دلائل الإعجاز في علم المعاني

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

دلائل الإعجاز في علم المعاني

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0036-X
الصفحات: ٣٦٦

ديار ميّة إذ ميّ تساعفنا

ولا يرى مثلها عجم ولا عرب (١)

أنشده بنصب «ديار» ، على إضمار فعل ، كأنه قال : اذكر ديار ميّة.

ومن المواضع التي يطّرد فيها حذف المبتدأ ، «القطع والاستئناف» ، ويبدءون بذكر الرجل ، ويقدّمون بعض أمره ، ثم يدعون الكلام الأول ، ويستأنفون كلاما آخر. وإذا فعلوا ذلك ، أتوا في أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ مثال ذلك قوله : [من مجزوء الكامل]

وعلمت أني يوم ذا

ك منازل كعبا ونهدا

قوم إذا لبسوا الحدي

د تنمّروا حلقا وقدّا (٢)

وقوله : [من الوافر]

هم حلّوا من الشّرف المعلّى

ومن حسب العشيرة حيث شاءوا

بناة مكارم وأساة كلم

دماؤهم من الكلب الشّفاء (٣)

وقوله : [من الطويل]

رآني على ما بي عميلة فاشتكى

إلى ماله حالي أسرّ كما جهر

غلام رماه الله بالخير مقبلا

له سيمياء لا تشقّ على البصر (٤)

وقوله : [من الطويل]

__________________

(١) البيت لذي الرمة في ديوانه (١١) ، والكتاب لسيبويه (١ / ٢٨٠) ، والكامل للمبرد (٢ / ٣٤٧) ، وخزانة الأدب (٢ / ٣٦٥ ، ٢٣٩ ، ٣٤٠) ، والدرر (٣ / ٧) ، وشرح أبيات سيبويه ، ولسان العرب (عجم) ، ونوادر أبي زيد (٣٢) ، وهمع الهوامع (١ / ١٦٨). ميّة وميّ : اسم على مؤنث ، وهي المرأة التي تغزل بها ذو الرمة كثيرا. تساعفنا : تواتينا في مصافاة معاونة. العجم : خلاف العرب.

(٢) البيتان لعمرو بن معد يكرب في ديوانه المجموع. الحديد : يعني الدروع ، تنمّروا : كأنهم كالنمور في الحرب. القدّ : السير الذي يقدّ من الجلد ، والقدّ : سير يقدّ من جلد غير مدبوغ ، والجمع : أقدّ ، والقدّ : الجلد أيضا تخصف به النعال.

(٣) البيتان لأبي البرج القاسم بن جبل الذبياني ، شاعر إسلامي ، في مدح زفر بن أبي هاشم بن مسعود وهما في الإيضاح (٤١) ، ومفتاح العلوم (٢٧١) ، وشرح الحماسة (١٦٥٨) ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١ / ٥٥) ، والإشارات والتنبيهات (٣٧).

(٤) البيتان لابن عنقاء الفزاري ، يمدح عميلة حين قاسمه ماله ، والبيت الثاني في لسان العرب (سوم). السّيمياء : تأنيث سيما غير مجرى. الجوهري : السيمى مقصور من الواو ، قال تعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) وقد يجيء السّيما والسيميا ممدودين ، وجيده الشّعرى ، وفي وجهه : القمر له سيمياء لا تشقّ على البصر أي : يفرح به من ينظر إليه.

١٠١

إذا ذكر ابنا العنبريّة لم تضق

ذراعي ، وألقى باسته من أفاخر

هلالان ، حمّالان في كلّ شتوة

من الثقل ما لا تستطيع الأباعر (١)

«حمّالان» ، خبر ثان ، وليس بصفة ، كما يكون لو قلت مثلا : «رجلان حمّالان».

وممّا اعتيد فيه أن يجيء خبرا قد بني على مبتدأ محذوف ، قولهم بعد أن يذكروا الرجل : «فتى من صفته كذا» ، و «أغرّ من صفته كيت وكيت».

كقوله : [من الطويل]

ألا لا فتى بعد ابن ناشرة الفتى

ولا عرف إلا قد تولّى وأدبرا

فتى حنظليّ ما تزال ركابه

تجرد بمعروف وتنكر منكرا (٢)

وقوله : [من الطويل]

سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي

أيادي لم تمنن ، وإن هي جلّت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ،

ولا مظهر الشّكوى إذا النّعل زلّت (٣)

ومن ذلك قول جميل : [من البسيط]

وهل بثينة ، يا للناس ، قاضيتي

ديني؟ وفاعلة خيرا فأجزيها؟

ترنو بعيني مهاة أقصدت بهما

قلبي عشيّة ترميني وأرميها

هيفاء مقبلة ، عجزاء مدبرة ،

ريّا العظام ، بلا عيب يرى فيها

من الأوانس مكسال ، مبتّلة

خود ، غذاها بلين العيش غاذيها (٤)

__________________

(١) البيتان لموسى بن جابر الحنفي ، شرح الحماسة للتبريزي (١ / ١٩١) ، و «ألقى باسته من أفاخر» سقط على عجيزته من العجز ، وما يجد من الذلة والقلة ، وهلالان كالهلال في الشهرة والارتفاع. الشتوة : زمن الجدب في الشتاء.

(٢) البيتان لأبي حزابة الوليد بن حنيفة في رثاء عبد الله بن ناشرة ، أحد بني عامر بن زيد بن مناة بن تميم.

(٣) البيتان أوردهما محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٣٠٣) ، وهما لعبد الله بن الزبير الأسدي في مدح عثمان بن عفان ، وينسبان لأبي الأسود الدؤلي في مدح عمرو بن سعيد بن العاص ، وهما في ديوان إبراهيم بن العباس الصولي في الطرائف الأدبية (١٣٠) ، والإيضاح (٣٨ ، ٣٤٥) ، والتبيان للطيبي (١ / ١٤٧) ، ومفتاح العلوم (٢٦٦) ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١ / ٥٢) ، والإشارات والتنبيهات (٣٤ ، ٣٠٣). وأيادي بدل اشتمال من عمرو ، والتقدير : أيادي له ، وقوله : «إذا النعل زلت» كناية عن نزول الشر ، والشاهد في قوله «فتى» لأن التقدير : هو فتى ، والحذف فيه للاختصار.

(٤) الأبيات لجميل بثينة وردت في الديوان ما عدا البيت الأول. ديوان جميل (٢١٨).

١٠٢

وقوله أيضا : [من الكامل]

إنّي عشيّة رحت وهي حزينة

تشكو إليّ صبابة لصبور

وتقول : بت عندي ، فديتك ، ليلة

أشكو إليك ، فإنّ ذاك يسير

غرّاء مبسام ، كأنّ حديثها

درّ تحدّر نظمه منثور

محطوطة المتنين ، مضمرة الحشا ،

ريّا الرّوادف ، خلقها ممكور (١)

وقول الأقيشر (٢) في ابن عمّ له موسر ، سأله فمنعه وقال : كم أعطيك ما لي وأنت تنفقه فيما لا يغنيك؟ والله لا أعطيتك. فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم وهو فيهم ، فشكاه إلى القوم وذمّه ، فوثب إليه ابن عمه فلطمه ، فأنشأ يقول : [من الطويل]

سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه ،

وليس إلى داعي النّدى بسريع

حريص على الدّنيا ، مضيع لدينه ،

وليس لما في بيته بمضيع (٣)

