سرّ صناعة الإعراب - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

سرّ صناعة الإعراب - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-2702-0
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

إنّ أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها (١)

وفيها (٢) :

واشدد بمثنى حقب حقواها (٣)

وعلى هذا تتوجه عندنا قراءة من قرأ : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (طه : ٦٣) (٤) وقد ذكرنا هذه المسألة في باب النون بما أغنى عن إعادته.

واعلم أن سيبويه يرى أن الألف في التثنية كما أنه ليس في لفظها إعراب ، فكذلك لا تقدير إعراب فيها كما يقدّر في الأسماء المقصورة المعربة نية الإعراب ؛ ألا ترى أنك إذا قلت : هذا فتى ، ففي الألف عندك تقدير ضمة ، وإذا قلت : رأيت فتى ، ففي الألف تقدير فتحة ، وإذا قلت : مررت بفتى ، ففي الألف تقدير كسرة ، وهو لا يرى أنك إذا قلت : هذان رجلان أن في الألف تقدير ضمة ، ولا إذا قلت : مررت بالزيدين ، وضربت الزيدين أنّ في الياء تقدير كسرة ولا فتحة ، ويدل على أن ذلك مذهبه قوله : «ودخلت النون كأنها عوض لما منع من الحركة والتنوين» (٥) ، فلو كانت في الألف عنده نية حركة لما عوّض منها النون كما لا يعوّض ، منها في قولك :

هذه حبلى ، ورأيت حبلى ، ومررت بحبلى ، النون.

__________________

(١) الشاهد فيه (أباها) الثالثة لأنها مجرورة حيث جاءت بالألف في حالة النصب ولم تقلب ياء. إعرابه : أبا : اسم إن منصوب بفتحة مقدرة على الألف. ويحتمل أن يكون منصوبا بالألف نيابة عن الفتحة ، وأبا مضاف والضمير مضاف إليه مبني في محل جر.

(٢) البيت ذكر في الخزانة (٣ / ٣٣٨) ، وشرح المفصل (٣ / ١٢٩) ، وشرح ابن عقيل (١ / ٥١).

(٣) الشطر الثاني من البيت : (ناجية وناجيا أباها) وهو موضع الشاهد في قول الشاعر (أباها) حيث يعرب فاعل مرفوع بضمة مقدرة على الألف منع ظهورها التعذر ، وهذه لغة القصر. ولو جاء به على لغة التمام لقال (وناجيا أبوها) على أنها فاعل مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه من الأسماء الخمسة.

(٤) الشاهد فيه (هذان) حيث نصبت بفتحة مقدرة ، ولم تقلب الألف ياء.

(٥) انظر / الكتاب (١ / ٤).

٣٤١

قال أبو علي : ويدل على صحة ما قال سيبويه من أنه ليس في حرف الإعراب من التثنية تقدير حركة في المعنى كما أن ذلك ليس موجودا فيها في اللفظ ، صحة الياء في الجر والنصب في نحو : مررت برجلين ، وضربت رجلين ، ولو كان في الياء منها تقدير حركة لوجب أن تقلب ألفا كرحى ، وفتى ، ألا ترى أن الياء إذا انفتح ما قبلها وكانت في تقدير حركة وجب أن تقلب ألفا.

وهذا استدلال من أبي علي في نهاية الحسن ، وصحة المذهب ، وسداد الطريقة.

فإن قلت : فإذا كانت النون عند سيبويه عوضا مما منع الاسم من الحركة والتنوين ، فما بالهم قالوا في الجر والنصب ضربت الزيدين ، ومررت بالزيدين ، فقلبوا الألف ياء ، وذلك علم الجر والنصب ، ثم إنهم عوضوا من الحركة نونا ، وكيف يعوضون من الحركة نونا وهم قد جعلوا قلب الألف ياء قائما مقام علم الجر والنصب ، وهل يجوز أن يعوض من شيء شيء وقد أقيم مقام المعوّض منه ما يدل عليه ، ويغني عنه ، وهو القلب؟

فالجواب : أن أبا علي ذكر أنهم إنما جوّزوا ذلك لأن الانقلاب معنى لا لفظ إعراب ، فلما لم يوجد في الحقيقة في اللفظ إعراب جاز أن تعوّض منه النون ، وصار الانقلاب دليلا على التمكن واستحقاق الإعراب.

وهذا أيضا من لطيف ما حصلته عنه ، فافهمه.

فإن قلت : فإذا كانت الدلالة قد صحت على قول سيبويه أنه لا تقدير إعراب في حرف الإعراب من التثنية ، فما كانت الحاجة من العرب إلى ذلك ، وما السرّ ، وما السبب الذي أوجب ذلك فيها؟

فالجواب : أنهم لو اعتقدوا في حرف إعراب التثنية تقدير حركة كما يعتقدونه في حرف الإعراب من المقصور ، لوجب أن تقرّ الألف في الأحوال الثلاث على صورة واحدة كما يقرّ حرف الإعراب من المقصور على حال واحدة في رفعه ونصبه وجره ، ولو فعلوا ذلك فقالوا : قام الزيدان ، وضربت الزيدان ، ومررت بالزيدان ، لدخل الكلام من الإشكال والاستبهام ما قد تقدم قولنا فيه ، وأنه تنكّب لاستكراههم ما فيه من عدم البيان ، ولما كان الاسم المثنى معربا متمكنا ، وكرهوا أن يعتقدوا في حرف

٣٤٢

إعرابه تقدير حركة إعراب لئلا يبقى في الأحوال الثلاث على صورة واحدة ، كما تبقى جميع الأسماء المقصورة فيها كذلك ، عوّضوه من الإعراب الذي منعوه حرف إعرابه نونا ، وأبدلوا من ألفه في الرفع ياء في الجر والنصب ؛ ليدلوا بذلك على تمكنه وأنه معرب غير مبني كـ «متى» و «إذا» و «أنّى» فكان ذلك أحوط وأحزم.

