سرّ صناعة الإعراب - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

سرّ صناعة الإعراب - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-2702-0
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

حرف اللام

اللام حرف مجهور يكون أصلا وبدلا ، وزائدا.

فإذا كان أصلا وقع فاء ، وعينا ، ولاما ، فالفاء نحو لعب ، ولزم ، والعين نحو قلب ، وسلم ، واللام نحو شعل وجعل.

فأما قول الراجز (١) :

لمّا رأى أن لا دعه ولا شبع

مال إلى أرطاة حقف فالطجع (٢)

فإنه يريد : فاضطجع ، فأبدل الضاد لاما ، وهو شاذ. وقد روي : فاضطجع.

ويروى أيضا : فاطّجع ، ويروى أيضا : فاضّجع.

وأبدلوا اللام من النون في أصيلان فقالوا : أصيلال.

وإذا كانت اللام زائدة فهي على ضربين :

أحدهما : أن تزاد في الكلمة مبنية معها غير مفارقة لها.

والآخر : أن تزاد فيها لمعنى ، ولا تكون صيغة الكلمة.

__________________

(١) الراجز : يقال هو منظور بن مرثد الأسدي ، جاء ذلك في العيني.

(٢) دعة : لين العيش أو العيش السهل الطيب. شبع : الشبع : الامتلاء من الطعام ، ويقال : شبع من الأمر إذا سئمه. اللسان (٨ / ١٧١) أرطاة : واحدة الأرطي وهو نبات شجيري ينبت في الرمل ويخرج كالعصي. ورقه رقيق وثمره كالعناب. لسان العرب (١٤ / ٣٢٥) مادة / رطى. حقف : حقف الشيء حقوفا أي استطال في اعوجاج. القاموس المحيط (٣ / ١٢٩) مادة حقف. فالطجع : أي وضع جنبه على الأرض ونحوها. القاموس (٣ / ١٢٩) مادة / ضجع. ويقول الشاعر في وصف الذئب أنه قد مال إلى جذع شجر الأرطي وما اعوج من الرمال ثم وضع جنبه واضطجع. وهو في هذه الحالة ما بين الدعة والشبع. وأسلوب البيت خبري تقريري يفيد الوصف. الشاهد فيه : إبدال (الضاد) لاما في قوله (فالطجع) حيث يريد فاضطجع. إعراب الشاهد : الطجع : فعل ماضي مبني لا محل له من الإعراب.

٥

الأول من هذين : وذلك قولهم : أذلك ، وأولالك ، وهنالك ، وعبدل ، وزيدل ، وفيشلة ، فالذي يدل على زيادة اللام في ذلك قولهم في معناه : ذاك. ومعنى أولالك : أولئك.

قال (١) :

أولالك قومي لم يكونوا أشابة

وهل يعظ الضّلّيل إلا أولالكا (٢)

وقولهم هناك يدل على زيادة اللام في هنالك. ومعنى عبدل كمعنى عبد. ومعنى زيدل معنى زيد. ومعنى فيشلة معنى فيشة.

قال الراجز (٣) :

وفيشة ليست كهذي الفيش

قد ملئت من خرق وطيش

إذا بدت قلت أمير الجيش (٤)

ويقال : إن امرأة من العرب قالت (٥) :

وفيشة قد اشفترّ حوقها

__________________

(١) قال : جاء في الخزانة أنه ابن الكلحبة. وهو ابن كلحبة اليربوعي ، واسمه هبيرة بن عبد مناف وكلحبة أمه.

(٢) أشابة : الذين لا يعرف لهم أصل في نسبهم حيث اختلط نسبهم. يعظ : ينصح ويذكر بالعواقب ويأمر بطاعة الله. مادة (وع ظ) القاموس المحيط (٢ / ٤٠٠) الضليل : من ينحرف عن الطريق القويم والدين الحنيف ، والضليل الكثير الضلال المبالغ فيه ، ويقال : الملك الضليل لامرئ القيس الشاعر لأنه كان صاحب غوايات وبطالات. ويقول الشاعر مفتخرا بقومه إنهم يعظون الضليل ولا يوجد غيرهم من يعظه لأنهم غير أخلاط وأصحاب أخلاق وعقلية راجحة فمن الذي ينصح ويعظ إن لم ينصحوا. والشاهد فيه قوله (أولالك) حيث جاءت بمعنى أولئك. إعراب الشاهد : اسم إشارة مبني في محل رفع مبتدأ.

(٣) ذكرها ابن منظور في مادة (فيش) دون أن ينسبها إلى قائلها. لسان العرب (٦ / ٣٣٣).

(٤) خرق : الحمق والدهشة والتحير. مادة (خ ر ق). القاموس المحيط (٣ / ٢٢٦). طيش : طاش طيشا : اضطرب وانحرف ، القاموس المحيط (٢ / ٢٧٧) مادة / طيش.

(٥) قالت : قيل هي امرأة من العرب لم نقف عليها.

٦

فسمعتها ابنتها ، فقالت (١) :

دونكها يا أمّ لا أطيقها (٢)

وقد يمكن أن تكون فيشة من غير لفظ فيشلة ، فتكون الياء في فيشة عينا ، وتكون في فيشلة زائدة ، ويكون وزنها فيعلة ، لأن زيادة الياء ثانية أكثر من زيادة اللام ، فيكون اللفظان مقتربين ، والأصلان مختلفين.

