سرّ صناعة الإعراب - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

سرّ صناعة الإعراب - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-2702-0
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

واعلم أن لام الابتداء أحد الحرفين الموجبين اللذين يتلقّى بهما القسم ، وهما : اللام ، وإنّ ، وذلك قولك : والله لزيد عاقل ، و : والله إنّ زيدا عاقل ، إلا أن هذه اللام قد تتعرّى من معنى الجواب ، وتخلص للابتداء ، فهو لذلك أخص معنييها بها ، وذلك قولك : لعمرك لأقومنّ ، و :

 .....

 ... ليمن الله ما ندري (١)

فهذه اللام لام الابتداء معراة من معنى الجواب ، وذلك أنّ قولك «لعمرك» قسم ، ومحال أن يجاب القسم بالقسم ، فلا يجوز إذن أن يكون التقدير : والله لعمرك لأقومنّ ، كما يجوز إذا قلت : لزيد قائم ، أن يكون تقديره : والله لزيد قائم ، فاعرف ذلك إن شاء الله.

* * *

__________________

(١) لعمرك لأقومن ، و... : تقدم تخريجه.

٦١
٦٢

باب لحاق اللام الأفعال

وتلحقها على ضربين : عاملة ، وغير عاملة.

فالعاملة : لام الأمر ، وهي مكسورة جازمة ، وذلك قولك : ليقم زيد ، وليقعد عمرو. وزعم الفراء أن من العرب من يفتح هذه اللام لفتحة الياء بعدها ، وهذا كلام يستفاد منه أنه إن انكسر حرف المضارعة أو انضم أن لا تكون هذه اللام مفتوحة ، نحو : ليكرم زيد عمرا ، و : لتعلم ذلك.

ومتى اتصل بهذه اللام من قبلها واو العطف أو فاؤه فإسكانها للتخفيف جائز ، وذلك قولك : وليقم زيد ، فيلقعد جعفر. وإنما جاز إسكانها لأن الواو والفاء كل واحد منهما حرف منفرد ضعيف لا يمكن الوقوف عليه دون اللام ، فأشبهت اللام لاتصالها بما قبلها واحتياجه إليها الخاء من فخذ ، واللام من علم ، فكما تقول : فخذ ، وعلم الله ذاك. كذلك جاز أن تقول : فليقم ، وليقعد ، وقد فعلوا هذا أيضا في غير هذا الموضع ، فقالوا : أراك منتفخا ، فأسكنوا الفاء لأن تفخا من منتفخ ضارع بالوزن فخذا وكبدا.

فأما قراءة الكسائي وغيره (١) (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) (الحج : ٢٩) (٢) و (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) (الحج : ١٥) (٣) فمردودة عند أصحابنا ، وذلك أن «ثمّ» حرف على ثلاثة أحرف يمكن الوقوف عليه ، وإذا أمكن الوقوف لزمك الابتداء بالساكن ، وهذا غير جائز بإجماع ، فمن هنا دفعه أصحابنا واستنكروه ، فلم يجيزوه.

وسألت أبا علي يوما عن هذا ، فقلت له : هلا جازت قراءة الكسائي هذه على تشبيه ثمّ بالواو والفاء إذ كانت حرف عطف كما كانا حرفي عطف ، فهلا جاز حمل ثمّ على الواو والفاء كما حملوا بعض حروف المضارعة على بعض في نحو قولك : أعد ،

__________________

(١) وغيره : هذه القراءة قراءة نافع وعاصم وغيره. السبعة (ص ٤٣٥)

(٢) (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ :) أي ليقضوا ما عليهم من مناسك حجهم من حلق وطواف ورمي جمرة وموقف غيرها. مختصر تفسير الطبري (ص ٢٩٣).

(٣) (ثُمَّ لْيَقْطَعْ :) أي ثم ليختنق. مختصر تفسير الطبري (ص ٢٩١).

٦٣

ونعد ، وتعد ، ألا ترى أن هذه الأحرف الثلاثة محمولة على الياء في قولك : يعد ، لأن الواو من يعد حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة ، وحملت الهمزة والنون والتاء في هذا على الياء ، فحذفت الواو معهن كما حذفت مع الياء لئلا يختلف الباب ، وكما حذفت الهمزة من مضارع أكرم إذا قلت : أكرم ، وأصله أؤكرم ، لاجتماع الهمزتين ، ثم حملت النون في نكرم ، والتاء في تكرم ، والياء في يكرم على الهمزة في أكرم ، فحذفت الهمزة معهن كما حذفت معها ليتفق الباب ولا تختلف أحوال حروف المضارعة.

فقال : الفرق بين الموضعين أن حروف المضارعة أشد اشتباه بعض ببعض من حروف العطف ، وذلك أنها تجري مجرى الحرف الواحد ، ألا ترى أن سيبويه قال : إنهم امتنعوا من إمالة فتحة تاء تحسب لكسرة سينها ، من حيث كانت الياء في يحسب لا تجوز إمالتها استنكارا للإمالة في الياء كما تستنكر الكسرة في الياء ، أفلا ترى أنهم أجروا التاء في تحسب مجرى الياء في يحسب ، فدل ذلك على أن حروف المضارعة بعضها قويّ الشبه ببعض أشدّ من قوة شبه حروف العطف بعضها ببعض.

ويؤكد عندك قوة اشتباه حروف المضارعة أن كل واحد منها على حرف واحد ، وحروف العطف تجدها مختلفة أعداد الحروف ، منها ما هو على حرف واحد ، وهو الواو والفاء. ومنها ما هو على حرفين ، وهي : أو ، ولا ، وأم ، وبل.

ومنها ما هو على ثلاثة أحرف ، وهو ثمّ. ومنها ما هو على أربعة أحرف ، وهو لكن ، وإمّا ، وحتى. وليس كذلك حروف المضارعة ، بل جميعها على حرف حرف.

