سرّ صناعة الإعراب - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

سرّ صناعة الإعراب - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-2702-0
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

وقاتم الأعماق خاوي المخترق (١)

وفي قوله (٢) :

وبلد عامية أعماؤه

كأن لو أرضه سماؤه (٣)

وقوله (٤) :

وليلة ذات ندى سريت (٥)

وفي قوله (٦) :

ومنهل من الأنيس نائي (٧)

تقديره : وربّ كذا ، وهذه الواو حرف عطف.

__________________

(١) الأعماق : أطراق المفاوز البعيدة ، وقيل الأطراف. الخاوي : الخالي. والشاهد في البيت إقامة الواو مكان «رب» في «وقاتم». إعراب الشاهد : الواو : حرف قامت مقام رب. قاتم : اسم مجرور وعلامة الجر الكسرة الظاهرة.

(٢) البيتان لرؤبة بن العجاج.

(٣) الأعماء : أراد متناهية في العمى. لسان العرب (١٥ / ٩٨) مادة / عمى. يصف الشاعر في بيته مفازة فيقول إنها شديدة الإضلال فلا يهتدى فيها. والشاهد في قوله «وبلد» فقد قامت الواو مقام رب. إعراب الشاهد كما سبق في «وقاتم».

(٤) البيت لرؤبة بن العجاج كما في مجاز القرآن (٢ / ٢٢١ ، ٢٣٢).

(٥) الندى : ما يسقط بالليل والجمع أنداء وأندية. اللسان (١٥ / ٣١٣) مادة / ندى. سريت : من السرى وهو السير عامة الليل. الشرح : ورب ليلة طيبة الهواء ذات ندى سرت بها. والشاهد في قوله «وليلة» فقد قامت الواو مقام رب. إعراب الشاهد كما في «وقاتم».

(٦) هذا البيت لجندل بن المثنى الطهوي كما في اللسان (ملث) (٢ / ١٩٢).

(٧) المنهل : مكان النهل وهو أول الشرب. الأنيس : الحبيب ، والنائي : البعيد. والشاهد في قوله «ومنهل» فقد قامت الواو فيه كما في الذي قبله مقام رب. إعرابه كما سبق في «وقاتم».

٢٨١

فإن قلت : فإنا نجدها مبتدأة في أوائل القصائد ، فعلى أي شيء عطفت؟

فالجواب : أن القصيدة تجري مجرى الرسالة ، وإنما يؤتى بالشعر بعد خطب يجري أو خطاب يتصل ، فيأتي بالقصيدة معطوفة بالواو على ما تقدّمها من الكلام.

ويدل على ذلك أيضا قولهم في أوائل الرسائل : أمّا بعد فقد كان كذا وكذا ، فكأنه قال : أما بعد ما نحن فيه ، أو بعد ما كنا بسبيله فقد كان كذا وكذا ، فاستعمالهم هنا لفظ «بعد» يدل على ما ذكرناه عنهم من أنهم يعطفون القصيدة على ما قبلها من الحال والكلام ، وكما أنّ «بل» من قول الآخر :

بل جوز تيهاء كظهر الحجفت (١)

في أنها وإن كانت بدلا من «ربّ» فهي حرف عطف لا محالة ، فكذلك الواو في :

وبلد عامية أعماؤه (٢)

واو عطف وإن كانت نائبة عن «ربّ».

فإن قيل : فبم الجرّ فيما بعد واو «ربّ» أب «ربّ» المحذوفة أم بالواو النائبة عنها؟

فالجواب : أن الجر بعد هذه الواو إنما هو بـ «ربّ» المرادة المحذوفة تخفيفا لا بالواو ، ويدل على ذلك أنها في غير هذه الحال من العطف إنما هي نائبة عن العامل دالة عليه ، وليست بمتولية للعمل دونه ، وذلك قولك : قام زيد وعمرو ، ورأيت زيدا وبكرا ، ومررت بسعيد وخالد ، فلو كانت ناصبة لم تكن جارة وهي بلفظ واحد ، وكذلك لو كانت الواو رافعة لم تكن جارة.

ويدلك على أن العمل فيما بعد حرف العطف إنما هو لما ناب الحرف عنه ، ودلّ عليه من العوامل ، إظهارهم العامل بعده في نحو : ضربت زيدا وضربت بكرا ، ونظرت إلى جعفر وإلى خالد ، فالعمل إذن إنما هو للعامل المراد لا الحرف العاطف.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) سبق تخريجه.

٢٨٢

فإن قلت : فما بالك تقول : والله لأقومنّ ، فتبدل الواو من الباء في قولك : بالله لأقومنّ ، وأنت تزعم أن الجر بعد واو القسم إنما هو للواو نفسها لأنها نائبة عن الباء وبدل منها ، فهلا زعمت مثل ذلك في الواو إذا كانت عاطفة؟

فالجواب : أن بين الموضعين فرقا ، وذلك أن الواو في القسم إنما هي بدل من الباء وواقعة موقعها ، وليست الباء مقدّرة بعد الواو كما يقدّر العامل بعد حرف العطف ، ألا ترى أن من قال : قام زيد وقام عمرو ، فأظهر العامل بعد حرف العطف لم يجز على وجه من الوجوه أن يقول : وبالله لأقومنّ ، على أن تكون الواو للقسم ، وإنما هي ههنا عطف ، وحرف القسم الموصل له إنما هو الباء بعد الواو ، وليست الواو ههنا للقسم ، وأما حرف العطف فهو مع إظهار العامل بعده وحذفه جميعا حرف عطف.

ألا ترى أنك إذا قلت : قام زيد وعمرو فالواو حرف عطف ، وإذا قلت : قام زيد وقام عمرو فالواو أيضا حرف عطف أظهرت العامل أو حذفته ، وليست الواو في قولك : والله لأقومنّ هي الواو في قولك : وبالله لأقومنّ ، فلما كانت الواو في القسم إنما هي بدل من بائه البتة حتى لا تظهر معها ، جرت في العمل مجراها ، وحسّن إقامتها في العمل مقامها أن الواو ضارعت الباء لفظا ومعنى ، أما اللفظ فلأن الباء شفهية ، والواو أيضا كذلك ، وأما المعنى فلأن الباء للإلصاق والواو للاجتماع ، والشيء إذا لاصق الشيء فقد جامعه ، وليست كذلك واو العطف ، لأنها لا تضارع العامل الذي دلت عليه وقامت مقامه لفظا ولا معنى ، ألا ترى أنك إذا قلت : ضربت زيدا وبكرا فإن أصله : ضربت زيدا وضربت بكرا ، فالواو لا تضارع «ضرب» لفظا ولا معنى ، ألا ترى أن «ضرب» ثلاثة أحرف والواو حرف واحد ، وهذه حرف ، وذلك فعل ، فهما جنسان متباينان ، فلذلك جاز أن تكون الواو في القسم عاملة ، ولم يجز أن يكون حرف العطف عاملا ، فتفهّمه.