ونظير هذا قولهم : رجل ضياط (٣) وضيطار ، فالياء في ضيّاط عين الفعل ، وهي في ضيطار زائدة. قال الشاعر (٤) :

ونركب خيلا لا هوادة بينها

وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر (٥)

وقال الآخر (٦) :

قد علقت أحمر ضيّاطيّا (٧)

وقالوا أيضا : هيق ، وهيقل (٨) ، والقول فيهما القول في فيشة ، وفيشلة.

__________________

(١) فقالت : أي قالت الصبية ردا على قول أمها.

(٢) دونكها يا أم لا أطيقها : ذكر صاحب شذور الذهب هذا المثال دون أن ينسبه إلى قائله. شرح شذور الذهب شاهد ٢١١ ص ٤٠١.

(٣) ضيّاط : الرجل الذي حين يمشي يحرك جسده ومنكبه من كثرة اللحم. اللسان (٧ / ٣٤٥).

(٤) الشاعر : قيل هو خداش بن زهير ، ذكر ذلك صاحب الجمهرة ، ونسبه ابن منظور إليه أيضا في مادة (ض. ط. ر). لسان العرب (٤ / ٤٨٩).

(٥) يقول الشاعر : إن هذه الرماح تشقيهم فهم لا يحسنون الحرب بها ولا استخدامها في ميدان القتال ، وإذا حملت معنى التشبيه المقلوب فيكون لديهم مهارة فائقة في استخدامها حتى تشقى الرماح من كثرة القتل والطعن. الشاهد فيه : زيادة الياء في كلمة (ضياطرة). إعراب الشاهد : اسم مجرور بحرف الجر الباء.

(٦) الآخر : لم يذكره صاحب اللسان.

(٧) الأسلوب إنشائي في صورة توكيد ، وغرضه التأكيد على الفكرة. الشاهد فيه زيادة الياء في (ضياطيا).

(٨) هيقل : هو الفتي من النعام. القاموس المحيط (٤ / ٦٩) مادة / هقل.

٧

وقالوا للأفحج : فحجل (١) ، فاللام في هذا زائدة لا محالة. قالوا : ومن هذا أيضا قولهم : عدد طيس وطيسل للكثير.

وأنشدنا أبو علي :

حتى لحقنا بعديد الطّيس

قد ذهب القوم الكرام ليسي (٢)

والقول في هذا هو القول في فيشة وفيشلة.

وقال محمد بن حبيب : ومنه قالوا للعنس : عنسل (٣) ، فذهب إلى أن اللام من عنسل زائدة ، وأن وزن الكلمة فعلل ، واللام الأخيرة زائدة ، حتى لو بنيت مثلها على هذا القول من ضرب لقلت : ضربل ، ومن خرج : خرجل ، ومن صعد : صعدل.

وقد ترك محمد في هذا القول مذهب سيبويه (٤) الذي عليه ينبغي أن يكون العمل ، وذلك أن «عنسل» عنده فنعل ، وهي من العسلان ، وهو عدو الذئب.

__________________

(١) الفحجل : الذي اعوجت ساقاه.

(٢) نسبه صاحب اللسان في مادة (طيس) (٦ / ١٢٨) إلى رؤية بن العجاج. مع ملاحظة أن البيت لا يوجد في ديوانه ، ولكنه موجود في زيادته. كعديد : العديد كالعدد في المعنى يقال : هم عديد الثرى : أي عددهم مثل عدده. الطيس : العدد الكثير وكل ما في وجه الأرض من التراب والقمام. القاموس (٢ / ٢٢٧). وقال صاحب اللسان : إنهم اختلفوا في تفسير الطيس ، فقال بعضهم : كل من على ظهر الأرض من الأنام فهو من الطيس ، وقال بعضهم : هو كل خلق كثير النسل نحو النمل والذباب ... إلخ ، وقيل يعني الكثير من الرمل. لسان العرب (٦ / ١٢٨) مادة / طوس. يقول الشاعر : إنني أفتخر بقومي وأتحسر على ذهابهم ، فقد ذهبوا جميعهم رغم كثرتهم التي تشبه كثرة الرمل إلا إياي ، فإنني بقيت بعدهم خلفا عنهم. الشاهد فيه : أن الياء في «ليسي» ليست زائدة وإنما هي ياء المتكلم ، وحذفت نون الوقاية منها. إعرابه : ليس : فعل ماضي ناقص مبني لا محل له من الإعراب دال على الاستثناء ، اسمه : ضمير مستتر وجوبا تقديره (هو) يعود على البعض المفهوم من القوم. الياء : خبر ليس مبني في محل نصب.

(٣) عنسل : الناقة القوية السريعة. القاموس المحيط (٤ / ١٦).

(٤) سيبويه : الكتاب (٢ / ٣٢٦).

٨

قال :

عسلان الذئب أمسى قاربا

برد الليل عليه فنسل (١)

والذي ذهب إليه سيبويه هو القول ، لأن زيادة النون ثانية أكثر من زيادة اللام ، ألا ترى إلى كثرة باب قنبر ، وعنصل (٢) ، وقنفخر ، وقنعاس ، وقلة باب ذلك وأولالك.

ويلزم على ذلك أن تكون اللام في فلندع زائدة ، ويجعل وزنه فلنلل ، لأنه الملتوي الرجل ، فهو من معنى الفدع ، وهذا بعيد فاسد.

ونظيره ازلغبّ الفرخ أي زغّب ، لا ينبغي أن يقال : إن مثال ازلغبّ : افلعلّ.

فهذه أحكام اللام المصوغة في أمثلة الكلم وهي زائدة.

