سرّ صناعة الإعراب - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

سرّ صناعة الإعراب - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-2702-0
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

 .......

كانت مباركة من الأيّامي (١)

وكذلك إن وقفت على ياء ساكنة مكسور ما قبلها ألحقتها ياء أخرى ، ومددت ، فقلت : «رغبت فيي» أي : في زيد ونحوه ، و «ضربت غلاميي» أي : ضربت غلامي أمس مستذكرا أمس ونحوه ، فتزيد على الياء ياء أخرى. وقد ذكرنا نحو هذا في حرف الواو وحرف الألف ، فاعرفه.

فإن كانت قبل الياء والواو فتحة كسرتهما في التذكر ، وألحقت بعدهما ياء ، وذلك قولك : قام زيد أوي ، أي : أو عمرو ، ونحوه ، وضربت غلاميي ، أي : غلامي زيد أو نحوه. وإنما كسرتهما لأنك قد كنت تكسرهما لالتقاء الساكنين في نحو قولك : قام الغلام أو الرجل ، وضربت غلامي الرجل. وتقول : (أولئك الذين اشترووا) (البقرة : ١٦) (٢) وتقف متذكرا (الضَّلالَةَ ،) وفي (عَصَوُا الرَّسُولَ) (النساء : ٤٢) : (عصووا) لأجل أن هذه الواو مضمومة لالتقاء الساكنين ، فتضمها هنا ، وتلحق ضمتها واوا.

ومن كان من لغته من الكلام : اشتروا الضلالة (٣) قال في التذكر : اشتروي. ومن قرأ (٤) : اشتروا الضلالة ففتح الواو قال في التذكر : اشتروا فألحق الواو ألفا.

وحكى الكوفيون عن العرب «أكلت لحما شاة» أي : لحم شاة ، فهذا على تذكر الشاة ، فأشبع الفتحة ، فاستطالت ألفا.

ومن قال : لو انطفلق بزيد لكان كذا ، قال في التذكر «لوو» ، ومن كسر الواو هناك قال هنا «لوي» ، فالواو والياء إذا انفتح ما قبلهما تجريان هنا مجرى الصحيح كما ترى.

__________________

(١) الشاهد فيه (الأيامى) حيث زيدت الياء إشباعا للكسر.

(٢) الشاهد فيه (اشترووا) حيث زيدت الواو إشباعا للضم.

(٣) اشتروا الضلالة : كسر الواو لغة لبعض العرب وهي شاذة وقد قرأ بها قوم. انظر / معاني القرآن للأخفش (ص ٤٥).

(٤) وفتح الواو قراءة أبي السماك. البحر المحيط (١ / ٧١).

٤٠١

وتزاد الياء بمعنى الاسم في نحو «غلامي» و «صاحبي». وللعرب في هذه الياء لغتان ، منهم من يفتحها ، ومنهم من يسكنها ، فمن فتحها قال : هي اسم ، وهي على أقل ما تكون عليه الكلم ، فقوّيتها بالحركة كما فتحت كاف المخاطب في نحو : رأيتك ، ومررت بك. ومن سكّنها قال : الحركات على كل حال مستثقلة في حرفي اللين ؛ ألا ترى أن من قال في قصعة ، وجفنة : قصعات ، وجفنات لم يقل في نحو جوزة ، وبيضة إلا جوزات ، وبيضات بالإسكان.

فأمّا ما جاء عنهم من قول الشاعر (١) :

أبو بيضات رائح متأوّب

رفيق بمسح المنكبين سبوح (٢)

فشاذ لا يقاس عليه باب.

فأما الياء في «إيّاي» فقد تقدم من قولنا في حرف الكاف إنها على مذهب أبي الحسن حرف لمعنى التكلم ، كما أن الكاف في «إياك» لمعنى الخطاب ، وإنها هنا ليست على هذا القول باسم ، كما أن الكاف ليست هناك باسم. ومن رأى أن «إيّاك» بكماله هو الاسم كانت «إياي» أيضا بكمالها هي الاسم. ومن رأى أن الكاف في «إياك» في موضع جر بإضافة «إيّا» إليها ، رأى أيضا مثل ذلك في الياء من «إيّاي» ، وكان ذلك في الياء أسهل منه في الكاف ، وذلك أن الكاف قد رأيناها في نحو «ذلك» و «أولئك» و «هنالك» حرفا لا محالة ، ولم نر نحو الياء التي في «إياي» حرفا في غير «إيّاي» ، إلا أن أبا الحسن أجرى الياء هنا مجرى الكاف في إياك ، وقد تقدم من الحجاج في باب الكاف ما يصح به مذهب أبي الحسن وإن كان غريبا لطيفا.

__________________

(١) نسب البيت في خزانة الأدب (٣ / ٤٢٩) للهذلي ، والخصائص (٣ / ١٨٤) ، وشرح المفصل (٥ / ٣٠) بغير نسب.

(٢) رائح : الذهاب بالعشي. اللسان (٢ / ٤٦٤). متأوب : يسير النهار أجمع وينزل الليل. سبوح : يسبح بيديه في سيره. اللسان (٢ / ٤٧٠) مادة / سبح. الشاعر يصف ذكر النعام بأنه يسير نهار وليلا بانتظام ورقة ، ويعلم كيف يحرك منكبيه أثناء السير والجري. والشاهد فيه (بيضات) حيث حركت الياء وهو شاذ لا يقاس عليه فأصله (بيضات) بسكون الياء.

٤٠٢

وتزاد للنسب ، وذلك نحو «بصريّ» و «كوفيّ». وتزاد أيضا في الاستفهام عن النكرة المجرورة إذا وقفت ، وذلك إذا قيل : «مررت برجل» قلت في الوقف «مني» فهذه الياء إنما لحقت في الوقف زائدة لتدل على أن السائل إنما سأل عن ذلك الاسم المجرور بعينه ، ولم يسأل عن غيره ، فجعلت هذه الياء هنا أمارة لهذا المعنى ودلالة عليه ، وكانت الياء هنا أولى من الألف والواو لأن المسؤول عنه مجرور ، والياء بالكسرة أشبه منها بالواو والألف ، وليست الياء هنا بإعراب ، إنما دخلت لما ذكرت لك ، ولو كانت إعرابا لثبتت في الوصل ، فقلت : «مني يا فتى» وهذا لا يقال ، بل يقال : «من يا فتى» في كل حال ، وإنما هذه زيادة لحقت في الوقف لأن الوقف من مواضع التغيير.

