديوانه (ص ٣٠٤) من قصيدة له يمدح إسحاق بن إبراهيم ويذكر إيقاعه بالمعمرة وأصحاب بابك وكانوا تواعدوا إلى موضع علم به فوقف لهم فيه فكل من جاء قتل وجزت أذنه حتى وجّه إلى المعتصم بستين ألف أذن. والقصيدة مطلعها :

خشنت عليه أخت بني خشين

وأنجح فيك قول العاذلين

والضجاج مثل الضّجيج : هو الفزع والصياح مصحوب بالاستغاثة.

(٢) يقال : تناذر القوم : أنذر بعضهم بعضا وخوّف بعضهم بعضا. الوقائع : جمع وقيعة : الحرب والقتال قيل : المعركة وقيل : الوقعة والوقيعة : صدمة الحرب.

(٣) من قصيدة في مدح داود بن يزيد المهلبي (الديوان ١٦١).

(٤) تقدم التعريف بقائله.

(٥) انظر معجم الشعراء للمرزباني (٣١٤).

(٦) الديوان يمدح محمد بن علي بن عيسى القمي الكاتب ، وفي الديوان وردت «وصلها» بدل «نيلها».

(٧) (الديوان ٤ / ١٤٦٢).

٣١٣

لئن كان ذنبي أنّ أحسن مطلبي

أساء ففي سوء القضاء لي العذر (١)

مع قول البحتري : [من البسيط]

إذا محاسني اللّاتي أدلّ بها

كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر (٢)

وقول أبي تمام : [من البسيط] قد يقدم العير من ذعر على الأسد (٣) مع قول البحتري : [من الطويل]

فجاء مجيء العير قادته حيرة

إلى أهرت الشّدقين تدمى أظافره (٤)

وقول معن بن أوس : [من الطويل]

إذا انصرفت نفسي عن الشّيء لم تكد

إليه بوجه آخر الدّهر تقبل (٥)

مع قول العباس بن الأحنف : [من البسيط]

نقل الجبال الرّواسي من أماكنها

أخفّ من ردّ قلب حين ينصرف (٦)

وقول أميّة بن أبي الصلت : [من الطويل]

عطاؤك زين لامرئ إن أصبته

بخير وما كلّ العطاء يزين (٧)

__________________

(١) البيت في ديوانه (ص ٤٨٣) من قصيدة له مطلعها :

تصدّت وحبل البين مستحصد شزر

وقد سهّل التوديع ما أوعر الهجر

(٢) (الديوان ٢ / ١٨٢) طبعة الجوائب يمدح علي بن مرّ الأرمني.

(٣) عجز بيت له في ديوانه من بعض أبيات قالها في محمد بن يزيد وصدره :

أطلت روعك حتى صرت لي غرضا

(٤) العير : الحمار والجمع أعيار وعيار. والهرت : سعة الشّدق والهريت : الواسع الشّدقين والمقصود الأسد. ودمي يدمى كرضي يرضى من الرضوان : خرج منه دم. قال الشيخ محمد رشيد رضا : ولعلّ المعنى هنا يصيب أظافره دم الفرائس.

(٥) شرح الحماسة للمرزوقي (٣ / ١١٣١).

(٦) (الديوان ٢١١) طبعة صادر وروايته في الديوان :

نقل الجبال الرواسي عن مواضعها

أخف من نقل نفس حين تنصرف

(٧) البيت لأمية بن أبي الصلت قاله حينما أعطاه ابن جدعان جارية فلام القوم أميّة على أخذها لأن ابن جدعان في حاجة إليها لتخدمه فرجع بها أميّة إليه فأخبره ابن جدعان بما قاله القوم وقال له فما الذي قلت في ذلك؟ فقال أميّة البيتين هذا أولهما وثانيهما قوله :

وليس بشين لامرئ يذل وجهه

إليك كما بعض السؤال يشين

والبيت في الأغاني (٨ / ٣٤٢) ، وهو في ديوانه (ص ٦٣) ، والاشتقاق (١٤٤) ، وديوان المعاني (١ / ٤٦) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٨٣١).