وأما اللام التي زيدت لمعنى وهي غير مصوغة في الأمثلة فلحقت في ثلاثة مواضع : الاسم ، والفعل ، والحرف.

لحاقها للأسماء وذلك أيضا على ضربين : أحدهما أن تكون عاملة ، والآخر أن تكون غير عاملة.

فأما العاملة فلام الجر ، وذلك قولك : المال لزيد ، والغلام لعمرو ، وموضعهما في الكلام الإضافة ، ولها في الإضافة معنيان :

أحدهما الملك نحو : المال لزيد ، أي : هو في ملكه.

والآخر الاستحقاق والملابسة ، نحو : هذا الجلّ (٣) للدابة ، أي قد استحقته ، ولا بسته ، وكذلك : هذا الباب للدار.

__________________

(١) نسبه صاحب اللسان في مادة (عسل) إلى لبيد ، وهو أبو عقيل لبيد بن ربيعة أحد الشعراء الفرسان في الجاهلية ، وأدرك الإسلام ولم يقل فيه إلا بيتا واحدا :

وما عاتب المرء الكريم كنفسه

والمرء يصلحه الجليس الصالح

اللسان (١١ / ٤٤٦). الشاهد فيه : أن اللام أصلية في كلمة (عسلان) وليست زائدة وهو ما ذهب إليه سيبويه.

(٢) عنصل : البصل البري. القاموس المحيط (٤ / ١٧).

(٣) الجل : ما تغطى به الدابة لتصان ، (ج) جلال أو أجلال. القاموس (٣ / ٣٥٠) مادة / جلل.

٩

واعلم أن هذه اللام الجارة مكسورة مع المظهر ، نحو : الغلام لمحمد ، ومفتوحة مع المضمر (١) ، نحو : الغلام له. وأصلها وأصل كل حرف مفرد وقع في أول الكلمة أن يكون متحركا بالفتح ، نحو واو العطف ، وفائه ، وهمزة الاستفهام ، ولام الابتداء.

فأما لام التعريف فسنذكر لم أسكنت إذا انتهينا من القول إلى ذكرها بإذن الله.

فقد كان ينبغي للام الجر أن تكون مفتوحة مع المظهر كما أنها مفتوحة مع المضمر (٢) ، إلا أنها كسرت للفرق بينها وبين لام الابتداء ، وذلك نحو قولك في الملك : إن زيدا لهذا ، أي هو في ملكه ، وإنّ زيدا لهذا ، أي هو هذا ، فلو فتحت في الموضعين لا لتبس معنى الملك بمعنى الابتداء.

فإن قلت : فإني أقول أيضا : إن زيدا لأمير ، وإنّ زيدا لأمير ، فهلا فتحت في الموضعين ، واعتمد في البيان على الإعراب؟

ففي هذا شيئان : أحدهما أن الوقف يزيل الإعراب ، فيعود اللبس.

والآخر أنه لما كان كثير من الأسماء لا يبين فيه إعراب نحو هذا وهذه ، والذي والتي ، والمقصور كله ، وما أشبه ذلك كرهوا أن يقع اللبس في ما لا يظهر إعرابه ، فاحتاطوا ، وأخذوا بالحزم ، فكسروا اللام في ما يظهر إعرابه ، وفي ما لا يظهر إعرابه ، ليكون ذلك أنفى للشك وأحسم للشبهة ، فهذا وجه كسرها مع المظهر.

وأما المضمر فإنما تركت مفتوحة معه لأمرين :

قال بعضهم (٣) : إنما فتحت لام الجر مع المضمر لزوال اللبس ، وذلك أن ضمير المجرور في اللفظ غير ضمير المرفوع ، وذلك قولك : إنّ هذا لك ، أي في ملكك ، وإنّ هذا لأنت ، أي : أنت هو ، فلما اختلفت علامتا الضمير زال الشك ، فلزمت اللام أصلها ، وهو الفتح.

ويلزم من قال هذا القول عندي أن يكسرها في الموضع الذي يشبه فيه ضمير المرفوع ضمير المجرور ، وذلك قولك : الزيدون إنّ هؤلاء الغلمان لهم ، أي : في

__________________

(١) يستثنى منها ياء المتكلم لأنها مكسورة.

(٢) المضمر : الخفي. مادة (ض. م. ر). القاموس المحيط (٢ / ٧٦).

(٣) هو المبرد كما في المقتضب (١ / ٢٥٤).

١٠

ملكهم ، وكذلك إذا أردت لام الابتداء فإنك تقول : الزيدون إنّ هؤلاء الغلمان لهم ، أي : هم هم. وكذلك قولك : الهندات إنّ هؤلاء الجواري لهنّ ، أي : في ملكهنّ ، وكذلك إذا أردت لام الابتداء ، فقلت : الهندات إنّ هؤلاء الجواري لهنّ ، أي : هؤلاء الجواري هنّ الهندات. فإذا كان الأمر كذلك فقد شابه المضمر في هذا الفصل المظهر ، فمن حيث وجب كسرها مع المظهر إذا جرّت ، وتركها مفتوحة إذا ابتدئ بها ، فكذلك كان يلزم أن تقول : الزيدون إنّ هؤلاء الغلمان لهم ، أي : في ملكهم ، وكذلك إذا أردت لام الابتداء فإنك تقول : الزيدون إنّ هؤلاء الغلمان لهم أي : هم هم.