واعلم أن هذه الواو إذا كانت عاطفة فإنها دالة على شيئين :

أحدهما الجمع ، والآخر العطف ، إلا أن دلالتها على الجمع أعم فيها من دلالتها على العطف ، يدل على ذلك أنّا لا نجدها إذا لم تكن بدلا من باء القسم مجردة من معنى الجمع ، وقد نجدها معرّاة من معنى العطف ، ألا ترى أن الواو التي بمعنى «مع» في قولك : استوى الماء والخشبة ، وجاء البرد والطيالسة ، قد تجدها

٢٨٣

مفيدة للجمع لأنها نائبة عن «مع» الموضوعة لإفادة الجمع ، ولا تجد فيها في هذه الحال معنى العطف ، وكذلك إذا كانت للحال نحو قوله تعالى : (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) (آل عمران : ١٥٤) (١) أي : يغشى طائفة منكم إذ طائفة في هذه الحال. وهذه الواو أيضا الدالة على معنى الحال غير معرّاة من معنى الجمع ، ألا ترى أن الحال مصاحبة لذي الحال ، فقد أفادت إذن معنى الاجتماع. وهذا كله تلخيص أبي علي ، وعنه أخذته.

وأما الواو التي بمعنى «مع» فقولهم : استوى الماء والخشبة ، وجاء البرد والطيالسة (٢) وما زلت أسير والنيل ، أي : مع النيل ، وكيف تكون وقصعة من ثريد ، أي : مع قصعة ، ولو خلّيت والأسد لأكلك ، أي : مع الأسد ، ولو تركت الناقة وفصيلها (٣) لرضعها ، أي : مع فصيلها ، وكيف تصنع وزيدا ، أي : مع زيد ، واجتمع زيد وأبا محمد على حفظ المال ، ومن أبيات الكتاب :

فكونوا أنتم وبني أبيكم

مكان الكليتين من الطّحال (٤)

__________________

(١) يغشى : يغطي. لسان العرب (١٥ / ١٢٦) مادة / غشا. الطائفة : الجماعة. أهمتهم : شغلتهم. الشرح : لقد كان من الله وقت انهزامكم أن أنزل النعاس على طائفة منكم وطائفة أخرى قد أهمتهم أنفسهم وشغلتهم بكيفية الهرب من مواقع القتال. والشاهد أوضحه المؤلف بالمتن. إعراب الشاهد : طائفة : مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة. قد : حرف تحقيق وتأكيد. أهمتهم : فعل ماضي مبني على الفتح ، والتاء للتأنيث ، والهاء ضمير مبني في محل نصب مفعول به. أنفسهم : فاعل مرفوع وعلامة الرفع الضمة. وهم ضمير مبني في محل جر مضاف إليه.

(٢) الطيالسة : جمع الطيلسان وهو ضرب من الأكسية ، وحكي عن الأصمعي أنه قال : الطيلسان ليس بعربي ، قال : وأصله فارسي. لسان العرب (٦ / ١٢٥) مادة / طلس.

(٣) الفصيل : ولد الناقة إذا فصل عن أمه ، والجمع فصلان وفصال. (١١ / ٥٢٢) مادة / فصل.

(٤) الكليتين : تثنية كلية بضم الكاف ، وهي في الإنسان وغيره من الحيوان. اللسان (١٥ / ٢٢٩). الطحال : بكسر الطاء : عضو من أعضاء بدن الإنسان. لسان الميزان (١١ / ٣٩٩) مادة / طحل بني أبيكم : الأخوة وأبناء العم. الشاهد في «كونوا أنتم وبني أبيكم» إذ يطلب ممن يخاطبهم فقط أن يكونوا مع أبناء أبيهم متماسكين متصلين تماسك الكليتين من الطحال ، وهذا المعنى يناسبه أن تكون الواو بمعنى (مع) ولو جعلت الواو للعطف لكان مقتضى الكلام أنه يطلب ممن يخاطبهم ومن بني أبيهم أيضا التماسك والاتصال ، وهذا المعنى لا يريده الشاعر بل يريد المعنى الأول ، ولذلك ترجح أن تكون (بني أبيكم) منصوبة على أنها مفعول معه.

٢٨٤

أي : مع بني أبيكم ، فلما حذف «مع» وأقام الواو مقامها أفضى الفعل الذي قبل الواو إلى الاسم الذي بعدها. فنصبه بواسطة الواو ، وذلك أن الواو قوّته ، فأوصلته إليه ، وقد استقصيت هذا الفصل في حرف الباء من كتابنا هذا.

وأما الواو التي للحال فنحو قولك : مررت بزيد وعلى يده باز ، أي : مررت به وهذه حاله ، ولقيت محمدا وأبوه يتلو ، أي : لقيته وهذه حاله ، ونظرت إلى سعيد وسيفه على كتفه ، أي : نظرت إليه وهذه حاله. ولا يقع بعد هذه الواو إلا جملة مركبة من مبتدأ وخبر ، لو قلت : كلمت محمدا وقام أخوه ، وأنت تريد معنى الحال لم يجز إلا أن تريد معنى «قد» فكأنك قلت : كلمت محمدا وقد قام أخوه ، وذلك أن «قد» تقرّب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه أو تكاد.

ألا تراهم يقولون : «قد قامت الصلاة» قبل حال قيامها ، وإنما جاز ذلك لمكان «قد» وعلى قول الشاعر (١) :

أمّ صبيّ قد حبا أو دارج (٢)

فكأنه قال : أمّ صبيّ حاب أو دارج.

__________________

(١) البيت لجندب بن عمرو كما في ديوان الشماخ (ص ٣٦٣) وهو بغير نسبة في معاني القرآن للفراء (١ / ٢١٤).

(٢) حبا : الحبو : أن يمشي على يديه وركبتيه أو إسته. لسان العرب (١٤ / ١٦١) مادة / حبا. والدارج من مشا مشيا ضعيفا ودبّا. لسان العرب (٢ / ٢٦٦) مادة / درج. والشاهد في قوله «قد حبا» فقد تقرب الماضي إلى الحال فكأنه قال : حاب ، ودارج ، وجاز له ذلك لأن قد تقرب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه أو تكاد. لسان العرب (٢ / ٢٦٦). إعراب الشاهد : قد : حرف تحقيق وتأكيد. حبا : فعل ماضي مبني على الفتح لعدم اتصاله بشيء وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على صبي. وجملة «قد حبا» في محل جر نعت لـ «صبي».

