سرّ صناعة الإعراب - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

سرّ صناعة الإعراب - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-2702-0
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

المزجور مجيبا : ما هو إلا الحق ، فتقول أنت منكرا عليه ومتعجبا منه : هذا يقول : الباطل حق ، ويقول : الغيّ رشد ، وهو لم يقل إنه باطل ، ولا إنه غيّ ، بل هو يعتقد فيه ضدّ البطلان والغواية (١) ، ولكن صار تقديره : هذا يقول : إن ما يفعله ـ وهو باطل عندي ـ حقّ عنده ، فسمّيته باطلا على طريق الحكاية لا على أنه على الحقيقة عنده باطل ، وكيف يجوز أن يعتقد فيه أنه باطل ، ثم يعتقد مع ذلك أنه حق ، هذا ظاهر التناقض.

فكذلك قوله عز اسمه : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) (الحج : ١٣) (٢) معناه : يقول : إن معبوده الذي ضرّه أقرب من نفعه عندي إله عنده ، وقد جاءت هذه الحكاية عنهم مجيئا متسعا.

أنشدني أبو علي لرجل يهجو جريرا (٣) :

أبلغ كليبا ، وأبلغ عنك شاعرها

أني الأغرّ وأني زهرة اليمن (٤)

فقال جرير مجيبا :

ألم تكن في وسوم قد وسمت بها

من حان موعظة يا زهرة اليمن (٥)

فسماه زهرة اليمن على مذهب الحكاية لقوله ، أي : يا من قال إني زهرة اليمن ، ولست عندي كذلك.

__________________

(١) الغواية : الإمعان في الضلال. القاموس المحيط (٤ / ٣٧٢).

(٢) سبق التعليق عليها.

(٣) جريرا : يقال أن هذا الرجل الذي يهجو جرير هو زهرة اليمن. انظر / الخصائص (٢ / ٤٦١).

(٤) أبلغ : أسلوب إنشائي في صورة أمر غرضه التعظيم. الأغر : الرجل الذي كرمت فعاله واتضحت فهو أغر وهي غراء. (ج) غر. زهرة اليمن : كناية عن التلألأ والإشراق ، والأزهر كل أبيض صاف مشرق مضيء ، وزهرة اليمن أي بهجتها ومتاعها.

(٥) ألم تكن : أسلوب إنشائي في صورة استفهام غرضه التحقير. يا زهرة اليمن : أسلوب إنشائي في صورة نداء غرضه التهكم والسخرية. الشاهد فيه قوله (يا زهرة اليمن) والتقدير أي يا من قال إني زهرة اليمن. وانظر / ديوانه (ص ٧٤٦).

٨١

وكذلك قوله عز وجل : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان : ٤٩) (١) وإنما هو في الحقيقة عنده الذليل المهان ، ولكن تقديره ـ والله أعلم ـ إنك أنت الذي كان يقول له رهطه وعشيرته : أنت عزيز كريم. وكذلك قوله تعالى أيضا : (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ) (الزخرف : ٤٩) (٢) وإنما قالوا هذا بعد إيمانهم به ، ولكن تقديره ـ والله أعلم ـ يا أيها الساحر عند أولئك القوم الذين يدعونك ساحرا ، فأما نحن فنعلم أنك لست ساحرا.

وعلى هذا تأول أهل النظر قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (الصافات : ١٤٧) (٣) قالوا : معناه وأرسلناه إلى جمع لو رأيتموهم لقلتم أنتم فيهم : هؤلاء مائة ألف أو يزيدون.

فهذا الشك إنما دخل الكلام على الحكاية لقول المخلوقين ؛ لأن الخالق جلّ جلاله وتقدست أسماؤه لا يعترضه الشك في شيء من خبره.

وهذا ألطف وأوضح معنى من قول قطرب : إن أو بمعنى الواو ، ومن قول الفراء (٤) : إن أو بمعنى بل. فهذا ما احتملته هذه الآية من القول.

واعلم أن اللام قد لحقت من الحروف موضعين ، جاءت في أحدهما للتوكيد ، وفي الآخر للتوصل إلى النطق بالساكن.

الأول نحو قولك : لعلّ زيدا قائم ، إنما هو علّ ، واللام زائدة مؤكدة.

__________________

(١) أسلوب إنشائي في صورة أمر غرضه التحقير. وقوله تعالى (إِنَّكَ أَنْتَ) أسلوب توكيد. والشاهد فيه أي إنك أنت الذي كان يقولون له أهله وعشيرته أنت عزيز حكيم.

(٢) أي قال فرعون وملؤه لموسى : «يا أيها الساحر» وعنوا بـ «الساحر» في هذا الموضع العالم إذ لم يكن السحر عندهم ذما. مختصر تفسير الطبري (ص ٤٣٢). وقولهم : (يا أيها الساحر) أسلوب إنشائي في صورة نداء غرضه التقرير ، وقولهم : «ادع» أسلوب إنشائي في صورة أمر غرضه التعجيز.

(٣) أي أننا أرسلنا ذا النون إلى قوم لو رأيتموهم لقلتم أنهم مائة ألف أو يزيدون. والآية كناية عن الكثرة العددية.

(٤) ذكر ذلك الفراء في معاني القرآن (٢ / ٣٩٣).

٨٢

قال الشاعر (١) :

يا أبتا علّك أو عساكا (٢)

أي : لعلّك. وقال الآخر (٣) :

علّ صروف الدهر أودولاتها

يدلننا اللّمّة من لمّاتها (٤)

فتستريح النفس من زفراتها (٥)

وقرأت على محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى :

علّي في ما أبتغي أبغيش (٦)

أي : لعلّي.

وحكى أبو زيد (٧) أن لغة عقيل لعلّ زيد منطلق ، بكسر اللام الآخرة من لعلّ ، وجرّ زيد.

__________________

(١) نسب صاحب الكتاب البيت لرؤبة (١ / ٣٨٨). انظر / شرح المفصل (٣ / ١٢٠) ، والخزانة (٢ / ٤٤٢).

