سرّ صناعة الإعراب - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

سرّ صناعة الإعراب - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-2702-0
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

ماء غور (١) ، ورجل عدل ، ثم صار التقدير : مررت بالرجل الفضل والعلاء ، ثم نقلته إلى العلم وفيه اللام ، فأقررتها فيه على أنه الشيء بعينه ، كما قال الخليل (٢) في الحارث والعباس.

وقد يجوز في العزّى أن تكون تأنيث الأعزّ بمنزلة الفضلى من الأفضل ، والكبرى من الأكبر ، والصغرى من الأصغر ، فإذا كان ذلك كذلك فاللام في العزّى ليست بزائدة ، بل هي فيها على حدّ اللام في الحارث والعبّاس والخليل. والوجه هو القول الأول وأن تكون زائدة ، لأنّا لم نسمع في الصفات العزّى كما سمعنا فيها الصغرى والكبرى.

فإن قلت : فإنا لم نسمعهم أيضا قالوا : رجل علاء ، ولا : مررت بالرجل العلاء ، وقد أجزت أنت أن تكون بمنزلة رجل عدل وفطر فإذا أجزت اعتقاد الصفة بالمصدر الذي ليس بصفة على الحقيقة ، وإنما هو واقع موقع الصفة الصريحة ، فأنت باعتقاد العزّى أن تكون صفة محضة جارية على الموصوف لأنها من أمثلة الصفات نحو الفضلى ، والكوسى ، والحسنى أجدر.

فالجواب أن اعتقاد الوصف في المصادر وإن لم تجر أوصافا مستعملة في اللفظ أجدر من اعتقاد مثال الصفة وصفا إذا لم يجر به استعمال ، وذلك أن المصدر ليس في الأصل مما سبيله أن يوصف به ، وإنما جرى في بعض المواضع وصفا على أحد أمرين : إما على اعتقاد حذف المضاف ، وإما على جعل الموصوف الذي هو جوهر عرضا للمبالغة ، ولو لا اعتقاد أحد هذين المعنيين لما جاز وصف الجوهر بالمصدر الذي هو عرض ؛ لأن حكم الوصف أن يكون وفق الموصوف ، وإذا كان الأمر كذلك فغير منكر أن يعتقد في ترك إجرائهم المصدر وصفا أنه إنما فعل به ذلك لأنه ليس مما سبيله في الحقيقة أن يوصف به ، ولذلك قلّ الوصف به في اللفظ ، واستنكر ، فغير خطأ أن يعتقد وصفا في المعنى وإن لم يخرج الوصف به إلى اللفظ ، والصفات الصريحة ليست كذلك لأنها مما حكمه وسبيله أن يستعمل في اللفظ صفة كما يستعمل في المعنى ، فترك إجرائهم الصفة الصريحة صفة في اللفظ يدل على أنهم قد هجروها صفة في المعنى ،

__________________

(١) ماء غور : أي ماء غائر ، والغور : كل منخفض من الأرض ، والغور من كل شيء قعره وعمقه.

(٢) قال الخليل : حكى ذلك عنه سيبويه في الكتاب (١ / ٢٦٧).

٤١

إذ لو كانت مقدرة في المعنى صفة للزوم خروجها على ذلك إلى اللفظ إذ ليس إجراء الصفة في اللفظ صفة مستكرها. وأما المصدر فجريانه وصفا في اللفظ فيه استكراه ، فغير منكر أن يمتنع منه في اللفظ ويعتقد في المعنى. وإنما جاز اعتقاده في المعنى وإن لم يكن الوصف بالمصدر في قوّة الوصف بصريح الصفة ، لأنه وإن كان كذلك فهو على كل حال جائز مستعمل في بعض المواضع ، فاعرف ذلك إن شاء الله.

ونظير هذا الذي أريتك قول سيبويه (١) في عدة إذا سميت به رجلا أن تقول : عدات ، وعدون ، فتجيز جمعه بالتاء ، وبالواو والنون ، ولا يمتنع من ذلك فيه وإن كان قبل التسمية به لم يجمع ، وإنما جاز فيه الجمع بالتاء ، وبالواو والنون بعد التسمية به وإن لم يكن ذلك جائزا ولا مسموعا فيه قبل التسمية من قبل أنه كان قبل التسمية مصدرا ، والمصادر يقلّ الجمع فيها ، فلما سمي به خرج عن مذهب المصدر إلى الاسمية ، فلحق بسنة وعضة ، فجرى عليه ما يجري عليهما من جواز الجمع لأنهما ليسا مصدرين.

أفلا ترى إلى سيبويه (٢) كيف احتج لترك جمعهم عدة وهي مصدر بأن المصادر يضعف جمعها ، فيقبح في اللفظ ، فكذلك أيضا يضعف في القياس أن تجري المصادر أوصافا إلا على ضرب من التأول. فلما ضعف ذلك فيها في القياس قلّ استعمالهم إياها في اللفظ أوصافا ، وحصل فيه بعض الاستكراه ، فلذلك لم يسمع عنهم : مررت بالرجل العلاء لضعف جريان المصادر أوصافا في القياس ، فمن هنا جفا ذلك في اللفظ وإن كان قد يجوز تخيّله على ضرب من التوسع في المعنى.

فأما العزّى فمن أمثلة الأوصاف بمنزلة الصغرى والكبرى ، فلو اعتقدوا الوصف بها لما منع من خروجها إلى اللفظ صفة مانع ، فمن هنا ضعف أن تكون العزّى صفة وتأنيث الأعزّ ، وإذا لم تكن صفة فاللام فيها زائدة كما قال أبو الحسن.

__________________

(١) ذكر ذلك سيبويه في الكتاب (٢ / ٩٩).

(٢) قال في الكتاب (٢ / ٩٩): «وأما عدة فلا تجمعه إلا عدات ، لأنه ليس شيء مثل عدة كصّر للجمع ، ولكنك إن شئت قلت عدون إن صارت اسما كما قلت : لدون». وقال : في (٢ / ٢٠٠) «واعلم أنه ليس كل جمع يجمع كما أنه ليس كل مصدر يجمع كالأشغال والعقول والحلوم والألباب ، ألا ترى أنك لا تجمع الفكر والعلم والنظر».

٤٢

فهذا ما اقتضاه الوارد إليّ عنهم في باب العزّى إذ كنت لم أسمعها وصفا ، فإن وجدتها قد استعملت وصفا في شعر قديم ، أو حكاها بعض الثقات في كتابه أنها صفة ، وأنها تأنيث الأعزّ بمنزلة الفضلى من الأفضل ، والكبرى من الأكبر ، والصغرى من الأصغر ، فاللام فيها بمنزلة اللام في العباس والخليل ونحو ذلك ، وليست بزائدة على ما ذكر أبو الحسن ، على أنه رحمه الله كان من سعة الرواية بحيث لا ينستر (١) عليه حال هذه اللفظة ، ولو علم أنها قد استعملت صفة لما قطع بزيادة اللام ، ولما ألحقها باللات.