٣١٤

مع قول أبي تمام : [من البسيط]

تدعى عطاياه وفرا وهي إن شهرت

كانت فخارا لمن يعفوه مؤتنفا

ما زلت منتظرا أعجوبة عنتا

حتّى رأيت سؤالا يجتني شرفا (١)

وقول جرير : [من الطويل]

بعثن الهوى ثمّ ارتمين قلوبنا

بأسهم أعداء وهنّ صديق (٢)

مع قول أبي نواس : [من الطويل]

إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت

له عن عدوّ في ثياب صديق (٣)

وقول كثير : [من الطويل]

إذا ما أرادت خلّة أن تزيلنا

أبينا وقلنا الحاجبيّة أوّل (٤)

مع قول أبي تمام : [من الكامل]

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل (٥)

وقول المتنبي : [من الطويل]

وعند من اليوم الوفاء لصاحب

شبيب وأوفى من ترى أخوان (٦)

__________________

(١) البيتان لأبي تمّام في ديوانه (ص ١٩٠) قالهما يمدح فيهما أبا دلف القاسم بن عيسى العجليّ مطلعها :

أمّا الرسوم فقد اذكرن ما سلفا

فلا تكفّن عن شانيك أو يكفا

والوفر : الكثير. والعنن : الظاهرة معترضة يقال : عنّ الشيء : أي اعتراض.

(٢) البيت في ديوانه (ص ٢٩٩) ، من قصيدة يمدح فيها الحجاج مطلعها :

بتّ أرائي صاحبيّ تجلّدا

وقد علقتني من هواك علوق

وجاء البيت بلفظ : «دعون» بدلا من «بعثن».

(٣) (الديوان ٦٢١).

(٤) (الديوان ٢٥٥).

(٥) البيت في ديوانه (ص ٤٦٣) ، وهو في الإيضاح (٢٠٥) ، ونسبه ابن جني في كتابه الخصائص للطائي الكبير (ص ١١٧) ، والبيت من بعض أبيات منها :

البين جرّعني نقيح الحنظل

والبين أثكلني وإن لم أثكل

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وضينه أبدا لأول منزل

والحنظل : نبت ثمره شديد المرارة.

(٦) البيت في ديوانه (٢ / ٢٤٠). والمعنى لم يعد أحد من الناس جديرا بأن تأمنه فإن أو فى الأصحاب مثل شبيب غادر وهو أخوه بالغدر.

٣١٥

مع قول أبي تمام : [من الطويل]

فلا تحسبا هندا لها الغدر وحدها

سجيّة نفس كلّ غانية هند (١)

وقول البحتري : [من الطويل]

فلم أر في رنق الصّرى لي موردا

فحاولت ورد النّيل عند احتفاله (٢)

مع قول المتنبي : [من الطويل]

قواصد كافور توارك غيره

ومن قصد البحر استقلّ السّواقيا (٣)

وقول المتنبي : [من المنسرح]

كأنّما يولد النّدى معهم

لا صغر عاذر ولا هرم (٤)

مع قول البحتري : [من الطويل]

عريقون في الإفضال يؤتنف النّدى

لناشئهم من حيث يؤتنف العمر (٥)

__________________

(١) البيت في ديوانه (ص ١١٥) من قصيدة له يمدح محمد بن الهيثم بن شبانة ، مطلعها :

تجرّع أسى قد أقفر الجرع الفرد

ودع حسي عين يحتلب ماءه الوجد

والسّجيّة : الطبيعة والخلق.

(٢) البيت في شرح التبيان للعكبري (٢ / ٥١٤) ، والرّنق : تراب في الماء من القذى ، وترنّق : كدر ، وماء رنق : كدر ، والصّرى والصّرى : الماء الذي طال استنقاعه وجاء في نسخة الشيخ رشيد : الصّرى : نهر.

(٣) البيت في ديوانه (ص ٢٠٤) ، وفي شرح التبيان للعكبري على ديوان المتنبي (٢ / ٥١٤) ، وهو من قصيدة قالها يمدح كافورا وذلك بعد أن استقبله فأخلى له دارا وخلع عليه وحمل إليه آلافا من الدراهم فقال يمدحه وأنشده إيّاها في جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلاث مائة (٩٥٧ م) ، ومطلعها :