(٢) الشاهد فيه حذف اللام في قوله (علك) والتقدير (لعلك) وذكر اللام للتوكيد ذلك أنها لو لحقت علك وهو حرف لكانت للتوكيد ولا يمكن أن تكون معها للتوصل إلى النطق بالساكن. والبيت نسبه صاحب الكتاب إلى رؤبة.

(٣) لم تنسب الأبيات إلى قائل معين ، وهي في معاني القرآن للفراء (٣ / ٢٣٥).

(٤) صروف الدهر : (م) صرف الدهر أي نوائبه وحدثانه. لسان العرب (٩ / ١٨٩) مادة / صرف دولاتها : دال الدهر دولا ودولة أي انتقل من حال إلى حال. القاموس (٣ / ٣٧٧). يدلننا : أي ينزلننا من علو ، وهو كناية عن تغير الحال من الأفضل إلى الأسوأ. اللمة : الشدة (ج) لمام. القاموس المحيط (٤ / ١٧٧). والبيت في اللسان بغير نسبة. (٤ / ٣٢٥) مادة / زفر.

(٥) زفراتها : زفر ـ زفرا ـ زفيرا : أخرج نفسه بعد مده إياه ، وهو بخلاف الشهيق. والبيت كناية عن طلب الراحة ، وقوله (تستريح النفس) تشبيه استعاري حيث يشبه النفس بإنسان يبحث عن الراحة.

(٦) الشاهد فيه حذف اللام في قوله (علّي) والتقدير لعلي.

(٧) ذكر أبو زيد أن صاحب اللسان ذكر ذلك. انظر / اللسان (١٣ / ٥٠١).

٨٣

وقال كعب بن سعد الغنويّ (١) :

فقلت : ادع أخرى وارفع الصوت ثانيا

لعلّ أبي المغوار منك قريب (٢)

وقال أبو الحسن (٣) : «ذكر أبو عبيدة أنه سمع لام لعلّ مفتوحة في لغة من يجر في قول الشاعر (٤) :

لعلّ الله يمكنني عليها

جهارا من زهير أو أسيد (٥)

وقال الراجز (٦) :

فباد حتى لكأن لم يسكن

فاليوم أبكي ، ومتى لم يبكني (٧)

فأكّد الحرف باللام.

وقال الآخر (٨) :

للولا حصين عينه أن أسرّه

وأن بني سعد صديق ووالد (٩)

__________________

(١) ذكر صاحب الخزانة ذلك (٤ / ٣٧٠).

(٢) الشاهد فيه قوله لعل. حيث أضاف إلى علّ اللام وهي هنا للتوكيد. والبيت في جملته إنشائي. وقوله ادع ـ ارفع : أسلوب أمر غرضه التهكم والسخرية. والبيت من قصيدة يرثي بها أخاه شبيبا ، وقيل : اسمه هرم ويكنى أبا المغوار ، وهو في النوادر (ص ٢١٨) ولا شاهد فيه على هذه الرواية. وبعضهم يقول : البيت لسهم الغنوي.

(٣) ذكر ذلك في معاني القرآن (ص ١٢٣ ـ ١٢٤).

(٤) ذكره صاحب الأغاني أن البيت لخالد بن جعفر (١ / ٧٩) ، والخزانة (٤ / ٣٧٥).

(٥) الشاهد فيه اقتران اللام الزائدة المؤكدة بالحرف (علّ) مع جر ما بعدها في لغة من الجر مع فتح اللام.

(٦) ذكر صاحب الخزانة (٤ / ٣٣١).

(٧) الشاهد فيه تأكيد الحرف (كأن) باللام الزائدة.

(٨) انظر / المذكر والمؤنث للأنباري (ص ٢٣٥).

(٩) الشاهد فيه دخول اللام الزائدة للتوكيد على الحرف (لولا). والبيت أسلوبه إنشائي في صورة توكيد.

٨٤

وقال الآخر :

للولا قاسم ويدا بسيل

لقد جرّت عليك يد غشوم (١)

وأما قولنا : إن زيدا لفي الدار ، وإنّ زيدا لبك واثق ، فاللام داخلة فيه على خبر إنّ لا على الحرف. وكذلك ما أشبهه ، وكذلك قوله تعالى : (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (الشعراء : ٤٩) (٢) ، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (الضحى : ٥) (٣) إنما اللام داخلة فيه على الفعل لا على الحرف.

الثاني منهما : قولنا في حروف المعجم (ه ولا ي) ولا يقال هنا : لام الف كما يقول المعلمون ، إنما يقال : (لا ي) ووجه ذلك أن ألف «لا» إنما هي المدة الساكنة في نحو قام ، وحمار ، وكتاب ، ولا يمكن الابتداء بهذه الألف ؛ لأنها لا تكون إلا مدة ساكنة ، وأرادوا النطق بها كما أرادوا النطق بسائر حروف المعجم غيرها ، فدعمها واضع الهجاء بحرف يقع الابتداء به ، وهو اللام ، توصلا إلى النطق بها ساكنة بحالها ، فقال : (لا).

فإن قال قائل : ما أنكرت أن يكون إنما أراد واضع الحروف أن يرينا كيف تتركب اللام والألف ، فشكل هذا الشّكل الذي هو «لا» دون ما ذهبت إليه من أنه أدخل اللام لسكون الألف؟

فالجواب : أنه لو كان غرض واضع حروف المعجم أن يرينا في هذا الموضع كيف تتركب اللام والألف ، لأرانا أيضا كيف تتركب الجيم والطاء ، وكيف تتركب السين والباء ، وكيف تتركب القاف والدال ، وغير ذلك ، ومعلوم أنه ليس ذلك غرضه ،

__________________

(١) قاسم ـ بسيل : اسما رجلين. جرت : أجر جريرة أي ارتكب جناية وذنبا. غشوم : الغشوم : الشديد الظلم. القاموس المحيط (٤ / ١٥٦). والشاهد فيه دخول اللام الزائدة للتوكيد على الحرف لولا. والبيت ذكره صاحب الخزانة دون أن ينسبه.