فإن قلت : فهلا نووا في الألف أنها في موضع حركة كما نووا ذلك في جميع المقصور ، ثم إنهم أبدلوا الألف ياء ليدلوا على تمكن الاسم ، ولم يعوضوه من الحركة نونا لأنها منوية مرادة ، فقالوا : قام الزيدا ، ومررت بالزيدي ، وضربت الزيدي؟

فالجواب : أن ما قدمناه يمنع من ذلك ، وهو أنهم لو نووا في الياء حركة وما قبلها مفتوح ، لوجب أن يقلبوها ألفا ، فكان يجب على هذا أن يقولوا إذا لم يأتوا بالنون : قام الزيدا ، ورأيت الزيدا ، ومررت بالزيدا ، فيعود الكلام من الإشكال واللبس إلى ما هربوا منه ، فتركوا ذلك لذلك.

ونظير ألف التثنية في أنها حرف إعراب وعلامة التثنية ألف التأنيث في نحو : حبلى ، وسكرى ، ألا تراها حرف إعراب وهي علم التأنيث ، إلا أنهما يختلفان في أن حرف التثنية لا نية حركة فيه ، وأن ألف حبلى فيها نية الحركة.

قال أبو علي : ويدل على أن الألف في التثنية حرف إعراب صحة الواو في «مذروان» (١). قال : ألا ترى أنه لو كانت الألف إعرابا أو دليل إعراب ، وليست مصوغة في جملة بناء الكلمة متصلة بها اتصال حرف الإعراب بما قبله ، لوجب أن تقلب الواو ياء ، فيقال : «مذريان» لأنها كانت تكون على هذا القول طرفا كلام «معزى» و «مدعى» و «ملهى» ، فصحة الواو في «مذروان» دلالة على أن الألف من جملة الكلمة ، وأنها ليست في تقدير الانفصال الذي يكون في الإعراب.

قال : فجرت الألف في «مذروان» مجرى الألف في «عنفوان» (٢) وإن اختلفت النونان. وهذا حسن في معناه.

فأما قولهم «قشوت العود» (٣) فشاذ غير مقيس عليه غيره.

__________________

(١) مذروان : الجانبان من كل شيء. لسان العرب (١٤ / ٢٨٥) مادة / ذرا.

(٢) عنفوان : عنفوان الشيء أوله ، ويقال هو في عنفوان شبابه : في نشاطه وحدته.

(٣) قشوت : قشوت العود : قشرته وخرطته. لسان العرب (١٥ / ١٨٢) مادة / قشا.

٣٤٣

ونظير هذا الذي ذهب إليه أبو علي قولهم : «عقلته بثنايين» (١) ، ولو كانت ياء التثنية إعرابا أو دليل إعراب لوجب أن تقلب الياء التي بعد الألف همزة ، فيقال : «عقلته بثناءين» وذلك لأنها ياء وقعت طرفا بعد ألف زائدة ، فجرت مجرى ياء «رداء» و «رماء» و «ظباء» (٢).

ونظير هذا قولهم في الجمع : هؤلاء مقتوون (٣) ، ورأيت مقتوين ، ومررت بمقتوين ، فلو كانت الواو والياء في هذا أيضا إعرابا أو دليل إعراب لوجب أن يقال : هؤلاء مقتون ، ورأيت مقتين ، ومررت بمقتين ، ويجري مجرى «مصطفين».

فهذا كله يؤكد مذهب سيبويه في أن الألف والياء والواو حروف الإعراب في التثنية والجمع الذي على حد التثنية ، والقول فيهما من وجه واحد.

وأما قول أبي الحسن إن الألف ليست حرف إعراب ولا هي إعراب ، ولكنها دليل الإعراب ، فإذا رأيت الألف علمت أن الاسم مرفوع ، وإذا رأيت الياء علمت أن الاسم منصوب أو مجرور ، قال : ولو كانت حرف إعراب لما عرفت بها رفعا من نصب ولا جرّ ، كما أنك إذا سمعت دال «زيد» لم تدلك على رفع ولا نصب ولا جرّ ، فإنه غير لازم ، وذلك أنّا قد رأينا حروف الإعراب بلا خلاف تفيدنا الرفع والنصب والجر ، وذلك نحو : أبوك وأخوك ، وأباك وأخاك ، وأبيك وأخيك ؛ ألا ترى أن الواو حرف الإعراب ، وقد أفادتنا الرفع ، والألف حرف الإعراب ، وقد أفادتنا النصب ، والياء حرف الإعراب ، وقد أفادتنا الجر.

فأما قوله : إنها ليست بإعراب فصحيح ، وسنذكر ذلك في فساد قول الفراء والزيادي. فأما قوله : لو كانت الألف حرف إعراب لوجب أن يكون فيها إعراب هو غيرها كما كان ذلك في دال «زيد» ؛ فيفسد بما ذكرناه من الحجاج في هذا عند شرح مذهب سيبويه أوّل.