وشيء آخر ، وهو أنّا نجد بعض حروف العطف يدخل على بعض ، وذلك نحو : ما قام زيد ولكن عمرو ، وقام إمّا زيد وإمّا عمرو ، ولأضربنّه حتى يتقيني بحقي ، وحتى لا يبقى لي عنده شيء منه.

ونسخت من خط أبي بكر محمد بن السري ، وقرأته على أبي علي ، قال : قال أبو العباس : إذا اضطر الشاعر أدخل الواو من حروف العطف على سائر حروف العطف.

٦٤

وأنشد للأعشى (١) :

وثمّت لا تجزونني بعد ذاكم

ولكن سيجزيني الإله فيعقبا (٢)

قال : واستعمله أبو نواس ، فقال (٣) :

البدر أشبه ما رأيت بها

حين استوى وبدا من الحجب (٤)

وبل الرّشا لم يخطها شبها

في الجيد والعينين واللّبب (٥)

وأنشد أبو الحسن بيتا فيه «فثمّ» (٦) فأدخل الفاء على ثمّ.

فهذا كله يؤكد عندك اختلاف حروف العطف لجواز دخول بعضها على بعض إذ كان حرفان لمعنى واحد لا يتواليان ، ولما كانت حروف المضارعة كلها كالحرف الواحد

__________________

(١) جاء في ديوان الأعشى (ص ١٦٧).

(٢) يقول الأعشى : إنكم لن تجزونني بعد ذلك الذي كان مني ويستدرك قائلا : ولكن الله سيجزيني. وأسلوب البيت خبري تقريري. وقوله : لا تجزونني أسلوب نفي غرضه التحسر والتوجع. والشاهد فيه دخول حروف العطف على بعضها.

(٣) فقال : البيتان ذكرا في ديوان أبي نواس (ص ٧١).

(٤) يقول أبو نواس أن البدر يشبهها ، وهو هنا يستخدم التشبيه المعكوس أو المقلوب فلم يقل أنها تشبه البدر ولكنه قال : أن البدر يشبهها في جمالها حين يبدو من خلف الحجب. الشاهد فيه دخول حروف العطف على بعضها لاختلافها.

(٥) ويعقد أبو نواس أيضا مقارنة بينها وبين الرشا في (الجيد ـ العينين ـ واللبب) ويرى أنها تتفوق على الرشا في كل ذلك لشدة جمالها. والشاهد أيضا دخول حروف العطف على بعضها البعض لاختلافها.

(٦) فثم : ربما يقصد قول زهير :

أراني إذا ما بت بت على هوى

فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا

كذا أنشده أبو الفتح في باب الفاء شاهدا على زيادة الفاء ، وفي رصف المباني ص ٢٧٥ «وثم» وجاء في الخزانة أن السيرافي قال : «الأجود فثم بفتح الثاء المثلثة لكراهة دخول عاطف على عاطف». بت على هوى : لي حاجة لا تنقضي أبدا. وفي مغني اللبيب ص ١٥٨ أن الأخفش والكوفيين ذهبوا إلى أن ثم زائدة.

٦٥

لم يجز أن يدخلوا بعضها على بعض ، كما لا يجمعون بين حرفي استفهام ولا حرفي نفي ، فلذلك جاز حمل بعض حروف المضارعة على بعض ، ولم يجز حمل بعض حروف العطف على بعض ، فاعرف ذلك إن شاء الله.

واعلم أن هذه اللام الجازمة أيضا حرف مفرد جاء لمعنى كواو العطف ، وفائه ، وهمزة الاستفهام ، ولام الابتداء ، وقد كان ينبغي أن تفتح كما فتحن ، إلا أن العلة في كسرها أنها في الأفعال نظيرة حرف الجر في الأسماء ، ألا ترى أن كل واحدة منهما مختصة من العمل بما يخصّ القبيل الذي هي فيه ، فلا يتعداه إلى ما سواه ، فمن حيث وجب كسر لام الجر في نحو : لزيد مال ، ولجعفر ، للفرق بينها وبين لام الابتداء ، كذلك أيضا وجب كسر هذه اللام ، لأنها في الأفعال نظيرة تلك في الأسماء.

ولو قال قائل : إنما كسرت لام الأمر للفرق بينها وبين لام الابتداء التي تدخل على الأفعال المضارعة لأسماء الفاعلين لكان قولا قويا ، ألا ترى أنك تقول : إنّ زيدا ليضرب ، أي : لضارب ، فكرهوا أن يقولوا في الأمر : إنّ زيدا ليضرب ، فيلتبس بقولك : إنّ زيدا لضارب.

فإن قيل : فهل يجوز أن تقول : إنّ زيدا ليضرب ، فتجعل خبر إنّ أمرا حتى تخاف التباسه بالخبر في قولك : إنّ زيدا ليضرب؟

فالجواب : أن ذلك جائز ، وقد جاء به الشاعر ، فجعل خبر إنّ ، وخبر المبتدأ ، وخبر كان ، ونحو ذلك أمرا لا يحتمل الصدق والكذب.

قال الجميع (١) :

ولو أصابت لقالت وهي صادقة

إنّ الرياضة لا تنصبك للشّيب (٢)

والنهي كالأمر في هذا.

__________________

(١) الجميح : ذكر صاحب الخزانة أن البيت من قصيدة للجميح يذكر فيها عقوق زوجته له لأسباب مادية. انظر / الخزانة (٤ / ٢٩٥).

(٢) يؤكد الجميح على أهمية الرياضة التي لا يمكن أن تهيء للشيب ، مستخدما في ذلك أسلوب التوكيد (إن ...) الذي لا يمكن أن يحتمل الصدق أو الكذب. الشاهد فيه أن يبني الاسم على الفعل في قوله (إن الرياضة لا تنصبك للشيب).