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

وحسب المنايا أن يكن أمانيا

وقواصد : حال من الجرد ، ويعني بالبحر كافورا وبالسواقي : غيره من الملوك وهي جمع ساقية وهي النهر الصغير. والمعنى : يريد أن الجرد وهي التي تحتنا (يقصد الخيل قليلة الشعر) قاصدة هذا البحر وتركت السواقي وطالب البحر بغير خلاف يرى غيره لأن السواقي تستمد من البحر ويقال : أن سيف الدولة لما سمع هذا البيت قال له الويل جعلني ساقية وجعل الأسود بحرا وإن كان المتنبي قصد هذا فلقد أبان عن نقض عهد وقلة مروءة لأنه مدح خلقا فلم يعطه أحد ما أعطاه علي بن حمدان ولا كان فيهم من له شرفه وفضله لأنه عربي من سادات تغلب عالم بالشعر ولم يمدح مثله من الشرف والحسب إلا محمد بن عبد الله الكوفي الحسني.

(٤) البيت له في ديوانه (١ / ١٣٩) ، وفي شرح التبيان (ص ٣٥٤) ، والندى : الكرم ، عاذر فاعل عذر ، والهرم : الكبر والعجز عن التصرّف. والمعنى : يقول كرمهم موجود معهم فهم أجواد في أوائل أعمارهم وأواخرهم وهو منقول من قول البحتري :

عريقون في الأفضال يؤتنف الندى

لناشئهم من حيث يؤتنف العمر

(٥) البيت في شرح التبيان للعكبري على ديوان المتنبي (٢ / ٣٥٤).

٣١٦

وقول البحتري : [من الطويل]

فلا تغلين بالسّيف كلّ غلائه

ليمضي فإنّ الكفّ لا السّيف تقطع (١)

مع قول المتنبي : [من الطويل]

إذا الهند سوّت بين سيفي كريهة

فسيفك في كفّ تزيل التّساويا (٢)

وقول البحتري : [من الكامل]

ساموك من حسد فأفضل منهم

غير الجواد وجاد غير المفضل

فبذلت فينا ما بذلت سماحة

وتكرّما وبذلت ما لم تبذل (٣)

مع قول أبي تمام : [من الطويل]

أرى النّاس منهاج النّدى بعد ما عفت

مهايعه المثلى ومحّت لواحبه

ففي كلّ نجد في البلاد وغائر

مواهب ليست منه وهي مواهبه (٤)

وقول المتنبي : [من البسيط]

بيضاء تطمع فيما تحت حلّتها

وعزّ ذلك مطلوبا إذا طلبا (٥)

مع قول البحتري : [من الكامل]

__________________

(١) (الديوان ١ / ١٩٧) والرواية فيه «يقطع» بدلا من «تقطع».

(٢) البيت في الديوان (٢ / ٢٠٦) ، وفي التبيان على شرح ديوان المتنبي للعكبري (٢ / ٥١٩) ، والكريهة : الشدّة في الحرب ، والمعنى : قال أبو الفتح : إذا طبعت الهند سيفين فجعلتهما سواء في الحدّة والمضاء فالسّيف الذي يصاحبك يكون أمضى لأنك تزيل مساواتهما بشدّة الضرب وكذا قال الواحدي وقال الخطيب : هذا المعنى ثم قال ويحتمل معنى آخر وهو أن الهند سوّت بين السيفين فإذا ضربت بالسيف علم أن فضيلته في المضاء أعظم من فضيلة السيف المضروب به.

(٣) أراد أنهم من الحسد أخذوا يسامونه «فعل مشاركة من السموّ» في العطاء فبذلوا ولا جود عندهم فكان بذله بذلين بذل السماحة الصادر منه مباشرة وبذل هؤلاء البخلاء الذي صدر عنهم بسببه (رشيد).

(٤) البيتان في الديوان (ص ٤٩) من قصيدة قالها يمدح أبا العباس عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب مطلعها :

هنّ عوادي يوسف وصواحبه

فعزما فقدما أدرك السؤل طالبه

وعفت : أي درست. والمهايع : الطرق الواسعة البينة واللواحب : الجمع لاحب وهو الطريق الواضح.

(٥) البيت في الديوان (١ / ١٤١) يمدح المغيث بن علي بن بشر العجلي ، وشرح التبيان للعكبري (١ / ٨٣). والحلة : الثوب ، مطلوبا : تمييز والمعنى : يقول : من لين حديثها ورقتها وجمالها تطمع العاشق بنفسها فإذا طلب عزّ ذلك الطلب فهو صعب المنال لعفافها وصيانتها.