وبلغني أن أبا إسحاق قال منكرا على أبي الحسن أنها دليل الإعراب : إن الإعراب دليل المعنى ، فإذا كانت الألف تدل على الإعراب ، والإعراب دليل ، فقد

__________________

(١) عقلته بثنايين : عقلت يديه جميعا بعقالين ، والثناية حبل من شعر أو صوف. اللسان (١٤ / ١٢١)

(٢) من قوله (لو كانت الياء) إلى قوله (ظباء) نقله عن المصنف نصا ابن منظور.

(٣) مقتوون : الخدام واحدهم مقتوى.

٣٤٤

احتاج الدليل إلى دليل ، وإذا احتاج الدليل إلى دليل فقد سقط المعنى المدلول عليه.

وهذا وإن كان ظاهره سائغا متقبلا فإنه غير داخل على غرض أبي الحسن ، وذلك أن معنى قوله : «دليل الإعراب» أنها تقوم مقام الضمة والفتحة والكسرة ، وتفيد ما يفدنه ، فشابهت الألف النون التي لرفع الفعل المضارع في نحو يقومان ويقومون وتقومين في أنها تقوم مقام الضمة في «يقوم» و «يقعد» وأنها ليست من أصول الإعراب ؛ ألا ترى أن جنس الإعراب هو الحركة ، ولذلك جعل جنس البناء سكونا إذ كانا ضدين ، وكانت الحركة ضد السكون ، فالألف إذن هناك كالنون هنا.

ويدلك على أن الأفعال المضارعة التي رفعها بالنون ليست على طريق قياس أصول الإعراب ، حذفك النون في موضع النصب في قولك : «لن يقوما» ألا ترى أن النصب هنا مدخل على الجزم كما أدخل النصب في الأسماء المثناة والمجموعة على سبيل التثنية على الجر في قولك : «ضربت الزيدين والعمرين» ، ولست تجد في الآحاد المتمكنة الإعراب ما يحمل فيه أحد الإعرابين على صاحبه. فأما «مررت بأحمد» فإن ما لا ينصرف غير متمكن الإعراب.

ويزيد عندك في بيان ضعف إعراب الفعل المضارع ، أنك إذا ثنيت الضمير فيه أو جمعته أو أنّثته ، أنك تجده بغير حرف إعراب ؛ ألا ترى أنه لو كان لـ «يقومان» حرف إعراب لم يخل من أن يكون الميم أو الألف أو النون ، فمحال أن تكون الميم لأن الألف بعدها قد صيغت معها وحصلت الميم لذلك حشوا لا طرفا ، ومحال أن يكون حرف الإعراب وسطا ، ولا يجوز أن يكون إلا آخرا طرفا ، ولا يجوز أن تكون الألف في «يقومان» حرف إعراب ، قال سيبويه (١) : «لأنك لم ترد أن تثني هذا البناء فتضم إليه يفعلا آخر» أي : لم ترد أن تضم هذا المثال إلى مثال آخر ، وإنما أردت أن تعلم أن الفاعل اثنان ، فجئت بالألف التي هي علم الضمير والتثنية ، ولو أردت أن تضم نفس الفعل إلى فعل آخر من لفظه لكانت الألف في «يقومان» حرف إعراب ، كما كانت الألف في «الزيدان» حرف إعراب ، لما أردت أن تضم إلى زيد زيدا آخر.

فقد بطل إذن أن تكون الألف حرف إعراب. ومحال أيضا أن تكون النون حرف إعراب في «يقومان» لأمرين :

__________________

(١) الكتاب (١ / ٥).

٣٤٥

أحدهما : أنها متحركة محذوفة في الجزم ، وليس في الدنيا حرف متحرك يحذف في الجزم.

والآخر : أنه لو كانت النون حرف إعراب لوجب أن تجري عليها حركات الإعراب ، فتقول : هما يقومان ، وأريد أن تقومان ، فتضمها في الرفع ، وتفتحها في النصب ، فإذا صرت إلى الجزم وجب تسكينها ، فإذا سكنت والألف قبلها ساكنة كسرت لالتقاء الساكنين ، فتقول : لم يقومان ، فلما كان القضاء بكون نون «يقومان» حرف إعراب يقود إلى هذا الذي ذكرته ، ورأيت العرب قد اجتنبته ، علمت أن النون ليست عندهم بحرف إعراب ، فإذا لم يجز أن تكون الميم حرف إعراب ، ولا الألف ، ولا النون ، علمت أنه لا حرف إعراب للكلمة.

وإذا لم يكن لها حرف إعراب دلّك ذلك على أن الإعراب فيها ليس له تمكن الإعراب الأصلي الذي هو الحركة ، وإذا كان ذلك كذلك علمت به أن النون في «يقومان» تقوم مقام الضمة في «يقوم» وأنها ليس لها تمكن الحركة ، وإنما هي دالة عليها ونائبة عنها ، فكذلك أيضا لا يمتنع أن تكون الألف عند أبي الحسن دليل الإعراب ، أي قائمة مقامه ونائبة عنه ، فإذا رأيتها فكأنك قد رأيته ، كما أنك إذا رأيت النون في الأفعال المضارعة فكأنك قد رأيت الضمة في الواحد ، فقد سقط بهذا الذي ذكرناه ما ألزمه أبو إسحاق إياه.