فتأمّل الآن هذه الأبيات كلّها ، واستقرها واحدا واحدا ، وانظر إلى موقعها في نفسك ، وإلى ما تجده من اللّطف والظّرف إذا أنت مررت بموضع الحذف منها ، ثم فليت النّفس عمّا تجد ، وألطفت النظر فيما تحسّ به. ثم تكلّف أن تردّ ما حذف الشاعر ، وأن تخرجه إلى لفظك ، وتوقعه في سمعك ، فإنك تعلم أن الذي قلت كما قلت ، وأن ربّ حذف هو قلادة الجيد ، وقاعدة التّجويد ، وإن أردت ما هو أصدق في ذلك شهادة ، وأدلّ دلالة ، فانظر إلى قول عبد الله بن الزّبير يذكر غريما له قد ألحّ عليه : [من الطويل]

عرضت على زيد ليأخذ بعض ما

يحاوله قبل اعتراض الشّواغل

فدبّ دبيب البغل يألم ظهره

وقال : تعلّم ، إنّني غير فاعل

تثاءب حتّى قلت : داسع نفسه

وأخرج أنيابا له كالمعاول (٤)

__________________

(١) الأبيات لجميل بثينة ، وهي في الأغاني (٨ / ١٥٦) ، وقالها عند ما شكا زوج بثينة إلى أبيها وأخيها إلمام جميل بها ، فوجهوا إلى جميل فأعذروا إليه وشكوه إلى عشيرته وتوعدوه وإياهم فلامه أهله وعنّفوه وقالوا : استخلص إليهم ونبرأ منك ومن جريرتك فأقام مدة لا يلم بها فلقي ابني عمه وقا ومسعدة فشكا إليهما ما به وأنشدهما هذه الأبيات.

(٢) الأقيشر : هو المغيرة بن عبد الله بن معرض الأسدي عاصر الإسلام وتوفي في خلافة عبد الملك عام ٨٠ ه‍. انظر الأغاني (١ / ٢٥١).

(٣) البيتان في الإيضاح (٣٩) ، والمفتاح (٢٦٦) ، ولطائف التبيان (٤٥) ، والإشارات والتنبيهات : (٣٤) ، والخزانة (٢ / ٢٨١) ، ومعاهد التنصيص (٣ / ٢٤٢).

(٤) من مجموع شعره (١١٥) ، عن الأغاني (١٤ / ٢٤٠ ، ٢٤١) ، وغريم عبد الله يقال له : «ذئب» كما ذكر صاحب الأغاني.

١٠٣

الأصل : حتى قلت : «هو داسع نفسه» ، أي حسبته من شدة التثاؤب ، ومما به من الجهد ، يقذف نفسه من جوفه ، ويخرجها من صدره ، كما يدسع البعير جرّته (١). ثم إنّك ترى نصبة الكلام وهيئته تروم منك أن تنسى هذا المبتدأ ، وتباعده عن وهمك ، وتجتهد أن لا يدور في خلدك ، ولا يعرض لخاطرك ، وتراك كأنك تتوقّاه توقّي الشيء تكره مكانه ، والثقيل تخشى هجومه.

ومن لطيف الحذف قول بكر بن النّطّاح : [من السريع]

العين تبدي الحبّ والبغضا

وتظهر الإبرام والنّقضا

درّة ، ما أنصفتني في الهوى ،

ولا رحمت الجسد المنضى

غضبى ، ولا والله يا أهلها ،

لا أطعم البارد أو ترضى (٢)

يقوله في جارية كان يحبّها ، وسعي به إلى أهلها فمنعوها منه. والمقصود قوله «غضبى» ، وذلك أن التقدير «هي غضبى» أو «غضبى هي» لا محالة ، ألا ترى أنّك ترى النّفس كيف تتفادى من إظهار هذا المحذوف ، وكيف تأنس إلى إضماره؟ وترى الملاحة كيف تذهب إن أنت رمت التكلم به؟

ومن جيد الأمثلة في هذا الباب قول الآخر ، يخاطب امرأته وقد لامته على الجود : [من الكامل]

قالت سميّة : قد غويت ، بأن رأت

حقّا تناوب ما لنا ووفود

غيّ لعمرك لا أزال أعوده

ما دام مال عندنا «موجود»

المعنى : «ذاك غيّ لا أزال أعود إليه ، فدعي عنك لومي».

وإذ عرفت هذه الجملة من حال الحذف في المبتدأ ، فاعلم أن ذلك سبيله في كل شيء ، فما من اسم أو فعل تجده قد حذف ، ثمّ أصيب به موضعه ، وحذف في الحال ينبغي أن يحذف فيها ، إلّا وأنت تجد حذفه هناك أحسن من ذكره ، وترى إضماره في النفس أولى وآنس من النّطق به.

__________________

(١) جرّته : الجرة بالكسرة هيئة الجر وما يفيض به البعير فيأكله ثانية «القاموس : جرر» (٤٦٤). يدسع البعير بجرته : أي يعيد طعامه من جوفه ويمضغه مرة أخرى.

(٢) هذه الأبيات في الأغاني قالها بكر بن النطاح عند ما كان يهوى جارية من جواري القيان وتهواه ، وكانت لبعض الهاشميين يقال لها درة ، وهو يذكرها في شعره كثيرا ، وكان يجتمع معها في منزل رجل من الجند من أصحاب أبي دلف يقال له : الفرز ، فسعى به إلى مولاها وأعلمه أنه قد أفسدها وواطأها على أن تهرب معه إلى الجبل فمنعه من لقائها وحجبه عنها إلى أن خرج الكرج مع أبي دلف فقال بكر بن النطاح في ذلك هذه الأبيات. راجع الأغاني (١٩ / ١٢٥). المنضى : من النضو : المهزول.

١٠٤

وإذ قد بدأنا في الحذف بذكر المبتدأ ، وهو حذف اسم ، إذ لا يكون المبتدأ إلّا اسما ، فإني أتبع ذلك ذكر المفعول به إذا حذف خصوصا ، فإنّ الحاجة إليه أمسّ ، وهو بما نحن بصدده أخصّ ، واللطائف كأنها فيه أكثر ، وممّا يظهر بسببه من الحسن والرونق أعجب وأظهر.

وهاهنا أصل يجب ضبطه ، وهو أن حال الفعل مع المفعول الذي يتعدّى إليه ، حاله مع الفاعل. فكما أنك إذا قلت : «ضرب زيد» ، فأسندت الفعل إلى الفاعل ، كان غرضك من ذلك أن تثبت الضرب فعلا له ، لا أن تفيد وجوب الضرب في نفسه وعلى الإطلاق. كذلك ، إذا عدّيت الفعل إلى المفعول فقلت : «ضرب زيد عمرا» ، كان غرضك أن تفيد التباس الضّرب الواقع من الأول بالثاني ووقوعه عليه ، فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أنّ عمل الفعل فيهما إنما كان من أجل أن يعلم التباس المعنى الذي اشتقّ منه بهما ، فعمل الرفع في الفاعل ، ليعلم التباس الضرب به من جهة وقوعه منه ، والنّصب في المفعول ، ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه. ولم يكن ذلك ليعلم وقوع الضرب في نفسه ، بل إذا أريد الإخبار بوقوع الضّرب ووجوده في الجملة من غير أن ينسب إلى فاعل أو مفعول ، أو يتعرّض لبيان ذلك ، فالعبارة فيه أن يقال : «كان ضرب» أو «وقع ضرب» أو «وجد ضرب» وما شاكل ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرّد في الشيء.