(٢) الشاهد فيه دخول اللام الزائدة للتوكيد ، والتقدير (فسوف تعلمون).

(٣) والشاهد فيها أيضا دخول اللام الزائدة للتوكيد ، والتقدير (وسوف يعطيك ربك فترضى).

٨٥

وإنما غرضه تصوير هذه الحروف منفردة غير مركبة ، وأن ينطق بها ليذاق جرسها ، وأول كل حرف من اسم كل واحد من هذه الحروف الحرف المقصود.

ألا ترى أن أول قولنا «قاف» قاف ، وأول قولنا «طاء» طاء ، وأول قولنا «جيم» جيم ، فلما كانت الألف التي هي مدة ساكنة لا يمكن الابتداء بها ، وتذاق الألف ساكنة على جنسها ، فقالوا : (و، لا ي) فقولنا «لا» كقولنا «ما» و «ها» في التنبيه ، و «يا» في النداء ، و «وا» في الندابة.

فإن قال قائل : فإذا كان الأمر كذلك فلم خصّت اللام بالابتداء في هذا الموضع دون غيرها من سائر الحروف؟

فالجواب : أن واضع حروف المعجم أجرى هنا الخط على مذهب اللفظ ، وقفا في ذلك سنة العرب ، وذلك أنه رأى العرب لما أرادت النطق بلام المعرفة وهي ساكنة مبتدأة توصلت إلى ذلك بأن ألحقتها الألف المتحركة ليقع الابتداء بها ، وذلك قولهم : الغلام ، والجارية ، فكما أدخلوا الألف المتحركة في هذا ونحوه ليقع الابتداء بها ، كذلك أدخل واضع الحروف اللام المتحركة على الألف الساكنة لمّا لم يمكن الابتداء بها ، فقال «لا» فهذا هنا كذلك ثمّة.

فإن قال قائل : فإن أصل حركة الحرف المدخل للابتداء به إنما هو الكسر ، نحو :

اذهب ، انطلق ، امش ، استخرج ، اقتطع ، ولا تضمّ هذه الهمزة إلا إذا كان ثالثها مضموما ، نحو : اقتل ، انقطع بزيد.

فهلا إذا كان الأمر كذلك أدخلت اللام على الألف مكسورة كما كسرت الهمزة في الأمر الشائع المطرد على ما ذكرناه آنفا؟

فالجواب عن ذلك من وجهين :

أحدهما : أن اللام في قولنا «لا» إنما هي مشبّهة بالهمزة اللاحقة للام المعرفة ، نحو الغلام والجارية ، وتلك الهمزة أبدا مفتوحة ، فكذلك فتحت لام «لا».

والوجه الآخر : أنهم لو جاءوا باللام مكسورة كالعادة في ما أدخل للابتداء به في غالب الأمر ، لوجب قلب الألف ياء لانكسار اللام قبلها ، فكان يلزم أن يقال «لي» فيصار إلى لفظ الياء ، وليس إلى هذا قصد الواضع للحروف.

٨٦

وكذلك لو ضم اللام لوجب أن تنقلب الألف واوا لانضمام اللام قبلها ، فيقال «لو» وهذا في الامتناع كالذي قبله ، فمن هنا وجب أيضا أن تكون لام «لا» مفتوحة لتصح الألف المقصودة بعدها إذ كانت الألف لا يكون ما قبلها أبدا إلا مفتوحا.

قد أتينا بحمد الله ومنه على ما في اللام من الأحكام بأبلغ ما يمكن.

والله تعالى الموفق للصواب.

* * *

٨٧
٨٨

حرف الميم

اعلم أن الميم حرف مجهور يكون أصلا ، وبدلا ، وزائدا.

فإذا كانت أصلا وقعت فاء وعينا ولاما ، فالفاء نحو : مسد (١) ، ومرس (٢).

والعين نحو : سمر (٣) ، وعمر (٤). واللام نحو : قلم ، وعلم.

وأما البدل فقد أبدلت الميم من أربعة أحرف ، وهي : الواو ، والنون ، واللام ، والباء.

أما إبدالها من الواو فقولهم فم ، وأصله فوه بوزن سوط ، فحذفت الهاء تخفيفا كما حذفت من سنة في من قال (٥) :

ليست بسنهاء ...

 ... (٦)

وعملت معه مسانهة (٧) ، ومن شاة ، ومن عضة في من قال : بعير عاضة (٨) ، ومن است ، فصار التقدير فو ، فلما بقي الاسم على حرفين الثاني منهما حرف لين

__________________

(١) المسد : الليف. القاموس المحيط (١ / ٣٣٨).

(٢) مرس : كان شديدا في معالجة الأشياء. القاموس المحيط (٢ / ٢٥١).

(٣) سمر : ضرب من شجر الطلح. القاموس المحيط (٢ / ٥١).

(٤) عمر : وعمر : هما لغتان ، يقال : عمر الرجل وعمّر : عاش وبقي زمانا طويلا.

(٥) نسب صاحب اللسان البيت إلى سويد بن الصامت. مادة (سنه) (١٣ / ٥٠٢).

(٦) فليست بسنهاء : يصف نخلة بالجودة. السنهاء : التي أصابتها السنة يعني أضر بها الجدب ، وسنه الطعام أو الشراب سنها أي تغير وتعفن فهو سنه وهي سنهة وهي سنهاء أيضا (ج) سنه. القاموس (٤ / ٢٨٦). الرجبية : من الرجبة ، وهي أن تعمد النخلة بخشبة ذات شعبتين. العرايا : جمع عرية ، وهي التي يوهب ثمرها. الجوائح : السنون الشداد التي تجيح المال.

(٧) مسانهة : عملت معه مسانهة : عامله بالسنة ، يقال استأجره مسانهة.

(٨) عاضة : العضة : (م) العضاهة ، وهو كل شجر له شوك صغر أو كبر. وقوله بعير عاضه : أي بعير يعيش على رعي العضاه. القاموس المحيط (٢ / ٣٣٧).