هذا هو الظاهر في الإلزام ، إلا أن الذي ينبغي أن يعتدّ به في هذا الموضع أن يقال : لما كان أكثر الضمير يتبين فيه المرفوع من المجرور نحو : لك ، ولأنت ، ولي ، ولأنا ، وله ، ولهو ، ولنا ، ولنحن ، ولكما ، ولأنتما ، فلما كان الفرق في أكثره ماضيا مستمرا ، وثابتا مستقرا ، حملت البقية التي قد يعرض فيها في بعض المواضع لبس على ما لا يعترضه لبس.

فهذا أحد الاحتجاجين في فتح اللام الجارة مع المضمر.

والقول الآخر : أن الإضمار يرد الأشياء في أكثر أحوالها إلى أصولها ، وقد تقدم ذكر ذلك في صدر هذا الكتاب. وأصل هذه اللام الفتح على ما قدّمناه آنفا ، لأنها حرف وقع أولا ، فلزمت حركته ، وكانت الفتحة أحق به ، فلما كان أصل حركة هذه اللام الفتح ، وكان الإضمار مما ترجع الأشياء فيه إلى أصولها تركت هذه اللام الجارة مع المضمر مفتوحة.

وهنا زيادة ما علمتها لأحد من أصحابنا ، وهي أن يقال : إذا كان الفرق بين اللام الجارة ولام الابتداء واجبا لما ذكرته من الفرق بين المعنيين ، فلم كسرت الجارة وتركت لام الابتداء بحالها مفتوحة؟

فالجواب عن هذا أن يقال : إن أول أحوال الاسم هو الابتداء ، وإنما يدخل الرافع أو الناصب سوى الابتداء والجار على المبتدأ ، فلما كان الابتداء متقدما في المرتبة ، وكان فتح هذه اللام هو الأول المتقدم من حاليها جعل الفتح الذي هو أول مع الابتداء الذي هو أول ، ولما كان الكسر فيها إنما هو ثان غير أول جعل مع الجر الذي هو تبع للابتداء ، هذا هو القياس ، فاعرفه إن شاء الله.

١١

واعلم أن هذه اللام الجارة قد تفتح مع المظهر في بعض اللغات ، فيقال : المال لزيد ، بفتح اللام ، نقلت من خط أبي بكر محمد بن السري ، وقرأته بعد ذلك على أبي علي عن أبي العباس ، قال : كان سعيد بن جبير يقرأ : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (إبراهيم : ٤٦) (١) فيفتح اللام ، ويردها إلى أصلها ، وذلك أن أصل اللام الجارة الفتح ، انتهت الحكاية.

وحكي أن الكسائي سمع من أبي حزام العكليّ : ما كنت لآتيك ، ففتح لام كي.

وأما لام المستغاث به نحو : يا لبكر ، ويا لله ، فلام جر ، وإنما فتحت لأن المستغاث به منادى ، والمنادى واقع موقع المضمر ، فلذلك فتحت اللام كما تفتح مع المضمر.

وقد قيل : إنها إنما فتحت للفرق بينها وبين لام التعجب ، نحو قوله (٢) :

يا للرّجال ليوم الأربعاء أما

ينفكّ يحدث لي بعد النّهى طربا

وحدثني أبو علي قال : حكى أبو الحسن عن أبي عبيدة ، والأحمر ، ويونس أنهم سمعوا العرب تفتح اللام الجارة مع المظهر ، قال : وقال أبو الحسن : وقد سمعته أنا منهم أيضا.

__________________

(١) روى شعبة عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن رئاب أن عليا ـ رضي الله عنه ـ قال في هذه الآية : أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين فرباهما حتى استغلظا واستفحلا ، فأوثق رجل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت وجوعهما وقعد هو ورجل آخر في التابوت ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم فطارا. وجعل يقول لصاحبه : انظر ما ترى ، قال : أرى كذا وكذا حتى قال : أرى الدنيا كلها كأنها ذباب ، فصوب العصا إلى أسفل فهبطا جميعا. وروى عن عكرمة أن سياق هذه القصة لنمرود ملك كنعان ، حيث إنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة ... وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر. وكل القصص تؤكد أن هذا المكر الذي مكروه تزول منه الجبال. انظر / تفسير ابن كثير (٢ / ٥٤٢). الشاهد فيه قوله (لتزول) بفتح اللام حيث نقل عن ابن جريج عن مجاهد أنه قرأها بفتح اللام كقراءة سعيد بن جبير أيضا.

(٢) هو عبد الله بن مسلم الهذلي ، كما في شرح أشعار الهذليين (ص ٩١٠).

١٢

وقال أبو زيد : سمعت من يقول (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) (١) (الأنفال : ٣٣) بفتح اللام. وهذا من الشذوذ بحيث لا يقاس عليه. وأشدّ منه ما حكاه اللحياني عن بعضهم أنه كسر اللام الجارة مع المضمر (٢) ، فقال : المال له. وإنما كان هذا أشذّ من الأول من قبل أن أصل اللام الفتح ، فإذا ردّت في بعض المواضع على ضرب من التأول إليه فله وجه من القياس. وأما الكسر ففرع ، والحمل على الأصول أجوز من النزول إلى الفروع. ووجه جوازه أنه لمّا شبّه المظهر بالمضمر في فتح لام الجر معه نحو قراءة سعيد بن جبير وغيرها ، كذلك شبّه المضمر بالمظهر في كسر لام الجر معه في هذه الحكاية الشاذة. وكما شبّهت الباء في بزيد باللام في لزيد حتى كسرت مثلها ، كذلك جاز أيضا لبعضهم أن شبّه الباء باللام ، ففتحها مع المضمر كما يفتح اللام معه ، وذلك أيضا في ما حكاه اللحياني من قول بعضهم : مررت به ، بفتح الباء (٣) ، وهذه التشابيه إنما تقع شبيها بالغلط ، على أن أصحابنا في كثير مما يحكيه اللحيانى كالمتوقفين.