وإذ قد عرفت هذه الجملة ، فاعلم أنّ أغراض الناس تختلف في ذكر الأفعال المتعدّية ، فهم يذكرونها تارة ومرادهم أن يقتصروا على إثبات المعاني التي اشتقّت منها للفاعلين ، من غير أن يتعرّضوا لذكر المفعولين. فإذا كان الأمر كذلك ، كان الفعل المتعدّي كغير المتعدّي مثلا ، في أنك لا ترى له مفعولا لا لفظا ولا تقديرا.

ومثال ذلك قول الناس : «فلان يحلّ ويعقد ، ويأمر وينهى ، ويضرّ وينفع» ، وكقولهم : «هو يعطي ويجزل ، ويقري ويضيف» ، المعنى في جميع ذلك على إثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق وعلى الجملة ، من غير أن يتعرّض لحديث المفعول ، حتى كأنك قلت : «صار إليه الحل والعقد ، وصار بحيث يكون منه حل وعقد ، وأمر ونهي ، وضرّ ونفع» ، وعلى هذا القياس.

وعلى ذلك قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] ، المعنى : هل يستوي من له علم ومن لا علم له؟ من غير أن يقصد النصّ على معلوم. وكذلك قوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [غافر : ٦٨] ، وقوله

١٠٥

تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) [القمر : ٤٣ ـ ٤٤] ، وقوله (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) [القمر : ٤٨] ، المعنى هو الذي منه الإحياء والإماتة والإغناء والإقناء. وهكذا كلّ موضع كان القصد فيه أن تثبت المعنى في نفسه فعلا للشيء ، وأن تخبر بأنّ من شأنه أن يكون منه ، أو لا يكون إلّا منه ، أو لا يكون منه ، فإن الفعل لا يعدّى هناك ، لأن تعديته تنقض الغرض وتغيّر المعنى. ألا ترى أنك إذا قلت : «هو يعطي الدنانير» ، كان المعنى على أنك قصدت أن تعلم السّامع أن الدنانير تدخل في عطائه ، أو أنه يعطيها خصوصا دون غيرها ، وكان غرضك على الجملة بيان جنس ما تناوله الإعطاء ، لا الإعطاء في نفسه ، ولم يكن كلامك مع من نفى أن يكون كان منه إعطاء بوجه من الوجوه بل مع من أثبت له إعطاء ، إلا أنه لم يثبت إعطاء الدّنانير. فاعرف ذلك ، فإنّه أصل كبير عظيم النفع.

فهذا قسم من خلوّ الفعل عن المفعول ، وهو أن لا يكون له مفعول يمكن النّصّ عليه.

وقسم ثان : وهو أن يكون له مفعول مقصود قصده معلوم ، إلّا أنه يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه. وينقسم إلى جليّ لا صنعة فيه ، وخفيّ تدخله الصنعة.

فمثال الجليّ قولهم : «أصغيت إليه» ، وهم يريدون «أذني» ، و «أغضيت عليه» ، والمعنى «جفني».

وأما الخفيّ الذى تدخله الصّنعة فيتفنّن ويتنوّع.

فنوع منه ، أن تذكر الفعل وفي نفسك له مفعول مخصوص قد علم مكانه ، إما لجري ذكر ، أو دليل حال ، إلا أنك تنسيه نفسك وتخفيه ، وتوهم أنك لم تذكر ذلك الفعل إلا لأن تثبت نفس معناه ، من غير إن تعدّيه إلى شيء أو تعرّض فيه لمفعول.

ومثاله قول البحتري : [من الخفيف]

شجو حسّاده وغيظ عداه

أن يرى مبصر ويسمع واع (١)

المعني ، لا محالة : أن يرى مبصر محاسنه ، ويسمع واع أخباره وأوصافه ، ولكنّك تعلم على ذلك أنه كأنّه يسرق علم ذلك من نفسه ، ويدفع صورته عن وهمه ،

__________________

(١) البيت في ديوانه ، وهو يمدح المعتز بالله بن المتوكل على الله ، ويعرض بالمستعين بالله بن المعتصم بالله من بني العباس. والبيت في التبيان (١٩١) ، والإيضاح (١١٠) ، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٨١).

١٠٦

ليحصل له معنى شريف وغرض خاصّ. وذاك أنه يمدح خليفة ، وهو المعتزّ ، ويعرّض بخليفة وهو المستعين ، فأراد أن يقول : إن محاسن المعتز وفضائله ، المحاسن والفضائل يكفي فيها أن يقع عليها بصر ويعيها سمع حتّى يعلم أنه المستحق للخلافة ، والفرد الوحيد الذي ليس لأحد أن ينازعه مرتبتها ، فأنت ترى حسّاده وليس شيء أشجى لهم وأغيظ ، من علمهم بأن هاهنا مبصرا يرى وسامعا يعي ، حتى ليتمنّون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها ، وأذن يعي معها ، كي يخفى مكان استحقاقه لشرف الإمامة ، فيجدوا بذلك سبيلا إلى منازعته إيّاها.

وهذا نوع آخر منه ، وهو أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قصده ، قد علم أنه ليس للفعل الذي ذكرت مفعول سواه ، بدليل الحال أو ما سبق من الكلام ، إلا أنك تطرحه وتتناساه وتدعه يلزم ضمير النفس ، لغرض غير الذي مضى. وذلك الغرض أن تتوفّر العناية على إثبات الفعل للفاعل ، وتخلص له ، وتنصرف بجملتها وكما هي إليه.

ومثاله قول عمرو بن معد يكرب : [من الطويل]

فلو أنّ قومي أنطقتني رماحهم

نطقت ولكنّ الرّماح أجرّت (١)

«أجرّت» فعل متعدّ ، ومعلوم أنه لو عدّاه لما عدّاه إلّا إلى ضمير المتكلم نحو : «ولكن الرّماح أجرّتني» ، وأنه لا يتصوّر أن يكون هاهنا شيء آخر يتعدّى إليه ، لاستحالة أن يقول : «فلو أن قومي أنطقتني رماحهم» ، ثم يقول : «ولكن الرماح أجرّت غيري» ، إلا أنك تجد المعنى يلزمك أن لا تنطق بهذا المفعول ولا تخرجه إلى لفظك. والسبب في ذلك أن تعديتك له توهم ما هو خلاف الغرض ، وذلك أن الغرض هو أن يثبت أنه كان من الرماح إجرار وحبس للألسن عن النطق ، وأن يصحّح وجود ذلك. ولو قال : «أجرّتني» ، وجاز أن يتوهم أنه لم يعن بأن يثبت للرماح إجرارا ، بل الذي عناه أن يبيّن أنها أجرته. فقد يذكر الفعل كثيرا والغرض منه ذكر المفعول ، مثاله أنك تقول : «أضربت زيدا؟» وأنت لا تنكر أن يكون كان من المخاطب ضرب ، وإنّما تنكر أن يكون وقع الضرب منه على زيد ، وأن يستجيز ذلك أو يستطيعه. فلما كان في تعدية «أجرّت» ما يوهم ذلك ، وقف فلم يعدّ البتة ، ولم ينطق بالمفعول ، لتخلص العناية لإثبات الإجرار للرّماح وتصحيح أنه كان منها ، وتسلم بكليتها لذلك.

__________________

(١) عمر بن معد يكرب الزبيدي اليمني شاعر مخضرم ، والبيت أورده القزويني في الإيضاح (١١٠).