فأما اللات فلا إشكال (٢) مع ما قدمناه من كونها غير صفة أن اللام فيها زائدة ، وكذلك اللام فيها أيضا في قراءة من قرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ) (النجم : ١٩) (٣) ، بكسر التاء ، لأنها أيضا ليست بصفة.

فأما اللام في الاثنين من قولك : اليوم الاثنان فليست بزائدة وإن لم يكن الاثنان صفة. قال أبو العباس : وإنما جاز دخول اللام عليه لأن فيه تقدير الوصف ، ألا ترى أن معناه اليوم الثاني ، وكذلك أيضا اللام في الأحد ، والثّلاثاء ، والأربعاء ونحوها ، لأن تقديرها : الواحد ، والثالث ، والرابع ، والخامس ، والجامع ، والسابت ، والسّبت : القطع.

وقيل : إنه سمي بذلك لأن الله جلّ وعز خلق السموات والأرض في ستة أيام أولها الأحد ، وآخرها الجمعة ، فأصبحت يوم السبت منسبتة ، أي : قد تمّت وانقطع العمل فيها.

وقيل : سمي بذلك لأن اليهود كانوا ينقطعون فيه عن تصرفهم ، ففي كلا القولين معنى الصفة موجود فيه.

__________________

(١) لا ينستر : أسلوب نفي يدل على سعة علم أبي الحسن رحمه الله.

(٢) إشكال : الأمر يوجد التباسا في الفهم. القاموس المحيط (٣ / ٣٨٩).

(٣) قال الأخفش في معاني القرآن (ص ١١) : وسمعنا من العرب من يقول : «أفرأيتم اللات والعزّى» ويقول : هي اللات فاعلم ، قال ذلك فجعلها تاء في السكوت ، و : «هي اللات فاعلم ، جرّ في موضع الرفع والنصب».

٤٣

فأما ما أنشدناه أبو علي عن أبي عثمان (١) :

حتى إذا كانا هما اللّذين

مثل الجديلين المحملجين (٢)

فإنه إنما شبّه الذي بـ «من» و «ما» فحذف صلتها ، ووصفها كما يفعل ذلك بـ «من» و «ما» ويجيء هذا في قول البغداديين على أنه وصلها بمثل لأنهم يجرونها مجرى الظرف.

ومن زيادة اللام ما أخبرني به أبو علي (٣) أن أبا الحسن حكى عنهم : الخمسة العشر درهما ، فاللام في العشر لا تخلو من أن تكون للتعريف ، أو زائدة ، فلا يجوز أن تكون للتعريف لأن خمسة عشر اسمان في الأصل جعلا كالاسم الواحد ، وقد تعرّف الاسم من أوله باللام في الخمسة ، ومحال أن يتعرف الاسم من جهتين وبلامين ، فثبت أن اللام في العشر زيادة. إلا أنها ليست لازمة لزومها في الآن والذي ونحو ذلك.

ومن ذلك ما أخبرني به أبو علي (٤) ، قال : أخبرني أبو بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان ، قال : سألت الأصمعي عن قول الشاعر :

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر (٥)

لم أدخل اللام في الأوبر؟

__________________

(١) البيت وجدناه في شرح المفصل دون أن ينسبه. انظر / شرح المفصل (٣ / ١٥٣).

(٢) الجديل : الزمام. لسان العرب (١١ / ١٠٣). المحملج : المحكم الفتل. اللسان (٢ / ٢٤٠) يقول الشاعر حتى إذا كان مثل الزمام المحكم الفتل. والشاهد فيه : تشبيه الذي بـ «من» و «ما» في حذف صلتها. رغم أنه وصلها بمثل.

(٣) ذكر ذلك صاحب المقتضب (٢ / ١٧٣).

(٤) ذكر ذلك أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان.

(٥) جنيتك : أي جنيت لك. أكمؤا : جمع كمء بزنة فلس ، وتجمع الكمء على كمأة أيضا ، فيكون المفرد خاليا من التاء وهي في جمعه على عكس تمرة وتمر ، وهذا من نوادر اللغة. عساقلا : جمع عسقول بزنة عصفور وهو ضرب من الكمأة أبيض اللون (ج) عساقل ، وعساقيل بنات الأوبر : حيوان من ذوات الحوافر في حجم الأرنب ، قصير الذنب ، يحرك فكه السفلي كأنه يجتر ، ويكثر في لبنان.

٤٤

فقال : أدخله زيادة للضرورة كقول الآخر (١) :

باعد أمّ العمرو من أسيرها

حرّاس أبواب على قصورها (٢)

وجائز أيضا أن يكون أوبر نكرة ، فعرّفه باللام كما حكى سيبويه أن عرسا من ابن عرس قد نكّره بعضهم ، فقال : هذا ابن عرس مقبل (٣) ، ولو قال مقبلا ما صحت هذه المسألة.

وأنشدنا أبو علي ، عن أحمد بن يحيى ، عن ابن الأعرابي :

يا ليت أمّ العمرو كانت صاحبي

مكان من أنشى على الركائب (٤)

يريد : أمّ عمرو.

وقال الآخر :

__________________

وقال أبو حنيفة الدينوري : بنات أوبر : كمأة صغيرة كأمثال الحصى وهي رديئة الطعم. انظر / شرح ابن عقيل (١ / ١٨١). الشاهد في البيت زيادة الألف واللام في العلم اضطرارا ، في قوله «بنات الأوبر» ذلك أن العلم لا تدخله (ال) فرارا من اجتماع معرفين وهما العلمية وأل. إعراب الشاهد : بنات : اسم مجرور بحرف الجر عن وهو مضاف. الأوبر : مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة الجر الكسرة.

(١) أي الذي قال البيت وقد نسبه صاحب شرح المفصل إلى أبي النجم العجلي.

(٢) البيت كما ذكرنا نسبه صاحب شرح المفصل إلى أبي النجم العجلي. الشاهد في البيت : دخول لام التعريف على عمرو وهي زيادة للضرورة.

(٣) ذكر ذلك سيبويه في الكتاب.

(٤) البيت ذكره صاحب المنصف دون أن ينسبه ، وذكره صاحب اللسان في مادة (ربع) دون أن ينسبه أيضا. لسان العرب (٨ / ١٠٢). أنشى : أي أشم من انتشى الرائحة أو الريح أي شمها. الركائب : الإبل المركوبة أو الحاملة شيئا ، أو التي يراد الحمل عليها. الشاهد في البيت : إضافة لام التعريف إلى العلم ، وهو من الضرورة في قوله (أم العمرو) ويقصد أم عمرو.