٢٨٥

وتأولوا قوله عز اسمه : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) (النساء : ٩٠) على معنى : قد حصرت صدورهم (١). وذهب آخرون إلى أن تقديره : أو جاؤوكم رجالا أو قوما حصرت صدورهم ، فـ (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) الآن في موضع نصب لأنها صفة حلت محل موصوف منصوب على الحال ، على أن في هذا بعض الضعف لإقامتك الصفة مقام الموصوف ، وهذا مما الشعر وموضع الاضطرار أولى به من النثر وحال الاختيار. وإذا وقعت هذه الجملة بعد هذه الواو كنت في تضمينها ضمير صاحب الحال وترك تضمينها إياه مخيرا ، فالتضمين كقولك : جاء زيد وتحته فرس ، وترك التضمين كقولك : جاء زيد وعمرو يقرأ. وإنما جاز استغناء هذه الجملة عن ضمير يعود منها إلى صاحب الحال من قبل أن الواو ربطت ما بعدها بما قبلها ، فلم تحتج إلى أن يعود منها ضمير على الأول ليرتبط به آخر الكلام بأوله ، وإن جئت به فيها فحسن جميل ؛ لأن فيه تأكيدا لارتباط الجملة بما قبلها. فأما إذا لم يكن هناك واو فلا بدّ من تضمّن الجملة ضميرا من الأول ، وذلك نحو قولك : أقبل محمد على رأسه قلنسوة (٢) ، ولو قلت : أقبل محمد على جعفر قلنسوة ، وأنت تريد : أقبل محمد وهذه حاله لم يجز ؛ لأنك لم تأت بالواو التي هي رابطة ما بعدها بما قبلها ، ولا بضمير يعود من آخر الكلام فيدل على أنه معقود بأوله. وإذا فقدت جملة الحال هاتين الحالتين انقطعت مما قبلها ، ولم يكن هناك ما يربط الآخر بالأول.

وعلى هذا قول الشاعر (٣) :

نصف النهار الماء غامره

ورفيقه بالغيب لا يدري (٤)

__________________

(١) هذا قول الفراء. معاني القرآن (١ / ٢٨٢).

(٢) القلنسوة : من ملابس الرؤوس معروف. لسان العرب (٦ / ١٨١) مادة / قلس.

(٣) هو المسيب بن علس كما في جمهرة اللغة (٣ / ٨٣) ، ولسان العرب (٩ / ٣٣١) مادة / نصف.

(٤) نصف : أراد انتصف النهار ، والماء غامره فانتصف النهار ولم يخرج من الماء. اللسان (٩ / ٣٣١) غامره : من غمره الماء إذا دخل في معظمه. ورفيقه : صاحبه. الشرح : يصف الشاعر غائصا غاص في الماء حتى انتصف النهار وصديقه واقف على الشاطئ لا يدري ما كان منه. والشاهد في «الماء غامره» فقد جاءت حالا لـ «الغائص» دون واو الحال كما في المتن.

٢٨٦

يصف غائصا غاص في الماء من أول النهار إلى انتصافه ورفيقه على شاطئ الماء ينتظره ولا يدري ما كان منه ، فيقول : انتصف النهار وهذه حاله ، فالهاء من «غامره» ربطت الجملة بما قبلها حتى جرت حالا على ما قبلها ، فكأنك قلت : انتصف النهار على الغائص غامرا له الماء ، كما أنك إذا قلت : جاء زيد وجهه حسن ، فكأنك قلت : جاء زيد حسنا وجهه.

فأما قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) (الكهف : ٢٢) فلا يجوز أن يكون (رابِعُهُمْ) وصفا ل (ثَلاثَةٌ) على أن يكون (كَلْبُهُمْ) رفعا لغلام ، وترفع زيدا بفعله ، وهو الضرب ، من قبل أن (رابِعُهُمْ) في هذا الموضع وإن كان اسم فاعل ، فإنه يراد به الماضي ، وإذا كان اسم الفاعل ماضيا في المعنى لم يجز أن يعمل عمل الأفعال ، لا رفعا ولا نصبا ، ألا ترى أنك لا تقول : هذا رجل قائم أمس أخوه على أن ترفع الأخ بفعله ، وهو القيام ، كما لا يجوز أن تقول : هذا رجل غلام أخوه ، فترفع الأخ بفعله ، وتجعل الغلام فعلا له ، لأن اسم الفاعل إذا أريد به الماضي جرى مجرى غلام وفرس ورجل وما لا معنى فعل فيه ، فقد بطل إذن أن يرفع (كَلْبُهُمْ) بما في (رابِعُهُمْ) من معنى الفعل إذ كان (رابِعُهُمْ) يراد به هنا المضيّ.

ولا يجز أيضا أن يرتفع (رابِعُهُمْ) بالابتداء ، ويجعل (كَلْبُهُمْ) خبرا عنه على أن تكون الجملة حالا ل (ثَلاثَةٌ) لأنك لو فعلت ذلك لم تجد للحال ما ينصبها ، ألا ترى أن التقدير : سيقولون هم ثلاثة ، وليس في قولك هم ثلاثة ما يجوز أن ينصب على الحال.

فإن قلت : فهلا جعلت تقديره : هؤلاء ثلاثة ، فنصبت الحال بعدها بما في هؤلاء من معنى التنبيه ، كما تقول : هؤلاء إخوتك قياما؟

فذلك محال هنا لأنهم يكونوا مشاهدين ، ولو كانوا مشاهدين لما وقع التشكك في عدّتهم ، أو لا ترى أن في الآية (رَجْماً بِالْغَيْبِ) وإنما وقع الإخبار عنهم وهم غير مشاهدين ، فإذا لم يجز أن يكون في الكلام ما ينصب حالا لم يجز على شيء منه ، ولأن (ثَلاثَةٌ) أيضا نكرة ، وسبيل الحال أن تأتي بعد المعرفة ، هذا هو الغالب من أمرها والأسير في أحكامها ، إلا أن يجيء ذلك شاذا أو على ضرورة أو قلة من الكلام ، وليست هنا ضرورة ولا ظهور نصب يحتمل له إجراء الحال على النكرة.