٦٦

وعلى هذا قال سيبويه «وقد يكون في الأمر والنهي أن يبنى الفعل على الاسم ، وذلك قولك : عبد الله اضربه ، ابتدأت عبد الله ، فعرفته بالابتداء ، ونبهت المخاطب له لتعرّفه باسمه ، ثم بنيت الفعل عليه ، كما فعلت ذلك في الخبر».

فهذا نص من سيبويه بجواز كون خبر المبتدأ أمرا ونهيا ، وعلى هذا يجوز : زيد لا يقم أخوه. وقرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد ، وسمعت أبا علي ينشده أيضا غير مرة :

ألا يا أمّ فارع لا تلومي

على شيء رفعت به سماعي (١)

وكوني بالمكارم ذكّريني

ودليّ دلّ ماجدة صناع (٢)

أي : وكوني بالمكارم مذكّرة.

وغير منكر أن يقع لفظ الأمر موقع الخبر ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) (مريم : ٢٥) (٣) أي : فليمدّنّ له.

وعلى هذا قول الآخر (٤) :

بئس مقام الشيخ أمرس أمرس

إمّا على قعو وإمّا اقعنسس (٥)

أي : مقام يقال له فيه : أمرس أمرس.

__________________

(١) يطلب الشاعر من أم فارع أو (فارع) ألا تلومه على شيء ، وقوله يا أم فارع أسلوب نداء غرضه الالتماس ، والبيت لم نعثر على قائله.

(٢) كوني : أسلوب أمر غرضه التمني ، فهو يتمنى أن تذكر له مكارمه. وكذا أسلوب الأمر (دلي) ، والبيت أسلوبه إنشائي في جملته يحمل غرض النصح والإرشاد والفخر بمكارمه وأمجاده. والبيت كسابقه لم نقف على قائله.

(٣) الضلالة : الضلال ، أو سلوك طريق لا يوصل إلى المطلوب. فليمدد له الرحمن مدا : أي فليمل له فيها إملاء. مختصر تفسير الطبري (ص ٢٧٠).

(٤) الآخر : ذكر البيت صاحب اللسان في مادة (مرس) دون أن ينسبه (٦ / ٢١٦). وانظر / مجالس ثعلب (ص ٢١٣).

(٥) اقعنسس : أي تأخر واجذب الدلو. القاموس المحيط (٢ / ٢٤١). أمرس : أعد الخيل إلى موضعه من البكرة. والمرس : الحبل. القاموس (٢ / ٢٥١). القعو : البكرة. القاموس المحيط (٤ / ٣٧٩)

٦٧

وقرأت على محمد بن الحسن عن أحمد بن سليمان عن ابن أخت أبي الوزير عن ابن الأعرابي (١) :

فإنما أنت أخ لا نعدمه

أي : لا نعدمه ، فنقل ضمة الهاء إلى الميم ، كما قال الآخر (٢) :

عجبت والدهر كثير عجبه

من عنزيّ سبّني لم أضربه (٣)

أي : لم أضربه ، وهذا واسع عنهم كثير.

وكما أن لام الجر قد تفتح مع المظهر في ما حكيناه من قراءة سعيد بن جبير :

(وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ)(٤) وغير ذلك ، فكذلك قد فتحت لام الأمر في ما حكيناه عن الفراء من قولهم : ليقم زيد. والعلة في فتح هاتين اللامين في هذه المواضع القليلة أن أصل حركتهما الفتح ، فربما خرجتا على أصلهما.

واعلم أن هذه اللام الجازمة لا تضمر إلا في ضرورة الشعر ، كما أن حرف الجر لا يحذف إلا في الضرورة. قرأت على أبي علي ، قال : أنشد أبو زيد (٥) :

فتضحي صريعا ما تجيب لدعوة

ولا تسمع الداعي ويسمعك من دعا (٦)

أي : وليسمعك.

__________________

(١) ابن الأعرابي : البيت نسبه صاحب مجالس ثعلب إلى أبي محمد الحذلمي (ص ١٩٥).

(٢) قال الآخر : البيتان لزياد الأعجم كما في الكتاب (٢ / ٢٨٧).

(٣) يقول الشاعر : تعجبت والدهر فيه عجائب كثيرة من رجل عنزي ـ ينسب إلى عنزة بن أسد بن ربيعة ـ سبني وشتمني وأنا لم أضربه أو أصبه بسوء.

(٤) مكر : خداع ، وأن تصرف غيرك عن مقصده بحيلة. تزول : تتحول وتنتقل.

(٥) أبو زيد : ذكر أبو علي البيت ونسبه إلى عمران بن حطان.

(٦) صريعا : مغلوبا. تجيب : أي ترد وتقضي الحاجة وتفيد عما تسأل. ويقول الشاعر : أنك أصبحت في عداد الصرعى فأصبحت صريعا لا تستطيع أن تجيب أو ترد على أي دعوة توجه إليك فأنت لا تسمع الداعي الذي يدعوك ويسمعك الذي دعا. وأسلوب البيت في جملته خبري غرضه التحسر والتوجع. الشاهد فيه جزم الفعل (يسمعك) بلام أمر مضمرة للضرورة الشعرية وهذا يكون أغلبه في الشعر

٦٨

وقال الآخر (١) :

فلا تستطل منّي بقائي ومدّتي

ولكن يكن للخير منك نصيب (٢)

أي : ليكن.

وأنشد سيبويه (٣) :

على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي

لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى (٤)

قال : أراد أو ليبك. وحسّن ذلك له قليلا أن قبله أمرا ، وإن لم يكن مجزوما فإنه في معنى المجزوم ، ألا ترى أن معنى اخمشي : لتخمشي.