قال أبو علي : ولا تمتنع الألف على قياس قول سيبويه إنها حرف إعراب أن تدل على الرفع كما دلت عليه عند أبي الحسن لوجودنا حروف إعراب تقوم مقام الإعراب في نحو : أبوك ، وأباك ، وأبيك ، وأخواته ، وكلاهما ، وكليهما ، ولكن وجه الخلاف بينهما أن سيبويه يزعم أنها حرف إعراب ، وأبو الحسن يقول : إنها ليست حرف إعراب ، فهذا ما في خلاف أبي الحسن.

وأما قول أبي عمر إنها في الرفع حرف إعراب كما قال سيبويه ، ثم إنه كان يزعم أن انقلابها هو الإعراب ، فضعيف مدفوع أيضا ، وإن كان أدنى الأقوال إلى الصواب الذي هو رأي سيبويه. ووجه فساده أنه جعل الإعراب في الجر والنصب معنى لا لفظا ، وفي الرفع لفظا لا معنى ، فخالف بين جهات الإعراب في اسم واحد ؛ ألا ترى أن القلب معنى لا لفظ ، وإنما اللفظ هو نفس المقلوب والمقلوب إليه ، وليس

٣٤٦

كذلك قول سيبويه «إن النون عوض مما منع الاسم من الحركة والتنوين» لأن النون على كل حال لفظ ، وليست بمعنى.

وألزم أبو العباس أبا عمر هنا شيئا لا يلزمه عندي ، وذلك أنه قال : قد علمنا أن أول أحوال الاسم الرفع ، فأول ما وقعت التثنية وقعت والألف فيها ، فقد وجب أن لا يكون فيها في موضع الرفع إعراب (١). وذلك أن أبا عمر إذا كان يقول في الألف ما قاله سيبويه فله فيه ما له ، وعليه ما عليه.

وقد صح أن سيبويه يقول : إن النون عوض مما منع الاسم من الحركة والتنوين ، وكذلك أيضا قول أبي عمر في الرفع إن النون عوض من الحركة والتنوين ، وإذا كانت عوضا من الحركة فإن الاسم معرب ، والنون تقوم مقام حركة إعرابه ، فقد كان يجب على أبي العباس أن لا يدعي على أبي عمر أنه يعتقد أن الاسم في حال الرفع لا إعراب فيه.

فإن أراد أبو العباس أنه ليس في الألف إعراب ، وإنما النون عوض من الإعراب ، فهذا هو الذي قاله سيبويه أيضا ، وقد قامت الدلالة على صحته ، فينبغي أن يكون قول أبي عمر صحيحا إذ هو قول سيبويه الصحيح ، وإنما الذي يلزم أبا عمر في هذا ما قدمناه من أنه جعل اسما واحدا في حال الرفع معربا لفظا ، وجعل ذلك الاسم بعينه في حال الجر والنصب معربا معنى ، فخالف بين جهتي إعراب اسم واحد من حيث لا يجوز الخلاف.

فإن قلت : فإذا كان قلب الألف ياء في الجر والنصب هو الإعراب عند أبي عمر فما الذي ينبغي أن يعتقد في النون في حال الجر والنصب ، هل هي عنده عوض من الحركة والتنوين جميعا أو عوض من التنوين وحده ؛ إذ القلب قد ناب على مذهبه عن اعتقاد النون عوضا من الحركة؟

فالجواب : أن أبا علي سوّغه أن تكون النون عوضا من الحركة والتنوين جميعا ، وإن كان يقول إن الانقلاب هو الإعراب ، قال : وذلك أنه لم تظهر إلى اللفظ حركة ، وإنما هناك قلب ، فحسن العوض من الحركة وإن قام القلب مقامها في الإعراب.

__________________

(١) المقتضب (٢ / ١٥٢).

٣٤٧

وهذا الذي رآه أبو علي حسن جدا ، ويشهد بقوته أن من رأى صرف المؤنث المعرفة إذا كان ثلاثيا ساكن الأوسط نحو «جمل» و «دعد» لخفته بسكون وسطه ، يرى مثل ذلك سواء في نحو «دار» و «نار» إذا سمّى بهما مؤنثا وإن كانت الألف تدل على أن العين محركة في الأصل ، وأصلهما «دور» و «نور» إلا أن تلك الحركة في العين لما لم تظهر إلى اللفظ لم يعتد بها ، ولم تجر الكلمة وإن كانت مقدرة حركة العين مجرى «قدم» و «فخذ» إذا صارا علمين لمؤنث في ترك صرفهما كما يترك صرفهما ، فكذلك أيضا لما كان الإعراب في رأيت الزيدين ، ومررت بالزيدين على مذهب أبي عمر معنى لا لفظا ، جاز أن يعوض من الحركة التي كان ينبغي للاسم أن يحرّك حرف إعرابه بها نون في الزيدين والعمرين ، ونظائره كثيرة ، فهذا يؤيد ما رآه أبو علي لقياس مذهب أبي عمر.

ولو أن قائلا قال : قياس قول أبي عمر أن تكون النون في تثنية المنصوب والمجرور عنده عوضا من التنوين وحده ، لأن الانقلاب قد قام مقام الحركة ، لم أر به بأسا.