حكى أبو العباس عن إسحاق بن إبراهيم ، قال : سمعت اللحياني ينشد :

كم عمة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد جليت عليّ عشّار (٤)

فقلت له : ويحك! إنما هو : قد حلبت عليّ عشاري ، فقال لي : وهذه أيضا رواية.

__________________

(١) جاءت هذه الآية ردا على إدعاء الكفار بأن يعذبهم الله أو يمطر عليهم حجارة من السماء ، فكانت هذه الآية رحمة من الله تمهلهم فلا تأخذهم بعنادهم فهم يمهلون إكراما لوجود رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بينهم. انظر / في ظلال القرآن الكريم للسيد قطب (٣ / ١٥٠٥). الشاهد فيها : قراءة اللام بالفتح.

(٢) المضمر : كسر اللام الجارة مع المضمر لغة خزاعة.

(٣) فتح الباء : مثل قوله : مررت به ، لغة اشتهرت بها قبائل متعددة مثل قضاعة.

(٤) نسب صاحب اللسان البيت للفرزدق ، مادة (ع ش ر). لسان العرب (٤ / ٥٧٣). فدعاء : هي التي تمشي على ظهر قدميها لوجود اعوجاج في المفاصل كأنها فارقت مواضعها ، وأكثر ما يكون في رسغ القدم أو اليد. مادة (ف د ع). لسان العرب (٨ / ٢٤٦). عشار : (م) عشراء ، والعشراء من النوق ما مضى على حملها عشرة أشهر. اللسان (٤ / ٥٧٢) ويبدو أن الفرزدق يهجو جرير ويسبه ويعيره ويقبحه ويخبره بأن له عمة وخالة تشبه كلاهما الناقة في مشيتها المتعرجة المعوجة إذا ما مرّ على حملها عشرة أشهر.

١٣

ومما صحفه أيضا قولهم في المثل : «يا حامل اذكر حلا» كذا رواه «يا حامل» وإنما هو «يا حابل اذكر حلا» (١) أي : يا من يشدّ الحبل اذكر وقت حلّه.

وذاكرت بنوادره شيخنا أبا علي ، فرأيته غير راض بها ، وكان يكاد يصلّي بنوادر أبي زيد إعظاما لها ، وقال لي وقت قراءتي إياها عليه : «ليس فيها حرف إلا ولأبي زيد تحته غرض ما» وهي كذلك ، لأنها محشوة بالنكت والأسرار.

واعلم أن اللام في نحو قولهم : جئت لأكرمك ، وقوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) (الفتح : ١) (٢) ، (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (الأنفال : ٣٣) (٣) ، إنما هي حرف جر ، وليست من خصائص الأفعال كلام الأمر ، ولام القسم وغيرهما ، وإنما الفعل بعدها منصوب بـ «أن» مضمرة ، والتقدير : جئت لأن أكرمك ، فـ «أن» والفعل بعدها في تقدير المصدر ، والمصدر اسم ، فكأنه قال : جئت لإكرامك.

وقد زيدت اللام الجارة مؤكدة للإضافة نحو قولهم : لا أبا لك ، و : لا يدي لك بالظّلم ، أي : لا أباك ، و : لا يديك ، ونحو قول النابغة :

قالت بنو عامر : خالوا بني أسد

يا بؤس للجهل ضرّارا لأقوام (٤)

أي : يا بؤس الجهل.

__________________

(١) ذكر المثل ابن منظور (١١ / ١٣٤) مادة / حبل ، وتروى أيضا : (يا عاقد اذكر حلا).

(٢) الشاهد فيها : فتح اللام في قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ).

(٣) سبق الحديث عنها.

(٤) البيت للنابغة الذبياني ، وعثر عليه في ديوانه (ص / ٢٢٨). بنو عامر : قبيلة عامر. بني أسد : قبيلة أسد. خالوا : فعل أمر أي اتركوا وتخلوا ، وهو أسلوب أمر يدل على التهديد والوعيد. يا بؤس : أسلوب إنشائي غرضه الذم. ضرارا : صيغة مبالغة تدل على كثرة وتعدد الضرر الذي يحدث نتيجة للجهل ، وما يسببه الجهل من ضرر لأقوام كثيرة. الشاهد فيه : قوله «للجهل» ، والتقدير : يا بؤس الجهل ، حيث زادت اللام فأصبحت للجهل إعراب الشاهد : للجهل : اللام حرف جر زائد مبني لا محل له من الإعراب ، يدخل على الاسم فيعمل فيه الجر ، الجهل : اسم مجرور بحرف الجر.

١٤

وقد زادوها في أشد من هذا ، قال :

فلا والله لا يلفي لما بي

ولا للما بهم أبدا دواء (١)

أي : لما بهم ، فزاد لاما أخرى مؤكدا للإضافة بها. فهذه أحوال اللام العاملة في الأسماء.

وأما اللام التي تلحق الأسماء وهي غير عاملة فيها فعلى ضربين : أحدهما لام التعريف ، والأخرى لام الابتداء.