٤٥

يقول المجتلون عروس تيم

شوى أمّ الحبين ورأس فيل (١)

يريد : أمّ حبين ، وهي معرفة ، واللام فيها زائدة.

فأما قولهم في المنية شعوب بغير لام ، والشّعوب بلام فقد يمكن أن يكون صفة في الأصل لأنه من أمثلة الصفات بمنزلة قتول وصبور وضروب ، وإذا كان كذلك فاللام فيها بمنزلتها في العبّاس والشّمردل (٢) والحسن والحارث.

ويؤكد هذا عندك أنهم قالوا في اشتقاقها : إنها سميت شعوب لأنها تشعب أي تفرّق ، وهذا المعنى يؤكد مذهب الوصفية فيها ، وهذا أقوى في نفسي من أن تجعل اللام زائدة ، ومن قال شعوب بلا لام فقد خلصت عنده اسما صريحا ، وعرّاها في اللفظ من مذهب الصفة ، فلذلك لم يلحقها اللام كما فعل ذلك من قال عبّاس وسعيد وحارث وحسن إلا أن روائح الصفة فيه على كل حال وإن لم تكن فيه لام.

ألا ترى أن أبا علي حكى عن أبي زيد (٣) أنهم يسمّون الخبز جابر بن حبّة ، وإنما سمّوه بذلك لأنه يجبر الجائع ، فقد ترى معنى الصفة فيه وإن لم تدخله اللام.

ومن ذلك أيضا قولهم واسط ، قال سيبويه (٤) : «سمّوه واسطا لأنه وسط ما بين العراق والبصرة» فمعنى الصفة فيه قائم وإن لم يكن في لفظه لام.

واعلم أن لام المعرفة قد أدخلت في بعض المواضع على الفعل المضارع لمضارعة اللام لـ «الذي».

قرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد (٥) :

__________________

(١) شوى : أطراف الجسم. لسان العرب (١٤ / ٤٤٧). المجتلون : الذين يجلون العروس ، اجتليت العروس : نظرت إليها مجلوة. أم حبين : دويبة عريضة الصدر عظيمة البطن ، وقيل هي أنثى الحرباء. الشاهد فيه زيادة اللام في حبين فأصبحت أم الحبين. والبيت ذكره صاحب اللسان في مادة (ح ب ن) ونسبه إلى جرير مع تغير الشوى إلى سوى.

(٢) الشمردل : القوي السريع الفتى الحسن الخلق.

(٣) هو رأي أبي زيد ذكره في النوادر. انظر / النوادر (ص ٦٠٢ ـ ٦٠٣).

(٤) قال ذلك في الكتاب (٢ / ٢٣).

(٥) نسب البيت في نوادر أبي زيد إلى ذي الخرق الطهوي (ص ٢٧).

٤٦

فيستخرج اليربوع من نافقائه

ومن بيته ذي الشّيحة اليتقصّع (١)

أي : الذي يتقصّع فيه.

يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا

إلى ربّه صوت الحمار اليجدّع (٢)

أي : الذي يجدّع.

وحكى الفراء أن رجلا أقبل ، فقال آخر : ها هو ذا ، فقال السامع : نعم الها هو ذا ، فأدخل اللام على الجملة المركبة من المبتدأ والخبر تشبيها لها بالجملة المركبة من الفعل والفعال. فهذه أحكام لام التعريف ، وما علمت أحدا من أصحابنا رحمهم الله وصل من كشف أسرارها إلى هذه المواضع التي شرحتها وأوضحتها ، نسأل الله عز وجل المعونة ، ونستمده التوفيق.

وأما لام الابتداء فمن خواص الأسماء (٣) ، وهي مفتوحة مع المظهر والمضمر ، تقول : لزيد أفضل من عمرو ، ولأنت أكرم من محمد ، ورأيت بعض متأخري البغداديين وقد صنّف كتابا سمّاه كتاب اللامات ، ثم قسّمها فيها كذا وكذا قسما ، فقال

__________________

(١) البيت نسبه صاحب النوادر إلى ذي الخرق الطهوي. اليربوع : حيوان من الفصيلة اليربوعية صغير على هيئة الجرذ الصغير وله ذنب طويل ينتهي بخصلة من الشعر. وهو قصير اليدين طويل. نافقائه : قال ابن الأعرابي : قصعة اليربوع أن يحفر حفيرة ثم يسد بابها بترابها ويسمى ذلك التراب الداماء ، ثم يحفر حفرا آخر يقال له النافقاء والنفقة والنّفق فلا ينفذها ولكنه يحفرها حتى ترق فإذا أخذ عليه بقاصعائه عدا إلى النافقاء فضربها برأسه ومرق منها ، وتراب النفقة يقال له : الراهطاء. لسان العرب (١٠ / ٣٥٨ ـ ٣٥٩). مادة / نفق. الشيحة : نبات سهلي يتخذ من بعضه المكانس ، وهو نبات من الفصيلة المركبة رائحته طيبة قوية (ج) شيحان. لسان العرب (٢ / ٥٠٢). الشاهد في البيت : دخول لام المعرفة على المضارع لمضارع اللام لـ «الذي» في قوله اليتقصع ، وهي (ال+ يتقصع) ، فمنزلة لام التعريف في دخولها على الفعل بمنزلة الذي.

(٢) الخنا : الفحش من الكلام. لسان العرب (١٤ / ٢٤٤). العجم : جمع أعجم وعجماء ، وهو الحيوان الذي لا ينطق. لسان العرب (١٢ / ٣٨٩٠). وحمار مجدع : مقطوع الأذنين. لسان العرب (٨ / ٤١).

(٣) أي مما يميزها وتختص به دون غيرها.

٤٧

في بعض تلك الأقسام : ومنها لام التفضيل كقوله تعالى ذكره : (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) (يوسف : ٨) (١) ، وقد كان هذا الرجل في غناء عن هذه السّمة لهذه اللام ، لأنها لام الابتداء كيف شاءت فلتقع من تفضيل أو نقص أو مدح أو ذم أو تقريب أو تبعيد أو تكبير أو تصغير ونحو ذلك من وجوه الكلام ، وإذا كان هذا الرجل قد وسم لام قوله تعالى : (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا)(٢) بلام التفضيل ، فقد كان من الواجب عليه على ما عقده على نفسه أن يسمّي اللام في قول قيس بن الخطيم (٣) :

ظأرناكم بالبيض حتى لأنتم

أذلّ من السّقبان بين الحلائب (٤)

بلام النقص والتحقير لأنها موجودة في أول الجملة المستفاد من أحد جزأيها معنى النقص والتحقير كما وسمها في آية يوسف عليه السّلام بلام التفضيل لّما وجدت في الجملة المستفاد من أحد جزأيها معنى التفضيل. وأن يسمّي اللام في قوله عز اسمه : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) (البقرة : ٢٤٣) (٥) بلام التطول والإنعام ، لأنها قد وجدت في جملة مستفاد من أحد جزأيها معنى الإنعام.