فإن قلت : فإذا كان الأمر كذلك فقد يجب على قول أبي عمر أن تكون النون محذوفة مع اللام في موضع الجر والنصب إذا كانت عوضا من التنوين الذي يحذف مع اللام ، وثابتة في حال الرفع معها لأنها عوض من الحركة معها على ما بيّنّاه في حرف النون ، فكان يلزم أبا عمر أن يقول قام الزيدان ، وضربت الزيدي ، ومررت بالزيدي.

فالجواب : أن النون على هذا القول وإن كانت في حال الجر والنصب عوضا من التنوين وحده ، فإنها لم تحذف مع اللام كما يحذف التنوين معها ، من حيث كانت النون أقوى من التنوين إذ كانت ثابتة في الوصل والوقف متحركة ، والتنوين يزيله الوقف ، وهو أبدا ساكن إلا أن يقع بعده ما يحرّك له ، فلما كانت النون أقوى من التنوين لم تقو اللام على حذفها كما قويت على حذف التنوين.

وأما قول الفراء وأبي إسحاق الزيادي «إن الألف هي الإعراب» فهو أبعد الأقاويل من الصواب. قال أبو علي : يلزم من قال إن الألف هي الإعراب أن يكون الاسم متى حذفت منه الألف دالا من معنى التثنية على ما كان يدل عليه والألف فيه ؛ لأنك لم تعرض لصيغة الاسم ، وإنما حذفت إعرابه ، فسبيل معناه أن يكون قبل

٣٤٨

الحذف وبعده واحدا ، كما أن «زيدا» ونحوه متى حذفت إعرابه فمعناه الذي كان يدل عليه معربا باق فيه بعد سلب إعرابه. ويفسده أيضا شيء آخر ، وهو أن الألف لو كانت إعرابا لوجب أن تقلب الواو في «مذروان» ياء لأنها رابعة ، وقد وقعت طرفا ، والألف بعدها إعراب كالضمة في «زيد» و «بكر» ، وقد تقدم هذا ونحوه من باب «ثنايين» و «مقتوين».

وقال أبو علي : سرق الزيادي هذا القول من لفظ سيبويه «إن الألف حرف الإعراب» قال : معناه عند الزيادي أن الألف هو الحرف الذي يعرب به ، كما تقول «ضمة الإعراب» أي : الضمة التي يغرب بها.

ويدلك أيضا على أن ألف التثنية ليست إعرابا ولا دليل إعراب ، وجودك إياها في اسم العدد نحو : واحد اثنان ، فكما أن جميع أسماء الأعداد مبنية لأنها كالأصوات نحو : ثلاثه ، أربعه ، خمسه ، فكذلك «اثنان» لا إعراب فيه ، ولو قال لك إنسان : الفظ لي بالتثنية غير معربة لم تقل إلا «الزيدان» بالألف.

وكذلك أيضا أسماء الإشارة نحو هذان وهاتان ، والأسماء الموصولة نحو اللذان واللتان ، لا إعراب في شيء منها ، وهي بالألف كما ترى.

وكذلك الألف في النداء إذا قلت «يا رجلان» ألا ترى أن الكلمة غير مرفوعة ، وإنما هي في موضع المبني على الضم في نحو «يا رجل» لأن الاسم في التثنية معرفة كحاله قبل التثنية ، ألا تراك تقول : يا رجلان الظريفان ، كما تقول : يا رجل الظريف.

وإنما فعلوا هذا في هذه الأشياء التي ليست معربة ، وألحقوها أيضا بعد الألف النون لئلا يختلف حال التثنية ، فيكون مرة بالألف والنون ، ومرة بلا ألف ولا نون ، فجعلوها بلفظ واحد.

وقد تقدمت الدلالة في حرف النون على أن النون في نحو «هذان» و «اللذان» ليست بعوض من الحركة والتنوين ، إذ موجب ترك الحركة والتنوين في الواحد موجود الآن في التثنية ، وأنه إنما لحقت النون هنا لئلا يختلف الباب. وجميع ما ذكرناه في الألف من الخلاف واقع في واو الجمع نحو «الزيدون» و «العمرون». وإنما تركنا ذكر ذلك في حرف الواو لأنا كنا أجمعنا القول عليه في باب ألف التثنية.

٣٤٩

فإن سأل سائل فيما بعد ، فقال : ما بالهم ثنّوا بالألف ، وجمعوا بالواو ، وهلا عكسوا الأمر؟

فالجواب : أن التثنية أكثر من الجمع بالواو ؛ ألا ترى أن جميع ما تجوز فيه التثنية من الأسماء فتثنيته صحيحة لأن لفظ واحدها موجود فيها ، وإنما تزيد عليه حرف التثنية ، وليس كل ما يجوز جمعه يجمع بالواو ، ألا ترى أن عامة المؤنث وما لا يعقل لا يجمع بالواو ، وإنما يجمع بغير الواو ، إما بالألف والتاء ، وإما مكسّرا ، على أن ما يجمع بالواو قد يجوز تكسيره نحو : زيد وزيود ، وقيس وأقياس ، وغير ذلك ، فالتثنية إذن أصح من الجمع لأنها لا تخطئ لفظ الواحد أبدا ، فلما ساغت فيمن يعقل وما لا يعقل ، وفي المذكر والمؤنث ، وكان الجمع الصحيح إنما هو لضرب واحد من الأسماء ، كانت التثنية أوسع من الجمع الصحيح ، فجعلوا الألف الخفيفة في التثنية الكثيرة ، وجعلوا الواو الثقيلة في الجمع القليل ليقلّ في كلامهم ما يستثقلون ، ويكثر في كلامهم ما يستخفون ، فاعرف ذلك.