فأما لام التعريف فهي نحو قولك : الغلام ، والجارية ، فاللام هي حرف التعريف ، وإنما دخلت الهمزة عليها لأنها ساكنة ، فتوصلوا إلى الابتداء بها بالهمزة قبلها ، وقد ذكرنا في باب الهمزة (٢) لم فتحت هذه الهمزة ، ولم تكسر.

وذهب الخليل (٣) إلى أن «أل» حرف التعريف بمنزلة «قد» في الأفعال ، وأن الهمزة واللام جميعا للتعريف ، وحكي عنه (٤) أنه كان يسميها «أل» كقولنا «قد» وأنه لم يكن يقول الألف واللام ، كما لا يقول في قد : القاف والدال.

ويقوّي هذا المذهب قطع «أل» في أنصاف الأبيات ، نحو قول عبيد :

يا خليليّ اربعا واستخبرا ال

منزل الدارس عن أهل الحلال

مثل سحق البرد عفّى بعدك ال

قطر مغناه وتأويب الشّمال (٥)

__________________

(١) البيت نسبه صاحب الخزانة إلى مسلم بن معبد. والله : أسلوب إنشائي في صورة قسم ، الغرض منه التأكيد. لا يلفي : أسلوب إنشائي في صورة نفي غرضه التعجيز. لما بي : أي ما بي من كرب وبلاء. لما بهم : أي من حقد وحسد. الشاعر يؤكد أن ما به من بلاء وكرب وما بأعدائه من حقد وحسد كلاهما مرضان لا يوجد لهم دواء يتداوى به. الشاهد فيه : قوله «للما» حيث زيدت اللام الأخرى للتوكيد ، والتقدير : لما بهم.

(٢) باب الهمزة : يمكن الرجوع إلى باب الهمزة للحصول على المزيد في هذه المسألة.

(٣) ذكر صاحب الكتاب أن هذا مذهب الخليل.

(٤) حكي عنه : أي عن صاحب الكتاب.

(٥) البيتين لعبيد بن الأبرص في ديوانه. ـ

١٥

وهذه قطعة لعبيد مشهورة عددها بضعة عشر بيتا يطرد جميعها على هذا القطع الذي تراه إلا بيتا واحدا من جملتها ، ولو كانت اللام وحدها حرف التعريف لما جاز فصلها من الكلمة التي عرّفتها ، لا سيما واللام ساكنة ، والساكن لا ينوى به الانفصال.

ويقوّي ذلك أيضا قول الآخر :

عجّل لنا هذا وألحقنا بذال

الشّحم إنا قد مللناه بجل (١)

فإفراده «ال» وإعادته إياها في البيت الثاني يدل من مذهبهم على قوة اعتقادهم لقطعها ، فصار قطعهم «ال» وهم يريدون الاسم بعدها كقطع النابغة قد وهو يريد الفعل بعدها ، وذلك قوله (٢) :

__________________

يا خليلي : أسلوب إنشائي في صورة نداء غرضه جذب الانتباه. أربعا : أي انتظر ، وهو أسلوب إنشائي في صورة أمر غرضه الالتماس. الدارس : الذي درس ، وذهبت معالمه وآثاره. لسان العرب (٦ / ٧٩) مادة / درس. الحلال : (م) الحلة : وحلّة : هي منزل القوم أو جماعة البيوت أو مجتمع الناس ، وتجمع على حلال وأحلة. لسان العرب (١١ / ١٦٥) مادة / حلل. يطلب الشاعر من صاحبيه أن ينتظرا ويتوقفا ويسألا أهل الحلة عن أخبار الأحبة. الشاهد فيه : قطع (ال) في نصف البيت حيث يقوي هذا رأي الخليل في كون (ال) جميعا تكون للتعريف. سحق : القديم البالي ، عفا : ذهبت معالمها وانمحت. تأويب الشمال : تردد هبوب الريح من جهة الشمال. البيت أسلوبه خبري تقريري يبرز ما يعانيه الشاعر من ألم الفراق وبعد الحبيب. الشاهد فيه أيضا : قطع (ال) في نصف البيت.

(١) نسب صاحب الكتاب البيت إلى الشاعر غيلان بن حريث. عجل : أي قدم بسرعة ، وهو أسلوب إنشائي في صورة أمر غرضه الالتماس. ألحقنا : أسلوب أمر غرضه الالتماس أيضا. الشحم : الشحم في جسم الحيوان الأبيض الدهني المسمن له ، كسنام البعير ، (ج) شحوم .. مللناه : مل الشيء : سئمه. لسان العرب (١١ / ٦٢٩) مادة / ملل. بجل : بجل بجالة وبجولة أي عظم قدره وسنه فهو بجيل. الشاهد فيه : قطع (ال) ثم وصلها مرة أخرى.

(٢) قوله : أي النابغة.

١٦

أفد الترحّل غير أنّ ركابنا

لما تزل بر حالنا وكأن قد (١)

ألا ترى أن التقدير فيه : وكأن قد زالت ، فقطع قد من الفعل كقطع أل من الاسم. وعلى هذا قالوا أيضا في التّذكّر : «قام الي» إذا نويت بعده كلاما ، أي : الحارث أو العباس ، فجرى هذا مجرى قولك في التذكر : قدي ، أي : قد انقطع ، أو قد قام ، أو قد استخرج ونحو ذلك.

وإذا كان ال عند الخليل حرفا واحدا فقد كان ينبغي أن تكون همزته مقطوعة ثابتة كقاف قد وباء بل ، إلا أنه لّما كثر استعمالهم لهذا الحرف عرف موضعه ، فحذفت همزته ، كما حذفوا لم يك ، ولا أدر ، ولم أبل.