__________________

(١) الشاهد فيه اللام في قوله تعالى : (ل+ يوسف) فهي لام تفضيل ، وهو ما يتعارض مع رأي ابن جني.

(٢) سبق شرح الشاهد فيها.

(٣) عثرنا على البيت في ديوانه ص ٤٦.

(٤) ظأرناكم : ظأرني على الأمر : راودني. لسان العرب (٤ / ٥١٦) مادة / ظأر. البيض : (م) أبيض وهو النقي العرض من الدنس والعيوب. القاموس (٢ / ٣٢٥). السقبان : (م) سقب وهو ولد الناقة ، وقيل الذكر من ولد الناقة. القاموس (١ / ٨٢). الحلائب : (م) الحلوب وهي ذات اللبن. القاموس المحيط (١ / ٥٧). البيت كما ذكرنا من ديوان قيس بن الخطيم. الشاهد في البيت : الاختلاف حول اللام في قوله (لأنتم) حيث يرى ابن جني أنه لو اتبع فيها تقسيم الزجاجي وهو أحد النحاة البغدادين في كتابه (اللامات) لأصبحت اللام هنا لام النقص والتحقير في قوله (لأنتم).

(٥) أسلوب إنشائي في صورة توكيد. الشاهد فيه العلة في عدم اعتبار اللام لام التطول والإنعام.

٤٨

وهذا أوسع من أن يحصى ، ولم تكن به حاجة إلى هذا التشعّب الذي يقوده إلى هذا الإلزام. وفي هذا الكتاب الذي ذكرته لهذا الرجل أشياء من هذا النحو تركت إيرادها لوضوح أمرها ، ولأن كتابنا هذا ليس مشروطا فيه إصلاح أغفال (١) كتاب أحد ، وإنما ربّما اعترض الكلام شيء ، فذكرناه لاتصاله بما يكون فيه.

واعلم أن لام الابتداء موضعها من الكلام الاسم المبتدأ نحو : لزيد كريم ، ولمحمد عاقل ، ولأنت أشجع من أسامة ، ولا تدخل هذه اللام في الخبر إلا على أحد وجهين كلاهما ضرورة إلا أن إحدى الضرورتين مقيس عليها ، والأخرى مرجوع إلى السماع فيها :

الأولى : أن تدخل هذه اللام على الجملة التي في أولها إنّ المثقّلة المحقّقة ، فيلزم تأخير اللام إلى الخبر ، وذلك قولك : إنّ زيدا لمنطلق ، فأصل هذا : إنّ زيدا منطلق ، ثم جاءت اللام ، فصار التقدير : لإنّ زيدا منطلق ، فلما اجتمع حرفان لمعنى واحد ، وهو التحقيق والتوكيد ، كره اجتماعهما ، فأخّرت اللام إلى الخبر ، فصار الكلام : إنّ زيدا لمنطلق.

واعلم أن هذا الشرح قد اشتمل على ثلاثة أشياء ينبغي أن يسأل عنها ، وهي : أنّ اللام في المرتبة قبل إنّ ، وتقدير الكلام : لإنّ زيدا منطلق ، وأنه ليس المرتبة أن تكون اللام بعد إنّ نحو إنّ لزيدا منطلق.

والثاني : لم لّما اجتمع حرفان للتوكيد فصل بينهما ، وهلا كان اجتماعهما أبلغ وأوكد؟

والثالث : لم لّما وجب الفصل بينهما أخّرت اللام إلى الخبر دون إنّ؟

فالذي يدل على أنّ اللام في المرتبة قبل إنّ ثلاثة أشياء :

الأول : أن العرب قد نطقت بهذا نطقا ، وذلك مع إبدال الهمزة هاء في نحو قولهم : لهنّك قائم ، إنما أصلها : لإنّك قائم ، ولكنهم أبدلوا الهمزة هاء كما أبدلت هاء في نحو : هيّاك ، وهرقت الماء ، فلما زال لفظ الهمزة ، وحلّت مكانها الهاء صارت ذلك مسهّلا للجمع بينهما إذ حلّت الهاء محل الهمزة ، فزال لفظ إنّ ،

__________________

(١) أي تركه وسها عنه. مادة (غ ف ل). لسان العرب (١١ / ٤٩٧).

٤٩

فصارت كأنها حرف آخر ، قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن ، أو قرئ عليه وأنا حاضر عن أحمد بن يحيى ، وحدثنا به عن أبي العباس محمد بن يزيد المبرد محمد بن سلمة (١) :

ألا يا سنا برق على قلل الحمى

لهنّك من برق عليّ كريم (٢)

فهذا أقوى دليل على أن مرتبة اللام قبل إنّ ، وبه رأيت شيخنا أبا علي يستدل (٣).

والدليل الثاني : أنّ «إنّ» وما عملت فيه جميعا في موضع اسم مرفوع بالابتداء بدلالة قوله عز وجل : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (التوبة : ٢) (٤) ، وعلى هذا قالوا (٥) :

 ...

فإني وقيّار بها لغريب (٦)

__________________

(١) ذكر ابن منظور البيت في مادة (لهن) دون أن ينسبه ، بينما نسبه صاحب الخزانة إلى أحد غلمان بني كلاب. لسان العرب (١٣ / ٣٩٣).

(٢) سنا : ضوء. القاموس (٤ / ٣٤٤). قلل : (ج) قلة وهي القمة. القاموس (٤ / ٤٠). وقوله : «يا سنا ...» أسلوب نداء غرضه المدح. والشاهد في البيت إبدال الهمزة هاء في قوله «لهنك» ، والبيت سبق التعليق على قائله.

(٣) استدل على ذلك باستخدام المسائل العسكريات.

(٤) أسلوب توكيد يدل على براءة الله ـ عز وجل ـ ورسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من المشركين. الشاهد أن (إن) وما عملت فيه في موضع اسم مرفوع بالابتداء في قوله (إن الله ..).

(٥) البيت نسبه صاحب الكتاب إلى ضابئ بن الحارث البرجمي.

(٦) نسب صاحب اللسان البيت إلى ضابئ البرجمي في مادة (قير). لسان العرب (٥ / ١٢٥).