ومن أبياته أيضا (٥) :

محمد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من شيء تبالا

أراد : لتفد نفسك ، فحذف اللام ، وهذا أقبح من الأول ، لأن قبل ذاك شيئا فيه معنى اللام ، وهو اخمشي ، لأن معناه : لتخمشي ، وهذا ليس قبله شيء معناه معنى اللام.

__________________

(١) وقال الآخر : لم نقف على قائل البيت ، وذكره صاحب مجالس ثعلب دون أن ينسبه.

(٢) لا تستطل : أسلوب إنشائي في صورة نهي غرضه النصح والإرشاد. الشاهد فيه : إضمار لام الأمر للضرورة الشعرية في قوله (ولكن يكن) ، والتقدير : (ولكن ليكن). إعراب الشاهد : يكن : فعل مضارع مجزوم بأداة جزم مضمرة وعلامة الجزم السكون.

(٣) أنشد سيبويه : نسب صاحب الكتاب البيت لمتمم بن نويرة.

(٤) اخمشي : خمش خمشا : أي جرح بشرته في أي موضع من جسده. القاموس (٢ / ٢٧٣). اخمشي : أسلوب أمر غرضه التحقير. لك الويل : أسلوب خبري غرضه التهديد والوعيد. الشاهد فيه جزم الفعل يبك واخمشي بلام الأمر المضمرة.

(٥) أيضا : لم ينسبه صاحب الكتاب ، بينما نسبه ابن هشام في شذور الذهب (ص ٢١١ شاهد ١٠٠) إلى أبي طالب ، والبعض ينسبه إلى ولده علي ـ رضي الله عنه ـ.

٦٩

ومثل البيت الأول ما أنشدنيه أبو علي (١) :

فقلت : ادعي وأدع فإنّ أندى

لصوت أن ينادي داعيان (٢)

أي : ولأدع ، لأن معنى ادعي : لتدعي. وأنشد البغداديون :

من كان لا يزعم أني شاعر

فيدن مني تنهه المزاجر (٣)

و : البصائر أيضا ، أراد : فليدن.

وكل هذا شاذ لا يحسن القياس عليه. فهذه اللام العاملة في الأفعال.

وأما اللام غير العاملة فلام القسم ، وتدخل من الأفعال في موضعين : أحدهما الماضي ، والآخر المستقبل.

فأما الماضي فكقولك : والله لقد قمت ، وقوله تعالى : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) (يوسف : ٩١) (٤) وربما حذفت اللام ، قال الله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (الشمس : ٩ ، ١٠) (٥) أي : لقد أفلح من زكاها ، ولقد خاب من دسّاها. وربما حذفت قد.

__________________

(١) أبو علي : نسب صاحب الكتاب البيت للأعشى ، بينما نسبه صاحب اللسان في مادة (ندى) إلى دثار بن شيبان.

(٢) ادع : من دعا بالشيء دعوا ودعوة ودعاء ، أي طلب إحضاره أو نادى أو صاح. أندى : يقال ندى الصوت أي حسنه. والبيت في جملته أسلوب خبري غرضه التعظيم. الشاهد فيه قوله (وأدع) أي ولأدع.

(٣) يقول الشاعر أن من يزعم أنني لست بشاعر فليدن مني ولير هل تنهه المزاجر أم لا. وأسلوب البيت في جملته خبري غرضه التعظيم والفخر. وقوله «يدن ...» أسلوب أمر غرضه التهديد والوعيد. والبيت ذكره صاحب اللسان في مادة (زجر) دون أن ينسه. والشاهد فيه قوله (فيدن) والتقدير فليدن.

(٤) (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا :) أسلوب إنشائي في صورة قسم غرضه التأكيد.

(٥) أفلح ـ خاب : بينهما تضاد يبرز المعنى ويقويه. والأسلوب إنشائي في صورة توكيد غرضه إعطاء الكلام قوة وتأثير في النفس والحث على تزكية النفس وبعدها عن الرذائل.

٧٠

قال امرؤ القيس :

حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا ، فما إن من حديث ولا صالي (١)

أي : لقد ناموا.

وكذلك قولهم : والله لو قمت لقمت ، ولو قعدت لقعدت ، قال :

والله لو كنت لهذا خالصا

لكنت عبدا آكل الأبارصا (٢)

وأما قول الآخر (٣) :

فلو أنّ قومي لم يكونوا أعزّة

لبعد لقد لاقيت لا بدّ مصرعا (٤)

فاللام الأولى في لبعد زائدة مؤكدة ، والتي في لقد هي الجواب ، ولا يبعد أن يكون هذا الكلام على معنى القسم ، كأنه قال : والله لو أنّ قومي.

وقد تحذف هذه اللام من بعد لو إذا لم يكن القسم ظاهرا.

قال (٥) :

فلو أنّ قومي أنطقتني رماحهم

نطقت ، ولكنّ الرماح أجرّت (٦)

أي : لنطقت.

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) الأبارص : جمع سام أبرص ، على إرادة النسب. أسلوب البيت إنشائي جاء في صورة قسم وغرضه التأكيد. وذكره صاحب اللسان في مادة (ب ر ص) دون أن ينسبه (٧ / ٥).

(٣) قول الآخر : البيت ذكره الفراء في معاني القرآن.

(٤) يقسم الشاعر ويؤكد قائلا أن قومه لو لم يكونوا أعزة للاقى مصرعه. والشاهد فيه زيادة اللام في قوله (لبعد) وهي زيادة للتأكيد ، والكلام يمكن أن يحمل على معنى القسم ، والبيت لم نعثر على قائله.

(٥) قال : القائل هو عمرو بن معدي كرب الزبيدي ، والبين من شعره (ص ٥٦).

(٦) أجرّت : الإجرار : يشق لسان الفصيل حتى يرضع. ويقول الشاعر أن الرماح كأنما قطعت ألسنتها فهي لا تجيب ولا تنطق وذلك على مجرى التشبيه الاستعاري.