٨٩

كرهوا حذفه للتنوين ، فيجحفوا به ، فأبدلوا من الواو ميما لقرب الميم من الواو ، لأنهما شفهيتان ، وفي الميم هويّ في الفم يضارع امتداد الواو.

ويدل على أنّ فما مفتوح الفاء وجودك إياها مفتوحة في اللفظ ، هذا هو المشهور في هذه اللفظة ، فأمّا ما حكاه فيها أبو زيد وغيره من كسر الفاء وضمّها فضرب من التغيير لحق الكلمة لإعلالها بحذف لامها وإبدال عينها.

وأما قول الراجز (١) :

يا ليتها قد خرجت من فمّه

حتى يعود الملك في أصطمّه (٢)

يروى بضم الفاء من فمّه وفتحها ، فالقول في تشديد الميم عندي أنه ليس ذلك في هذه الكلمة ، ألا ترى أنك لا تجد لهذه المشدّدة الميم تصرفا ، إنما التصرف كله على (ف وه) ، ومن ذلك قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (آل عمران : ١٦٧) (٣).

وقال الشاعر (٤) :

فلا لغو ولا تأثيم فيها

وما فاهوا به أبدا مقيم (٥)

__________________

(١) البيتان من أرجوزة للعجاج وهما في الخزانة (٢ / ٢٨٢) الشاهد ٣٣١ ، ونسب ابن خالوية هذا الرجز إلى جرير يقوله في سليمان بن عبد الملك وعبد العزيز. والبيت ذكره صاحب اللسان في (طسم) ونسبه إلى جرير وهو أرجوزة وبعدها بيت هو :

أبرز لنا يمينه من كمه

ويسبقها بيتين.

(٢) اصطم الشيء : وسطه ومعظمه ، وفلان في أصطمة قومه : أي في وسطهم وأشرافهم. والشاهد فيه تشديد الميم. في قوله (فمّه).

(٣) يقولون : مضارع يفيد استمرار المنافقين على نفاقهم فهم دائما وأبدا يقولون ما ليس في قولهم. حيث يخفون ما تضمره قلوبهم ولكن الله عز وجل يكشف ذلك حتى يتضح نفاقهم لكل من يتعاملون معه.

(٤) البيت لأمية بن أبي الصلت. انظر / ديوانه (ص ٤٧٥).

(٥) لغو : لغا في القول لغوا : أخطأ وقال باطلا ، واللغو : ما لا يعتد به من كلام وغيره ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع ، واللغو أيضا : الكلام يبدر من اللسان ولا يراد معناه ، ومنه اللغو في اليمين. مادة (ل غ و) القاموس المحيط (٤ / ٣٨٦).

٩٠

وقالوا : رجل مفوّه إذا أجاد القول ، لأنه يخرج من فيه.

ومنه الأفوه الأوديّ (١). وقالوا : ما تفوّهت به ، وهو تفعّلت منه ، كما قالوا : تلغّمت بكذا وكذا ، أي : حركت به ملاغمي ، وهي ما حول الشفتين.

وقالوا في جمع أفوه ـ وهو الكبير الفم ـ فوه.

قرأت على أبي علي للشنفري (٢) :

مهرّته فوه كأن شدوقها

شقوق العصيّ كالحات وبسّل (٣)

ولم نسمعهم قالوا أفمام ، ولا تفمّمت ، ولا رجل أفمّ ، كما قالوا : أصمّ ، ولا شيئا من هذا النحو مما لم نذكره ، فدل اجتماعهم على تصريف الكلمة بالفاء والواو والهاء على أن التشديد في «فم» لا أصل له في نفس المثال ، وإنما هو عارض لحق الكلمة.

__________________

لا لغو ولا تأثيم : تكرار النفي وإضافة اللغو إلى التأثيم فيه دلالة وتوكيد على الفكرة. والشاهد فيه قوله «ما فاهوا». إعراب الشاهد : ما : اسم موصول مبني. فاهوا : فعل وفاعل. صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. والبيت ينسب لأمية بن الصلت. شرح ابن عقيل (١ / ٤٠٣) شاهد ١١٢ ، وذكره صاحب اللسان في مادة (فوه) (١٣ / ٥٢٦) ، دون أن ينسبه.

(١) الأفوه الأودي : هو صلاءة بن عمرو الأفوه.

(٢) يقال هو الشنفري الأزدي. انظر / شرح لامية العرب للعكبري (ص ٢٢).

(٣) مهرته : الهرّات هو : رجل لا يكتم سرا ويتكلم بالقبيح. القاموس المحيط (١ / ١٦٠). شدوقها : الشدق : جانب الفم مما تحت الخد ، وكانت العرب تمتدح رحابة الشدقين ، لدلالتها على جهارة الصوت (ج) أشداق ، شدوق. القاموس المحيط (٣ / ٢٤٨). كالحات : أي اشتد عبوسها ، والكلوح تكشر في عبوس. مادة (ك ل ح) القاموس (١ / ٢٤٦) بسل : البسالة : الشجاعة ، وقد بسل من باب ظرف فهو باسل أي : بطل (ج) بسل كبازل وبزل. القاموس المحيط (٣ / ٣٣٥). إعراب الشاهد : فوه : خبر مرفوع. ونسب ابن جني البيت إلى الشنفري الأزدي. بينما لم نقف على قائله.

٩١

فإن قال قائل : فإذا ثبت بما ذكرته أن التشديد في «فم» عارض ليس من أصل الكلمة ، فمن أين أتاها هذا التشديد؟ وكيف وجه دخوله إياها؟

فالجواب : أن أصل ذلك أنهم ثقّلوا الميم في الوقف ، فقالوا : هذا فمّ ، كما يقولون : هذا خالدّ ، وهو يجعلّ ، ثم إنهم أجروا الوصل مجرى الوقف ، فقالوا : هذا فمّ ، ورأيت فمّا ، كما أجروا الوصل مجرى الوقف في ما حكاه سيبويه عنهم من قولهم ثلاثه أربعه ، وكما أنشده من قول الراجز (١) :

ضخما يحبّ الخلق الأضخمّا (٢)

وكما أنشدناه أبو علي :

ببازل وجناء أو عيهلّ

كأنّ مهواها على الكلكلّ (٣)

يريد : العيهل والكلكل ، وقد مضى نظير هذا. فهذا حكم تشديد الميم عندي ، وهو أقوى من أن تجعل الكلمة من ذوات التضعيف بمنزلة همّ ، وجمّ.