قال أبو علي : لما كان الجمع أقوى من التثنية لأنه يقع على أعداد مختلفة ، وكان لذلك أعم تصرفا من التثنية التي تقع لضرب واحد من العدد لا تتجاوزه ، وهو اثنان ، جعلوا الواو التي هي أقوى من الألف في الجمع الذي هو أقوى من التثنية.

وقد زيدت الألف علامة للتثنية والضمير في الفعل نحو : أخواك قاما ، وعلامة للتثنية مجردة من الضمير نحو قول الشاعر (١) :

ألفيتا عيناك عند القفا

أولى فأولى لك ذا واقيه (٢)

وقد ذكرنا هذه اللغة في حرف النون وحرف الواو. قد أخذت التثنية بحظ ، على أن فيها شيئا آخر سوى هذا.

واعلم أن الألف قد زيدت في أثناء الكلام على أنها ليست مصوغة في تلك الكلم ، وإنما زيدت لمعان حدثت وأغراض أريدت ، وهي في تقدير الانفكاك

__________________

(١) هو عمرو بن ملقط كما في النوادر (ص ٢٦٨) والعيني (٢ / ٤٥٨).

(٢) الشاهد فيه (ألفيتا) حيث زيدت الألف علامة التثنية والضمير في الفعل. إعرابه : فعل مضارع مبني للمجهول ، والتاء للتأنيث ، والألف : فاعل مبني في محل رفع

٣٥٠

والانفصال ، فمن ذلك أن العرب قد أشبعت بها الفتحة ، يقولون : بينا زيد قائم أقبل عمرو ، وإنما هي «بين» زيدت الألف في آخرها إشباعا للفتحة.

ومن أبيات الكتاب (١) :

بينا نحن نرقبه أتانا

معلّق وفضة وزناد راع (٢)

وقال الهذلي (٣) :

بينا تعنّقه الكماة وروغه

يوما أتيح له جريء سلفع (٤)

أي : بين ، وهو كثير.

ومن ذلك فيما حدثنا به أبو علي قولهم : جئ به من حيث وليسا ، أي : وليس ، فأشبعت فتحة السين إما لبيان الحركة في الوقف ، وإما كما ألحقت «بينا» في الوصل.

وأنشدنا أبو علي لابن هرمة يرثي ابنه (٥) :

فأنت من الغوائل حين ترمى

ومن ذمّ الرجال بمنتزاح (٦)

أي : بمنتزح.

وأنشدنا أيضا لعنترة (٧) :

ينباع من ذفرى غضوب جسرة

زيّافة مثل الفنيق المكدم (٨)

وقال : أراد ينبع.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) الشاهد فيه (بينا) يريد (بين) وقد زيدت الألف إشباعا للفتحة.

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) الشاهد فيه (بينا) حيث زيدت الألف لإشباع الفتحة وتقديره (بين).

(٥) تقدم تخريجه.

(٦) الشاهد فيه (بمنتزاح) حيث زيدت الألف إشباعا للفتحة وتقديره (بمنتزح).

(٧) تقدم تخريجه :

(٨) والشاهد فيه (ينباع) حيث زيدت الألف لإشباع الفتحة وتقديره (ينبع).

٣٥١

وروينا عن قطرب (١) :

عضضت بأير من أبيك وخالكا

وعضّ بنو العمار بالسّكّر الرّطب (٢)

أشبع فتحة الكاف ، فحدثت بعدها ألف.

ونحو من ذلك قولهم في الوقف عند التذكر «قالا» أي : قال زيد ، ونحوه ، فجعلوا الاستطالة بالألف دليلا على أن الكلام ناقص.

وكذلك تقول «أينا» أي : أين أنت؟ فتتذكر «أنت».

وقد زادوها أيضا عند التذكر بعد الألف ، فقالوا : «الزيدان ذهباا» إذا نووا «ذهبا أمس» أو نحوه مما يصحبه من الكلام ، وتقول على هذا «زيد رماا» أي : رمى عمرا ، ونحوه ، فتزيد في التذكر على الألف ألفا ، وتمدّه.

وكما زيدت الألف إشباعا فقد حذفت اختصارا ، من ذلك قصر الممدود نحو قوله (٣) :

 .......

وتبوّا بمكّة بطحاها (٤)

أي : بطحاءها.

ومن الصحيح ما رويناه عن قطرب (٥) :

ألا لا بارك الله في سهيل

إذا ما الله بارك في الرجال (٦)

__________________

(١) لم أقف عليه.

(٢) عضضت : تمسكت. اللسان (٧ / ١٨٨). السكر : كل مسكر يغيب العقل. ويعني أنه تمسك بفعل وخصال أهلي وتمسك بنو عمار بكل مسكر من الخمر. والشاهد فيه (خالكا) حيث أشبع فتحة الكاف فجاء بعدها ألفا.

(٣) هو العرجى كما في الأغاني (١ / ٣٧٢).

(٤) الشاهد فيه (بطحاها) حيث حذفت الألف اختصار ، فقصر الممدود وأصله (بطحاءها).

(٥) البيت في الخصائص (٣ / ١٣٤) والمحتسب (١ / ١٨١).

(٦) سهيل : اسم رجل. لسان العرب (١١ / ٣٥٠) مادة / سهل. الشاهد فيه (سهيل) حيث حذفت الألف اختصارا فتقديره (سهيلاء).