٧١

ومثل هذه اللام اللام التي في جواب لولا ، نحو قوله عز وجل (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) (هود : ٩١) (١) ، و (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) (سبأ : ٣١) (٢).

وقال الشاعر (٣) :

فو الله لو لا الله لا شيء غيره

لزعزع من هذا السرير جوانبه (٤)

فهذه اللام التي في جواب لو لا إنما هي جواب القسم.

وربما حذفت إذا لم يظهر القسم إلى اللفظ ، قال يزيد بن الحكم :

وكم موطن لولاي طحت كما هوى

بأجرامه من قلّة النّيق منهوي (٥)

أي : لطحت.

__________________

(١) أي : لولا أنّا نبقي قومك. رجمناك : أي سببناك. تفسير مختصر الطبري (ص ٨٩٩).

(٢) وهي مقولة الذين استضعفوا للذين استكبروا في الآخرة حيث يقولون لهم : لولا أنتم لآمنا وكنا في عداد المؤمنين.

(٣) الشاعر : نسب البيت إلى أم الحجاج بن يوسف ، وقيل هو لامرأة في عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ، ومناسبة البيت كما في شرح أبيات المغني أن عمر بن الخطاب خرج من الليل فسمع امرأة تقول :

تطاول هذا الليل تسري كواكبه

وأرّقني أن لا ضجيع ألا عبه

فو الله لو لا الله تخشى عواقبه

لتزعزع من هذا السرير جوانبه

ولكنني أخشى رقيبا موكلا

بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه

مخافة ربي والحياء يصدني

وأكرم بعلي أن تنال مراكبه

فقال عمر لابنته حفصة : كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت : ستة أو أربعة أشهر ، فقال عمر : لا أحبس الجيش أكثر من هذا.

(٤) تقسم الشاعرة قائلة أنه لو لا الله تعالى وحده والجهاد في سبيله لما تحملت ألم الفراق ولتحركت بشدة وعنف من هذا السرير جوانبه. والبيت في جملته أسلوب إنشائي في صورة قسم غرضه التوكيد.

(٥) كم : خبرية تفيد الكثرة. طحت : طاح يطيح طيحا : هلك. أجرام : (م) الجرم. وهو الجسد. قلة : الشيء أعلاه. القاموس (٤ / ٤٠). النيق : أرفع موضع في الجبل (ج) أنياق ـ نيق ـ نياق. القاموس المحيط (٣ / ٢٨٧).

٧٢

ولا تدخل اللام في جواب لو ، ولو لا إلا على الماضي دون المستقبل ، وكان أبو علي قد قال لي قديما : إن اللام في جواب لو لا زائدة مؤكّدة ، واستدل على ذلك بجواز سقوطها. وكذلك مذهبه في لو على هذا القياس لجواز خلوّ جوابها من اللام.

أنشد ابن الأعرابي (١) :

فلو أنّا على حجر ذبحنا

جرى الدّميان بالخبر اليقين (٢)

أي : لجرى الدميان.

وأما ما أنشدناه أبو علي من قول الشاعر (٣) :

لما أغفلت شكرك فاصطنعني

وكيف ومن عطائك جلّ مالي (٤)

فإنما أدخل اللام وهي موجبة على ما وهي نافية ، وهذان أمران ضدان من قبل أنه شبه ما في اللفظ بـ «ما» الموصولة التي في معنى الذي ، وقد تقدم (٥) ذكرنا لهذا الشبه اللفظي.

وأما اللام الداخلة على المستقبل فتلزمها النون للتوكيد ولإعلام السامع أن هذا فعل مستقبل وليس للحال كالذي في قول الله عز وجل : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) (النحل : ١٢٤) (٦) أي : لحاكم.

فإن زال الشك بغير النون استغني عنها ، قال الله تعالى : (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (الشعراء : ٤٩) لأن سوف تخصّ الاستقبال ، وذلك قولك : والله لأقومنّ ولأقعدنّ.

واعلم أن هذه اللام إذا وليت المستقبل فلحقته النون لم تأت إلا على نية القسم.

__________________

(١) البيت نسبه صاحب الخزانة لعلي بن بدال بن سليم (٣ / ٣٥١).

(٢) يقول الشاعر أننا لو ذبحنا على حجر لسالت الدماء وجرت بالخبر اليقين. والبيت أسلوبه خبري تقريري.

(٣) البيت للنابغة الذبياني.

(٤) تم التعليق على البيت.

(٥) تقدم في ما ذكرناه.

(٦) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ :) الأسلوب إنشائي في صورة توكيد.

٧٣

قال سيبويه : «سألت الخليل عن ليفعلنّ إذا جاءت مبتدأة ، فقال : هي على نية القسم» (١) فكأنك إذا قلت على هذا : لأضربنّك ، فكأنك قلت : والله لأضربنّك ، وإذا قلت : لينطلقنّ زيد ، فكأنك قلت : والله لينطلقنّ زيد ، وكذلك قوله عز اسمه : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (ص : ٨٨) (٢) أي : والله لتعلمنّ.

وإذا كان ذلك كذلك فقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) (الإسراء : ٨٦) (٣) ليست اللام في لئن بجواب القسم ، إنما الجواب لنذهبنّ ، وعليه وقع الحلف ، واللام في لئن إنما هي زائدة مؤكدة ، يدلك على أن اللام الأولى زائدة وأن اللام الثانية هي التي تلقّت القسم جواز سقوط الأولى في نحو قول الشاعر ، قرأته على أبي علي في نوادر أبي زيد لقيس بن جروة الطائي جاهلي :

فأقسمت لا أحتلّ إلا بصهوة

حرام عليّ رمله وشقائقه

فإن لم تغيّر بعض ما قد صنعتم

لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه (٤)

ولم يقل : فلئن لم تغيّر ، فهذا نظير قوله عز اسمه : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (المائدة : ٧٣) أي : والله إن لم ينتهوا ليمسّنّ. وقد شبّه بعضهم «إذ» بـ «إن» فأولاها اللام ، فقال (٥) :

غضبت عليّ وقد شربت بجزّة

فلإذ غضبت لأشربن بخروف (٦)

__________________

(١) القسم : ذكر ذلك سيبويه في الكتاب.