وصدر البيت كما في اللسان :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيارا بها لغريب

فإني : أي يقصد نفسه. قيار : اسم فرس أو جمل. الرحل : أي المنزل. ويقال أن الشاعر قال هذا البيت ضمن مجموعة أبيات في المدينة في زمن عثمان بن عفان ، وكان قد حبس بالمدينة لأنه تطاول على قوم من بني جدول بن نهشل وسبهم وهجاهم ، فحبس لذلك ، فأضحى غريبا هو وفرسه في المدينة. والشاهد فيه أن (إن) وما عملت فيه في محل اسم مرفوع بالابتداء في قوله (فإني وقيارا ..)

٥٠

وإذا كانت إنّ وما نصبته في تقدير اسم مرفوع وجب أن تكون اللام داخلة عليهما كليهما لأنهما في موضع اسم مبتدأ كما تدخل على الاسم المبتدأ ، وهذا أيضا واضح.

والدليل الثاني : أنّ «إنّ» عاملة للنصب ، وهي تقتضي الأسماء لتنصبها ، فلا يجوز أن تكون مرتبة اللام بعدها وأن يكون التقدير : إنّ لزيدا قائم ، لأنّ «إنّ» لا تلي الحروف لا سيما إذا كان ذلك الحرف مما يحصّن الاسم من العوامل ويصرفه إلى الابتداء.

فإن قيل : فقد ثبت أن اللام كان سبيلها أن تكون في أول الكلام ، وصحّ بما قدّمته ، فهلا جمع بينها وبين إنّ ، فكان ذلك يكون أوكد ، ولم فصل بينهما؟

فالجواب أنه ليس في الكلام حرفان لمعنى واحد مجتمعان ، والعلة في ذلك أن الغرض في هذه الحروف الدوالّ على المعاني إنما هو التخفيف والاختصار ، ألا ترى أن «هل» تنوب عن أستفهم ، و «ما» تنوب عن أنفي.

وقد تقدم نحو هذا في أول هذا الكتاب ، فإذا كان الغرض فيها إنما هو الاختصار والاستغناء بالقليل عن الكثير ، فلا وجه للجمع بين حرفين لمعنى واحد ، إذ في الواحد كفاية في الآخر وغناء عنه ، ولو جمع معه لانتقض الغرض بتكريره والإكثار بإعادته ، فإذا تباعد عنه لم يجتمع في اللفظ معه استجيز اجتماعهما في الجملة الواحدة كما جاز الجمع بين حرف النداء والإضافة لتباعدهما في نحو يا عبد الله وما أشبهه.

فإن قيل : فإذا كان كذلك فلم أخّرت اللام إلى الخبر ، وأقرّت إنّ في أول الكلام ، وهلا عكس الأمر في ذلك؟

فالجواب : أنه إنما أخّرت اللام إلى الخبر ، وجعلت إنّ مع المبتدأ من قبل أنّ «إنّ» عاملة ، والمبتدأ لا يكون إلا اسما ، فجعل ما يعمل في الأسماء معها ، واللام ليست عاملة ، والخبر لا يلزم أن يكون اسما ، فقد يجوز أن يكون جملة وظرفا ، فلما لم يلزم أن يكون الخبر اسما مفردا ، وجاز أن يكون مبتدأ وخبرا ، وفعلا وفاعلا ، وظرفا ، جعلت اللام التي هي غير عاملة في ما قد لا يكون مفردا ، وجعلت إنّ العاملة تلي الاسم الذي سبيله أن يكون مفردا فالضرورة التي أخّرت لها اللام إلى

٥١

الخبر ، وموضعها في الأصل المبتدأ ، هو ما ذكرناه من دخول إنّ في الكلام وكراهيتهم اجتماعها مع اللام ، فاعرف ذلك إن شاء الله.

واعلم أنه إذا ثبت أن اللام داخلة على خبر إنّ ، وكان خبر إنّ هو خبر المبتدأ في الأصل ، وكان خبر المبتدأ على المعروف المتعالم من حاله اسما مفردا ، وجملة مركبة من مبتدأ وخبر ، وجملة مركبة من فعل وفاعل ، وظرفا ، فسبيل هذه اللام أن تدخل كل ضرب من هذه الأخبار ، تقول : إنّ زيدا لقائم ، وإنّ زيدا لأبوه منطلق ، وإنّ زيدا ليقوم أخوه ، وإنّ زيدا لفي الدار ، فإن كان الخبر فعلا ماضيا لم تدخل اللام عليه ، لأنه ليس بمضارع للاسم كما ضارعه الفعل المضارع ، فلا تقول إذا : إنّ زيدا لقام ، ولا : إنّ بكرا لقعد ، ولا تدخل هذه اللام على فعل ولا على غيره من أمثلة الفعل المضارع للاسم.

فأما قول امرئ القيس (١) :

حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا فما إن من حديث ولا صالي (٢)

فليست هذه اللام بلام الابتداء ، وإنما هي اللام التي يتلقّى بها القسم نحو : والله لقام زيد ، أي : لقد قام زيد ، وسنذكرها في موضعها (٣) إن شاء الله.

فإن كانت لخبر إنّ فضلة تتعلق به من ظرف أو مفعول أو مصدر أو حرف جر ، فتقدمت تلك الفضلة في اللفظ على الخبر ، جاز دخول اللام عليها قبل الخبر ، ثم يأتي الخبر في ما بعد ، وذلك قولك : إنّ زيدا لفي الدار قائم ، وإنّ بكرا لطعامك آكل ، وإنّ محمدا لقياما حسنا قائم ، وإنّ أخاك لبك مأخوذ ، وإنّ الأمير لعليك واجد.

__________________

(١) البيت مثبت في ديوانه.

(٢) الفاجر : أراد الذي يكذب. صالي : أي الذي يصطلي بالنار. القاموس المحيط (٤ / ٣٥٢ ـ ٣٥٣). والأسلوب خبري تقريري. والبيت كما ذكرنا لامرئ القيس وثبت ذلك في ديوانه. والشاهد فيه قوله (لناموا) حيث إن اللام ليست لام الابتداء وإنما اللام التي يتلقى بها القسم.

(٣) أي سيأتي ذكرها بعد ذلك في موضعها.

٥٢

قال أبو زبيد (١) :

إنّ امرءا خصّني عمدا مودّته

على التنائي لعندي غير مكفور (٢)

أي : لغير مكفور عندي ، وربما كررت اللام في الخبر إذا تقدمت فضلته عليه ، فقالوا : إنّ زيدا لبك لمأخوذ ، وإنّ محمدا لفيك لراغب.

وحكى قطرب عن يونس : إن زيدا لبك لواثق.