١٠٧

ومثله قول جرير : [من الطويل]

أمنّيت المنى وخلبت حتّى

تركت ضمير قلبي مستهاما (١)

الغرض أن يثبت أنه كان منها تمنية وخلابة ، وأن يقول لها : أهكذا تصنعين؟ وهذه حيلتك في فتنة الناس؟

ومن بارع ذلك ونادره ، ما تجده في هذه الأبيات. روى المرزبانيّ في «كتاب الشعر» بإسناد ، قال : لما تشاغل أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه بأهل الرّدة ، استبطأته الأنصار فكلّموه ، فقال : إمّا كلّفتموني أخلاق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فو الله ما ذاك عندي ولا عند أحد من الناس ، ولكنّي والله ما أوتى من مودّة لكم ولا حسن رأي فيكم ، وكيف لا نحبّكم؟ فو الله ما وجدت مثلا لنا ولكم إلّا ما قال طفيل الغنويّ لبني جعفر ابن كلاب : [من الطويل]

جزى الله عنّا جعفرا حين أزلقت

بنا نعلنا في الواطئين فزلّت

أبوا أن يملّونا ، ولو أنّ أمّنا

تلاقي الّذي لاقوه منّا لملّت

هم خلطونا بالنّفوس وألجئوا

إلى حجرات أدفأت وأظلّت (٢)

فيها حذف مفعول مقصود قصده في أربعة مواضع قوله : «لملّت» ، و «ألجئوا» و «أدفأت» و «أظلّت» ، لأن الأصل : «لملّتنا» و «ألجئونا إلى حجرات أدفأتنا وأظلّتنا» ، إلّا أنّ الحال على ما ذكرت لك ، من أنه في حدّ المتناسى ، حتى كأن لا قصد إلى مفعول ، وكأن الفعل قد أبهم أمره فلم يقصد به قصد شيء يقع عليه ، كما يكون إذا قلت : «قد ملّ فلان» ، تريد أن تقول : قد دخله الملال ، من غير أن تخصّ شيئا ، بل لا تزيد على أن تجعل الملال من صفته ، وكما تقول : «هذا بيت يدفئ ويظلّ» ، تريد أنه بهذه الصفة.

واعلم أن لك في قوله : «أجرّت» ، و «لملّت» ، فائدة أخرى زائدة على ما ذكرت من توفير العناية على إثبات الفعل ، وهي أن تقول : كان من سوء بلاء القوم ومن تكذيبهم عن القتال (٣) ما يجرّ مثله ، وما القضية فيه أنه لا يتّفق على قوم إلّا خرس شاعرهم فلم يستطع نطقا ، وتعديتك الفعل تمنع من هذا المعنى ، لأنك إذا قلت :

__________________

(١) البيت في ديوانه (٣٧٩) ، وقبله :

ترى صديان مشرعة شفاء

فحام وليس واردها وحاما

(٢) الأبيات في الأغاني (١٥ / ٣٥٦) ، لطفيل الغنوي ، والإيضاح (١١٠ ، ١١١).

(٣) تكذيبهم عن القتال كذب عن أمر أراده أحجم عنه. القاموس : / كذب / (١٦٦).

١٠٨

«ولكن الرماح أجرتني» ، لم يمكن أن يتأوّل على معنى أنه كان منها ما شأن مثله أن يجرّ ، قضية مستمرة في كل شاعر قوم ، بل قد يجوز أن يوجد مثله في قوم آخرين فلا يجرّ شاعرهم. ونظيره أنك تقول : «قد كان منك ما يؤلم» ، تريد ما الشّرط في مثله أن يؤلم كل أحد وكلّ إنسان. ولو قلت : «ما يؤلمني» لم يفد ذلك ، لأنه قد يجوز أن يؤلمك الشيء لا يؤلم غيرك.

وهكذا قوله : «ولو أنّ أمّنا تلاقي الذي لاقوه منا لملّت» ، يتضمن أنّ من حكم مثله في كل أمّ أن تملّ وتسأم ، وأن المشقة في ذلك إلى حدّ يعلم أن الأمّ تملّ له الابن وتتبرّم به ، مع ما في طباع الأمّهات من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد. وذلك أنه وإن قال : «أمّنا» ، فإن المعنى على أن ذلك حكم كلّ أمّ مع أولادها. ولو قلت : «لملّتنا» ، لم يحتمل ذلك ، لأنه يجري مجرى أن تقول : «لو لقيت أمّنا ذلك لدخلها ما يملّها منا» ، وإذا قلت «ما يملها منا» فقيّدت ، لم يصلح لأن يراد به معنى العموم وأنّه بحيث يملّ كلّ أمّ من كل ابن.

وكذلك قوله : «إلى حجرات أدفأت وأظلّت» ، لأن فيه معنى قولك : «حجرات من شأن مثلها أن تدفئ وتظلّ» ، أي : هي بالصفة التي إذا كان البيت عليها أدفأ وأظلّ. ولا يجيء هذا المعنى مع إظهار المفعول ؛ إذ لا تقول : «حجرات من شأن مثلها أن تدفئنا وتظلنا» ، هذا لغو من الكلام.

فاعرف هذه النّكتة ، فإنك تجدها في كثير من هذا الفنّ مضمومة إلى المعنى الآخر ، الذي هو توفير العناية على إثبات الفعل ، والدلالة على أنّ القصد من ذكر الفعل أن تثبته لفاعله ، لا أن تعلم التباسه بمفعوله.

وإن أردت أن تزداد تبيّنا لهذا الأصل ، أعني وجوب أن تسقط المفعول لتتوفّر العناية على إثبات الفعل لفاعله ولا يدخلها شوب ، فانظر إلى قوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) [القصص : ٢٣ ـ ٢٤] ، ففيها حذف مفعول في أربعة مواضع ، إذ المعنى : «وجد عليه أمة من الناس يسقون» أغنامهم أو مواشيهم ، و «امرأتين تذودان» غنمهما و «قالتا لا نسقي» غنمنا ، «فسقى لهما» غنمهما.

ثمّ إنه لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كلّه إلا أن يترك ذكره ويؤتى

١٠٩

بالفعل مطلقا ، وما ذاك إلّا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي ، ومن المرأتين ذود ، وأنهما قالتا : لا يكون منّا سقي حتى يصدر الرعاء ، وأنه كان من موسى عليه‌السلام من بعد ذلك سقي. فأمّا ما كان المسقيّ؟ أغنما أم إبلا أم غير ذلك ، فخارج عن الغرض ، وموهم خلافه. وذاك أنه لو قيل : «وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما» ، جاز أن يكون لم ينكر الذّود من حيث هو ذود ، بل من حيث هو ذود غنم ، حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذّود ، كما أنك إذا قلت : «مالك تمنع أخاك؟» ، كنت منكرا المنع ، لا من حيث هو منع ، بل من حيث هو منع أخ ، فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول في هذا النحو من الرّوعة والحسن ما وجدت ، إلّا لأن في حذفه وترك ذكره فائدة جليلة ، وأن الغرض لا يصحّ إلّا على تركه.

وممّا هو كأنه نوع آخر غير ما مضى ، قول البحتري : [من الطويل]

إذا بعدت أبلت ، وإن قربت شفت ،

فهجرانها يبلي ، ولقيانها يشفي (١)

قد علم أن المعنى : إذا بعدت عني أبلتني ، وإن قربت مني شفتني إلا أنك تجد الشعر يأبى ذكر ذلك ، ويوجب اطّراحه. وذاك لأنه أرد أن يجعل البلى كأنه واجب في بعادها أن يوجبه ويجلبه ، كأنه كالطبيعة فيه ، وكذلك حال الشّفاء مع القرب ، حتى كأنّه قال : أتدري ما بعادها؟ هو الداء المضني ، وما قربها؟ هو الشفاء والبرء من كل داء. ولا سبيل لك إلى هذه اللطيفة وهذه النكتة ، إلا بحذف المفعول البتّة ، فاعرفه.