(٢) (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ :) أي لتعلمن خبره وصدقه.

(٣) (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ :) يقول عز وجل : لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك فلا تعلمه انظر / تفسير مختصر الطبري (ص ٢٥١).

(٤) البيتين ذكر الثاني صاحب اللسان في مادة (ع ر ق) (١٠ / ٢٥٠) ونسبهما إلى عارق ، ويقال هو عمرو بن ملقط الطائي. الشاهد في قوله (لأنتحين) والتقدير أن اللام لام القسم أي والله لأنتحين. انظر / خزانة الأدب (٣ / ٣٣٠) ، والنوادر (ص ٢٦٦).

(٥) يقال : أن البيت لأعرابي كان يشرب الخمر ويشتريها بجزة صوف.

(٦) يقول الشاعر أنه شرب خمرا بجزة ، أي ما يجز من صوف الماعز والخراف فغضبت زوجته فأقسم إن غضبت ليشربن بخروف وليس بجزة منه. والشاهد اللام في قوله (لأشربن) حيث تعتبر لام القسم والتقدير والله لأشربن.

٧٤

ويدل أيضا على أنك إذا قلت : والله لئن قمت لأقومنّ فاعتماد القسم على اللام في لأقومنّ ، وأن اللام في لئن قمت زائدة منها بدّ قول كثيّر :

لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها

وأمكنني منها إذن لا أقيلها (١)

فرفعه أقيلها يدل على أن اعتماد القسم عليه كقوله عز اسمه : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) (الحشر : ١٢) (٢) أي : والله لا يخرجون معهم إن أخرجوا ، ولو كانت اللام التي في «لئن عاد لي عبد العزيز» جواب القسم لا نجزم لا أقيلها ، كما تقول : إن تقم إذن لا أقم ، وأما قوله تعالى ذكره : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا) فقال الخليل (٣) : «معناها ليظلّنّ» فأوقع الماضي موقع المستقبل. ومثله مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل قول الحطيئة (٤) :

شهد الحطيئة حين يلقى ربّه

أنّ الوليد أحقّ بالعذر (٥)

أي : يشهد وأنشدنا أبو علي (٦) :

وإني لآتيكم تشكّر ما مضى

من الأمر واستجاب ما كان في الغد (٧)

أي : ما يكون. وأما قوله تعالى ذكره : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (البقرة : ١٠٢) (٨) ، فاللام في «لقد علموا» لام قسم محذوف

__________________

(١) أقيلها : أتجاوز عنها. ويقول كثير : أن عبد العزيز لو عاد إلى ما ارتكبه مرة أخرى فلن أقبل عثرته ولن أتجاوز عنها.

(٢) وأولئك الذين لا يخرجون معهم هم المنافقون ، وقيل هم عبد الله بن أبي ، ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس. مختصر تفسير الطبري (ص ٤٨٣).

(٣) انظر / الكتاب (١ / ٤٥٦).

(٤) عثرنا على البيت في ديوانه.

(٥) يقول الحطيئة أنه سيشهد حين يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر. والبيت خبري غرضه الاسترحام.

(٦) روى أبو علي ذلك عن الطرماح وهو الطرماح بن حكيم. انظر / الخصائص (٣ / ٣٣١).

(٧) (إني ...) أسلوب إنشائي في صورة توكيد الذي يدل على قوة الإقناع بالحجة المصحوبة بالدليل. والبيت للطرماح بن حكيم.

(٨) خلاق : حظ ونصيب من الخير ، والأسلوب إنشائي في صورة توكيد. القاموس (٣ / ٢٢٩)

٧٥

مقدر ، ومعناه : والله لقد علموا ، واللام في «لمن اشتراه» لام الابتداء ، ومن بمنزلة الذي ، وتقديره ـ والله أعلم ـ والله لقد علموا للّذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ، والذي في موضع رفع بالابتداء ، وصلته اشتراه ، وقوله عز وجل : «وما له في الآخرة من خلاق» خبر الذي ، والجملة التي هي مبتدأ وخبر في موضع نصب بعلموا ، كما تقول : قد علمت لزيد أفضل منك ، ولقد علمت أزيد عندك أم عمرو ، فلام الابتداء في هذا وهمزة الاستفهام في اقتطاعهما الاسم من العامل الذي قبله ، وحولهما بينه وبينه سواء. فهذا هو الوجه أن تجعل من بمنزلة الذي ، واللام فيه لام الابتداء ، وهو مذهب سيبويه (١).

وفيه وجه ثان ذهب إليه غيره ، وهو أن تجعل من شرطا ، وتجعل اللام فيه كالتي تعترض زائدة بين القسم والمقسم عليه نحو قوله عز وجل : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً) (الروم : ٥١) (٢) فيصير التقدير «والله لقد علموا لئن أحد اشتراه ما له في الآخرة من خلاق» فيجري هذا مجرى قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) (آل عمران : ٨١) (٣) أي : لئن آتيتكم شيئا من كتاب وحكمة.

على أن مذهب سيبويه والخليل (٤) أن ما ههنا بمنزلة الذي ، واللام فيها لام الابتداء. وفي اعتقاد من جعل من في قوله عز اسمه : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) (البقرة : ١٠٢) شرطا بعض الضعف ، وذلك أن «علموا» تقتضي مفعوليها ، فإذا أوقعت القسم بعدها حتى يصير كأنه قال : ولقد علموا والله لئن اشتراه أحد ما له في الآخرة من خلاق ، وأصل والله ـ كما علمت ـ أحلف بالله ، فقد صار التقدير ـ والله أعلم ـ ولقد علموا أحلف بالله لئن اشتراه أحد ليكوننّ كذا وكذا ، وإذا تأدّى الأمر إلى هذا قبح أن يلي علمت فعل القسم ؛ لأن علمت وأخواتها إنما تدخل على المبتدأ وخبره لا على الفعل وفاعله.