٣١٧

تبدو بعطفة مطمع حتّى إذا

شغل الخليّ ثنت بصدفة مؤيس (١)

وقول المتنبي : [من الكامل]

إذكار مثلك ترك إذكاري له

إذ لا تريد لما أريد مترجما (٢)

مع قول أبي تمام : [من الخفيف]

وإذا المجد كان عوني على المر

ء تقاضيته بترك التّقاضي (٣)

وقول أبي تمام : [من الكامل]

فنعمت من شمس إذا حجبت بدت

من خدرها فكأنّها لم تحجب (٤)

مع قول قيس بن الخطيم : [من المنسرح]

قضى لها الله حين صوّرها ال

خالق أن لا يكنّها سدف (٥)

وقول المتنبي : [من الخفيف]

راميات بأسهم ريشها الهد

ب تشقّ القلوب قبل الجلود (٦)

مع قول كثير : [من الطويل]

رمتني ريشه الكحل لم يجز

ظواهر جلدي وهو في القلب جارح (٧)

__________________

(١) الصّدوف : الميل عن الشيء ، صدف عنه يصدف صدفا وصدوفا : عدل.

(٢) البيت في شرح التبيان للعكبري (٢ / ٣٣٢) ، والمعنى : يقول مثلك إذا لم أذكره حاجتي فهو تذكار له لأنه يعلم ما يريد فلا يحتاج إلى من يترجم له عمّا في مرادي فترك أذكاره أذكار.

(٣) البيت في الديوان (ص ١٧٦) ، وجاء في شرح التبيان للعكبري (٢ / ٣٣٢) ، والبيت من قصيدة قالها يمدح أحمد بن أبي دؤاد ومطلعها :

بدّلت عبرة من الإيماض

يوم شدّوا الرحال بالأغراض

والإيماض : مسارقة النظر. والأغراض : أداة الرحل.

(٤) (الديوان ١ / ١٠١) يمدح طوق بن مالك بن طوق «من خدرها» وردت في الديوان «من نورها».

(٥) البيت في الأغاني (٣ / ٢٤) ، من أبيات قالها قيس بعد حرب قامت بين مالك بن العجلان وبني عمرو بن عوف. ومن هذه الأبيات :

ردّ الخليط الجمال فانصرفوا

ما ذا عليهم لو أنهم وقفوا

لو وقفوا ساعة نسائلهم

ريث يضحّي جماله السّلف

والسدف : الظلمة يقال أسدف الليل إذا أرخى ظلمته.

(٦) البيت في الديوان (١ / ٦٢) ، وراميات : نعت بدورا. الأسهم : يعني بها النظرات والعيون ، الهدب : الرمش ، شبهها بريش السهم في مؤخرته ، وهذه الأسهم تختلف عن غيرها بأنها تشق القلوب دون أن تخترق الجلود والصدور.

(٧) الديوان : (١٨٨).

٣١٨

وقول بعض شعراء الجاهلية ، ويعزى إلى لبيد : [من الكامل]

ودعوت ربّي بالسّلامة جاهدا

ليصحّني فإذا السّلامة داء (١)

مع قول أبي العتاهية : [من الرجز]

أسرع في نقص امرئ تمامه

تدبر في إقبالها أيّامه (٢)

وقوله : [من مجزوء الكامل]

أقلل زيارتك الحبي

ب تكون كالثّوب استجدّه

إنّ الصديق يملّه

أن لا يزال يراك عنده (٣)

مع قول أبي تمام : [من الطويل]

وطول مقام المرء في الحيّ مخلق

لديباجتيه فاغترب تتجدّد (٤)

وقول الخريميّ : [من الرمل]

زاد معروفك عندي عظما

أنّه عندك محقور صغير

تتناساه كأن لم تأته

وهو عند النّاس مشهور كبير (٥)

مع قول المتنبي : [من المنسرح]

تظنّ من فقدك اعتدادهم

أنّهم أنعموا وما علموا (٦)

__________________

(١) البيت للنمر بن تولب في ملحق ديوانه (ص ٤٠٠) وللبيد بن ربيعة في نهاية الأرب (٣ / ٧٠) ، ولعمرو بن قميئة في ملحق ديوانه (ص ٢٠٤) ، وزهر الآداب (١ / ٢٢٣) ، ولبعض شعراء الجاهلية في الكامل (١ / ٢٨٤) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٧٥) ، وكتاب الصناعتين (ص ٣٩) ط ١ دار الكتب العلمية. ويسبقه بيت يقول فيه :

كانت قناتي لا تلين لغامز

فألانها الإصباح والإمساء

(٢) (الديوان : ٢٣ مع اختلاف في روايته).