ونظيرها التشديد الذي يعرض في الوقف في نحو : «هذا خالدّ» و «هو يجعلّ» ، قال سيبويه : إنما ثقل هذا ونحوه في الوقف حرصا على البيان ، وإعلاما أن الكلمة في الوصل مطلقة ، لأنه معلوم أنه لا يجتمع في الوصل ساكنان على هذا الحد. والقول في الألف في «منا» والواو في «منوا» هو القول في الياء الذي مضى آنفا.

* * *

٤٠٣
٤٠٤

فصل

في تصريف حروف المعجم واشتقاقها وجمعها

اعلم أن هذه الحروف ما دامت حروف هجاء غير معطوفة ولا موقعة موقع الأسماء ، فإنها سواكن الأواخر في الإدراج والوقف ، وذلك قولك : ألف ، با ، تا ، ثا ، جيم ، حا ، خا ، دال ، ذال ، را ، زاي ، سين ، شين ، صاد ، ضاد ، وكذلك إلى آخرها ، وذلك أنها إنما هي أسماء الحروف الملفوظ بها في صيغ الكلم بمنزلة أسماء الأعداد ، نحو ثلاثة أربعه خمسه تسعه ، ولا تجد لها رافعا ولا ناصبا ولا جارا ، وإذا جرت كما ذكرنا مجرى الحروف لم يجز تصريفها ولا اشتقاقها ولا تثنيتها ولا جمعها ، كما أن الحروف كذلك.

ويدلك على كونها بمنزلة هل ، وبل ، وقد ، وحتى ، وسوف ، ونحو ذلك ، أنك تجد فيها ما هو على حرفين الثاني منهما ألف ، وذلك نحو : با تا ثا حا خا طا ظا ، ولا تجد في الأسماء المعربة ما هو على حرفين الثاني منهما حرف لين ، إنما ذلك في الحروف نحو ما ، ولا ، ويا ، وأو ، ولو ، وأي ، وكي ، فلا تزال هذه الحروف هكذا مبنية غير معربة لأنها أصوات بمنزلة صه ، ومه ، وإيه ، وغاق (١) ، وحاء (٢) ، وعاء (٣) ، حتى توقعها مواقع الأسماء ، فترفعها حينئذ ، وتنصبها ، وتجرها ، كما تفعل ذلك بالأسماء ، وذلك قولك : أول الجيم جيم ، وآخر الصاد دال ، وأوسط الكاف ألف ، وثاني السين ياء ، وكتبت جيما حسنة ، وخططت قافا صحيحة.

وكذلك العاطف (٤) لأنه نظير التثنية ، فتقول : ما هجاء بكر؟ فيقول المجيب : باء وكاف وراء ، فيعرف لأنه قد عطف ، فإن لم يعطف بني ، فقال : با كاف را.

__________________

(١) غاق : حكاية صوت الغراب. اللسان (١٠ / ٢٩٥) مادة / غوق.

(٢) حاء : قال ابن سيده : أمر للكبش بالسفاد. اللسان (١٥ / ٤٤٨) مادة / حا.

(٣) عاء : زجر للضئين. اللسان (١٥ / ١١١) مادة / عوى.

(٤) يقصد حروف العطف وعملها وتأثيرها فيما تدخل عليه.

٤٠٥

قال (١) :

كافا وميما ثم سينا طاسما (٢)

وقال الآخر (٣) :

 .......

كما بيّنت كاف تلوح وميمها (٤)

وقال الآخر (٥) :

إذا اجتمعوا على ألف وباء

وتاء هاج بينهم جدال

وكذلك أسماء العدد مبنية أيضا ، تقول : واحد اثنان ثلاثه أربعه خمسه.

ويؤكد ذلك عندك ما حكاه سيبويه (٦) من قول بعضهم : «ثلاثهربعه». فتركه الهاء من «ثلاثه» بحالها غير مردودة إلى التاء ـ وإن كانت قد تحركت بفتحة همزة «أربعه» ـ دلالة على أن وضعها وبنيتها أن تكون في العدد ساكنة ، حتى إنه لما ألقى عليها حركة الهمزة التي بعدها أقرّها هاء في اللفظ بحالها على ما كانت عليه قبل إلقاء الحركة عليها ، ولو كانت كالأسماء المعربة لوجب أن تردّها متى تحركت تاء ، فتقول «ثلاثتربعه» كما تقول : رأيت طلحة يا فتى. فإن أوقعتها موقع الأسماء أعربتها ، وذلك قولك : ثمانية ضعف أربعة ، وسبعة أكثر من أربعة بثلاثة ، فأعربت هذه الأسماء ، ولم تصرفها لاجتماع التأنيث والتعريف فيها ؛ ألا ترى أن «ثلاثة» عدد معروف القدر ، وأنه أكثر من «اثنين» بواحد ، وكذلك «خمسة» مقدار من العدد معروف ؛ ألا ترى أنه أكثر من «ثلاثة» باثنين.

__________________

(١) البيت ذكره صاحب المفصل (٦ / ٢٩) ، وكذا ذكره صاحب الكتاب (٢ / ٣١) ولم ينسبه أحدهما وكذا صاحب اللسان في المقدمة (١ / ١٢) ولم ينسبه أيضا.

(٢) والشاهد فيه قوله (كافا ـ ميما ـ سينا) حيث عطف الحروف على بعضها.

(٣) البيت ذكره صاحب اللسان مادة (كوف) (٩ / ٣١١) ولم ينسبه وذكره صاحب المقتضب ولم ينسبه أيضا (١ / ٢٣٧) ، وذكره صاحب الكتاب (٣ / ٢٦٠) ونسبه إلى الراعي وهو عبيد الله بن حصين

(٤) والشاهد فيه قوله (كاف ـ ميمها).

(٥) البيت في هجاء النحويين وينسب في درة الغواص إلى عيسى بن عمر ، ونسب ليزيد بن الحكم وجاء في معاني القرآن للزجاج (١ / ٢٣) ، وشرح المفصل (٦ / ٢٩).

(٦) الكتاب (٢ / ٣٤).