فإن قلت : فإذا كان أصل «فم» عندك «فوه» فما تقول في قول الفرزدق أنشدناه أبو علي (٤) :

هما نفثا في فيّ من فمويهما

على النابح العاوي أشدّ رجام (٥)

__________________

(١) نسبه صاحب الكتاب (١ / ١١) ، واللسان مادة (ضخم) إلى رؤبة.

(٢) البيت ذكره صاحب اللسان في مادة (فوه) (١٣ / ٥٢٦) ، دون أن ينسبه ، ثم ذكره في مادة (ضخم) ونسبه إلى رؤبة. (١٢ / ٣٥٣).

(٣) وجناء : عظيمة الوجنتين ، والوجنة ما ارتفع من الخدين. القاموس المحيط (٤ / ٢٧٤). الكلكل : الصدر ، أو هو ما بين الترقوتين ، والكلكل والكلكال : الصدر. القاموس (٤ / ٤٦) والبيت ذكره صاحب اللسان في مادة (فوه) دون أن ينسبه. (١٣ / ٥٢٦).

(٤) ذكر أبو علي أن البيت يروى للفرزدق وهو في ديوانه (ص ٧٧١). وانظر / الكتاب (٣ / ٣٦٥ ، ٦٢٢).

(٥) نفث : نفثا ونفثانا : أي نفخ ، ونفث الشيء من فيه أي رمى به ، نفث فلانا سحره والنفاثات والنفث أقل من التفل. القاموس المحيط (١ / ١٧٥). النايح : نيح : نيحا ، نياحا ، صات. ونيح عليه أي صات عليه ، والنايح والنياح ضخم الصوت الشديد. القاموس المحيط (١ / ٢٥٤). العاوي : عوى الكلب والذئب : صاح صياحا شديدا ممدودا ليس بنباح فهو عاو وعواء. رجام : (م) الرجم ، والرجم الحجارة التي توضع على القبر (ج) رجام ، أرجم.

٩٢

وإذا كانت الميم بدلا من الواو التي هي عين فكيف جاز له الجمع بينهما؟

فالجواب : أن أبا علي حكى (١) لنا عن أبي بكر وأبي إسحاق أنهما ذهبا إلى أن الشاعر جمع بين العوض والمعوض عنه ، لأن الكلمة مجهورة منقوصة.

وأجاز أبو علي أيضا فيه وجها آخر ، وهو أن تكون الواو في «فمويهما» لاما في موضع الهاء من أفواه ، وتكون الكلمة تعتقب عليها لامان هاء مرة وواو أخرى ، فيجرى هذا مجرى سنة ، وعضة ، ألا تراهما في قول من قال (٢) سنوات ، وأسنتوا (٣) ، ومساناة ، و (٤) :

وعضوات تقطع اللهازما (٥)

واوين ، وتجدهما في قول من قال (٦) :

ليست بسنهاء ...

 ...

وبعير عاضه هاءين. وكذلك من قال (٧) :

 ...

تأوّه آهة الرجل الحزين

فاللام عنده هاء.

__________________

(١) حكى أبو علي أن هذا مذهب ابن السراج ، بينما قال ابن جني هذا مذهب الزجاج.

(٢) الصواب ما أثبت فإن سيبويه حكى الوجهين الواو والهاء في سنة وعضة. انظر / الكتاب (٢ / ٨٠ ـ ٨١).

(٣) أسنتوا : اسنتوا أي أصابهم السنه والجدب.

(٤) الواو يقتضيها سياق الكلام.

(٥) عجز البيت ذكر صاحب اللسان في مادة (أزم) ونسبه إلى أبي مهدية. (١٢ / ١٧). اللهازما : (م) اللهزمة ، واللهزمة : عظم ناتئ في اللحى تحت الحنك وهما لهزمتان. (ج) لهازم. القاموس المحيط (٤ / ١٧٩).

(٦) هو سويد بن الصامت الأنصاري ، وسبق شرحه والتعليق عليه.

(٧) البيت ينسب للمثقب العبدي في وصف ناقته. انظر / الخصائص (٣ / ٣٨) ، معاني القرآن للفراء (٢ / ٢٣).

٩٣

ومن قال (١) :

فأوّ لذكراها إذا ما ذكرتها

 ... (٢)

فاللام عنده واو ، لأن «أوّ» بمنزلة قوّ زيدا. فهذا وجه كما تراه.

ونظير ما حكاه عن أبي بكر وأبي إسحاق من الجمع بين العوض والمعوض منه ما أنشده البغداديون وأبو زيد (٣) :

إني إذا ما حدث ألمّا

أقول يا اللهمّ يا اللهمّا (٤)

ألا تراه جمع بين «يا» والميم المشددة ، وهي عند الخليل (٥) بدل من «يا» ، وكذلك ما أنشدوه أيضا من قول الجارية لأمها (٦) :

يا أمّتا أبصرني راكب

في بلد مسحنفر لاحب (٧)

__________________

(١) البيت بتمامه كما ذكره صاحب اللسان (١٤ / ٥٤) مادة / أوا.

فأو لذكراها إذا ما ذكرتها

ومن بعد أرض دوننا وسماء

(٢) هي لغة في قوم بني عامر. كذا في معاني القرآن للفراء.

(٣) نسب ابن عقيل البيت في شرحه إلى أمية بن الصلت (٢ / ٢٦٥) شاهد ٣١٠. وذكره صاحب اللسان في مادة (أله) دون أن ينسبه. (١٣ / ٤٦٩).