فإن تأخرت الفضلة دخلت اللام في الخبر الذي قبلها ، ولم تدخل فيها ، وذلك قولك : إنّ زيدا لقائم عندك ، ولا يجوز : إنّ زيدا قائم لعندك. والفرق بين : إنّ زيدا لعندك قائم ، و : إنّ زيدا قائم لعندك في جواز المسألة الأولى وفساد الثانية ، أنك إذا قدمت الفضلة على الخبر ، وأدخلت اللام عليها فإنما قصدك بها الخبر دون فضلته ، وجاز دخول اللام على الفضلة التي قبل الخبر لأن موضع الخبر أن يكون قبل فضلته عقيب الاسم ، فلما تقدمت الفضلة ، فوقعت موقع الخبر دخلتها اللام كما تدخل الخبر ، فأما إذا تأخرت الفضلة وتقدم الخبر فقد وقع الخبر موقعه ، فدخلت اللام عليه لأنه أحق بها.

فإن قيل : ولم دخلت اللام على خبر إنّ المكسورة دون سائر أخواتها؟

فالجواب : أنها إنما اختصت بخبر المكسورة من قبل أن كل واحدة من اللام ومن «إنّ» يجاب بها القسم ، وذلك قولك : والله إنّ زيدا قائم ، والله لزيد قائم ، فلما اشتركتا في هذا الوجه ، وكانت كل واحدة منهما حرف توكيد أدخلت اللام على خبر إنّ للمبالغة في التوكيد ، وفرّق بينهما لما ذكرنا من كراهيتهم اجتماع حرفين لمعنى واحد ، ولما لم يكن في أخوات إنّ شيء يجاب به القسم كما يجاب بها لم تدخل اللام خبره كما دخلت خبرها.

__________________

(١) البيت نسبه إليه صاحب الكتاب (١ / ٢٨١).

(٢) خصني : أي أعطاني شيئا كثيرا. عمدا : أي قصدا. مودته : محبته. التنائي : نأى : أي بعد والتنائي البعد. الأسلوب إنشائي في صورة توكيد. والشاهد فيه قوله (لعندي) حيث دخلت اللام على الفضلة المتعلقة بخبر إن.

٥٣

واعلم أن هذه اللام لا تدخل على اسم إنّ كما ذكرنا ، إلا أن يفصل بينها وبينه فتباعد منه ، وذلك نحو قوله عز اسمه : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) (البقرة : ٢٤٨) (١) ، و (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ) (الأنعام : ٩٩) (٢) ، و (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً)(٣) (الأنبياء : ١٠٦).

فهذا دخول اللام على خبر إنّ وذكر الضرورة التي دعت إلى تأخرها ، ولست أعني بهذه الضرورة أنها جارية مجرى ضرورة الشعر ، كيف ذلك والقرآن وفصيح الكلام قد جاءا بذلك ، ولكن هذا يجري مجرى الضرورة التي دعت إلى إعلال فاء يعد ويزن ، وعين باع وقام ، ولام غزا ورمى ، وغير ذلك من العلل التي تلحق فتؤثر ، وهي مع ذلك مطردة في الاستعمال متقبّلة في القياس.

وإذا كانت إنّ مشددة فأنت في إدخال اللام في الخبر وتركها مخيّر ، تقول : إنّ زيدا قائم ، وإنّ زيدا لقائم ، فإن خففت إنّ لزمت اللام ، وذلك قولك : إن زيد لقائم ، و (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (الطارق : ٤) (٤) فعلوا ذلك لئلا تلتبس «إن» المؤكدة بـ «إن» النافية في قوله عز وجل : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) (الملك : ٢٠) (٥) فهذه بمعنى ما.

__________________

(١) (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أسلوب توكيد.آية : علامة ، وأمارة وعبرة. والشاهد فيه دخول اللام على اسم إن بعد أن فصل بينها وبين اسمها بفاصل.

(٢) (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ) أسلوب إنشائي في صورة توكيد. الشاهد في الآية دخول اللام أيضا على اسم إن بعد أن تباعد بينها وبين اسمها.

(٣) بلاغا : ما يتوصل به إلى الغاية ، والبلاغ بيان يذاع في رسالة ونحوها. والأسلوب إنشائي في صورة توكيد غرضه إعطاء الكلام قوة وتأثيرا في النفس. والشاهد في الآية أيضا دخول اللام على اسم إن بعد أن فصل بينها وبين اسمها.

(٤) قرأها ابن كثير وغيره (لما) خفيفة ، وقرأ عاصم وغيره (لما) مشددة. والشاهد فيها وجوب إدخال اللام على الخبر.

(٥) غرور : غفلة ، والغرور كل ما غر الإنسان من مال أو جاه أو نحوه. والأسلوب إنشائي في صورة توكيد. الشاهد فيها أن (إن) جاءت نافية بمعنى ما ، ولذلك لا يجوز إدخال اللام على خبرها.

٥٤

وأما قول أبي حزام العكلي (١) :

وأعلم أنّ تسليما وتركا

للا متشابهان ولا سواء (٢)

فإنما أدخل اللام وهي للإيجاب على لا وهي للنفي من قبل أنه شبهها بغير ، فكأنه قال : لغير متشابهين ، كما شبّه الآخر «ما» التي للنفي بـ «ما» التي في معنى الذي ، فقال (٣) :

لما أغفلت شكرك فاصطنعني

وكيف ومن عطائك جلّ مالي (٤)

ولم يكن سبيل اللام الموجبة أن تدخل على ما النافية لو لا ما ذكرت لك من الشّبه اللفظي ، كما قال الآخر :

ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته

على السنّ خيرا لا يزال يزيد (٥)

فزاد إن مع ما ، وليست للنفي ، فاعرفه إن شاء الله.

وأما الضرورة التي تدخل لها اللام في خبر غير إنّ فمن ضرورات الشعر ، ولا يقاس عليها ، قرأت على أبي علي بإسناده إلى يعقوب (٦) :

__________________

(١) البيت نسبه إليه صاحب الخزانة.

(٢) الشاهد فيه أنه أدخل اللام التي للإيجاب على أداة النفي «لا» ، والبيت كما ذكرنا نسبه صاحب الخزانة إلى أبي حزام العكلي.

(٣) يعني النابغة الذبياني ، والبيت عثرنا عليه في ديوانه ص ٢٠٥.

(٤) أغفلت : غفل عنها من قلة التيقظ والتحفظ. فاصطنعني : أسلوب إنشائي في صورة أمر غرضه الالتماس. وكيف : استفهام استنكاري. جل : الجل من كل شيء معظمه (ج) جلال وأجلال. القاموس المحيط (٣ / ٣٤٩). البيت للنابغة الذبياني من قصيدة يمتدح فيها النعمان بن المنذر. الشاهد دخول اللام الموجبة على ما النافية.