٤٠٦

فإن قلت : ما تنكر أن تكون هذه الأسماء نكرة لدخول لام المعرفة عليها ، وذلك قولك : الثلاثة نصف الستة ، والسبعة تعجز عن الثمانية واحدا؟

فالجواب : أنه قد ثبت أن هذه الأسماء التي للعدد معروفة المقادير ، فهي على كل حال معرفة ، وأما نفس المعدود فقد يجوز أن يكون معرفة ونكرة ، فأما إدخالهم اللام على أسماء العدد فيما ذكره السائل نحو : الثمانية ضعف الأربعة ، والاثنان نصف الأربعة ، فإنه لا يدل على تنكير هذه الأسماء إذا لم تكن فيها لام ، وإنما ذلك لأن هذه الأسماء يعتقب عليها تعريفان : أحدهما العلم ، والآخر اللام.

ونظير ذلك قولك : لقيته فينة والفينة ، وقالوا للشمس : «إلاهة» و «الإلاهة» ، وقالوا للمنيّة : «شعوب» و «الشّعوب» ، ولهذا نظائر ، فكما أن هذه الأسماء لا يدل دخول اللام عليها على أنها إذا لم تكن فيها فهي نكرات ، فكذلك أيضا «أربعة» و «الأربعة» و «خمسة» و «الخمسة» هو بمنزلة «فينة» و «الفينة» و «إلاهة» و «الإلاهة» ، أنشدنا أبو علي ، ورويناه أيضا عن قطرب من غير جهته :

تروّحنا من اللّعباء قصرا

وأعجلنا إلاهة أن تؤوبا (١)

ويروى : الإلاهة ، فاعرف هذا فإنه لطيف.

فإذا ثبت بما قدمناه أن حروف المعجم أصوات غير معربة ، وأنها نظيرة الحروف نحو «هل» و «لو» و «من» و «في» لم يجز أن يكون شيء منها مشتقا ولا مصرّفا ، كما أن الحروف ليس في شيء منها اشتقاق ولا تصريف ، وقد تقدم القول على ذلك في حرف الألف. فإذا كان ذلك كذلك فلو قال لك قائل : ما وزن «جيم» أو «طاء» أو «كاف» أو «واو» من الفعل؟ لم يجز أن تمثّل ذلك له ، كما لا يجوز أن تمثل له «قد» و «سوف» و «لولا» و «كيلا» ، فأما إذا نقلت هذه الحروف إلى حكم الأسماء بإيقاعها مواقعها من عطف أو غيره ، فقد نقلت إلى مذاهب الاسمية ، وجاز فيها تصريفها وتمثيلها وتثنيتها وجمعها والقضاء على ألفاتها وياءاتها ، إذ قد صارت إلى حكم ما ذلك جائز فيه غير ممتنع منه.

__________________

(١) البيت في اللسان مادة (أله) و (١٣ / ٤٦٨) ينسب إلى مية بنت أم عتبة بن الحارث وبغير نسب في الجمهرة (١ / ٣١٦) ، ونسب في معجم البلدان إلى مية (٥ / ١٨).

٤٠٧

وهذا الفصل هو الذي يلطف (١) فيه النظر ، ويحتاج إلى بحث وتأمل ، ونحن نقول في ذلك مما رويناه ورأيناه ما يوفق الله تعالى له إن شاء الله ، وبه الثقة.

اعلم أن هذه الحروف تأتي على ضربين :

أحدهما : ما هو ثنائي ، والآخر : ثلاثي.

ونبدأ بذكر الثنائي لأنه أسبق في مرتبة العدّة ، وذلك : با تا ثا حا خا را طا ظا فا ها يا ، وأما الزاي فللعرب فيها مذهبان : منهم من يجعلها ثلاثية ، فيقول : زاي ، ومنهم من يجعلها ثنائية ، فيقول : زي ، وسنذكرها على وجهيها.

وقد حكي فيها «زاء» ممدودة ومقصورة.

وأما الألف التي بعد اللام في قولك «لا» فقد ذكرنا حالها لم دخلت اللام عليها ، وأن ذلك إنما لزمها لما كانت لا تكون إلا ساكنة ، والساكن لا يمكن ابتداؤه ، وأنها دعمت باللام من قبلها توصلا إلى النطق بها ، ولم يمكن تحريكها فينطق بها في أول الحرف ، ويزاد عليها غيرها كما فعل ذلك بجيم قاف لام ، وغير ذلك مما تجد لفظه في أول اسمه ، فلم يكن بدّ في إرادة اللفظ بها من حرف تدعم به أمامها ، واختيرت لها اللام دون غيرها لما ذكرناه في حرف الألف.

فأما ما كان على نحو : با تا حا طا ، فإنك متى أعربته لزمك أن تمدّه ، وذلك أنه على حرفين الثاني منهما حرف لين ، والتنوين يدرك الكلمة ، فتحذف الألف لالتقاء الساكنين ، فيلزمك أن تقول : هذه طا يا فتى ، ورأيت طا حسنة ، ونظرت إلى طا حسنة ، فيبقى الاسم على حرف واحد ، فإن ابتدأته وجب أن يكون متحركا ، وإن وقفت عليه وجب أن يكون ساكنا ، فإن ابتدأته ووقفت عليه جميعا وجب أن يكون ساكنا متحركا في حال ، وهذا ظاهر الاستحالة.

فأمّا ما رواه سلمة عن الفراء عن الكسائي فيما أخبرنا به أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى من قول بعضهم : «شربت ما» بقصر «ماء» ، فحكاية شاذة لا نظير لها ، ولا يسوغ قياس غيرها عليها.

__________________

(١) يلطف : يصغر ويدق. اللسان (٩ / ٢١٦) مادة / لطف.

٤٠٨

فإذا كان الأمر كذلك زدت على ألف : با تا ثا ونحو ذلك ألفا أخرى ، كما رأيت العرب فعلت لما أعربت «لو» ، فقالوا : (١)

ليت شعري ، وأين مني ليت

إنّ ليتا وإنّ لوّا عناء (٢)

وأنشدنا أبو علي (٣) :

أفلا سبيل لأن يصادف روعنا

لوّا ، ولوّ كاسمها لا توجد (٤)

وقال الآخر (٥) :

علقت لوّا تكرّره

إنّ لوّا ذاك أعيانا (٦)

فكما زادت العرب على هذه الواو واوا أخرى ، وجعلت الثاني من لفظ الأول لأنه لا أصل له فيرجع عند الحاجة إليه ، كذلك زدت على الألف من با تا ثا ألفا أخرى عروضا لما رأيت العرب فعلت في «لو» لما أعربتها ، فصار التقدير «باا» «تاا» «طاا» «هاا» فلما التقت ألفان ساكنتان لم يكن من حذف إحداهما أو حركتها بدّ ، فلم يسغ حذف إحداهما لئلا تعود إلى القصر الذي منه هربت ، فلم يبق إلا أن تحرك إحداهما ، فلما وجب التحريك لالتقاء الساكنين كانت الألف الثانية بذلك أحرى ؛ لأنك عندها ارتدعت إذ كنت إليها تناهيت ، فلما حركت الثانية قلبتها همزة على حد ما بينّاه في حرف الهمزة من إبدال الهمزة من الألف.