وليس لنتائج هذا الحذف ، أعني حذف المفعول ، نهاية ، فإنه طريق إلى ضروب من الصنعة ، وإلى لطائف لا تحصى.

وهذا نوع منه آخر : اعلم أن هاهنا بابا من الإضمار والحذف يسمى «الإضمار على شريطة التفسير» ، وذلك مثل قولهم : «أكرمني وأكرمت عبد الله» ، أردت : «أكرمني عبد الله وأكرمت عبد الله» ، ثم تركت ذكره في الأول استغناء بذكره في الثاني. فهذا طريق معروف ومذهب ظاهر ، وشيء لا يعبأ به ، ويظنّ أنه ليس فيه أكثر مما تريك الأمثلة المذكورة منه. وفيه ـ إذا أنت طلبت الشيء من معدنه ـ من دقيق الصّنعة ومن جليل الفائدة ، ما لا تجده إلا في كلام الفحول.

__________________

(١) البيت في ديوانه ، وأمام البيت حاشية أخرى ، كأنها أيضا منقولة من حواشي نسخة عبد القاهر التي نسخ عنها كاتب «ج» وهذا نص الحاشية : هذا مبنيّ على أن هذه المرأة من الحسن والجمال بحيث لا يراها أحد إلا عشيقها ، وكان حاله معها هذه الحالة. وهذا المعنى هو ما افتتح به المتنبي :

أتراها لكثرة العشاق

تحسب الدمع خلقة في المآقي

[شاكر].

١١٠

فمن لطيف ذلك ونادره قول البحتري : [من الكامل]

لو شئت لم تفسد سماحة حاتم

كرما ، ولم تهدم مآثر خالد (١)

الأصل لا محالة : لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها ، ثم حذف ذلك من الأوّل استغناء بدلالته في الثاني عليه ، ثمّ هو على ما تراه وتعلمه من الحسن والغرابة ، وهو على ما ذكرت لك من أن الواجب في حكم البلاغة أن لا ينطق بالمحذوف ولا يظهر إلى اللفظ. فليس يخفى أنك لو رجعت فيه إلى ما هو أصله فقلت : «لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها» ، صرت إلى كلام غثّ ، وإلى شيء يمجّه السمع ، وتعافه النفس. وذلك أن في البيان ، إذا ورد بعد الإبهام وبعد التحريك له ، أبدا لطفا ونبلا لا يكون إذا لم يتقدّم ما يحرّك.

وأنت إذا قلت : «لو شئت» ، علم السّامع أنك قد علّقت هذه المشيئة في المعنى بشيء ، فهو يضع في نفسه أنّ هاهنا شيئا تقتضي مشيئته له أن يكون أو أن لا يكون. فإذا قلت : «لم تفسد سماحة حاتم» ، عرف ذلك الشيء ، ومجيء «المشيئة» بعد «لو» وبعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معدّاة إلى شيء ، كثير شائع ، كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [الأنعام : ٣٥] ، و (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [النحل : ٩] ، والتقدير في ذلك كله على ما ذكرت. فالأصل : لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم ، ولو شاء أن يهديكم أجمعين لهداكم ، إلا أن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفا.

وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن ، وذلك نحو قول الشاعر : [من الطويل]

ولو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ، ولكن ساحة البصر أوسع (٢)

فقياس هذا لو كان على حدّ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [الأنعام : ٣٥] أن يقول : «لو شئت بكيت دما» ، ولكنه كأنه ترك تلك الطريقة وعدل إلى

__________________

(١) البيت في ديوانه. السماحة : الكرم. حاتم : هو الطائي المعروف. خالد : هو ابن أصمع النبهاني الذي نزل عليه امرؤ القيس. والبيت في الإيضاح (١١٢).

(٢) البيت للخريمي ، أبو يعقوب إسحاق بن حسان شاعر عباسي من الموالي ، والبيت من قصيدة يرثي بها أبا الهيذام عامر بن عمارة بن خريم أمير عرب الشام ، وقائد المضرية في الفتنة بين القيسية واليمنية أيام الرشيد ، وهو في الإيضاح (١١٢) ، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات والتنبيهات (٨٢) ، وذكر تمام البيت :

عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

١١١

هذه ، لأنها أحسن في هذا الكلام خصوصا. وسبب حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دما. فلما كان كذلك ، كان الأولى أن يصرّح بذكره ليقرّره في نفس السامع ويؤنسه به.

وإذا استقريت وجدت الأمر كذلك أبدا متى كان مفعول «المشيئة» أمرا عظيما ، أو بديعا غريبا ، كان الأحسن أن يذكر ولا يذكر ولا يضمر. يقول الرجل بخبر عن عزّة : «لو شئت أن أردّ على الأمير رددت» و «لو شئت أن ألقى الخليفة كلّ يوم لقيت». فإذا لم يكن مما يكبره السامع ، فالحذف كقولك : «لو شئت خرجت» ، و «لو شئت قمت» ، و «لو شئت أنصفت» ، و «لو شئت لقلت» ، وفي التنزيل : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال : ٣١] ، وكذا تقول : «لو شئت كنت كزيد» ، قال : [من البسيط]

لو شئت كنت ككرز في عبادته

أو كابن طارق حول البيت والحرم (١)

وكذلك الحكم في غيره من حروف المجازاة أن تقول : «إن شئت قلت» و «إن أردت دفعت» ، قال الله تعالى (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) [الشورى : ٢٤] ، وقال عزّ اسمه : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأنعام : ٣٩] ، ونظائر ذلك من الآي ، ترى الحذف فيها المستمرّ.

ومما يعلم أن ليس فيه لغير الحذف وجه قول طرفه : [من الطويل]

وإن شئت لم ترقل ، وإن شئت أرقلت

مخافة ملويّ من القّدّ محصد (٢)

وقول حميد : [من الطويل]

__________________

(١) من شعر عبد الله بن شبرمة القاضي الفقيه ، يقوله لابن هبيرة ويذكر فيه : «كرز بن وبرة الحارثي الجرجاني العابد ، ومحمد بن طارق» قال ابن شبرمة لما سمع ابن هبيرة الشعر قال له : من كرز؟ ومن ابن طارق؟ قال : فقلت له : أما كرز فكان إذا كان في سفر واتخذ الناس منزلا اتخذ هو منزلا للصلاة ، وأما ابن طارق : فلو اكتفى أحد بالتراب كفاه كف من تراب ، وكان كرز يختم القرآن في كل يوم وليلة ثلاث ختمات ، وكان محمد بن طارق يطوف في كل يوم وليلة سبعين أسبوعا كان يقدّر طوافه في اليوم عشرة فراسخ. والبيت في حلية الأولياء (٥ / ٨١ ـ ٨٢) ، وفي ترجمة كرز بن وبرة الحارثي ، وبعده :

قد حال دون لذيذ العيش حدهما

وشمّرا في طلاب الفوز والكرم

(٢) البيت في ديوانه (٣١) ، وفي شرح المعلقات العشر (٧٣) ، وهو من معلقته. الإرقال : دون العدو وفوق السير.