(٥) الشاهد فيه اقتران ما بإن وهي هنا ليست للنفي وإنما زائدة. والبيت نسبه صاحب الكتاب إلى المعلوط بن بدل الفريعي وذكره صاحب اللسان في مادة (أنن) دون أن ينسبه إلى قائله. لسان العرب (١٣ / ٣٥). (٦) ذكر العيني أن قائله رؤبة ، ونسبه الصغاني في العباب إلى عنترة بن عروس وهو الصحيح. العيني (١ / ٥٣٥) والبيتان في ملحقات ديوان رؤبة (ص ١٧٠).

٥٥

أمّ الحليس لعجوز شهربه

ترضى من الشاة بعظم الرّقبه (١)

والوجه أن يقال : لأمّ الحليس عجوز شهربة ، كما تقول : لزيد قائم ، ولا تقول : زيد لقائم. وقال الآخر (٢) :

خالي لأنت ، ومن جرير خاله

ينل العلاء ويكرم الأخوالا (٣)

فهذا يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يكون أراد : لخالي أنت ، فأخّر اللام إلى الخبر ضرورة.

والآخر : أن يكون أراد : لأنت خالي ، فقدّم الخبر على المبتدأ وإن كانت فيه اللام ضرورة.

وأخبرني أبو علي أن أبا الحسن حكى «إن زيدا وجهه لحسن» فهذه أيضا ضرورة.

__________________

(١) ذكرنا أن البيت ذكره صاحب اللسان (١ / ٥١٠) دون أن ينسبه ، وفيه جماعة ومنهم الصاغاني إلى عنترة بن عروس مولى بني ثقيف ، ونسبه آخرون إلى رؤبة بن العجاج ، والأول أكثر وأشهر ورواه الجوهري. الحليس : تصغير حلس ، وهو كساء رقيق يوضع تحت البرذعة. القاموس (٢ / ٢٠٧). وأم الحليس : كنية الأتان في الأصل. وأطلقها الراجز على امرأة تشبيها لها بالأتان. شهربة : الطاعنة في السن. القاموس المحيط (١ / ٩٠). ترضى من اللحم : من هنا بمعنى بدل أي ترضى بدل اللحم ، وإذا قدر مضافا يجر بالباء ، فنقول : ترضى من اللحم بلحم عظم الرقبة ، وكانت من دالة على التبعيض. الشاهد في البيت قوله (العجوز) حيث زادت اللام في خبر المبتدأ وليس خبر إن أو اسمها. والزيادة هي أحد تخريجات هذا البيت. إعراب الشاهد : لعجوز : اللام : مبنية زائدة. وعجوز : خبر المبتدأ مرفوع.

(٢) البيت ذكره صاحب اللسان في مادة «شهرب». (١ / ٥١٠).

(٣) ينل : نال الشيء أي أدركه وبلغه. العلاء : الرفعة والشرف. والبيت خبري تقريري غرضه المدح والتعظيم. الشاهد فيه : دخول اللام على المبتدأ المؤخر (لأنت) وهو أحد تخريجات هذا البيت ، والبيت لم نقف على قائله ، ولم ينسبه في شرح ابن عقيل ص ٢٣٧.

٥٦

وربما أدخلوها في خبر أنّ المفتوحة ، أخبرنا علي بن محمد يرفعه بإسناده إلى قطرب (١) :

ألم تكن حلفت بالله العلي

أنّ مطاياك لمن خير المطي (٢)

والوجه الصحيح هنا كسر إنّ لتزول الضرورة ، إلا أنّا سمعناها مفتوحة الهمزة.

وقد أدخلت في خبر أمسى ، قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى ، وأنشدناه أبو علي (٣) :

مروا عجالا وقالوا : كيف صاحبكم؟

قال الذي سألوا : أمسى لمجهودا (٤)

وروينا عن قطرب بإسناده أن بعضهم قال : فإذا أنّي لبه ، قال : وسمعنا بعض العرب يقول : أراك لشاتمي ، وإني رأيته لسمحا ، قال : وقال يونس : زيد ـ والله ـ لواثق بك. وقال كثير :

وما زلت من ليلى لدن أن عرفتها

لكالهائم المقصى بكل سبيل (٥)

وهذا كله شاذ.

__________________

(١) قطرب : هو محمد بن المستنير بن أحمد ، نحوي عالم باللغة والأدب.

(٢) مطاياك : المطا : الظهر (ج) أمطاء ، والمطية من الدواب ما يمتطى ، (ج) مطايا ، ومطي. والبيت أسلوبه خبري غرضه التهكم والسخرية. الشاهد فيه دخول اللام على خبر أن المفتوحة ، والأصح أن تكسر همزة إن لتزول الضرورة ، والبيت نسبه صاحب الخصائص إلى قطرب في استشهاده برأيه.

(٣) قال البغدادي في الخزانة : «وهذا البيت شائع في كتب النحو ذكره أبو علي في غالب كتبه ، وابن جني كذلك ، وكلهم يرويه عن ثعلب ، وثعلب أنشده غير معزو».

(٤) كيف صاحبكم : أسلوب إنشائي في صورة استفهام غرضه التشويق والإثارة. والشاهد في البيت دخول اللام على خبر أمس. والبيت ذكر العيني أنه من شواهد الكتاب ولكن لم نجده بين دفتي الكتاب ، وذكره ثعلب في أماليه ، وأنشده أيضا أبو علي الفارسي ولكن معظمهم لم ينسبه إلى قائل بعينه حتى أن بعضهم لم ينسبه إلى أحد.

(٥) الهائم : يقال هام فلان أي خرج على وجهه في الأرض لا يدري أين يتوجه (ج) هيّام ، هيّم المقصى : البعيد. القاموس (٤ / ٣٧٨). السبيل : الطريق (ج) سبل ، أسبلة. وأسلوب البيت خبري غرضه الاسترحام. والبيت ينسب إلى كثير وعثرنا عليه في ديوانه (ص ١١٥). والشاهد فيه قوله (لكالهائم) حيث دخلت اللام على أداة التشبيه (الكاف).

٥٧

ومثله (١) :

 ....

ولكنني من حبها لكميد (٢)

وأخبرنا أبو علي أن أبا إسحاق ذهب في قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (طه : ٦٣) (٣) إلى أنّ «إنّ» بمعنى نعم ، وهذان مرفوع بالابتداء ، وأن اللام في لساحران داخلة في موضعها على غير ضرورة ، وأن تقديره : نعم هذان لهما ساحران.

وحكى عن أبي إسحاق أنه قال : هذا الذي عندي فيه ، والله أعلم ، وكنت عرضته (٤) على عالمنا محمد بن يزيد ، وعلى إسماعيل بن إسحاق ، فقبلاه ، وذكرا أنه أجود ما سمعاه.