ويؤكد هذا القول عندك أيضا أنهم قد أثبتوا هذه الهمزة بحيث تحذف همزات الوصل البتة ، وذلك نحو قول الله عز وجل : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) (يونس : ٥٩) (٢) ،

__________________

(١) البيت للنابغة الذبياني وقد عثرنا عليه في ديوانه (ص / ٩٣) بشرح الطاهر بن عاشور. الترحل : الرحيل. ركابنا : الركاب للسرج ما توضع فيه الرجل. والركاب : الإبل المركوبة أو الحاملة شيئا. رحالنا : (م) رحل : وهو ما يوضع على ظهر البعير للركوب. يقول الشاعر : إن ميعاد الرحيل قد أزف وآن رغم أن ركابنا لم تزل برحالنا. الشاهد فيه تقدير : وكأن قد زالت ، فقطع قد من الفعل هنا كقطع ال من الاسم. إعراب الشاهد : قد : حرف توكيد مبني.

(٢) يروى في هذه الآية أن أبا الأحوص وهو عوف بن مالك بن نضلة حدث عن أبيه قال : أتيت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأنا رث الهيئة فقال : هل لك مال؟ قلت : نعم. قال من أي المال؟ قال : قلت : من كل المال : من الإبل والرقيق والخيل والغنم. فقال : «إذا أتاك الله مالا فلير عليك» وقال : «هل تنتج إبلك صحاحا آذانها فتعمد إلى موسى فتقطع أذنها فتقول هذه بحر ، وتشق جلودها وتقول هذه صرم ، وتحرمها عليك وعلى أهلك؟» قال : نعم. قال : «فإن ما آتاك الله لك حل» ، وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله أو أحل ما حرم الله لمجرد الأهواء والآراء التي لا مستند لها ولا دليل عليها. تفسير ابن كثير (٢ / ٤٢١). والأسلوب إنشائي في صورة استفهام غرضه التهكم والسخرية من أولئك الذين يحرمون ما أحل الله أو العكس ، وأيضا إنكار ذلك عليهم إذ لا حجة لتحريمهم ما حرموا أو حل ما أحلوا. والشاهد في الآية : حذف همزة الوصل.

١٧

و (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) (الأنفال : ١٤٤) (١) ، ونحو قولهم في القسم : أفألله ، و : لاها ألله ذا ، ولم نر همزة الوصل ثبتت في نحو هذا. فهذا كله يؤكد أن همزة أل ليست بهمزة وصل ، وأنها مع اللام بمنزلة قد ، وهل ونحوهما.

وأما ما يدل على أن اللام وحدها هي حرف التعريف ، وأن الهمزة إنما دخلت عليها لسكونها ، فهو إيصالهم جرّ الجار إلى ما بعد حرف التعريف ، وذلك نحو قولهم : عجبت من الرجل ، ومررت بالغلام ، والغلام كالجارية. فنفوذ الجر بحرفه إلى ما بعد حرف التعريف يدل على أن حرف التعريف غير فاصل عندهم بين الجار والمجرور ، وإنما كان ذلك كذلك لأنه في نهاية اللطافة والاتصال بما عرّفه.

وإنما كان كذلك لأنه على حرف واحد ولا سيما ساكن ، ولو كان حرف التعريف عندهم حرفين كـ «قد» ، و «هل» لما جاز الفصل به بين الجار والمجرور به ، لأنّ قد وهل كلمتان بائنتان قائمتان بأنفسها ، ألا ترى أن أصحابنا (٢) أنكروا على الكسائي وغيره قراءته (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) (الحج : ١٥) (٣) بسكون اللام من «ليقطع» وكذلك (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) (الحج : ٢٩) (٤) لأن ثمّ قائمة بنفسها ، لأنها على أكثر من حرف واحد ، وليست كواو العطف وفائه ، لأن تينك ضعيفتان متصلتان بما بعدهما ، فلطفتا عن نية فصلهما وقيامهما بأنفسهما.

__________________

(١) أي لم تحلون بعضا وتحرمون بعضا ، والله عز وجل لم يحرم شيئا من ذلك ، فكله حلال. انظر / تفسير مختصر الطبري (ص ١٢٣). الأسلوب إنشائي في صورة استفهام غرضه التحقير والتوبيخ لفكرهم ومعتقداتهم. الشاهد في الآية حذف همزة الوصل أيضا.

(٢) أصحابنا : يقصد منهم المبرد الذي اتهم مثل الكسائي وغيره بالتحريف واللحن في قراءتهم على هذه الشاكلة ، حيث كانوا يقرأون (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) بسكون اللام ، وكذلك (لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ).

(٣) (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) قرأ هذه الآية كما ذكرنا سابقا بسكون اللام كل من الكسائي وعاصم وغيرهما ، وأنكر عليهم هذه القراءة ابن جني والمبرد وغيرهما أيضا. وقوله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) أي ثم ليختنق.

(٤) (ثُمَّ لْيَقْضُوا) أي ليقضوا ما عليهم من مناسك حجهم من حلق وطواف ورمي جمرة وموقف وغيرها. انظر / تفسير مختصر الطبري (ص ٢٩٣). الشاهد في هذا الجزء من الآية قراءة(لْيَقْضُوا) بسكون اللام كما وضحنا سابقا.

١٨

وكذلك لو كان حرف التعريف في نية الانفصال لما جاز نفوذ الجر إلى ما بعد حرف التعريف. وهذا يدل على شدة امتزاج حرف التعريف بما عرّفه. وإنما كان كذلك لقلّته وضعفه عن قيامه بنفسه ، ولو كان حرفين لما لحقته هذه القلة ، ولا جاز تجاوز حرف الجر له إلى ما بعده.