فعلى هذا قالوا : خططت باء حسنة ، وكتبت حاء جيدة ، وأراك تكتب طاء صحيحة ، وما هذه الراء الكبيرة؟

__________________

(١) البيت نسب في الكتاب (٢ / ٢٣) إلى أبي زيد الطائي ، وكذا الجمهرة (١ / ١٢٢) والخزانة (٣ / ٢٨٢) ، وذكر بغير نسب في المقتضب (١ / ٣٧٠).

(٢) الشاهد فيه (وإن لوا) حيث أعربت (لو) ونونت ، وهذا شاذ لا يقاس عليه.

(٣) المنصف (٢ / ١٥٣).

(٤) الشاهد فيه (لوّا) حيث اعربت (لو).

(٥) البيت للنمر بن تولب في اللسان (إمالا) (١٥ / ٤٦٩) ، والخصائص (١٧ / ٥٠).

(٦) الشاهد فيه (لوا) حيث أعربت في هذه الشواهد وهذا مما لا يقاس عليه.

٤٠٩

فأما قول الشاعر (١) :

يخطّ لام ألف موصول

والزاي والرّا أيّما تهليل (٢)

فإنما أراد «الراء» ممدودة ، فلم يمكنه ذلك لئلا ينكسر الوزن ، فحذف الهمزة من الراء ، وجاء بذلك على قراءة أبي عمرو في تخفيف الأولى من الهمزتين إذا التقتا من كلمتين ، وكانتا جميعا متفقتي الحركتين نحو قوله فقد جا أشراطها (محمد : ١٨) وإذا شا أنشره (عبس : ٢٢) على ما يرويه أصحابه من القراء عنه ، فكذلك كان أصل هذا : «والزاي والراء أيما تهليل» فلما اتفقت الحركتان حذف الأولى من الهمزتين كما حذفها أبو عمرو.

فإن قلت : ولم حذف أبو عمرو الأولى من الهمزتين ، وإنما ارتدع عند الثانية ، وهلا حذف الهمزة الآخرة التي انتهى دونها ، وارتدع عندها؟ (٣)

فالجواب : أنه قد علم أن ههنا همزتين ، وقد اعتزم حذف إحداهما ، فكان الأحرى بالحذف عنده التي هي أضعفهما ، والهمزة الأولى أضعف من الثانية في مثل هذا ؛ ألا ترى أن الهمزة من «جاء» لام ، وأن الهمزة من «أشراط» قبل الفاء ، والفاء أقوى من العين ، والعين أقوى من اللام ، وما قبل الفاء أشدّ تقدما من الفاء التي هي أقوى من العين التي هي أقوى من اللام ، فكان الحذف بما هو آخر أولى منه بما هو أول ، فلذلك حذف أبو عمرو الأولى لضعفها بكونها آخرا ، وأقر الثانية لقوتها بكونها أولا.

فهذا أحد ما يصلح أن يحتج به لأبي عمرو ـ رحمه الله ـ في حذفه الأولى من الهمزتين إذا كانتا من كلمتين ومتفقتي الحركتين.

وسألت أبا علي عن هذا الذي ذكرناه في «باء» و «تاء» ونحوهما ، فقلت : ما تقول في هذه الألف التي قبل الهمزة؟

أتقول : إنها منقلبة عن واو أو ياء ، أو تقول : إنها غير منقلبة؟

__________________

(١) البيت في اللسان في مادة (زيا) (١٤ / ٣٦٧) ، والخزانة (١ / ٥٦).

(٢) الشاهد فيه (الرا) حيث أراد الراء ممدودة فاسمها (الراء) وليس (الرا).

(٣) وارتدع عندها : تراجع عندها.

٤١٠

فقال : لا ، بل الألف الآن مقضي عليها بأنها منقلبة عن واو ، والهمزة بعدها في حكم ما انقلب عن الياء لتكون الكلمة بعد التكملة والصيغة الإعرابية من باب «شويت» و «طويت» و «حويت».

فقلت له : ألسنا قد علمنا أن الألف في «باء» هي الألف التي في «با» «تا» «ثا» إذا تهجّيت ، وأنت تقول : إن تلك الألف غير منقلبة من ياء أو واو لأنها بمنزلة ألف «ما» و «لا»؟

فقال : لما نقلت إلى الاسمية دخلها الحكم الذي يدخل الأسماء من الانقلاب والتصرف ؛ ألا ترى أنّا إذا سمينا رجلا بـ «ضرب» أعربناه لأنه قد صار في حيز ما يدخله الإعراب ، وهو الاسم ، وإن كنا نعلم أنه قبل أن يسمّى به لا يعرب لأنه فعل ماض ، ولم تمنعنا معرفتنا بذلك من أن نقضي عليه بحكم ما صار منه وإليه ، فكذلك أيضا لا يمنعنا بأن ألف «با» «تا» «ثا» غير منقلبة ما دامت حروف هجاء من أن نقضي عليها إذا زدنا عليها ألفا أخرى ، ثم همزنا تلك المزيدة بأنها الآن منقلبة عن واو ، وأن الهمزة منقلبة عن ياء إذ صارت إلى حكم الأسماء التي يقضى عليها بهذا ونحوه.

وهذا صحيح منه حسن ، ويؤكده عندك أنه لا يجوز وزن «با» «تا» «ثا» «حا» «خا» ونحوها ما دامت مقصورة متهجّاة ، فإذا قلت : هذه باء حسنة ، ونظرت إلى هاء مشقوقة ، جاز أن تمثّل ذلك ، فتقول : وزنه «فعل» كما تقول في «داء» و «ماء» و «شاء» إنه «فعل».

فقال لأبي علي بعض حاضري المجلس : أفيجمع على الكلمة إعلال العين واللام؟

فقال : قد جاء من ذلك أحرف صالحة ، فيكون هذا منها ومحمولا عليها.