٢٨٧

فإن قلت : فاجعل (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) مبتدأ وخبرا ، واجعل الجملة المنعقدة منهما وصفا ل (ثَلاثَةٌ) كما تقول : هم ثلاثة غلامهم أبوهم؟

فذلك عندنا في هذا الموضع غير سائغ ولا مختار ، وإن كان في غير هذا الموضع جائزا ، والذي منع من إجازته هنا وضعّفها أن الجملة التي في آخر الكلام فيها واو العطف ، وهو قوله عز وجل : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) فكما ظهرت الواو في آخر الكلام ، فكذلك ـ والله أعلم ـ هي مرادة في أوله لتتجنّس الجمل في أحوالها والمراد بها ، فكأنه ـ والله أعلم ـ سيقولون ثلاثة ورابعهم كلبهم ، ويقولون خمسة وسادسهم كلبهم رجما بالغيب ، ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ، إلا أن الواو حذفت من الجملتين المتقدمين لأن الذي فيهما من الضمير يعقدهما بما قبلهما لا عقد الوصف ولا عقد الحال لما ذكرناه ، ولكن عقد الإتباع ، لا سيما وقد ظهرت الواو في الجملة الثالثة ، فدل ذلك على أنها مرادة في الجملتين المتقدمتين.

واعلم أن هذه الواو وما بعدها إذا أريد بالجميع الحال في موضع نصب بما قبلها من العوامل التي يجوز لمثلها نصب الحال ، فقولك : أقبل أخوك وثوبه نظيف ، في موضع : أقبل أخوك نظيفا ثوبه ، فكما تنصب «نظيفا» بـ «أقبل» كذلك تنصب موضع قولك : وثوبه نظيف بـ «أقبل».

وإذا كان ذلك كذلك فقوله عز اسمه : (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) (آل عمران : ١٥٤) في تقدير : يغشى طائفة منكم مهمّة طائفة منكم أخرى أنفسهم في وقت غشيانه تلك الطائفة الأولى ، ولا بدّ من هذا التقدير ، كما أن قولك : جاءت هند وعمرو ضاحك في تقدير : جاءت هند ضاحكا عمرو في وقت مجيئها ، حتى يعود من الجملة التي هي حال ضمير على صاحب الحال ، ولهذا شبهها سيبويه بـ «إذ» قال أبو علي : إنما فعل ذلك من حيث كانت «إذ» منتصبة الموضع بما قبلها أو بعدها كما أن الواو منتصبة الموضع في الحال ، ولأن ما بعد «إذ» لا يكون إلا جملة ، كما أن ما بعد واو الحال لا يكون إلا جملة ، ولهذا قال سيبويه : «واو الابتداء» يعني هذه الواو إذ كان ما بعدها سبيله أن يكون جملة من مبتدأ وخبر ، ولأجل أن بين الحال والظرف هذه المصاقبة (١) ما ذهب الكسائي إلى أن نصب الحال إنما

__________________

(١) المصاقبة : القرب والدنو. لسان العرب (١ / ٥٢٥) مادة / صقب.

٢٨٨

هو لشبهها بالظرف. ويؤكد الشبه أيضا أنك قد تعبر عن الحال بلفظ الظرف ، ألا ترى أن قولك : جاء زيد ضاحكا في معنى : جاء زيد في حال ضحكه ، وعلى حال ضحكه ، فاستعمالك هنا لفظ «في» و «على» يؤنسك بالوقت والظرفية ، فاعرفه.

وأما واو القسم فنحو قولك : والله لأقومنّ ، وو الله لأقعدنّ ، وقد تقدم القول عليها ، وأنها بدل من باء الجر ، والعلة في جواز إبدالها منها في حرف الباء.

واعلم أن البغداديين (١) قد أجازوا في الواو أن تكون زائدة في مواضع :

منها قوله جل اسمه : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) (الصافات : ١٠٣ ـ ١٠٤) (٢) قالوا : معناه ناديناه ، والواو زائدة.

ومنها قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ. وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) (الإنشقاق : ١ ـ ٣) قالوا : معناه إذا السماء انشقت إذا الأرض مدت ، فتكون «إذا» الثانية خبرا عن «إذا» الأولى ، كما تقول : وقت يقوم زيد وقت يقعد عمرو. وأجازوا أيضا في هذه الآية أن يكون التقدير : إذا السماء انشقت أذنت لربها.

ومنها قوله عز اسمه : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) (الزمر : ٧٣) تقديره عندهم : حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها.

واحتجوا لجواز ذلك بقول الشاعر (٣) :

حتى إذا امتلأت بطونكم

ورأيتم أبناءكم شبّوا

وقلبتم ظهر المجنّ لنا

إن الغدور الفاحش الخبّ (٤)

__________________

(١) يعني الكوفيين. انظر مذهبهم هذا «معاني القرآن» للفراء (١ / ١٠٧ ـ ١٠٨ ، ٢٣٨).

(٢) أسلما : استسلما لأمر الله ، والضمير عائد على سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل صلاة الله وسلامه عليهما. تلّه : ألقاه على عنقه وخدّه. اللسان (١١ / ٧٧). حين استسلم إبراهيم وإسماعيل لأمر الله نادى ربنا سيدنا إبراهيم. والشاهد في الآية «وناديناه» فقد أراد «ناديناه» زادت الواو على رأي الكوفيين.

(٣) هو الأسود بن يعفر يهجو بني نجيح من بني مجاشع بن دارم ، والبيتان في ديوانه (ص ١٩).

(٤) قلب ظهر المجن : كناية عن إظهار العداوة والفحش. الخبّ : المخادع الغشاش. لسان العرب (١ / ٣٤١) مادة / خبب.

٢٨٩

معناه عندهم : قلبتم ظهر المجنّ لنا. فأما أصحابنا فيدفعون هذا التأويل البتة ، ولا يجيزون زيادة هذه الواو ، ويرون أن أجوبة هذه الأشياء محذوفة للعلم بها والاعتياد في مثلها ، وتأويل ذلك عندنا على معنى : فلما أسلما وتلّه للجبين ، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا أدرك ثوابنا ، ونال المنزلة الرفيعة عندنا.

وكذلك : إذا السماء انشقت وكان كذا وكذا عرف كل واحد ما صار إليه من ثواب أو عقاب (١). ودليل ذلك قوله عز اسمه (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (التكوير : ١) (٢) وكان كذا وكذا (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (التكوير : ١٤) (٣).

وكقوله تعالى في موضع آخر : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (الانفطار : ١) (٤)(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (الانفطار : ٥) ، وكذلك قوله عز وجل :

(حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تقديره : صادفوا الثواب الذي وعدوه.

وكذلك قول الشاعر :

حتى إذا قملت بطونكم

ورأيتم أبناءكم شبّوا

وقلبتم ظهر المجنّ لنا

إن الغدور الفاحش الخبّ (٥)

تقديره : لما كان هذا كله منكم عرف الناس غدركم ، واستحققتم صرف اللائمة إليكم ، أو نحو ذلك مما يصح لمثله أن يكون جوابا عن هذا ، وصار أيضا قوله : «إن الغدور الفاحش الخب» بدلا من الجواب ودليلا عليه.