ودليل آخر يدل على شدة اتصال حرف التعريف بما دخل عليه ، وهو أنه قد حدث بدخوله معنى في ما عرّفه لم يكن قبل دخوله ، وهو معنى التعريف ، فصار المعرّف كأنه غير ذلك المنكور وشيء سواه ، ألا ترى إلى إجازتهم الجمع بين رجل والرّجل ، وغلام والغلام قافيتين في شعر واحد من غير استكراه ولا اعتقاد إيطاء ، فهذا يدلك على أن حرف التعريف كأنه مبني مع ما عرّفه ، كما أن ياء التحقير مبنية مع ما حقّرته ، وكما أن ألف التكسير مبنية مع ما كسّرته ، فكما جاز أن يجمع بين رجلكم ورجيلكم قافيتين ، وبين درهمك ودراهمكم ، كذلك جاز أيضا أن يجمع بين رجل والرجل ، لأن النكرة شيء سوى المعرفة ، كما أن المكبّر غير المصغّر ، وكما أن الواحد غير الجمع. فهذا أيضا دليل قوي يدل على أن حرف التعريف مبني مع ما عرّفه أو كالمبني معه.

ويزيدك تأنيسا بهذا أن حرف التعريف نقيض التنوين ، لأن التنوين دليل التنكير ، كما أن هذا الحرف دليل التعريف ، فكما أن التنوين في آخر الاسم حرف واحد ، فكذلك حرف التعريف من أوله ينبغي أن يكون حرفا واحدا.

فأما ما يحتج به الخليل (١) من انفصاله عنه بالوقوف عليه عند التذكر ، فإن ذلك لا يدل على أنه في نية الانفصال منه ، لأن لقائل أن يقول : إنه حرف واحد ، ولكن الهمزة لما دخلت على اللام ، فكثر اللفظ بها أشبهت اللام بدخول الهمزة عليها من جهة اللفظ لا المعنى ما كان من الحروف على حرفين نحو هل ، ولو ، ومن ، وقد ، فجاز فصلها في بعض المواضع. وهذا الشبه اللفظي موجود في كثير من كلامهم ، ألا ترى أن أحمد وبابه مما ضارع الفعل لفظا إنما روعيت فيه مشابهة اللفظ فمنع ما يختص بالأسماء ، وهو التنوين ، وجذب إلى حكم الفعل من ترك التنوين.

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٦٤).

١٩

ومن الشبه اللفظي ما حكاه سيبويه (١) من صرفهم جندلا وذلذلا ، وذلك أنه لما فقد الألف التي في جنادل (٢) وذلاذل (٣) من اللفظ أشبه الآحاد نحو : علبط (٤) وخزخر (٥) ، فصرف كما صرفا وإن كان الجميع من وراء الإحاطة بالعلم أنه لا يراد هنا إلا الجمع ، فغلّب شبه اللفظ بالواحد وإن كانت الدلالة قد قامت من طريق المعنى على إرادة الجمع.

ومن شبه اللفظ أيضا أنك لو سميت رجلا بـ «أنظر» لمنعته الصرف للتعريف ووزن الفعل ، ولو سميته بـ «أنظور» من قول الشاعر :

وإنني حيث ما يشري الهوى بصري

من حيث ما سلكوا أدنوا فأنظور (٦)

لصرفته لزوال لفظ الفعل وإن كنا نعلم أن الواو إنما تولدت عن إشباع ضمة الظاء ، وأن المراد عند الجميع «أنظر».

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ١٦).

(٢) جنادل : (م) جنادل : الشديد العظيم. القاموس المحيط (٣ / ٣٥٢) مادة / جندل.

(٣) ذلاذل : ما يلي الأرض من أسافل القميص ، الواحد ذلذل ، وذلذل. القاموس (٣ / ٣٧٩).

(٤) رجل علبط : ضخم عظيم. القاموس المحيط (٢ / ٣٧٤) مادة / علبط.

(٥) رجل خزخز : غليظ قوي كثير العضل. القاموس المحيط (٢ / ١٧٤) مادة / خزز.

(٦) يشري : استعارة مكنية حيث يشبه الهوى الذي انتشر وملأ بصره بالشرى وهي بثور حمر كالدراهم. الهوى : العشق (ج) أهواء. القاموس المحيط (٤ / ٤٠٤). بصري : البصر العين أو قوة الإدراك (ج) أبصار. القاموس المحيط (٢ / ٣٧٣) مادة / بصر. سلكوا : سلك سلوكا : دخل ونفذ. القاموس المحيط (٣ / ٣٠٧) مادة / سلك. أدنو : دنا ، يدنو ، دنوا : أي قرب وأدنو أي أقرب. القاموس المحيط (٤ / ٣٢٩) مادة / دنا. أنظور : أي نظر إلى الشيء وأبصره وتأمله بعينه وتفكر وتدبر. القاموس المحيط (٢ / ١٤٥). الشاهد فيه : أنه أشبع ضمة الظاء فأصبحت أنظور بدلا من أنظر. والأسلوب إنشائي في صورة توكيد ؛ لتقرير حقيقة تجول بصره وتفكره في الهوى وأموره ، حيث أنه يجول ببصره في كل مكان ينتشر فيه الهوى. ويقرأ يشري نسبة إلى الشرى ويسري أي ينتشر.

٢٠