__________________

(١) الكتاب (١ / ١٢٠ ، ٤٧٣).

(٢) وقد سبق ذكرها.

(٣) ميثاق : عهد (ج) مواثيق. القاموس (٣ / ٢٨٧). حكمة : بالكسر العدل والعلم والحلم والنبوة والقرآن والإنجيل (ج) حكم. القاموس (٤ / ٩٨). والأسلوب خبري تقريري.

(٤) مذهبهما في الكتاب (١ / ٤٥٥).

٧٦

فإن قلت : فعلام تجيز كون من شرطا وقد قدّمت قبح ذلك؟

فالجواب : أن جواز ذلك على أن تجعل «علموا» نفسها قسما ، وقد استعملتها العرب بمعنى القسم ، ومن أبيات الكتاب (١) :

ولقد علمت لتأتينّ منيّتي

إنّ المنايا لا تطيش سهامها (٢)

فكأنه قال : والله لتأتينّ منيّتي.

فإن قلت : فإذا جعلت علموا جاريا مجرى القسم بما ذكرته ، وعندك أن اللام في لقد دالة على القسم المحذوف ، فكأنه عندك : والله لقد علموا ، وقوله : (لَقَدْ عَلِمُوا) جار مجرى القسم ، فكيف يجوز على هذا دخول القسم على القسم ، أولا ترى أن سيبويه والخليل (٣) ذهبا في قوله تعالى ذكره : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (الشمس : ١ ، ٢) (٤) أن جميع ما بعد الواو الأولى من الواوات إنما هو واو عطف ، وليس بواو قسم لئلا يدخل قسم على قسم ، فيبقى الأول منهما غير مجاب؟

فالجواب : أن ذلك إنما جاز في علموا من حيث كان إنما هو في معنى القسم ، وليس قسما صريحا ، وإنما هو بمنزلة أشهد لقد كان كذا ، وما جرى مجرى هذا مما ليس بقسم محض ، فلأجل هذا جاز أن تكون من في قوله سبحانه : (لَمَنِ اشْتَراهُ) شرطا ، واللام في أولها مؤكدة للشرط ، فاعرف ذلك إن شاء الله.

وذهب أبو إسحاق في قوله جل ثناؤه : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) (الحج : ١٣) (٥) إلى أن التقدير : يدعو من لضرّه أقرب من نفعه.

__________________

(١) نسب البيت صاحب الكتاب إلى لبيد بن ربيعة العامري وهو مذكور في معلقته (١ / ٤٥٦).

(٢) الشاهد فيه وشرحه. انظر / شذور الذهب (ص ٣٦٥) شاهد ١٨٥.

(٣) الكتاب (٢ / ١٤٦) والآية التي ذكرها سيبويه في هذه المسألة قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (الليل : ١ ـ ٣).

(٤) الأسلوب إنشائي في صورة قسم غرضه التوكيد. والشاهد في الآية أن جميع الواو حرف عطف.

(٥) أي يدعو آلهة لضرها في الآخرة أقرب من نفعها. والشاهد فيه تقديم اللام عن موضعها ، والتقدير يدعو من لضره أقرب من نفعه. وهذا رأي البصريين والكوفيين.

٧٧

قال : فقدمت اللام عن موضعها ، وحكى هذا القول عن البصريين والكوفيين جميعا. وهذا عندنا على إجماع الكافة عليه في ما حكاه أبو إسحاق غير جائز ولا مرضي ، وقد أنكره أبو علي ، وذهب في فساده إلى أن اللام على هذا التقدير من صلة من ، ومحال أن تتقدم الصلة أو شيء منها على الموصول.

فإن قلت : فما تقول في هذه اللام ، وكيف موقع الكلام؟

فالجواب : أن فيه أربعة أوجه غير ما حكاه أبو إسحاق :

أحدها : أن تجعل يدعو تكرارا لـ «يدعو» الأولى (١) ، وترك إعمالها لأنها قد أعملت متقدمة ، فاستغني فيها عن إعادة العمل ، كما تقول : ضربت زيدا ضربت ، حكى ذلك سيبويه ، أعني قولهم : ضربت زيدا ضربت ، وتكون اللام في «لمن» لام الابتداء و «من» مرفوعة بالابتداء ، وقوله عز وجل : (لَبِئْسَ الْمَوْلى) (الحج : ١٣) (٢) خبر «من» كأنه قال : للّذي ضرّه أقرب من نفعه لبئس المولى ، واللام التي في «لبئس» هي اللام التي يتلقّى بها القسم في نحو :

 ...

لناموا فما إن من حديث ولا صالي (٣)

وهي تدل على يمين محذوفة ، فكأنه ـ والله أعلم ـ للّذي ضرّه أقرب من نفعه والله لبئس المولى ، كما تقول : زيد والله لقد قام. فهذا وجه.

والثاني : أن تكون هناك هاء محذوفة منصوبة بيدعو ، وتكون الجملة في موضع نصب على الحال من «ذلك» في قوله عز وجل : (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (إبراهيم : ١٨) (٤) التقدير : ذلك هو الضلال البعيد مدعوا ، وغير منكر حذف

__________________

(١) الأولى : أي قوله تعالى (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ).

(٢) (لَبِئْسَ الْمَوْلى) أسلوب ذم غرضه التحقير. والشاهد فيه اللام التي يتلقى بها القسم ، والتي تدل على يمين محذوفة تقديرها : والله لبئس المولى.