(٤) البيت في جملة أسلوبه إنشائي في صورة توكيد وغرضه التأكيد على فكرة اللجوء إلى الله عز وجل إذا ما ألمت به مصيبة. وقوله : يا اللهم : أسلوب إنشائي في صورة نداء غرضه الدعاء. والشاهد فيه قوله (يا اللهم يا اللهما) حيث جمع بين حرف النداء والميم المشددة التي يؤتى بها للتعويض عن حرف النداء ، وهذا شاذ لأنه جمع بين المعوض عنه والعوض. إعراب الشاهد : يا اللهما : يا : حرف نداء مبني لا محل له من الإعراب. الله : لفظ الجلالة منادى مبني على الضم في محل نصب. ما : زائدة.

(٥) انظر / الكتاب (١ / ٣١٠).

(٦) البيت ذكره صاحب اللسان. مادة (أيا) دون أن ينسبه. (١٤ / ٦١).

(٧) مسحنفر : الواسع. لسان العرب (٤ / ٣٥٢) مادة / سحفر. لاحب : واضح ، ويقال لحب الطريق لحوبا أي وضح فهو لاحب. مادة (ل ح ب). يا أمتا : أسلوب إنشائي في صورة نداء.

٩٤

ألا ترى أن التاء في «يا أمّت» إنما هي بدل من ياء أمّي ، وإنما أبدلها ألفا للتخفيف ، أفلا تراه كيف جمع بين العوض والمعوض منه.

فهذا يؤكد مذهب أبي بكر وأبي إسحاق في فمويهما. وما ذكرنا فيه من هذين الجوابين أحسن من أن تحمل الكلمة على الغلط منهم ، كهمز مصائب ، وحلأت السويق (١) ، وغير ذلك.

وقرأت على محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى : قال بلال بن جرير (٢) :

إذا ضفتهم أو سآيلتهم

وجدت بهم علّة حاضره (٣)

فإنّ أحمد كأنه لم يعرفه ، فلما فهم قال : هذا جمع بين اللغتين. فالهمزة في هذا هي الأصل ، وهي التي في قولك : ساءلت زيدا ، والياء هي العوض والفرع ، وهي التي في قولك : سايلت زيدا ، فقد تراه كيف جمع بينهما في قوله : «سآيلتهم» فوزنه على هذا : فعاعلتهم ، وهذا مثال لا يعرف له في اللغة نظير.

فإذا ثبت بما قدمناه أن عين «فم» في الأصل واو ، فينبغي أن يقضى بسكونها ، لأن السكون هو الأصل حتى تقوم الدلالة على الحركة الزائدة.

فإن قلت : فهلا قضيت بحركة العين لجمعك إياه على أفواه ، ألا ترى أن أفعالا إنما هو في الأمر العام جمع فعل نحو بطل وأبطال ، وقدم وأقدام ، ورسن (٤) ، فاعرف ذلك.

__________________

(١) حلأت السويق : يقال حلأ السويق حلئة إذا حلاه. القاموس المحيط (١ / ١٢). قال الفراء : قد همزوا ما ليس بمهموز لأنه من الحلواء.

(٢) البيت نسبه إليه صاحب الخصائص (٣ / ١٤٦).

(٣) علة : حدث يشغل صاحبه عن وجهه ، كأن تلك العلة صارت شغلا ثانيا منعه عن شغله الأول. يقول الشاعر : إنك إذا حللت عليهم ضيفا أو سألتهم حق الضيافة وجدت ما يشغلهم عنك. والبيت أسلوبه خبري تقريري. والبيت نسبه صاحب اللسان في مادة (سأل) إلى بلال بن جرير. (١١ / ٣١٩).

(٤) ورسن : الرسن : الحبل وجمعه أرسان ، ورسن الفرس أي شده بالرسن وبابه نصر. وأرسنه أيضا. مادة (ر س ن). القاموس المحيط (٤ / ٢٢٧).

٩٥

وأما إبدال الميم من النون فإن كل نون ساكنة وقعت قبل باء قلبت في اللفظ ميما وذلك نحو عنبر ، وامرأة شنباء (١) ، وقنبر (٢) ، ومنبر ، وقنب (٣) ، وقنبلة (٤) ، ونساء شنب ، فإن تحركت أظهرت ، وذلك نحو قولك : شنب ، وعنابر ، وقنابر ، ومنابر ، وقنابل. وإنما قلبت لما وقعت ساكنة قبل الباء من قبل أن الباء أخت الميم ، وقد أدغمت النون مع الميم في نحو : من مّعك ، ومن مّحمد ، فلما كانت تدغم النون مع الميم التي هي أخت الباء أرادوا إعلالها أيضا مع الباء إذ قد أدغموها في أختها الميم ، ولما كانت الميم التي هي أقرب إلى الباء من النون لم تدغم في الباء في نحو أقم بكرا ، لا تقول : أقبّكرا ، ولا في نم بالله نبّالله ، كانت النون التي هي من الباء أبعد منها من الميم أجدر بأن لا يجوز فيها إدغامها في الباء ، فلما لم يصلوا إلى إدغام النون في الباء أعلوها دون إعلال الإدغام ، فقربوها من الباء بأن قلبوها إلى لفظ أقرب الحروف من الباء ، وهو الميم ، فقالوا : عمبر ، وقمبلة ، فاعرف ذلك.

وأما قول رؤبة (٥) :

يا هال ذات المنطق التّمتام

وكفّك المخضّب البنام (٦)

فإنه أراد : البنان ، فأبدل النون ميما. وإنما جاز ذلك لما فيها من الغنّة ، والهويّ ، وعلى هذا جمعوا بينهما في القوافي ، فقالوا :

يا ربّ جعد فيهم لو تدرين

يضرب ضرب السّبط المقاديم (٧)

__________________

(١) شنباء : الشنباء : شنب الشغر : شنبا : رقت أسنانه وابيضت فهو شنب وشانب وأشنب وهي شنباء. مادة (ش ن ب) القاموس المحيط (١ / ٨٩).

(٢) قنبر : اسم يطلق على شخص.