١١٢

إذا شئت غنّتني بأجزاع بيشة

أو الزّرق من تثليث أو بيلملما

مطوّقة ورقاء تسجع كلّما

دنا الصّيف وانجاب الرّبيع فأنجما (١)

وقول البحتريّ : [من الطويل]

إذا شاء غادى صرمة ، أو غدا على

عقائل سرب ، أو تقنّص ربربا (٢)

وقوله : [من الكامل]

لو شئت عدت بلاد نجد عودة ،

فحللت بين عقيقه وزروده (٣)

معلوم أنك لو قلت : «وإن شئت أن لا ترقل لم ترقل» ، أو قلت : «إذا شئت أن تغنّيني بأجزاع بيشة غنّتني» ، و «إذا شاء أن يغادي صرمة غادى» ، و «لو شئت أن تعود بلاد نجد عودة عدتها» أذهبت الماء والرّونق ، وخرجت إلى كلام غثّ ، ولفظ رثّ.

ـ وأمّا قول الجوهريّ : [من الطويل]

فلم يبق منّي الشّوق غير تفكّري ،

فلو شئت أن أبكي بكيت تفكّرا (٤)

فقد نحا به نحو قوله : «ولو شئت أن أبكي دما لبكيته» ، فأظهر مفعول «شئت» ، ولم يقل : «فلو شئت بكيت تفكرا» ، لأجل أن له غرضا لا يتمّ إلّا بذكر المفعول. وذلك أنه لم يرد أن يقول : «ولو شئت أن أبكى تفكّرا بكيت كذلك» ، ولكنه أراد أن يقول : قد أفناني النحول ، فلم يبق منّي وفيّ غير خواطر تجول ، حتى لو شئت بكاء فمريت (٥) شئوني ، وعصر عيني ليسيل منها دمع لم أجده ، ولخرج بدل الدمع التّفكّر. فالبكاء الذي أراد إيقاع المشيئة عليه مطلق مبهم غير معدّى إلى «التفكر» البتة ، و «البكاء» الثاني مقيّد معدّى إلى التفكر. وإذا كان الأمر كذلك ،

__________________

(١) البيتان في ديوانه ، وهما في الأغاني (٤ / ٣٤٩) ، ويروى البيت الأول في الأغاني : «من يلملما» بدل «أو بيلملما». الأجزاع : جمع جزعة ، وهي الرملة الطيبة المنبت لا وعوثة فيها. بيشة : اسم قرية غناء في واد كثير الأهل من بلاد اليمن. التثليث : موضع بالحجاز قرب مكة.

(٢) البيت في ديوانه. الصّرمة : القطعة من الإبل قيل : هي ما بين العشرين إلى الثلاثين ، وقيل : هي ما بين الثلاثين إلى الخمسين والأربعين ، فإذا بلغت الستين فهي الصّدعة ، وقيل : هي ما بين عشرة إلى بضع عشرة. وعقائل السرب : كرائمه ، الربرب : قطيع البقر الوحشي.

(٣) البيت للبحتري في ديوانه ، وهو في مفتاح العلوم (٣٣٤) ، والإيضاح (١١١). العقيق وزرود : موضعان ، والمخاطب في البيت السحاب.

(٤) الجوهري : هو أبو الحسن علي بن أحمد الجوهري الجرجاني من شعراء الصاحب بن عباد.

(٥) مريت : مرى الناقة يمريها مسح ضرعها فأمرت هي در لبنها «القاموس : مرى» (١٧١٩).

١١٣

صار الثاني كأنّه شيء غير الأوّل ، وجرى مجرى أن تقول : «لو شئت أن تعطي درهما أعطيت درهمين» ، في أن الثاني لا يصلح أن يكون تفسيرا للأوّل.

واعلم أن هذا الذي ذكرنا ليس بصريح : «أكرمت وأكرمني عبد الله» ، ولكنه شبيه به في أنه إنّما حذف الذي حذف من مفعول «المشيئة» و «الإرادة» ، لأنه الذي يأتي في جواب «لو» وأخواتها يدلّ عليه.

وإذا أردت ما هو صريح في ذلك ، ثمّ هو نادر لطيف ينطوي على معنى دقيق وفائدة جليلة ، فانظر إلى بيت البحتري : [من الخفيف]

قد طلبنا فلم نجد لك في السّؤ

دد والمجد والمكارم مثلا (١)

المعنى : قد طلبنا لك مثلا ؛ ثم حذف ، لأن ذكره في الثاني يدلّ عليه ، ثمّ إنّ للمجيء به كذلك من الحسن والمزيّة والرّوعة ما لا يخفى. ولو أنه قال : «قد طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلا فلم نجده» ، لم تر من هذا الحسن الذي تراه شيئا. وسبب ذلك أن الذي هو الأصل في المدح والغرض بالحقيقة ، هو نفي الوجود عن «المثل» ، فأما «الطّلب» ، فكالشيء يذكر ليبنى عليه الغرض ويؤكّد به أمره. وإذا كان هذا كذلك ، فلو أنه قال : «قد طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلا فلم نجده» ، لكان يكون قد ترك أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ «المثل» ، وأوقعه على ضميره. ولن تبلغ الكناية مبلغ التّصريح أبدا.

ويبيّن هذا ، كلام ذكره أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان والتبيين (٢) ، وأنا أكتب لك الفصل حتى تستبين الذي هو المراد ، قال :

«والسّنة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطب ويقصّر المجيب ، ألا ترى أن قيس ابن خارجة بن سنان لمّا ضرب بسيفه مؤخرة راحلة الحاملين في شأن حمالة داحس والغبراء وقال : ما لي فيها أيّها العشمتان (٣)؟ قالا : بل ما عندك؟ قال : عندي قرى كلّ نازل ، ورضى كلّ ساخط ، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب ، آمر فيها بالتواصل ، وأنهى فيها عن التقاطع قالوا : فخطب يوما إلى الليل ، فما أعاد كلمة ولا معنى. فقيل لأبي يعقوب (٤) : هلّا اكتفى بالأمر بالتواصل ، عن النهي عن التقاطع؟ أو

__________________

(١) قاله البحتري في مدح المعتز. اه الديوان (١ / ١٥٦).

(٢) انظر النص في البيان والتبيين ١ / ١١٦.

(٣) العشمة الشيخ الفاني ا. ه القاموس : / عشم / (١٤٦٩).

(٤) وهو الشاعر الخريم الذي تقدم ذكره.

١١٤

ليس الأمر بالصّلة هو النّهي عن القطيعة؟ قل : أو ما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف» (١).

انتهى الفصل الذي أردت أن أكتبه. فقد بصّرك هذا أن لن يكون إيقاع نفي الوجود على صريح لفظ المثل ، كإيقاعه على ضميره.

وإذ قد عرفت هذا ، فإنّ هذا المعنى بعينه قد أوجب في بيت ذي الرّمة أن يضع اللفظ على عكس ما وضعه البحتري (٢) ، فيعمل الأول من الفعلين ، وذلك قوله : [من الوافر]

ولم أمدح لأرضيه بشعري

لئيما ، أن يكون أصاب مالا (٣)

أعمل «لم أمدح» ، الذي هو الأول ، في صريح لفظ «اللئيم» ، و «أرضى» ، الذي هو الثاني ، في ضميره. وذلك لأن إيقاع نفي المدح على اللّئيم صريحا ، والمجيء به مكشوفا ظاهرا ، هو الواجب من حيث كان أصل الغرض ، وكان الإرضاء تعليلا له. ولو أنه قال : «ولم أمدح لأرضي بشعري لئيما» ، لكان يكون قد أبهم الأمر فيما هو الأصل ، وأبانه فيما ليس بالأصل ، فاعرفه.