٣٥٢

وقال الآخر (١) :

أقبل سيل جاء من عند الله

يحرد حرد الجنّة المغلّه (٢)

وعلى هذا بيت الكتاب (٣) :

أوالفا مكّة من ورق الحمي (٤)

أراد : الحمام ، فحذف الألف ، وأبدل الميم ياء ، هذا أحسن ما قيل فيه (٥).

ومن ذلك لحاقها في الوقف لبيان الحركة كما تبيّن الحركة بالهاء ، وذلك قولهم في الوصل «أن فعلت» فإذا وقفت قلت «أنا». وكذلك «حيّهلا».

ومن ذلك لحاقها فصلا بين النونات في نحو قولك للنساء : اضربنانّ يا نسوة ، واشتمنانّ بكرا. وأصل هذا أن تدخل نون التوكيد وهي مشددة على نون جماعة المؤنث فتجتمع ثلاث نونات ، فكان يلزم أن يقال : «اضربننّ زيدا» فكرهوا اجتماعهنّ ، ففصلوا بينهن بالألف. ومن كلام أبي مهديّة «اخسأنانّ عنّي» (٦).

ودار بيني وبين المتنبي في قوله (٧) :

 .....

 ... وقلنا للسيوف : هلمّنّا (٨)

__________________

(١) نسب هذا الرجز لقطرب في الكامل (١ / ٥٣) ، وذكره صاحب اللسان في مادة (حرد) (٣ / ١٤٥) دون أن ينسبه.

(٢) الحرد : الإسراع في السير. المغلة : التي لها غلة. اللسان (١١ / ٥٠٤) مادة / غلل المعنى : أن السيل جاء بالخير من عند الله يسرع بغلاته الوفيرة.

(٣) البيت للعجاج ، وهو في ديوانه (ص ٢٩٥) ، والكتاب (١ / ٥٦٢٨).

(٤) الشاهد فيه (الحمى) حيث حذفت الألف وأبدلت الميم ياء يريد (الحمام).

(٥) انظر / المسائل العسكريات (ص ٢٧) والعيني (٣ / ٥٥٧ ـ ٥٥٨).

(٦) اخسأنان عني : قال الأصمعي : يعني الشياطين. لسان العرب (١ / ٦٥) مادة / خسأ.

(٧) هذه قطعة من بيت في ديوانه (٤ / ١٦٦) وهو من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة.

والبيت بتمامه :

قصدنا له قصد الحبيب لقاؤه

إلينا ، وقلنا للسيوف : هلمنا

(٨) الشاهد فيه (هلمنا) القياس أن نقول (هلممنان) حيث أكد الفعل بالنون ثم فصل بين النون بالألف

٣٥٣

كلام فيه طول ، وأنكرت ضمّ الميم هنا من طريق القياس إلى أن قال لي : فكيف كان ينبغي أن يكون إذا أكدته هنا بالنون؟ فقلت : كان قياسه أن تقول : هلممنانّ. فقال : هذا طويل. فقلت : هذا جواب مسألتك ، فأما طوله وقصره فشيء غير ما نحن فيه.

ومن ذلك أن تدخل فاصلة بين الهمزتين المحققتين استكراها لاجتماعهما محققتين ، قال ذو الرمة (١) :

آأن ترسّمت من خرقاء منزلة

ماء الصبابة من عينيك مسجوم (٢)

وقال الآخر (٣) :

تطاللت ، فاستشرفته ، فرأيته

فقلت له : آأنت زيد الأراقم (٤)

وقرأت على أبي علي في كتاب الهمز عن أبي زيد (٥) :

حزقّ إذا ما القوم أبدوا فكاهة

تفكّر آإياه يعنون أم قردا (٦)

وقرأ بعضهم : آئذا (٧) وآئنا (٨) (الرعد : ٢ ، ٣) وآأنت قلت للناس (المائدة : ١١٦) (٩).

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) الشاهد فيه (آأن) حيث جاءت الألف فاصلة بين الهمزتين.

(٣) نسب البيت في اللسان (حرف الهمزة) (١ / ١١) إلى ذي الرمة.

(٤) الشاهد فيه (آأنت ...) حيث فصل بين الهمزتين بزيادة الألف.

(٥) البيت ليس في مطبوعة كتاب الهمز ، وقد نسب في شرح شواهد شرح الشافية (ص ٣٤٩ ، ٣٥٠) لجامع بن عمرو بن مرخبه الكلبي ، ونسب في اللسان (حزق) (١٠ / ٤٧) لرجل من بني كلاب وهو بغير نسب في شرح المفصل (٩ / ١١٨).

(٦) الحزق : السيء الخلق البخيل ، وقيل : القصير. لسان العرب (١٠ / ٤٧) مادة / حزق. والشاهد فيه (آإياه ...) حيث فصل بين الهمزتين بألف.

(٧) آئذا : القراءة بهمزتين محققتين.

(٨) (آتِنا : *) بينهما مدة مروية عن ابن عامر. السبعة (ص ٣٥٧ ـ ٣٥٨). وقرأ بها عبد الله بن أبي إسحاق (اللسان حرف الهمزة) (١ / ١١) وهذه لغة ناس من العرب وهم أهل التحقيق. الكتاب (٣ / ٥٤٩).

(٩) آأنت قلت للناس : الشاهد فيه (آأنت) حيث فصل بين الهمزتين بألف.