واعلم أن هذا الذي رواه أبو إسحاق في هذه المسألة مدخول غير صحيح ، وأنا أذكره لتقف منه على ما في قوله.

ووجه الخطأ فيه أن هما المحذوفة التي قدّرها مرفوعة بالابتداء لم تحذف إلا بعد العلم بها والمعرفة بموضعها ، وكذلك كل محذوف لا يحذف إلا مع العلم به ، ولو لا ذلك لكان في حذفه مع الجهل بمكانه ضرب من تكليف علم الغيب للمخاطب ، وإذا كان معروفا فقد استغني بمعرفته عن تأكيده باللام ، ألا ترى أنه يقبح أن تأتي بالمؤكّد وتترك المؤكّد فلا تأتي به.

__________________

(١) ومثله : أي ومثل هذا ما ذكر في كتب النحاة واستشهدوا به.

(٢) صدر البيت ذكر في شرح ابن عقيل والبيت بتمامه كما جاء ص ٣٦٣ (١ / شاهد ٩٩) :

يلومونني في حب ليلى عواذلي

ولكنني من حبها لعميد

والبيت لا يعرف قائله. والشاهد فيه قوله (لكميد) أو (لعميد) برواية أخرى حيث دخلت لام الابتداء على خبر لكن وهذا مذهب الكوفيين أما البصريون فيرون أنها اللام دخلت على خبر إن المكسورة الهمزة المشددة النون وأصل الكلام (ولكن إنني من حبها لكميد) وهذه بعض الأجوبة في الإعراب لدى البصريين.

(٣) قرأ هذه القراءة نافع وغيره.

(٤) العارض أبو إسحاق تلميذ المبرد.

٥٨

ألا ترى أن التوكيد من مواضع الإطناب والإسهاب ، والحذف من مواضع الاكتفاء والاختصار ، فهما إذن كما ذكرت لك ضدان لا يجوز أن يشتمل عليهما عقد كلام.

ويزيد ذلك وضوحا امتناع أصحابنا من تأكيد المضمر المحذوف العائد على المبتدأ في نحو «زيد ضربت» في من أجازه ، فلا يجيزون «زيد ضربت نفسه» على أن تجعل النفس توكيدا للهاء المرادة في ضربته ، لأن الحذف لا يكون إلا بعد التحقيق والعلم ، وإذا كان ذلك كذلك فقد استغني عن تأكيده.

ويؤكد عندك ما ذكرت لك أن أبا عثمان وغيره من النحويين حملوا قول الشاعر :

أمّ الحليس لعجوز شهربه (١)

على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة. ولو كان ما ذهب إليه أبو إسحاق وجها جائزا لما عدل عنه النحويون ولا حملوا الكلام على الاضطرار إذا وجدوا له وجها ظاهرا قويا ، وحذف المبتدأ وإن كان شائعا في مواضع كثيرة من كلامهم فإنه إذا نقل عن أول الكلام قبح حذفه. ألا ترى إلى ضعف قراءة من قرأ : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) (الأنعام : ١٥٤) (٢) قالوا : وقبحه أنه أراد : على الذي هو أحسن ، فحذف المبتدأ في موضع الإيضاح والبيان ، لأن الصلة لذلك وقعت في الكلام ، وإذا كان ذلك موضع إكثار وإيضاح فغير لائق به الحذف والاختصار.

فإن قلت : فقد حكى سيبويه في الكتاب : «لحقّ أنه ذاهب ، فيضيفون ، كأنه قال : ليقين ذلك أمرك ، وليست في كلام كل العرب» (٣) فأمرك هو خبر يقين ؛ لأنه قد أضافه إلى ذلك ، وإذا أضافه إليه لم يجز أن يكون خبرا عنه.

قال سيبويه : «سمعنا فصحاء العرب يقولونه» (٤) فكيف جاز أن يحذف الخبر واللام في أول الكلام ، وقد شرطت على نفسك أن الحذف لا يليق بالتوكيد؟

__________________

(١) سبق التعليق عليه.

(٢) رفع (أحسن) قراءة الحسن وغيره. انظر / الإتحاف (ص ٢٢٠).

(٣) الكتاب (١ / ٤٧٧).

(٤) جاء ذلك في الكتاب (١ / ٤٧٧).

٥٩

فالجواب أن هذه الكلمة ليس كل العرب يقولها كما قال سيبويه ، وقال أيضا أبو الحسن : «لم أسمع هذا من العرب ، وإنما وجدته في الكتاب» (١).

ووجه جوازه على قلته طول الكلام بما أضيف هذا المبتدأ إليه ، وإذا طال الكلام جاز فيه من الحذف ما لا يجوز فيه إذا قصر ، ألا ترى إلى ما حكاه الخليل عنهم من قولهم : «ما أنا بالذي قائل لك شيئا» (٢) ولو قلت : ما أنا بالذي قائم لقبح.

فأما قول الشاعر (٣) :

لم أر مثل الفتيان في غير ال

أيام ينسون ما عواقبها (٤)

فالوجه أن تكون «ما» استفهاما ، و «عواقبها» الخبر ، كقوله تعالى ذكره : (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) (الهمزة : ٥) (٥) أي : ما أدراك أيّ شيء الحطمة ، فكأنه قال : أيّ شيء عواقبها ، على مذهب التعجب منها والاستعظام لها. فهذا أوجه من أن يحمل الكلام على أنه : ينسون الذي هو عواقبها ، لقلة (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) (الأنعام : ١٥٤) (٦).

وقال أبو الحسن في هذا الفصل : «لو قلت : لعبد الله ، وأضمرت الخبر لم يحسن» (٧) ، وإنما لم يحسن عنده لأن الكلام لم يطل ههنا كما طال في لحقّ أنه ذاهب. انقضى دخول اللام على الخبر.

__________________

(١) نقل النص من حاشية الكتاب (٣ / ١٥٧).

(٢) انظر / الكتاب (ص ٢٧٠).

(٣) هو عدي بن زيد ، والبيت نسبه إليه صاحب الأغاني (٢ / ١٢١).

(٤) عواقبها : العاقبة آخر كل شيء أو خاتمته ، والعاقبة مصير كل شيء. ينسون : مضارع مرفوع عبر به الشاعر ليدل على استمرارية النسيان لعواقب الأيام. الشاهد فيه أن (ما) استفهامية وعواقبها خبر.

(٥) أسلوب إنشائي في صورة استفهام غرضه التهديد والاستعظام. الحطمة : النار الشديدة.

(٦) (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي : على إحسانه في طاعة ربه. مختصر تفسير الطبري ص ١٢٥ ، وسبق تخريج القراءة.

(٧) (لو قلت : لعبد الله وأضمرت الخبر لم يحسن) : سبق تخريج هذه القراءة أيضا.

٦٠