__________________

يقول الشاعر هاجيا هؤلاء القوم أحين شبعتم وشب أبناؤكم أظهرتم لنا العداوة والغدر. والشاهد في «وقلبتم ظهر المجن لنا» فقد جاءت الواو زائدة فيه على رأي الكوفيين.

(١) وقد قال بحذف الجواب في هذه الآية من الكوفيين الفراء ، كما في كتابه «معاني القرآن» (٣ / ٢٥٠).

(٢) كورت : جمع ضوءها ولف كما تلف العمامة. اللسان (٥ / ١٥٦) مادة / كور.

(٣) «علمت نفس ما أحضرت» أي ما أحضرت من عمل.

(٤) «إذا السماء انفطرت» انفطرت أي انشقت. لسان العرب (٥ / ٥٥) مادة / فطر.

(٥) قمل الرجل : سمن بعد الهزال. لسان العرب (١١ / ٥٦٨) مادة / قمل. البيتان سبق تخريجهما وشرحهما.

٢٩٠

ويؤكد هذا عندك قوله عز اسمه : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) (الرعد : ٣١) (١) ولم يقل : لكان هذا القرآن.

وكذلك قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) (الأنعام : ٢٧) ولم يقل : لرأيت سوء منقلبهم.

وعلى هذا قول امرئ القيس (٢) :

فلو أنها نفس تموت جميعة

ولكنها نفس تساقط أنفسا (٣)

ولم يقل : لفنيت ، ولا لاستراحت.

وكذلك قول جرير (٤) :

كذب العواذل لو رأين مناخنا

بحزيز رامة والمطيّ سوامي (٥)

ولم يقل : لرأين ما يشجيهنّ ويسخن أعينهنّ.

__________________

(١) قطعت به الأرض : عبرت واجتيزت. اللسان (٨ / ٢٧٨) مادة / قطع.

(٢) ديوانه (ص ١٠٧) يعني أنه مريض ، فنفسه لا تخرج مرة ولكنها تموت شيئا بعد شيء.

(٣) جميعة : إنما أراد جميعا فبالغ بإلحاق الهاء وحذف الجواب للعلم به كأنه قال لفنيت واسترحت. لسان العرب (٨ / ٥٤) مادة / جمع. تساقط أنفسا : صور النفس في ذهابها شيئا فشيئا بقطرات الماء المتساقطة. يقول الشاعر : إنني مريض ومع ذلك فإنني لم أسترح بالموت ولكني من شدة آلام نفسي أشعر وكأني أموت في كل لحظة. والبيت شاهد على حذف الجواب ، والأصل لو أن نفسي تموت جميعا لاسترحت.

(٤) ديوانه (ص ٩٩١).

(٥) العواذل : اللائمات والمفرد عاذلة. الحزيز : موضع كثرت حجارته وغلظت كأنها السكاكين. اللسان (٥ / ٣٣٥) مادة / حزز. سوام : رافعة أبصارها وأعناقها. يقول : كذبت اللائمات في لومهن فلو أنهن شاهدن ما بنا وقت الرحيل لاغرورقت أعينهن بالمدامع. والشاهد فيه حذف الجواب كما في المتن.

٢٩١

وقال الآخر (١) :

لو قد حداهنّ أبو الجوديّ

برجز مسحنفر الرّويّ

مستويات كنوى البرنيّ (٢)

ولم يقل : لأسرعن ، ولا لقطعن ، ونحو ذلك. وعلى هذا قول حاتم : «لو غير ذات سوار لطمتني» (٣) ولم يقل : لانتصفت منها.

وزعم سيبويه (٤) أن الشماخ لم يأت لقوله (٥) :

ودوّيّة قفر تمشّى نعامها

كمشي النّصارى في خفاف اليرندج (٦)

بجواب في القصيدة علما بأن المعنى : قطعت ، أو جزت ، أو نحو ذلك.

__________________

(١) الأبيات لرجل يكنى أبا الجودي كما في الخزانة (٣ / ١٧١).

(٢) حداهن : زجر الإبل وساقها. أبو الجودي : اسم الشاعر. والرجز : بحر من بحور الشعر تفعيلته مستفعلن ست مرات. مسحنفر : الماضي السريع. البرني : ضرب من التمر أصفر مدور وهو أجود التمر. الشرح : لو قاد أبو الجودي تلك الإبل وأنشد لها الرجز لأسرعت في مشيها. والشاهد كما أوضحه ابن جني في المتن هو حذف الجواب.

(٣) المعنى «لو ظلمني رجل لانتصفت منه». وقيل : أراد : «لو لطمتني مرة» فجعل السوار كناية عن الحرية. انظر / هذا المثل في كتاب الأمثال لأبي عبيد (ص ٢٦٨).

(٤) الكتاب (١ / ٤٥٣ ـ ٤٥٤).

(٥) البيت في ديوانه (ص ٨٣) ، والكتاب (٣ / ١٠٤). قلت : هذا البيت ليس في ديوان الشماخ.

(٦) الدوية : الفلاة الواسعة المترامية الأطراف. اللسان (١٤ / ٢٧٦). القفر : الخلاء من الأرض ، وقيل : مفازة لا ماء فيه ولا ناس ولا كلأ ويقال دار قفر : خالية ، والجمع «أقفار». اللسان (٥ / ١١٠) مادة / قفر. نعامها : الواحد نعامة نوع من الطيور كبيرة الحجم طويلة العنق. اليرندج : الجلد الأسود. والبيت شاهد على حذف الجواب : وهو «ودوية قفر قطعتها أو جزتها». وزعم سيبويه أن الشاعر لم يأت بالجواب مع أنه مقدر كما قلنا على رأي ابن جني كما في المتن. إعراب الشاهد : الواو : للعطف قامت مقام رب. دوية : اسم مجرور بـ «رب» المحذوفة وعلامة الجر الكسرة. قفر : نعت مجرور. تمشي : فعل مضارع مرفوع ، ونعامها فاعل ، والهاء مضاف إليه. والجملة في محل جر نعت ثان. كمشي : جار ومجرور ، النصارى : مضاف إليه. في : حرف جر ، خفاف : اسم مجرور ، اليرندج : مضاف إليه.

٢٩٢

وذهب أصاحبنا إلى أن حذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره ، وأنه لذلك ما حذفت هذه الأجوبة ، قالوا : ألا ترى أنك إذا قلت لغلامك : والله لئن قمت إليك ، وسكتّ عن الجواب ، ذهب بفكره إلى أنواع المكروه من الضرب والقتل والكسر وغير ذلك ، فتمثلت في فكره أنواع العقوبات ، فتكاثرت عليه ، وعظمت الحال في نفسه ، ولم يدر أيّها يتّقي ، ولو قلت : والله لئن قمت إليك لأضربنّك ، فأتيت بالجواب لم يتّق شيئا غير الضرب ، ولا خطر بباله نوع من المكروه سواه ، فكان ذلك دون حذف الجواب في نفسه.