(٣) قنب : مخلب الأسد. القاموس المحيط (١ / ١٢٠).

(٤) قنبلة : طائفة من الناس ومن الخيل. القاموس المحيط (٤ / ٤١).

(٥) هذا مطلع أرجوزة له في مدح مسلمة بن عبد الملك. ديوانه ص ١٤٤.

(٦) هالة : مرخم هالة ، وهو اسم امرأة ، والهالة في الأصل دارة القمر. القاموس (٤ / ٧٢). التمتام : الذي فيه تمتمة ، وهو الذي يتردد في التاء ، وفي الديوان : النمنام.

(٧) البيتان في أدب الكتاب (ص ٣٧٨) ، واللسان مادة (جعد) (٤ / ٩٤). الجعد : القصير من الرجال. القاموس (١ / ٢٨٣). رجل سبط : طويل. القاموس (٢ / ٣٦٢). المقاديم : جمع مقدام.

٩٦

وقال الآخر :

يطعنها بخنجر من لحم

دون الذّنابي في مكان سخن (١)

وهو كثير.

وأما إبدالها من اللام فيروى أن النمر بن تولب حكى ، قال : سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقول : «ليس من امبّر امصيام في امسفر» (٢) يريد : ليس من البر الصيام في السفر ، فأبدل لام المعرفة ميما.

ويقال : إن النمر لم يرو عن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ غير هذا الحديث ، إلا أنه شاذ لا يسوغ القياس عليه ، ونحوه في الشذوذ ما قرأته على أبي علي بإسناده إلى الأصمعي ، قال (٣) : «يقال : بنات مخر ، وهن سحائب يأتين قبل الصيف بيض منتصبات في السماء».

قال طرفة (٤) :

كبنات المخر يمأدن كما

أنبت الصيف عساليج الخضر (٥)

قال أبو علي : كان أبو بكر محمد بن السري يشتق هذه الأسماء من البخار.

فهذا يدلك من مذهب أبي بكر وأبي علي ـ لأنه تقبله عن أبي بكر ولم يدفعه ـ على أن الميم في مخر بدل من الباء في بخر.

__________________

(١) البيتان في المقتضب (١ / ٣٥٣) ، واللسان مادة (خنجر) (٤ / ٢٦٠).

(٢) أخرجه البخاري في كتاب الصوم ـ باب قول النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لمن ظلل عليه :«... ليس البر الصوم في السفر» ولفظه : «ليس من البر الصوم في السفر» ، وأخرجه مسلم في كتاب الصوم ـ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر. وأداة التعريف في اللفظين هي «أل». ص ٧٠).

(٣) كتاب الإبدال لابن السكيت.

(٤) البيت في ديوانه (ص ٥٩). اللسان (٢ / ٣٢٤) مادة / عسلج.

(٥) يمأدن : يتحركن ويتثنين. لسان العرب (٣ / ٣٩٤) مادة / مأد. العساليج : جمع عسلوج ، وهو الغصن لسنته. القاموس المحيط (١ / ١٩٩). الخضر : اسم البقلة الخضراء. أراد : يمأذن كعساليج أنبتها الصيف.

٩٧

ولو ذهب ذاهب إلى أن الميم في مخر أصل غير مبدلة على أن يجعله من قوله عز اسمه : (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) (فاطر : ١٢) (١) وذلك أن السحاب كأنها تمخر البحر ، لأنها في ما يذهب إليه عنه تنشأ ، ومنه تبدأ ، لكان عندي مصيبا غير مبعد ، ألا ترى إلى قول أبي ذؤيب في وصف السحاب (٢) :

شربن بماء البحر ثم ترفّعت

متى لجج خضر لهن نئيج (٣)

وأخبرنا أبو علي أيضا يرفعه بإسناده إلى أبي عمرو الشيباني قال : «يقال : ما زلت راتما على هذا وراتبا ، أي مقيما» (٤) فالظاهر من أمر هذه الميم أن تكون بدلا من باء راتب ، لأنا لم نسمع في هذا الموضع رتم (٥) مثل رتب.

وتحتمل الميم في هذا عندي أن تكون أصلا غير بدل ، من الرّتيمة ، وهي شيء كان أهل الجاهلية يرونه بينهم ، وذلك أن الرجل منهم كان إذا أراد سفرا عمد إلى غصنين من شجرتين تقرب إحداهما من الأخرى ، فعقد أحدهما بصاحبه ، فإذا عاد ورأى الغصنين معقودين بحالهما قال : إن امرأته لم تخنه بعده ، وإن رأى الغصنين قد انحلا قال : امرأته قد خانته ، قال الراجز (٦) :

هل ينفعنّك اليوم إن همّت بهمّ

كثرة ما توصي وتعقاد الرّتم (٧)

__________________

(١) الفلك : السفينة ، السفن. القاموس المحيط (٣ / ٣١٦). مواخر : (م) ماخرة ، والماخرة السفينة ، مخرت البحر مخرا ومخورا : أي جرت تشق الماء. والمقصود بمواخر أي جواري تشق الماء شقا.

(٢) السحاب : الغيم سواء كان فيه ماء أم لم يكن.

(٣) متى : في لغة هذيل تعني من ، وتعني أيضا : وسط الشيء. لسان العرب (١٥ / ٤٧٤). لجج : اللجة : معظم البحر وتردد أمواجه (ج) لجج ولجاج. القاموس (١ / ٢٠٥). نئيج : الصوت الذي ينتج نتيجة للمرور السريع. لسان العرب (٢ / ٣٧١) مادة / نأج.

(٤) ذكر ذلك ابن السكيت في كتابه الإبدال.

(٥) رتم : الرتيمة : خيط يشد في الإصبع تستذكر به الحاجة. القاموس (٤ / ١١٦).

(٦) ذكره صاحب اللسان في مادة (رتم) دون أن ينسبه. (١٢ / ٢٢٥). انظر / شرح معاني القرآن للفراء (١ / ٢١٧).