ولهذا الذي ذكرنا من أن للتّصريح عملا لا يكون مثل ذلك العمل للكناية ، كان لإعادة اللفظ في مثل قوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء : ١٠٥] ، وقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص : ١ ـ ٢] ، من الحسن والبهجة ، ومن الفخامة والنّبل ، ما لا يخفى موضعه على بصير. وكان لو ترك فيه الإظهار إلى الإضمار فقيل : «وبالحق أنزلناه وبه نزل» : و «قل هو الله أحد هو الصمد» لعدمت الذي أنت واجده الآن.

__________________

(١) في البيان والتبيين الكشف.

(٢) المقصود به البيت السابق.

(٣) البيت لذي الرمة في ديوانه (٢٠٠) ، ورواية الديوان هي :

ولست بمادح أبدا لئيما

بشعري أن يكون أفاد مالا

والبيت من قصيدة يمدح فيها بلال بن أبي بردة ، وهو في الإيضاح (١١٣) ، والمراد أنه لا يمدح اللئام من الناس ولو كانوا أثرياء.

١١٥

فصل

[في تحليل مثال آخر للحذف]

قد بان الآن واتّضح لما نظر نظر المتثبّت ـ الحصيف الراغب في اقتداح زناد العقل ، والازدياد من الفضل ، ومن شأنه التوق إلى أن يعرف الأشياء على حقائقها ، ويتغلغل إلى دقائقها ، ويربأ بنفسه عن مرتبة المقلّد الذي يجري مع الظاهر ، ولا يعدو الذي يقع في أوّل الخاطر ـ أنّ الذي قلت في شأن «الحذف» وفي تفخيم أمره ، والتنويه بذكره ، وأنّ مأخذه مأخذ يشبه السحر ، ويبهر الفكر ، كالذي قلت.

وهذا فنّ آخر من معانيه عجيب ، وأنا ذاكره لك. قال البحتري في قصيدته التي أولها : [من الطويل]

أعن سفه يوم الأبيرق أم حلم (١)

وهو يذكر محاماة الممدوح عليه ، صيانته له ، ودفعه نوائب الزمان عنه : [من الطويل]

وكم ذدت عنّي من تحامل حادث

وسورة أيّام حززن إلى العظم (٢)

الأصل لا محالة : حززن اللّحم إلى العظم ، إلّا أنّ في مجيئه به محذوفا ، وإسقاطه له من النّطق ، وتركه في الضمير ، مزيّة عجيبة وفائدة جليلة.

وذاك أن من حذق الشاعر أن يوقع المعنى في نفس السامع إيقاعا يمنعه به من أن يتوهّم في بدء الأمر شيئا غير المراد ، ثم ينصرف إلى المراد. ومعلوم أنه لو أظهر المفعول فقال : «وسورة أيام حززن اللحم إلى العظم» ، لجاز أن يقع في وهم السامع إلى أن يجيء إلى قوله : «إلى العظم» ، أن هذا الحزّ كان في بعض اللحم دون كله ، وأنه قطع ما يلي الجلد ولم ينته إلى ما يلي العظم. فلما كان كذلك ، ترك ذكر «اللحم» وأسقطه من اللفظ ، ليبرئ السامع من هذا الوهم ، ويجعله بحيث يقع المعنى منه في أنف (٣) الفهم ، ويتصوّر في نفسه من أوّل الأمر أن الحزّ مضى في اللحم حتى لم يردّه إلّا العظم.

__________________

(١) هو صدر بيت وعجزه : «وقوف بربع أو بكاء على رسم» قاله البحتري وهو يمدح أبا الصقر إسماعيل بن بلبل الشيباني ا. ه الديوان (١ / ١٩٠).

(٢) البيت للبحتري في ديوانه ، وأورده القزويني في الإيضاح (١١٢) ، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٨٢) ، والمخاطب في البيت أبو الصقر ممدوح البحتري.

(٣) الأنف من كل شيء أوله أو أشهره. القاموس : / أنف / (١٠٢٥).

١١٦

أفيكون دليل أوضح من هذا وأبين وأجلى في صحة ما ذكرت لك ، من أنك قد ترى ترك الذّكر أفصح من الذكر ، والامتناع من أن يبرز اللفظ من الضمير ، أحسن للتصوير؟

فصل

القول على فروق في الخبر

أوّل ما ينبغي أن يعلم منه أنّه ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة لا تتمّ الفائدة دونه ، وخبر ليس بجزء من الجملة ، ولكنه زيادة في خبر آخر سابق له. فالأوّل خبر المبتدأ ، كمنطلق في قولك : «زيد منطلق» ، والفعل كقولك : «خرج زيد» ، فكل واحد من هذين جزء من الجملة ، وهو الأصل في الفائدة.

والثاني هو الحال : كقولك : «جاءني زيد راكبا» ، وذاك لأن الحال خبر في الحقيقة ، ومن حيث أنك تثبت بها المعنى لذي الحال ، كما تثبت بخبر المبتدأ للمبتدإ ، وبالفعل للفاعل. ألا تراك قد أثبتّ «الركوب» في قولك : «جاءني زيد راكبا» لزيد؟ إلّا أنّ الفرق أنّك جئت به لتزيد معنى في إخبارك عنه بالمجيء ، وهو أن تجعله بهذه الهيئة في مجيئه ، ولم تجرّد إثباتك للركوب ولم تباشره به ، بل ابتدأت فأثبتّ المجيء ، ثم وصلت به الركوب ، فالتبس به الإثبات على سبيل التّبع للمجيء ، وبشرط أن يكون في صلته. وأما في الخبر المطلق نحو : «زيد منطلق» و «خرج عمرو» ، فإنك مثبت للمعنى إثباتا جرّدته له ، وجعلته يباشر من غير واسطة ، ومن غير أن تتسبّب بغيره إليه ، فاعرفه.

وإذ قد عرفت هذا الفرق ، فالذي يليه من فروق الخبر ، هو الفرق بين الإثبات إذا كان بالاسم ، وبينه إذا كان بالفعل. وهو فرق لطيف تمسّ الحاجة في علم البلاغة إليه.

وبيانه ، أن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدّده شيئا بعد شيء.

وأما الفعل فموضوعه على أنّه يقتضي تجدّد المعنى المثبت به شيئا بعد شيء.

فإذا قلت : «زيد منطلق» ، فقد أثبتّ الانطلاق فعلا له ، من غير أن تجعله يتجدّد ويحدث منه شيئا فشيئا ، بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك : «زيد طويل» ، و «عمرو قصير» : فكما لا تقصد هاهنا إلى أن تجعل الطول أو القصر يتجدّد

١١٧

ويحدث ، بل توجبهما وتثبتهما فقط ، وتقضي بوجودهما على الإطلاق ، كذلك لا تتعرض في قولك : «زيد منطلق» لأكثر من إثباته لزيد.

وأما الفعل ، فإنه يقصد فيه إلى ذلك. فإذا قلت : «زيد ها هو ذا ينطلق» ، فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءا فجزءا ، وجعلته يزاوله ويزجّيه.

وإن شئت أن تحسّ الفرق بينهما من حيث يلطف ، فتأمل هذا البيت : [من البسيط]

لا يألف الدّرهم المضروب خرقتنا ،

لكن يمرّ عليها وهو منطلق (١)

هذا هو الحسن اللائق بالمعنى ، ولو قلته بالفعل : «لكن يمر عليها وهو ينطلق» ، لم يحسن.