قال أبو علي : ومثل معناه قول كثيّر (١) :

فقلت لها : يا عزّ كل مصيبة

إذا وطّنت يوما لها النفس ذلّت (٢)

وكذلك الحال في الجميل من الفعل نحو قولك : والله لئن زرتني ، إذا حذفت الجواب تصوّرت له أنواع الجميل وضروبه من الإحسان إليه والإنعام عليه. ولو قلت : والله لئن زرتني لأعطينّك دينارا ، رمى بفكره نحو الدينار ، ولم يجل في خلده شيء من الجميل سواه ، ولعله أيضا أن يكون مستغنيا عنه غير راغب فيه ، فلا يدعوه ذلك إلى الزيارة ، وإذا حذفت الجواب تطلعت نفسه إلى علم ما توليه إياه ، فكان ذلك

__________________

(١) ديوانه (ص ٩٧) ، ولسان العرب (١٣ / ٤٥١ ـ ٤٥٢) مادة / وطن.

(٢) عز : اسم محبوبته. المصيبة : الداهية. وطنت : حملها عليه فتحملت وذلت له. اللسان (١٣ / ٤٥١). ذلت : هانت. الشرح : يخاطب الشاعر معشوقته ويقول لها إن أي مصيبة مهما عظمت ممكن أن تهون لو دربت النفس على الصبر عليها. والشاهد : في قوله «ذلت» فقد حدد الجواب وذكره.

٢٩٣

أدعى له إلى الزيارة ، كما كان الباب الأول أدعى له إلى الترك ، فهذا بيان هذا الفصل وتلخيص ما فيه ، وذكر السبب الداعي إلى حذف الأجوبة منه.

وقد زيدت الواو على الحرف المضموم إذا وقفت عليه مستذكرا لما بعده من الكلام فتقول : الرجل يقومو ، أي : يقوم غدا أو نحوه ، والرجل ينطلقو ، أي : ينطلق إلينا ، ونحو ذلك ، فمدّوا بالواو لأنهم لا ينوون القطع. ويزيدون أيضا على الواو واوا أخرى عند التذكر ، فيقولون : زيد يغزوو ، ومحمد يدعوو ، جعلوا ذلك علامة للاستذكار ، وأنه قد بقيت بقية من الكلام ، وتكلفوا الجمع بين الساكنين لذلك.

وقد حذفت الواو فاء ، نحو «يعد» و «عدة» و «تقيت زيدا» وهو كثير.

وعينا في حرف واحد ، وهو «حب» في زجر الإبل ، و «سف» في معنى «سوف» ولاما في «أخ» و «أب» و «غد» و «هن» و «كرة» و «لغة» ونحو ذلك.

وقد زيدت الواو في نحو قولهم : كنت ولا مال لك ، أي : كنت لا مال لك ، وكان زيد ولا أحد فوقه. وكأنهم إنما استجازوا زيادتها هنا لمشابهة خبر كان للحال ؛ ألا ترى أن قولك : كان زيد قائما ، مشبّه من طريق اللفظ بقولهم : جاء زيد راكبا ، وكما جاز أن يشبه خبر كان بالمفعول فينصب ، فغير منكر أيضا أن يشبه بالحال في نحو قولهم : جاء زيد وعلى يده باز ، فتزاد فيه الواو.

* * *

٢٩٤

حرف الألف السّاكنة

اعلم أن هذه الألف هي التي بعد اللام قبل الياء في آخر حروف المعجم وهي التي في قولنا «لا». وإنما لم يجز أن تفرد من اللام وتقام بنفسها كما أقيم سائر حروف المعجم سواها بأنفسها من قبل أنها لا تكون إلا ساكنة تابعة للفتحة ، والساكن لا يمكن ابتداؤه ، فدعمت باللام ليقع الابتداء بها ، وتأتي الألف ساكنة بعدها. وقول من لا خبرة له بحقيقة اللفظ بحروف المعجم «لام الف» خطأ.

فأما قول أبي النجم (١) :

خرجت من عند زياد كالخرف

تخطّ رجلاي بخطّ مختلف

تكتبان في الطريق لام الف (٢)

فلم يرد شكل «لا» دون غيره ، وإنما هذا كقولك : تكتبان قاف دال ، أو جيم طاء ، أي كأنهما تخطّان حروف المعجم ، لا يريد بعضا دون بعض ، على أنه أيضا قد يمكن أن يكون أراد بقوله : «لام الف» هذا الشكل المقدّم ذكره إلا أنه تلقاه من أفواه العامة ؛ لأن الخط ليس له تعلق بالفصحاء ، ولا عنهم يؤخذ.

ويؤكد ذلك عندك أن واضع حروف المعجم إنما وسمها لنا منثورة غير منظورة ، فلو كان غرضه في «لا» أن يرينا كيف اجتماع اللام مع الألف ، للزمه أيضا أن يرينا كيف تتركب الجيم مع الطاء ، والقاف مع الياء ، والسين مع الهاء ، وغير ذلك مما يطول تعداده ، وإنما غرضه ما ذكرت لك من توصله إلى النطق بالألف ، فدعهما باللام ليقع الابتداء بها ، وتأتي الألف ساكنة بعدها.

__________________

(١) الأبيات في ديوانه (ص ١٤١) والخزانة (١ / ٤٨ ـ ٥١) وهي بغير نسبة في المقتضب (٣ / ٣٥٧).

(٢) الخرف : خرف خرفا فسد عقله من الكبر فهو خرف. لسان العرب (٩ / ٦٢). يقول : إنه خرج من عند زياد فاقدا عقله تخط رجلاه خطى مختلفة وترسم في خطاها حرف اللام ألف. والشاهد فيه (لام ألف) حيث لم يرد شكل (لا) وإنما أراد مجرد الشكل الذي تخطانه القدم.

٢٩٥

فإن سأل سائل فقال : ما بالهم اختاروا لها اللام دون سائر الحروف إذا كان الأمر كما ذكرت ، وهلا دعموها بالجيم أو القاف أو غيرهما من الحروف ، فقالوا : جا أو قا أو صا أو نحو ذلك؟

فالجواب : أنهم إنما خصوا اللام بها دون غيرها من قبل أنهم لما احتاجوا لسكون لام التعريف إلى حرف يقع الابتداء بها قبلها أتوا بالهمزة ، فقالوا : الغلام والجارية ، فكما أدخلوا الألف قبل اللام هناك كذلك أدخلوا اللام قبل الألف في «لا» ليكون ذلك ضربا من التعاوض بينهما.