(٧) تعقاد الرتم : يقال أن الرجل إذا أراد سفرا عمد إلى شجرة فشد غصنين منها فإن رجع ووجدهما على حالهما قال إن أهله لم تخنه وإلا فقد خانته. والشاعر هنا يسخر من ذلك الذي يعقد الرتم لأنها لا تغني عن الخيانة. وقوله (هل ينفعك) أسلوب إنشائي في صورة استفهام غرضه النصح والإرشاد.

٩٨

والرّتمة أيضا خيط يشدّ في الإصبع ليذكر الرجل به حاجته ، وكلا هذين المعنيين تأويله الإقامة والثبوت ، فيجوز أن يكون راتم من هذا المعنى. وإذا أمكن أن تتأول اللفظة على ظاهرها لم يسغ العدول عنه إلى الباطن إلا بدليل ، والدليل هنا إنما يؤكد الظاهر لا الباطن ، فينبغي أن يكون العمل عليه دون غيره.

وقرأت على أبي علي بإسناده إلى يعقوب ، قال : «يقال : رأيته من كثب ومن كثم» (١) ثم إنا رأيناهم يقولون : قد أكثب لك الأمر إذا قرب ، ولم نرهم يقولون قد أكثم ، فالباء على هذا أعم تصرفا من الميم ، فالوجه لذلك أن تكون الباء هي الأصل للميم.

وقد يجوز أن تكون الميم أصلا أيضا لقولهم : أخذنا على الطريق الأكثم ، أي الواسع ، والسعة قريبة المعنى من القرب ، ألا ترى أنهما يجتمعان في تسهّل سلوكهما ، وأنه لا يتسع الطريق ، ولا تكثر سابلته (٢) إلا لأنه أقصد من غيره ، والقصد كما تراه هو القرب ، فقد آلا إذن إلى معنى واحد.

وقرأت على أبي علي بإسناده إلى يعقوب ، قال : قال الأحمر (٣) : يقال : طانه الله على الخير ، وطامه ، أي : جبله ، وهو يطينه ، وأنشد :

 ...

ألا تلك نفس طين منها حياؤها (٤)

والقول فيه : إن الميم في طامه بدل من النون في طانه ، لأنا لم نسمع لـ «طام» تصرفا في غير هذا الموضع.

فأما قول الآخر (٥) :

__________________

(١) كثم : تأتي بمعنى قرب. القاموس (٤ / ١٦٩).

(٢) سابلته : السابلة : الطريق المسلوك ، والسابلة : الطريق والمارون عليه. (ج) سوابل.

(٣) ذكر ذلك ابن السكيت صاحب الإبدال ، والأحمر هو : خلف بن حيان. انظر / اللسان (١٣ / ٢٧٠) مادة / طين.

(٤) ذكر صاحب اللسان البيت في مادة (ط ي ن) دون أن ينسبه. (١٣ / ٢٧٠).

(٥) ذكر البيت صاحب اللسان في مادة (نغب) دون أن ينسبه (١ / ٧٦٥) مادة / نغب.

٩٩

فبادرت شربها عجلى مثابرة

حتى استقت دون محنى جيدها نغما (١)

فذكر ابن الأعرابي أنه أراد نغبا ، وهو عندي كما قال.

وأما زيادة الميم فموضعها أول الكلمة ، وحال الميم في ذلك حال الهمزة ، فمتى اجتمع معك ثلاثة أحرف أصول وفي أولها ميم ، فاقض بزيادة الميم حتى تقوم الدلالة على كونها أصلا ، وذلك نحو مشهد ، ومضرب ، ومقياس ، لأن الألف زائدة.

فإن كانت معك أربعة أحرف أصول وقبلهن ميم ، فاقض بكونها من الأصل ، كفعلك بالهمزة ، وقد ذكرناها (٢) في بابها ، وذلك نحو : مرزجوش (٣) ، ميمه فاء ، ووزنه فعللول بوزن عضرفوط (٤) ، وقرطبوس (٥).

فأما ميم مهدد (٦) فأصل ، ومثاله فعلل كجعفر ، وحبتر. ويدل على ذلك أنه لو كان مفعلا لوجب أن تدغمه ، فتقول مهدّ ، كما قالوا مسدّ ومردّ.

وأما محبب (٧) فمفعل ، وإنما لم يدغم لأنه علم ، والأعلام قد تأتي كثيرا مخالفة للأصول الأجناس ، وذلك نحو : تهلل ، ومورق ، وموظب ، ومزيد ، وحيوة ، ومعدي كرب.

فإن قلت : فهلا قلت في مهدد إنه مفعل كما قلت في محبب؟

فالجواب : أن محببا لو وجدنا له أصلا نصرفه به إلى أنه فعلل لفعلنا ، ولكان ذلك آثر عندنا من أن نحمله على ضرورة العلم ، ولكنا لم نجد في كلام العرب «م ح ب» متصرفا ، ووجدنا فيه «ح ب ب» فعدلنا إلى «ح ب ب» ضرورة.

__________________

(١) بادرت : أي أسرعت ، وبادر إليه مبادرة وبدارا أي أسرع. مادة (ب د ر) القاموس (١ / ٣٦٩) شربها : الشّرب : الماء يشرب ، والشرب النصيب منه. القاموس (١ / ٨٦). عجلى : أي مسرعة ، وهي عجول وهي عجلى (ج) عجالى وعجال. القاموس (٤ / ١٢). مثابرة : ثابر على الأمر أي واظب عليه وداوم. مادة (ث ب ر) القاموس (١ / ٣٨١). نغما : الأصوب نغبا ، والنغب جمع (م) النغبة : الجرعة. القاموس (١ / ١٣٣).

(٢) أي زيادة الهمزة وذلك في باب الهمزة.

(٣) مرزجوش : معرب مرزنكوش.

(٤) عضرفوط : ذكر العظاء. القاموس (٢ / ٣٧٣)

(٥) قرطبوس : الشديدة الضرب من العقارب والناقة العظيمة الشديدة.

(٦) مهدد : اسم امرأة.

(٧) محبب : اسم رجل.

١٠٠