والذي زاد على أبي علي هذه الزيادة فتى كان يقرأ عليه يعرف بالبورانيّ ، وكان هذا الفتى ـ رحمه الله ـ دقيق الفكر ، حسن التصوّر ، بحّاثا ، مفتّشا ، ولا أظلمه حقه ، فقلّما رأيت ابن سنه في لطف نظره ، عفا الله عنا وعنه.

وأنا أذكر الأحرف التي اعتلت فيها العين واللام.

٤١١

فمنها «ماء» وألفه منقلبة عن واو ، وهمزته منقلبة عن هاء لقولهم : أمواه ، ومويه ، وماهت الركيّة (١) تموه ، وقولهم موّهت عليه الأمر أي : حسّنته له ، فكأني جعلت له عليه طلاوة وماء ليقبله سامعه.

ومنها «شاء» في قول من قال «شويهة» وتشوّهت شاة إذا صدتها ، حكى ذلك أبو زيد ، وحكى أيضا «شيه» (٢) و «أشاوه» (٣) ، فـ «شاء» على هذا مما عينه واو ، ولامه هاء ، وهو نظير «ماء» سواء.

ومن قال «شويّ» فهو من باب «طويت» و «لويت» وصارت «شاء» في هذا القول أخت «باء» و «تاء» و «حاء» على ما فسّره أبو علي.

قال النابغة (٤) :

 .......

 .... في شويّ وجامل

ومنها ما رويناه عن قطرب من قول الشاعر (٥) :

من را مثل معدان بن يحيى

إذا ما النّسع طال على المطيّة (٦)

ومن را مثل معدان بن يحيى

إذا هبّت شآمية عريّة (٧)

فأصل هذا «رأى» فأبدل الهمزة ياء كما يقال في «ساءلت» : «سايلت» وفي «قرأت» : «قريت» وفي «أخطأت» : «أخطيت» ، فلما أبدل الهمزة التي هي عين ياء أبدل الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ثم حذف الألف المنقلبة عن الياء التي هي لام الفعل لسكونها وسكون الألف التي هي عين الفعل.

__________________

(١) ماهت الركية : البئر تحفر ، وماهت : حتى بلغ الماء. اللسان (١٥ / ٢٩٨) مادة / مها.

(٢) شيه : اسم جمع للشاة.

(٣) وأشاوه : جمع شاة. اللسان (١٣ / ٥١٠).

(٤) البيت في ديوانه (ص ١٩٨).

(٥) البيتان في اللسان (رأى) (١٤ / ٢٩١).

(٦) النسع : سير مضفور تشد به الرجال. اللسان (٨ / ٣٥٢) مادة / نسع. الشاهد فيه (من را) فأصلها (رأى) حيث أبدلت الهمزة ياء ثم قلبت ألفا ، ثم حذف الألف.

(٧) ريح عريه : باردة. اللسان (١٥ / ٤٥) مادة / عرا. الشاهد (را) حيث أبدلت الهمزة ياء.

٤١٢

وسألت أبا علي ، فقلت له : من قال : «من را مثل معدان بن يحيى» كيف ينبغي أن يكون «فعلت» منه؟

فقال : «رييت» ويجعله من باب «حييت» و «عييت» ، قال : لأن الهمزة في مثل هذا الموضع إذا أبدلت فإلى الياء تقلب ، يريد «سايلته» ونحوه.

وذهب أبو علي في بعض مسائله (١) إلى أنه أراد «رأى» وحذف الهمزة كما حذفها من «أريت» ونحوه. وكيف كان الأمر فقد حذف الهمزة وقلب الياء ألفا ، وهذان إعلالان تواليا في العين واللام.

ومنها ما حكاه سيبويه (٢) من قول بعضهم «جا يجي» ، فهذا أبدل الياء التي هي عين الفعل ألفا ، وحذف الهمزة تخفيفا ، فأعل العين واللام جميعا.

ومثله ما حكاه أيضا من «سايسو» (٣).

ومنها أن أبا علي أجاز في قول لبيد (٤) :

بصبوح صافية ، وجذب كرينة

بموتّر تأتا له إبهامها (٥)

فيمن فتح اللام في «له» أن يكون أراد «تأتوي له» أي : تفتعل له من أويت إليه ، أي : عدت إليه ، إلا أنه قلب الواو ألفا ، وحذف الياء التي هي لام الفعل لسكونها ، فأعلّ العين واللام جميعا.

وقد كنت حملت قولهم في النكاح «الباء» أن تكون همزته مبدلة من الهاء التي تظهر في الباه ، وعللت ذلك ، وأريت وجه الاشتقاق فيهما ، ومن أين اشترك «ب وه» و «ب وء» في «الباء» في معنى النكاح إذ كان كل واحد منهما قائما بنفسه غير مقلوب عن صاحبه.

__________________

(١) انظر المسائل الحلبيات (ق ٩ / أ).

(٢) الكتاب (٢ / ١٧١).

(٣) الكتاب (٢ / ١٧١).

(٤) ديوانه (ص ٣١٤) وشرح القصائد العشر (ص ٢٤٣) ، واللسان (١٤ / ٥١) مادة / أوا.

(٥) الكرينة : المغنية الضاربة بالعود أو الصنج. الموتر : ذو الأوتار. تأتا له : تصلحه. والشاهد فيه (تأتاله) حيث أراد «تأتوى» فقلب الواو ألفا وحذفت الياء التي هي لام الفعل.

٤١٣

وذكرت ذلك في كتابي (١) في شرح تصريف أبي عثمان ـ رحمه الله ـ فتجنبت الإطالة بذكره هنا.

فإذا كان هذا وغيره مما ندع ذكره اكتفاء بهذا قد أعلت عينه ولامه جميعا ، جاز أيضا أن تحمل «باء» و «طاء» و «هاء» وأخواتهن في إعلال عيناتها ولاماتها جميعا عليه ، فقد صار إذن تركيب «طاء» و «حاء» ونحوهما بعد التسمية من «ط وي» ومن «ح وي» وصارا كأنهما من باب «طويت» و «حويت» وإن لم يكونا في الحقيقة منه ، ولكنهما قد لحقا بحكمه ، وجريا في القضية مجراه ، فلو اشتققت على هذا من هذه الحروف بعد التسمية فعلا على «فعّلت» لقلت من الباء «بوّيت» ، ومن التاء «توّيت» ، ومن الثاء «ثوّيت» ، ومن الحاء «حوّيت» ، ومن الخاء «خوّيت» ومن الراء «روّيت» ، ومن الطاء «طوّيت» ، ومن الظاء «ظوّيت» ، ومن الفاء «فويّت» ، ومن الهاء «هوّيت» ، ومن الياء «يوّيت» كما تقول في «فعّلت» من «طويت» و «حويت» : «طوّيت» و «حوّيت».