فإن قيل : فلم أدخلت الهمزة قبل لام التعريف أصلا حتى قيس هذا عليه وعووض بينهما؟

فالجواب عن ذلك قد تقدم في حرف الهمزة من أول هذا الكتاب ، فالأصل في هذين الموضعين إنما هو لام المعرفة المدخلة عليها الألف ، ثم حملت الألف في إدخال اللام عليها على حكم لام المعرفة ، وذلك أن اللفظ أسبق مرتبة من الخط ، فبه بدئ ، ثم حمل الخط عليه.

واعلم أن هذه الألف ، أعني المدة الساكنة في نحو قام ، وباع وحمار ، وكتاب ، وغزا ، ورمى ، وحتّى ، وإلا ، وما ، ولا ، لا تكون أصلا في الأسماء المتمكنة ولا الأفعال أبدا ، إنما تكون بدلا أو زائدا ، فأما الحروف التي جاءت لمعان فإن الألفات فيها أصول ، وكذلك الأسماء المبنية التي أوغلت في شبه الحرف ، وسيأتيك ذلك مفصلا في أماكنه بإذن الله تعالى.

كون الألف أصلا

وذلك في عامة الحروف التي تقع الألف في آخرها ، نحو ما ، ولا ، ويا ، وهيا ، وإلا ، وحتى ، وكلّا ، فهذه الألفات وما يجري مجراها أبدا أصول غير زوائد ولا منقلبة. والذي يدل على أنها ليست بزوائد أن الزيادة ضرب من التصرف في الكلمة ، وجزء من الاشتقاق فيها ، وهذه الحروف كلها غير متصرفة ولا مشتقة ، فيجب أن تكون ألفاتها غير زائدة ، ألا ترى أنك لا تجد لـ «حتى» و «كلّا» اشتقاقا تفقد فيه ألفهما كما تجد لضارب ، وقاتل ، ومعزى ، وأرطى اشتقاقا تفقد في ألفهما ،

٢٩٦

وهو ضرب ، وقتل ، ومعز ، ومأروط ، فلما لم تكن الحروف متصرفة ولا مشتقة بطل أن يقضي بزيادة ألفاتها ، ويفسد أيضا أن تكون بدلا من نحو الوجه الذي فسد منه أن تكون زائدة ، وذلك أن البدل أيضا ضرب من التصرف ؛ ألا ترى أنك لا تجد لألف ما ، ولا ، وحتى ، وكلّا أصلا في ياء ولا واو كما تجد لألف غزا ، ودعا ، وسعى ، ورمى أصلا في الياء ، والواو لقولك : غزوت ، ودعوت ، وسعيت ، ورميت ، فكما بطل أن تكون الألف فيها زائدة بطل أيضا أن تكون بدلا.

ودليل آخر على فساد كونها بدلا وجودك الألف في نحو «ما» و «لا» ، فلو كانت الألف في نحو ذلك بدلا لم تخل من أن تكون بدلا من ياء أو واو ، فلو كانت بدلا من الياء لوجب أن تقول في «ما» ، و «لا» : «مي» و «لي» كما قالوا : أي ، وكي ، ولو كانت بدلا من الواو لوجب أن تقول : «مو» و «لو» كما قلت : أو ، ولو ؛ ألا ترى أن الياء والواو إنما تقلبان إذا وقعتا طرفين متى تحركتا ، فإذا سكنتا لم يجب قلبهما ، وأواخر الحروف أبدا ساكنة إلا أن يلتقي ساكنان ، ولا ساكنين في نحو : ما ، ولا ، كما أنه لا ساكنين في نحو : قد ، وهل.

وكذلك القول عندنا في الأسماء القاعدة في شبه الحرف ، نحو : أنّى ، ومتى ، وإذا ، وإيّا ، ينبغي أن تكون ألفاتها أصولا غير زوائد ولا مبدلة ، لأن أواخرها ينبغي أن تكون سواكن ، ألا ترى أن «أنّى» في الاستفهام بمنزلة «من» و «كم» وأنه ينبغي أن يكون آخرها ساكنا كما أن آخر «من» و «كم» ساكن ، فوجودك الألف في المكان الذي يسكن فيه الحرف الصحيح أدلّ دليل على كونها أصلا غير زائدة ولا مبدلة.

والقول في «متى» أيضا كالقول في «أنّى» لأنها أختها في الاستفهام ورسيلتها في استحقاق البناء. وكذلك «إذا» هي مستحقة للبناء لاقتصارهم على إضافتها إلى الجملة ، فينبغي أن يكون آخرها ساكنا كآخر «إذ» فالألف إذن في آخرها أصل ، إذ لا حركة فيها توجب قلبها. وكذلك القول في ألف «إذا» التي للمفاجأة لأنها مبنية ، وحكمها أن تكون ساكنة الآخر.

وأما «إيّا» فاسم مضمر ، وقد تقدمت الدلالة في هذا الكتاب وغيره مما صنفناه وأمللناه على صحة كونه مضمرا بمنزلة «أنت» و «أنا» و «هو» فكما أن هذه كلها مبنية لشبه الحرف فيها ، كذلك ينبغي أن تكون «إيّا» مبنية أيضا.

٢٩٧

فإن قلت : فلعله مبني على حركة ، فتكون ألفه إذن منقلبة لانفتاح الياء قبلها ، ويكون في بنائه على الحركة بمنزلة «أنا» و «هو» في أنهما مبنيان على الفتح.

فالجواب : أن «إيّاك» بأنت أشبه منه بأنا وهو ، وذلك أن الكاف في آخره قد ثبتت الدلالة على كونها حرفا للخطاب ، وقد شرحنا ذلك من حالها في حرف الكاف ، فإذا كان الاسم إنما هو «إيّا» والكاف إنما هي لاحقة لمعنى الخطاب ، أشبه إيّاك أنت ، ألا ترى أن التاء في آخر «أنت» ليست من الاسم ، وإنما هي للخطاب ، فكما أن النون قبل تاء «أنت» ساكنة ، فكذلك ينبغي أن تكون الألف قبل كاف «إياك» في موضع سكون ، وإذا كانت كذلك لزم أن تكون غير منقلبة ؛ لأنها ليست في موضع حركة ، وجرت في ذلك مجرى ألف : ما ، ولا ، وحتى ، وكلّا في أنها غير منقلبة.

وحكى لي حاك عن أبي إسحاق أراه قال لي : سمعته يقول وقد سئل عن معنى قوله عز وجل : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (الفاتحة : ٥) (١) ما تأويله؟ فقال : حقيقتك نعبد ، قال : واشتقاقه من الآية ، وهي العلامة.