(٣) لم أقف عليهما في ديوان أبي العتاهية.

(٤) البيت في الديوان (ص ٩٨) ، من قصيدة له مطلعها :

غدت تستجير الدمع خوف نوى غد

وعاد قتادا عندها كلّ مرقد

والقتاد : شجر ذو شوك كالإبر. وهذه القصيدة يمدح فيها أبا سعيد محمد بن يوسف الطائي.

والديباجة من الديباج : ضرب من الثياب والجمع دبابيج وديابيج.

(٥) البيتان في الشعر والشعراء لابن قتيبة (٣٣) وشرح ديوان المتنبي للواحدي (١٥٢) ، مع اختلاف الرواية. الخريميّ هو : «أبو يعقوب : إسحاق بن حسان بن قوهي الأعور».

(٦) البيت في الديوان (١ / ١٣٩) ، والمعنى : أي عند ما تراهم لا يعتدّون بما يفعلون من جميل تعتقد أنهم لم يعلموا بصنيعهم للمعروف.

٣١٩

وقول البحتري : [من الوافر]

ألم تر للنّوائب كيف تسمو

إلى أهل النّوافل والفضول (١)

مع قول المتنبي : [من البسيط]

أفاضل النّاس أغراض لذا الزّمن

يخلو من الهمّ أخلاهم من الفطن (٢)

وقول المتنبي : [من الطويل]

تذلّل لها واخضع على القرب والنّوى

فما عاشق من لا يذلّ ويخضع (٣)

مع قول بعض المحدثين : [من مجزوء الكامل]

كن إذا أحببت عبدا

للّذي تهوى مطيعا

لن تنال الوصل حتّى

تلزم النّفس الخضوعا (٤)

وقول مضرّس بن ربعيّ : [من الطويل]

__________________

(١) (الديوان ١ / ٣١) يمدح الفتح بن خاقان.

(٢) البيت في الديوان (١ / ٢١٣) ، وفي شرح التبيان للعكبري (٢ / ٤٥٩) ، والبيت من قصيدة يمدح فيها أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الخطيب الخصيبي وهو يومئذ يتقلّد القضاء بأنطاكية. وهذا البيت هو مطلع هذه القصيدة. والأغراض : الأهداف والمفرد غرض ، والفطن : جمع فطنة وهي العقل والذكاء. والمعنى : يقول : الفضلاء من الناس أهداف للزمان يرميهم بنوائبه وصروفه ويقصدهم بالمحن فلا يزالون محزونين ، وإنما يخلو من الحزن والفكر من كان خاليا من الفطنة والبصيرة وهذا من أحسن الكلام وهو من كلام الحكيم ، قال الحكيم : على قدر الهم تكون الهموم وذلك أن العاقل يفكّر في عواقب الأمور فلا يزال مهموما وأمّا الجاهل فلا يفكر في شيء من هذا وقد أكثر الشعراء فيه ، قال ذو الأصبع :

أطاف بنا ريب الزمان فداسنا

له طائف بالصالحين بصير

وقال البحتري :

ألم تر للنوائب كيف تسمو

إلى أهل النوافل والفضول

(٣) البيت في الديوان (١ / ٧٤) ، وفي شرح التبيان للعكبري على ديوان المتنبي (١ / ٤٢٩).

والنوى : البعد. والمعنى : الزم الطاعة والانقياد في القرب والبعد وارض وسلم لفعلها فهذا من علامة الحب وقد أكثرت الشعراء من هذا المعنى فمنه قول أبي نواس :

سنة العشاق واحدة

فإذا أحببت فاستكن

وقوله :

كن إذا أحببت عبدا

للذي تهوى مطيعا

لن تنال الوصل حتى

تلزم النفس الخضوعا

(٤) البيتان أوردهما العكبري في شرحه لديوان المتنبي. وفي التبيان (١ / ٤٢٩) ، ونسبهما إلى أبي نواس.

٣٢٠