هذا هو القياس الذي تقتضيه حقيقة النظر ، وأما المسموع المحكي عنهم فأن يقولوا «بيّيت ، وتيّيت ، وثيّيت ، وحيّيت ، وخيّيت ، وطيّيت ، وظيّيت ، وييّيت ياء حسنة» وكذلك بقية أخواتها ، فظاهر هذا القول يدل من رأيهم على أنهم اعتقدوا أن الألف في نحو : باء ، وتاء ، وحاء ، وخاء بدل من ياء ، وجعلوا الكلمة من باب «حييت» و «عييت» ونحوهما مما عينه ولامه ياءان.

والذي حملهم على هذا عندي سماعهم الإمالة في ألفاتهن قبل التسمية وبعدها ؛ ألا تراك تقول إذا تهجيت : با تا ثا حا خا را طا ظا ها يا ، وقالوا بعد التسمية والنقل : باء ، وتاء ، وثاء ، وحاء ، وطاء ، وظاء ، فلما رأوا الإمالة شائعة في هذه الألفات قبل النقل وبعده حكموا لذلك بأن الألفات فيهن منقلبات عن ياءات ، وأنها قد لحقت في الحكم بالألفات المنقلبة من الياءات ، فلذلك قالوا : حيّيت حاء ، وطيّيت طاء ، ونحو ذلك. وأنا أذكر وجه الإمالة في هذه الحروف ، وأدل على صحة القياس الذي ذهب إليه أبو علي.

__________________

(١) هو المسمى «المنصف» (٢ / ١٥٢).

٤١٤

أما إمالتهم إياها وهي حروف تهج فليس ذلك لأنها منقلبة عن ياء ولا غيرها ، وذلك أنها حينئذ أصوات غير مشتقة ولا متصرفة ، ولا انقلاب في شيء منها لجمودها ، ولكن الإمالة فيها حينئذ إنما دخلتها من حيث دخلت «بلى» ، وذلك أنها شابهت بتمام الكلام واستقلاله بها وغناها عما بعدها الأسماء المستقلة بأنفسها ، فمن حيث جازت إمالة الأسماء كذلك أيضا جازت إمالة «بلى» ؛ ألا ترى أنك تقول في جواب من قال لك ألم تفعل كذا؟ : «بلى» فلا تحتاج «بلى» لكونها جوابا مستقلا إلى شيء بعدها ، فلما قامت بنفسها ، وقويت ، لحقت في القوة بالأسماء في جواز إمالتها كما أميل نحو «أنّى» و «متى» ، وكذلك أيضا إذا قلت : با تا ثا قامت هذه الحروف بأنفسها ، ولم تحتج إلى شيء يقوّيها ، ولا إلى شيء من اللفظ تتصل به ، فتضعف ، وتلطف لذلك الاتصال عن الإمالة المؤذنة بقوة الكلمة وتصرفها.

ويؤكد ذلك عندك ما رويناه عن قطرب من أن بعضهم قال : «لا أفعل» فأمال «لا» ، وإنما أمالها لما كانت جوابا قائمة بنفسها ، فقويت بذلك فلحقت بالقوة باب الأسماء والأفعال ، فأميلت كما أميلا ، فهذا وجه إمالتها وهي حروف هجاء.

وأما إمالتها وقد نقلت ، فصارت أسماء ، ومدّت ، فإنما فعلوا ذلك لأن هذه الألفات قد كانت قبل النقل والمدّ مألوفة فيها الإمالة ، فأقروها بعد المد والتسمية والإعراب بحالها ؛ ليعلموا أن هذه الممدودة المعربة هي تلك المقصورة قبل النقل المبنية ، لا لأن هذه الألفات عندهم الآن بعد النقل والمد مما سبيله أن يقضى بكونه منقلبا عن ياء. ولهذا نظائر في كلامهم ، منها إمالتهم الألف في «حبالى» ليعلم أن الواحدة قد كانت فيها ألف ممالة ، وهي حبلى ، فالألف الآن في «حبالى» إنما هي بدل من ياء «حبال» كما قالوا «دعوى» و «دعاو» ثم أبدلوا من ياء «حبال» ألفا ، وأمالوها كما كانت في الواحد ممالة ، محافظة على الواحد ، فكذلك حافظ هؤلاء أيضا ، فأمالوا قولهم : هذه حاء وياء لقولهم قبل الإعراب : با تا ثا حا خا.

ومما راعوا فيه حكم غيره مما هو أصل له إعلالهم العين في نحو : «أقام» و «أسار» و «استقام» و «استسار» ؛ ألا ترى أن الأصل في هذا «أقوم» و «أسير» و «استقوم» و «استسير» فنقلوا فتحة الواو والياء إلى ما قبلهما ، وقلبوهما لتحركهما في الأصل وانفتاح ما قبلهما الآن ، ولو لا أنهما انقلبتا في «قام» و «سار»

٤١٥

اللتين أصلهما «قوم» و «سير» لما قلبتا في «أقوم» و «أسير» ؛ لأنهما في «أقوم» و «أسير» ساكن ما قبلهما ، وإذا سكن ما قبل الواو والياء صحتا ، وجرتا مجرى الصحيح ، ولكن لما أعلتا في «قام» و «سار» لتحركهما وانفتاح ما قبلهما حملتا في «أقام» و «أسار» على اعتلال الثلاثي في «قام» و «سار» ؛ أفلا تراهم كيف راعوا في الرباعي وما فوقه حكم الثلاثي ، ولو لا جريانه عليه واتباعه في الإعلال له لوجب تصحيحه وخروجه سالما على أصله.

فكذلك أيضا أميلت «حاء» و «خاء» لإمالة «حا» «خا». فقد صح بما ذكرناه أنه لا اعتداد بإمالة هذه الألفات مقصورة كانت أو ممدودة ؛ إذ كان ذلك لا يدل على أنهن منقلبات عن الياء إذ قد أميلت وهي مقصورة ، وإذا كانت مقصورة جرث مجرى «لا» و «ما» ونحو ذلك مما ألفه غير منقلبة البتة.