وهذا القول من أبي إسحاق عندي غير مرضي ، وذلك أن جميع الأسماء المضمرة مبني غير مشتق نحو : أنا ، وأنت ، وهو ، وهي ، وقد قامت الدلالة على كون «إيّا» اسما مضمرا ، فيجب أن لا يكون مشتقا ، فإن ذهب إلى أن «إيّا» اسم غير مضمر ، وذلك قوله على ما بيّنّاه في حرف الكاف ، فقد أفسدناه هناك بما أغنى عن إعادته هنا.

فإن قلت : فما مثال «إيّا» من الفعل؟ فإن المضمر لا ينبغي أن يمثّل لأنه غير مشتق ولا متصرف ، ولكنك إن تكلفت ذلك على تبيين حاله لو كان مما يصح تمثيله لاحتمل أن يكون من ألفاظ مختلفة ، وعلى أمثلة مختلفة ، فالألفاظ ثلاثة :

أحدها أن يكون من لفظ أويت.

والآخر : من لفظ الآية.

__________________

(١) (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) الشاهد في الآية أن أبا إسحاق أولها ب (حقيقتك نعبد) وهو ما لا يتفق مع رأي ابن جني.

٢٩٨

والآخر : من تركيب (أوو) وهو من قول الشاعر (١) :

فأوّ لذكراها إذا ما ذكرتها

ومن بعد أرض بيننا وسماء (٢)

فمن رواه هكذا فـ «أوّ» على هذا بمنزلة قوّ زيدا ، وهو من مضاعف الواو ، ولا يكون «فأوّ» كقولك : سوّ زيدا ، ولوّ عمرا ، وحوّ حبلا لما ذكرناه قبل في حرف الميم من هذا الكتاب.

وإن ذهبت إلى أن «إيّا» من لفظ «أويت» احتمل ثلاثة أمثلة : أحدها أن يكون إفعلا. والآخر أن يكون فعيلا. والآخر فعلى.

فأما «إفعل» فأصله «إئوي» فقلبت الياء التي هي لام ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصارت «إئوا» وقلبت الهمزة الثانية التي هي فاء الفعل ياء لسكونها وانكسار الهمزة قبلها ، فصارت «إيوا» فلما اجتمعت الياء والواو وسبقت الياء بالسكون قلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء ، فصارت «إيّا».

فإن قلت : ألست تعلم أن الياء التي قبل الواو في «إيوا» ليست بأصل ، وإنما هي بدل من الهمزة التي هي فاء الفعل ، فهلا لم تقلب لها الواو ياء إذ كانت غير أصل وبدلا من همزة ، كما تقول في الأمر من أوى يأوي : ايو يا رجل ، ولا تقلب الواو ياء ، وإن كانت قبلها ياء ساكنة ، لأن تلك الياء أصلها الهمز؟

فالجواب : أن هذا إنما يفعل في الفعل لا في الاسم ، وذلك أن الفعل لا يستقر على حال واحدة ، ولا الهمزة المكسورة في أوله بلازمة ، إنما هي ثابتة ما ابتدأت ، فإذا وصلت سقطت البتة ، ألا تراك تقول : «ايو ، وأو» وإن شئت فأو ، كما قال تعالى : (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) (الكهف : ١٦) (٣) وليس كذلك الاسم ؛ لأنه إن كانت في

__________________

(١) ذكره صاحب اللسان دون أن ينسبه مادة (أوا) (١٤ / ٥٤) ، والخصائص (٣ / ٣٨).

(٢) يقال : فأوّه على فعّل ، وهي لغة بني عامر ، وهذا من قولهم «فلان يتأوه من ذنوبه» معاني القرآن للفراء (٢ / ٢٣). والشاهد فيه (فأوّ) حيث ضاعف الواو.

(٣) (فأووا إلى الكهف) الشاهد فيه (فأووا) حيث حذفت الياء في الفعل «أوى» وثبتت الهمزة في أول الفعل.

٢٩٩

أوله كسرة أو ضمة أو فتحة ثبتت على كل حال ، وذلك قولك : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (الفاتحة : ٥) (١) وضربت القوم إلا إيّاك ، فالهمزة ثابتة مكسورة في الوصل والوقف ، ألا ترى أنهم قالوا في مثل «إجردّ» (٢) من «أويت» : «أيّ». وأصله «إئوي» فقلبت الهمزة الثانية لاجتماع الهمزتين ياء ، فصارت «إيوي» وقلبت الواو ياء لوقوع الياء الساكنة المبدلة من الهمزة قبلها ، فصارت «إييي» فأدغمت الأولى في الثانية ، فصارت «إيّي» ، فلما اجتمعت ثلاث ياءات على هذه الصفة حذفت الآخرة تخفيفا ، كما حذفت من تصغير أحوى في قولك «أحيّ».

وكذلك قالوا في مثل «إوزّة» من «أويت» : «إيّاة» وأصلها «إئوية» فقلبت الهمزة الثانية ياء ، وأبدلت لها الواو بعدها ياء ، وأدغمت الأولى في الثانية ، وقلبت الياء الأخيرة ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصارت «إيّاه». فهذا حكم الأسماء لأنها غير منتقلة ، والأفعال لا تثبت على طريق واحدة ، فليس التغيير فيها بثابت.

وأما كونه «فعيلا» من «أويت» بوزن «طريم» (٣) و «غريل» (٤) و «حذيم» (٥) فأصله على هذا «إويي» تفصل ياء «فعيل» بين الواو والياء كما فصلت في المثال بين العين واللام ، فلما سكنت الواو وانكسر ما قبلها قلبت ياء ، وأدغمت في ياء «فعيل» فصارت «إيّي» ثم قلبت الياء الأخيرة التي هي لام ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصارت «إيّا».

وأما كونه «فعلى» فأصله «إويا» فقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، ولوقوع الياء بعدها أيضا ، ثم أدغمت في الياء بعدها ، فصارت «إيّا».

فإن سميت به رجلا وهو «إفعل» لم ينصرف معرفة ، وانصرف نكرة ، وحاله فيه حال إشفى (٦). وإن سميت به رجلا وهو «فعيل» فالوجه أن تجعل ألفه للتأنيث

__________________

(١) (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) الشاهد فيه «إياك» حيث تثبت الهمزة في الاسم على كل حال سواء كانت في أوله كسرة أو فتحة أو ضمة.

(٢) إجرد : نبت يدل على الكمأة. لسان العرب (٣ / ١١٩) مادة / جرد.

(٣) الطريم : العسل إذا امتلأت البيوت خاصة ، والسحاب الكثيف. اللسان (١٢ / ٣٦١).

(٤) الغريل : ما يبقى من الماء في الحوض ، والغدير الذي تبقى فيه الدعاميص لا يقدر على شربه.

(٥) الحذيم : القاطع.

(٦) إشفي : المثقب. اللسان (١٤ / ٤٣٨).

٣٠٠