وإذا أردت أن تعتبره حيث لا يخفى أنّ أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه ، فانظر إلى قوله تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الكهف : ١٨] ، فإن أحدا لا يشك في امتناع الفعل هاهنا ، وأن قولنا : «كلبهم يبسط ذراعيه» ، لا يؤدّي الغرض. وليس ذلك إلا لأنّ الفعل يقتضي مزاولة وتجدّد الصفة في الوقت ، ويقتضي الاسم ثبوت الصّفة وحصولها من غير أن يكون هناك مزاولة وتزجية فعل ، ومعنى يحدث شيئا فشيئا. ولا فرق بين «وكلبهم باسط» ، وبين أن يقول : «وكلبهم واحد» مثلا ، في أنك لا تثبت مزاولة ، ولا تجعل الكلب يفعل شيئا ، بل تثبته بصفة هو عليها. فالغرض إذن تأدية هيئة الكلب.

ومتى اعتبرت الحال في الصّفات المشبهة وجدت الفرق ظاهرا بينا ، ولم يعترضك الشك في أنّ أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه. فإذا قلت : «زيد طويل» ، و «عمرو قصير» : لم يصلح مكانه «يطول» و «يقصر» ، وإنما تقول : «يطول» و «يقصر» ، إذا كان الحديث عن شيء يزيد وينمو كالشجر والنبات والصبيّ ونحو ذلك ، مما يتجدّد فيه الطول أو يحدث فيه القصر. فأمّا وأنت تحدّث عن هيئة ثابتة ، وعن شيء قد استقرّ طوله ، ولم يكن ثمّ تزايد وتجدد ، فلا يصلح فيه إلا الاسم.

وإذا ثبت الفرق بين الشيء والشيء في مواضع كثيرة ، وظهر الأمر ، بأن ترى أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه ، وجب أن تقضي بثبوت الفرق حيث ترى

__________________

(١) البيت للنصر بن جؤيّة في الإشارات (٦٥) ، ومعاهد التنصيص (١ / ٢٠٧) ، وشرح الواحدي على ديوان المتنبي (١٥٧) ، والإيضاح (٩٥).

١١٨

أحدهما قد صلح في مكان الآخر ، وتعلم أنّ المعنى مع أحدهما غيره مع الآخر ، كما هو العبرة في حمل الخفيّ على الجليّ. وينعكس لك هذا الحكم ، أعني أنّك كما وجدت الاسم يقع حيث لا يصلح الفعل مكانه ، كذلك تجد الفعل يقع ثمّ لا يصلح الاسم مكانه ، ولا يؤدّي ما كان يؤدّيه.

فمن البيّن في ذلك قول الأعشى : [من الطويل]

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة

إلى ضوء نار في يفاع تحرّق

تشبّ لمقرورين يصطليانها

وبات على النّار النّدى والمحلّق (١)

معلوم أنه لو قيل : «إلى ضوء نار متحرّقة» ، لنبا عنه الطبع وأنكرته النفس ، ثم لا يكون ذاك النبوّ وذاك الإنكار من أجل القافية وأنها تفسد به ، بل من جهة أنه لا يشبه الغرض ولا يليق بالحال.

وكذلك قوله : [من الكامل]

أوكلّما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم (٢)

وذلك لأن المعنى في بيت الأعشى على أنّ هناك موقدا يتجدّد منه الإلهاب والإشعال حالا فحالا ، وإذا قيل : «متحرقة» ، كان المعنى أن هناك نارا قد ثبتت لها وفيها هذه الصفة ، وجرى مجرى أن يقال : «إلى ضوء نار عظيمة» في أنه لا يفيد فعلا يفعل وكذلك الحال في قوله : «بعثوا إليّ عريفهم يتوسم» ، وذلك لأن المعنى على توسّم وتأمّل ونظر يتجدّد من العريف هناك حالا فحالا وتصفّح منه الوجوه واحدا بعد واحد : ولو قيل : «بعثوا إليّ عريفهم متوسّما» ، لم يفد ذلك حقّ الإفادة.

__________________

(١) البيتان في ديوانه (١٤٩ ، ١٥٠) ، وقبلهما :

لمحقوقة أن تستجيبي لصوته

وأن تعلمي أن المعان موفّق

ولا بد من جار يجيز سبيلها

كما جوّز السّكّي في الباب فيتق

اليفاع : مرتفع من الأرض.

(٢) البيت لطريف العنبري ، وهو طريف بن تميم العنبري أبو عمرو شاعر مقل ، جاهلي قتله أحد بني شيبان ، وكان يسمى : «ملقي القناع» لأنه أول من ألقى القناع بعكاظ. والبيت في الأصمعيات (١١٧) ، والإيضاح (٩٥) ، والإشارات والتنبيهات (٦٥) ، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١ / ١٠٦). وعكاظ : أكبر أسواق العرب في الجاهلية ، وعريف القوم : رئيسهم أو القيّم بأمرهم ، يريد أنهم يبعثون إليه عريفهم من أجل شهرته وعظمته.

١١٩

ومن ذلك قوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [فاطر : ٣] ، لو قيل : «هل من خالق غير الله رازق لكم» ، لكان المعنى غير ما أريد.

ولا ينبغي أن يغرّك أنّا إذا تكلّمنا في مسائل المبتدأ والخبر قدّرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم ، كما نقول ، في «زيد يقوم» ، إنه في موضع «زيد قائم» ، فإن ذلك لا يقتضي أن يستوي المعنى فيهما استواء لا يكون من بعده افتراق ، فإنهما لو استويا هذا الاستواء ، لم يكن أحدهما فعلا والآخر اسما ، بل كان ينبغي أن يكونا جميعا فعلين ، أو يكونا اسمين.

ومن فروق الإثبات أنك تقول : «زيد منطلق» و «زيد المنطلق» ، «المنطلق زيد» ، فيكون لك في كل واحد من هذه الأحوال غرض خاص وفائدة لا تكون في الباقي. وأنا أفسّر لك ذلك.

اعلم أنك إذا قلت : «زيد منطلق» ، كان كلامك مع من لم يعلم أن انطلاقا كان ، لا من زيد ولا من عمرو ، فأنت تفيده ذلك ابتداء.

وإذا قلت : «زيد المنطلق» كان كلامك مع من عرف أن انطلاقا كان ، إما من زيد وإما من عمرو ، فأنت تعلمه أنه كان من زيد دون غيره.

والنكتة أنك تثبت في الأول الذي هو قولك : «زيد منطلق» فعلا لم يعلم السامع من أصله أنه كان ، وتثبت في الثاني الذي هو «زيد المنطلق» فعلا قد علم السامع أنه كان ، ولكنه لم يعلمه لزيد ، فأفدته ذلك. فقد وافق الأوّل في المعنى الذي له كان الخبر خبرا ، وهو إثبات المعنى للشيء. وليس يقدح في ذلك أنّك كنت قد علمت أن انطلاقا كان من أحد الرجلين ، لأنّك إذا لم تصل إلى القطع على أنه كان من زيد دون عمرو ، وكان حالك في الحاجة إلى من يثبته لزيد ، كحالك إذا لم تعلم أنه كان من أصله.

وتمام التحقيق أنّ هذا كلام يكون معك إذا كنت قد بلّغت أنه كان من إنسان انطلاق من موضع كذا في وقت كذا لغرض كذا ، فجوّزت أن يكون ذلك كان من زيد. فإذا قيل لك : «زيد المنطلق» ، صار الذي كان معلوما على جهة الجواز ، معلوما على جهة الوجوب. ثم إنهم إذا أرادوا تأكيد هذا الوجوب أدخلوا الضمير المسمّى «فصلا» بين الجزءين فقالوا : «زيد هو المنطلق».

ومن الفرق بين المسألتين ، وهو مما تمسّ الحاجة إلى معرفته ، أنك إذا نكّرت

١٢٠