فإذا لم يكن في إمالتها دلالة على كونها منقلبة ، كما لم يدل ذلك في ألف «بلى» و «لا» و «يا» في النداء ، ثبت أن الأمر فيها على ما ذهب إليه أبو علي من أن العين سبيلها أن تكون واوا ، وتكون اللام ياء لتكون الكلمة من باب «طويت» و «شويت» و «ضويت» لأنه أكثر من باب «حييت» و «عييت» ومن باب «قويت» و «حويت» من القوّة والحوّة. فلو لم يكن في هذا إلا الجنوح إلى الكثرة والرجوع إليها عن القلة لكان سببا قويا ، وعذرا قاطعا ، فكيف به وقد دللنا على قوته بما قدمناه.

ولو جمعت هذه الحروف بعد النقل على نحو «باب أبواب» و «ناب وأنياب» لأظهرت العين صحيحة لسكون ما قبلها ، فقلت على مذهب أبي علي في باء : أبواء ، وفي تاء : أتواء ، وفي ثاء : أثواء ، وفي حاء : أحواء ، وفي خاء : أخواء ، وفي راء : أرواء ، وفي طاء : أطواء ، وفي ظاء : أظواء ، وفي فاء : أفواء ، وفي هاء : أهواء ، وفي ياء : أيّاء ، وأصلها أيواء ، ففعل بها ما فعل بأيوام جمع يوم.

وعلى قول العامة سوى أبي علي : أبياء ، وأتياء ، وأثياء ، وأحياء ، وأخياء ، وأرياء ، وأطياء ، وأظياء ، وأفياء ، وأهياء ، وأيّاء أيضا. ومن ذهب إلى التأنيث فجمعها على أفعل نحو : نار ، وأنؤر ، ودار وأدؤر ، وساق وأسؤق ، قال على مذهب أبي علي : باء وأبو ، وتاء وأتو ، وثاء وأثو ، وحاء وأحو ، وخاء وأخو ،

٤١٦

فأجراه مجرى : جدي وأجد ، وظبي وأظب ، وفي اليا : ياء وأيّ ، وأصلها «أيوي» فقلبت الواو لوقوع الياء ساكنة قبلها ، فاجتمعت ثلاث ياءات ، فحذفت الأخيرة منهم تخفيفا كما حذفت من تصغير «أحوى» : «أحيّ» فصار «أيّ».

وعلى قول الجماعة غيره : أبي ، وأتي ، وأحي ، وأخي ، وفي الياء : أيّ بالحذف كما تقدم ، فاعرف ذلك ، فهذه أحكام الحروف التي على حرفين.

وأما ما كان على ثلاثة أحرف فعلى ضربين :

أحدهما : ما ثانيه ياء ، والآخر : ما ثانيه ألف.

الأول : جيم ، سين شين عين غين ميم ، فسبيل هذه أن تجري بعد النقل والإعراب مجرى «ديك» و «فيل» و «بيت» و «قيد» مما عينه ياء. ومن قال في «ديك» و «فيل» إنه يجوز أن يكون «فعلا» و «فعلا» جميعا ، وهو الخليل (١) ، احتمل عنده جيم ، سين ، شين ، ميم ، أن تكون أيضا «فعلا» و «فعلا» جميعا ، فأما عين غين ففعل لا غير.

فإن قلت : فهل تجيز أن يكون أصلهما «فيعلا» كميّت وهيّن وليّن ، ثم حذفت عين الفعل منهما؟

فإنّ ذلك هنا لا يجوز ولا يحسن من قبل أن هذه حروف جوامد بعيدة عن الحذف والتصرف.

فإن بنيت منها «فعّلت» قلت : جيّمت جيما ، وسيّنت سينا ، وشيّنت شينا ، وعيّنت عينا ، وغيّنت غينا ، وميّمت ميما. وتقول في الجمع : أجيام ، وأسيان ، وأشيان ، وأعيان ، وأغيان ، وأميام ، بلا خلاف لظهور العين ياء فيهن. ولو جاءت على «أفعل» لقلت : أجيم ، وأسين ، وأشين ، وأعين ، وأغين ، وأميم.

وأما ما ثانيه ألف : فدال ، وذال ، وصاد ، وضاد ، وقاف ، وكاف ، ولام ، وواو. فهذه الحروف ما دامت حروف هجاء لم تمثل ، ولم يقض فيها بقلب ولا غيره مما لا يوجد في الحروف ، فإن نقلتها إلى الاسمية لزمك أن تقضي بأن الألف فيهن

__________________

(١) هذا قول سيبويه. انظر / الكتاب (٢ / ١٨٧ ـ ١٨٩).

٤١٧

منقلبة عن واو ، وذلك مما وصّى به سيبويه لأنه هو الأكثر في اللغة ؛ ألا ترى إلى كثرة : باب ، ودار ، ونار ، وجار ، وغار ، وساق ، وطاق ، وهامة ، وقامة ، ولابة (١) ، وعادة ، ورادة (٢) ، وسادة ، وذادة (٣) ، وشارة (٤) ، وزارة (٥) ، وقلة ناب ، وعاب ، وغاب ، وعار ، ورار (٦). فعلى الأكثر ينبغي أن يحمل ، فإذا كان ذلك كذلك فلو بنيت منه «فعّلت» لقلت : دوّلت دالا ، وذوّلت ذالا ، وصوّدت صادا ، وضوّدت ضادا ، وقوّفت قافا ، وكوّفت كافا ، ولوّمت لاما.

فأما «الواو» فقد ذكرنا ما في ألفها من الخلاف ، فمن ذهب إلى أن ألفها منقلبة عن ياء وجب عليه أن يقول في «فعّلت» منها : «ويّيت واوا» وأصلها «ويّوت» إلا أن الواو لما وقعت رابعة قلبت ياء كما قلبت في : غدّيت ، وعشّيت ، وقضّيت ، ودنّيت ، فصارت : ويّيت.

ومن ذهب إلى أن ألفها منقلبة من واو لزمه أن يقول : أوّيت ، وأصلها : ووّوت ، فلما التقت في أول الكلمة واوان همزت الأولى منهما كما همزت الواو الأولى من «الأولى» وأصلها «وولى» لأنها «فعلى» من «أوّل» ، و «أوّل» فاؤه وعينه واوان لأنه «أفعل».