(٣) والشاهد فيها وجود اللام التي يتلقى بها القسم والتي تدل على يمين محذوفة.

(٤) الشاهد فيه أن ذلك نزلت منزلة اسم الموصول ـ الذي ـ وبالتالي فإن جملة (هو الضلال البعيد) هي صلة له ، وتنصب «ذلك» على المفعولية للفعل يدعو.

٧٨

الهاء من الحال لأنها تضارع الصفة ، والصفة قد يجوز فيها حذف الهاء جوازا حسنا ، وذلك نحو قولك : الناس رجلان فرجل أكرمت ورجل أهنت ، والقوم مختلفون فواحد ضربني وآخر ضربت ، قال : وهو من أبيات الكتاب (١) :

أبحت حمى تهامة بعد نجد

وما شيء حميت بمستباح (٢)

أي : حميته ، فعلى هذا تقول : نظرت إلى زيد تضرب هند ، أي : تضربه هند ، فتحذف الهاء من الحال لمضارعتها الصفة.

والوجه الثالث : أن تجعل «ذلك» بمنزلة «الذي» وتجعل الجملة التي هي قوله تعالى : (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) صلة له ، وتنصب «ذلك» الذي بمعنى «الذي» بيدعو ، فيصير التقدير : يدعو الذي هو الضلال البعيد ، ثم يقدّم المفعول الذي هو «الذي» فيصير التقدير : الذي هو الضلال البعيد يدعو ، كما تقول : زيدا يضرب ، و «ذا» قد استعملت بمعنى الذي ، نحو قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) (البقرة : ٢١٩) (٣) في من رفع الجواب ، فقال : (قُلِ الْعَفْوَ)(٤) أي : ما الذي ينفقون؟ فرفع «العفو» يدل على أن ما مرفوعة بالابتداء ، وذا خبرها ، وينفقون صلة ذا ، وأنه ليس «ماذا» جميعا كالشيء الواحد ، هذا هو الوجه عند سيبويه ، وإن كان قد أجاز الوجه الآخر مع الرفع.

__________________

(١) نسب صاحب الكتاب البيت لجرير وعثرنا عليه في ديوانه (١ / ٤٥).

(٢) أبحت : أباح الشيء أي أحله وأطلقه. حمى : الحمى : الموضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يرعى. لسان العرب (١٤ / ١٩٩). مستباحا : أي عده مباحا وأحله وأطلقه. الشاهد فيه حذف الهاء من قوله حميت ، والتقدير أي وما شيء حميته.

(٣) أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيدا وعكرمة عن ابن عباس ، أن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فقالوا : إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا فما ننفق منها؟. وأخرج أيضا عن يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فقالا : يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين ، فما ننفق من أموالنا؟ فأنزل الله هذه الآية. تفسير وبيان مع أسباب النزول للسيوطي (ص ٧٢ ـ ٧٣).

(٤) هي قراءة أبي عمرو ، أما بقية القراءات للقراء السبعة فقرأوها بالنصب.

٧٩

والوجه الرابع : أن يكون «يدعو» بمنزلة يقول ، أي : يقول لمن ضرّه أقرب من نفعه إله أو ربّ ، فتكون من مرفوعة بالابتداء ، وخبرها محذوف مقدر كما أريتك. ويدلك على أن «يدعو» بمنزلة يقول قول عنترة (١) :

يدعون عنتر والرماح كأنها

أشطان بئر في لبان الأدهم (٢)

أي : يقولون : يا عنتر ، فدلّت «يدعون» عليها. وقد ذهب أيضا أبو إسحاق في هذه الآية إلى أن «يدعو» بمنزلة يقول ، وهو صحيح.

فإن قلت : فلم جعلت خبر من محذوفا دون أن يكون قوله : «لبئس المولى» كما أجزت أنت ذلك في ما تقدم من كلامك؟

فالجواب : أن الكفار ليسوا يقولون لمن يدعونه إلها «لبئس المولى ولبئس العشير» لأنهم لو قالوا ذلك لكان سوء ثناء منهم عليه ، والكافر لا يسيء الثناء على معبوده ، لأنه لو ساء ثناؤه عليه لما عبده أصلا ، ونحن في

أول الأمر لم نحك ذلك عنهم ، وإنما أخبرنا أن من ضرّه أقرب من نفعه فإنه بئس المولى ، وكذلك هو عندنا ، وليس هو كذلك ، عند من يكفر بالله تبارك وتعالى.

فإن قلت : فإذا كان الأمر كذلك فكيف جاز أن يقول : يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه إله ، والكافر لا يقول : لمن ضره أقرب من نفعه إله ، لأن ذلك أيضا سوء ثناء منه عليه ، كما أن قوله : «لبئس المولى» سوء ثناء عليه ، فما الفرق بين الموضعين؟ ولم جاز أحدهما دون الآخر؟

فالجواب : أن ذلك إنما جاز على حكاية قولنا نحن فيه ، ونظير هذا قولك لمن تريد أن تردعه عن الشيء وتثنيه (٣) إلى غيره : انته عن كذا وكذا فإنه باطل ، فيقول

__________________

(١) البيت من معلقة عنترة وكذا في ديوانه

(٢) أشطان : (م) شطن. والشطن فتحتين الحبل وقال الخليل هو الحبل الطويل. لبان : اللبان : الصدر أو وسطه أو ما بين الثديين. القاموس (٤ / ٢٦٥). الأدهم : دهم ، دهمة : اسود فهو أدهم وهي دهماء (ج) دهم. والأدهم اسم يطلق على فرس عنترة. القاموس المحيط (٤ / ١١٥). والشاهد فيه معاملة يدعو بمنزلة يقول.

(٣) تثنيه : أي تجعله ينعطف ويرتد. لسان العرب (١٤ / ١١٥) مادة / ثنى.

٨٠