وقد ذكرت في كتابي (٧) في تفسير تصريف أبي عثمان خلاف الناس في «أوّل» وكما همزوا تصغير «واصل» وجمعه في قولهم : «أويصل» و «أواصل» ، وأصله «وويصل» و «وواصل» ، فهمزت الواو الأولى لاجتماع الواوين في أول الكلمة.

ومثله قول الشاعر (٨) :

__________________

(١) لابة : الحرّة من الأرض. اللسان (١ / ٧٤٥) مادة / لوب.

(٢) الرادة : من النساء : التي تزود وتطوف ، وريح رادة : إذا كانت هو جاء تجيء وتذهب.

(٣) ذادة : جمع ذائد ، وهو الرجل الحامي الحقيقة.

(٤) شارة : الحسن والهيئة واللباس.

(٥) الزارة : الجماعة الضخمة من الناس والإبل والغنم. اللسان (٤ / ٣٣٨) مادة / زور.

(٦) رار : مخ رار ، أي : ذائب فاسد من الهزال ، وشدة الجدب. اللسان (٤ / ٣١٤).

(٧) المنصف (٢ / ٢٠١ ـ ٢٠٤).

(٨) هو مهلهل بن ربيعة أخو كليب وائل ، اسمه عدي ، أو امرؤ القيس. المقتضب (٤ / ٢١٤). والبيت ذكره صاحب اللسان مادة (وقى) دون أن ينسبه ، وكذا العيني (٣ / ٥٢٤).

٤١٨

ضربت صدرها إليّ وقالت

يا عديّا لقد وقتك الأواقي (١)

فالأواقي : جمع واقية ، وأصلها وواق ، فهمزت الواو الأولى.

وقال (٢) :

فإنك والتأبين عروة بعد ما

دعاك وأيدينا إليه شوارع

لكالرجل الحادي وقد تلع الضّحى

وطير المنايا فوقهنّ أواقع

جمع : واقعة.

وقال الآخر (٣) :

شهم إذا اجتمع الكماة ، وألجمت

أفواقها بأواسط الأوتار (٤)

يريد جمع : واسط ، وأصلها «وواسط». فلما همزت الواو الأولى صار اللفظ في التقدير إلى «أوّوت» فلما وقعت الواو رابعة قلبت ياء كما تقدم ذكره آنفا ، فصارت «أوّيت» ، هذا هو صريح القياس وحقيقته.

وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن يعقوب بن مقسم عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب ، قال : ما كان على ثلاثة أحرف الأوسط منه ياء فليس فيه إلا وجه واحد بالياء ، تقول : سيّنت سينا ، وعيّنت عينا. وقال بعضهم في «ما» و «لا» من بين أخواتها : موّيت ماء حسنة ، ولوّيت لاء حسنة ، بالمد لمكان الفتحة من «ما» و «لا».

وتقول في الواو وهي على ثلاثة أحرف الأوسط ألف بالياء لا غير لكثرة الواوات ، تقول : ويّيت واوا حسنة.

وبعضهم يجعل الواو الأولى همزة لاجتماع الواوين ، فيقول : أوّيت واوا حسنة. انتهت الحكاية عن أبي بكر.

__________________

(١) الشاهد فيه (الأواقي) وأصلها (وواق) حيث قلبت الواو الأولى همزة.

(٢) البيت في اللسان مادة (وقع) (٨ / ٤٠٤) ينسب للمهلهل بن ربيعة ، وكذا الخزانة (٢ / ١٦٥).

(٣) البيت في اللسان (وسط) (٧ / ٤٢٧).

(٤) الأفواق : جمع الفوق من السهم وهو موضع الوتر. والشاهد فيه (بأواسط) جمع (واسط) وأصلها (وواسط) فقلبت الواو الأولى همزة.

٤١٩

فأمّا ما أجازه من قوله : «ووّيت» فمردود عندنا ؛ لأنه إذا لم تجتمع واوان في أول الكلمة فالثلاث أحرى بأن لا يجوز اجتماعها فأما قوله عز اسمه : ما ووري عنهما (الأعراف : ٢٠) فإنما اجتمعت في أوله واوان من قبل أن الثانية منهما مدة مبدلة من ألف «واريت» وليست بلازمة ، فلأجل ذلك لم تعتدّ.

وأما قوله : «وبعضهم يجعل الواو الأولى همزة» فهذا هو الصواب الذي لا بد منه ، ولا مذهب لنظّار عنه. وأمّا ما حكاه من قولهم في «ما» و «لا» : موّيت ، ولوّيت ، فإن القول عندي في ذلك أنهم لمّا أرادوا اشتقاق «فعّلت» من «ما» و «لا» لم يمكن ذلك فيهما وهما على حرفين ، فزادوا على الألف ألفا أخرى ، ثم همزوا الثانية كما تقدم ، فصارت «ماء» و «لاء» ، فجرت بعد ذلك مجرى «باء» و «حاء» بعد المد.

وعلى هذا قالوا في النسب إلى «ما» لما احتاجوا إلى تكميلها اسما محتملا للإعراب : قد عرفت مائيّة الشيء ، فالهمزة الآن إنما هي بدل من ألف ألحقت ألف «ما» وقضوا بأن ألف «ماء» و «لاء» مبدلة من واو كما قدّمناه من قول أبي علي ، وأن اللام منهما ياء حملا على «طويت» و «رويت» ، ثم لمّا بنوا منهما «فعّلت» قالوا : موّيت ماء حسنة ، ولوّيت لاء حسنة.

وقوله : «لمكان الفتحة فيهما» أي : لأنك لا تميل «ما» و «لا» فتقول «ما» و «لا» ، أي فذهب إلى أن الألف فيهما من واو.

وهذا هو الذي حكيناه عنهم من أن اعتقادهم أن ألف «باء» و «حاء» وأخواتهما منقلبة عن ياء لأجل ما فيهما من الإمالة ، حتى إنهم لمّا لم يروا في «ما» و «لا» إمالة حكموا بأن ألفهما منقلبة من واو.

وقد ذكرنا وجه الإمالة من أين أتى هذه الألفات ، ودللنا على صحة مذهب أبي علي فيما مضى من هذا الفصل.

ولو جمعت هذه الأسماء على «أفعال» لقلت في دال ، وذال : أدوال ، وأذوال ، وفي صاد ، وضاد : أصواد ، وأضواد ، وفي قاف ، وكاف : أقواف ، وأكواف ، وفي لام : ألوام ، وفي واو فيمن جعل ألفها منقلبة عن واو : أوّاء ،

٤٢٠