٣٥٤

وقال ذو الرمة أيضا (١) :

هيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النّقا آأنت أم أمّ سالم؟ (٢)

أراد : أأنت ، فثقل عليه تحقيق الهمزتين ، ففصل بينهما بالألف ، وكذلك الباقي.

ومن ذلك الألف التي تلحق أواخر الأسماء الموصولة وأسماء الإشارة إذا حقّرت عوضا من ضمة أول الحرف ، وذلك قولهم في «ذا» : «ذيّا» وفي «تا» : «تيّا» وفي «ذاك» : «ذيّاك» وفي «ذلك» : «ذيّالك» وفي «الذي» : «اللّذيّا» وفي «التي» : «اللّتيّا» وفي «هؤلاء» مقصورا : «هؤليّا» وفي «أولاء» ممدودا : «أليّاء». وهذه مسألة اعترضت ههنا ، ونحن نوضحها.

اعلم أن «أولاء» وزنه إذا مثّل «فعال» كغراب ، وكان حكمه إذا حقرته على مثال تحقير الأسماء المتمكنة أن تقول : هذا أليّئ ، ورأيت أليّئا ، ومررت بأليّئ ، فلما صار تقديره «أليّئ» أرادوا أن يزيدوا في آخره الألف التي تكون عوضا من ضمة أوله ، كما قالوا في «ذا» : «ذيّا» وفي «تا» : «تيّا» ، فلو فعلوا ذلك لوجب أن يقولوا «أليّئا» فيصير بعد التحقير مقصورا ، وقد كان قبل التحقير ممدودا ، فأرادوا أن يقرّوه بعد التحقير على ما كان عليه قبل التحقير من مدّه ، فزادوا الألف قبل الهمزة ، فالألف الآن التي قبل الهمزة في «أليّاء» ليست بتلك التي كانت قبلها في «أولاء» ، إنما هذه في «أليّاء» هي الألف التي كان سبيلها أن تلحق آخرا ، فقدمت كما ذكرنا.

وأما ألف «أولاء» فقد قلبت ياء كما تقلب ألف «غلام» إذا قلت «غليّم» وهي الياء الثانية في «أليّاء» والياء الأولى هي ياء التحقير.

فإن قلت : فإن الألف إنما تلحق آخرا في تحقير هذه الأسماء ، لأنها جعلت عوضا من ضمة أوائلها ، وأنت في «أليّاء» قد ضممت أول الاسم ، فلم جئت بالألف في آخره؟

__________________

(١) ديوانه (ص ٧٦٧) ، والكتاب (٢ / ١٦٨) ، ومعاني القرآن للأخفش (ص ٣٠).

(٢) الوعساء وجلاجل : موضعان. النقا : الكثيب من الرمل. والشاهد فيه (آأنت) فثقل تحقيق الهمزتين ففصل بينهما بالألف.

٣٥٥

فالجواب : أن ضمة أول «أليّاء» ليست مجتلبة للتحقير بمنزلة ضمة كاف «كتيّب» وحاء «حسيّب» ، وإنما هي الضمة التي كانت موجودة في التكبير في قولك «أولاء» ، يدلك على صحة ذلك تركهم أول ما هو مثله في الإشارة واستحقاق البناء بحاله غير مضموم ، وذلك قولك : «ذيّا» و «تيّا» ألا ترى أن الذال والتاء مفتوحتان كما كانتا قبل التحقير في «ذا» و «تا» فكذلك ضمة همزة «أليّاء» هي ضمة الهمزة في «أولاء» ، فلما كان أول الكلمة باقيا بحاله غير مجتلبة له ضمة التحقير عوّض الألف من آخره ، فأما ضمة عين «غريّب» و «غليّم» فضمة التحقير لا الضمة التي كانت في «غراب» و «غلام».

ألا تراك تقول «كتاب» و «غزال» فتجد الأولين مفتوحا ومكسورا ، فإذا حقرت ضممت ، فقلت «كتيّب» و «غزيّل» فقد بان ذلك. وكذلك ضمة قاف «قفيل» إنما هي ضمة التحقير ، وليست بضمة القاف من «قفل». يدلك على ذلك ضمّك ما أوله مفتوح أو مكسور ، وهو «كعب» و «حلس» (١) إذا قلت «كعيب» و «حليس» فالضمتان وإن اتفقتا في اللفظ فإنهما مختلفتان في المعنى ، وغير منكر أن يتفق اللفظان من أصلين مختلفين ؛ ألا ترى أن من رخم «منصورا» في قول من قال «يا حار» قال «يا منص» فبقّى الصاد مضمومة كما بقّى الراء مكسورة ، ومن قال «يا حار» فاجتلب للنداء ضمة قال أيضا : «يا منص» ، فحذف ضمة الصاد كما حذف كسرة الراء ، واجتلب للصاد ضمة النداء كما اجتلب للراء ضمة النداء ، إلا أن لفظ «يا منص» في الوجهين واحد ، والمعنيان متباينان.

وكذلك قول سيبويه (٢) في «الفلك» إذا جمع على «فلك» فضمة الفاء من الواحد بمنزلة ضمة باء «برد» وخاء «خرج» (٣) ، وضمة الفاء من الجمع بمنزلة ضمة حاء «حمر» وصاد «صفر» جمع «أحمر» و «أصفر» ، وهذا أوسع من أن أتحجّره ، ولكني قد رسمت طريقه وأمثلته.

ومن ذلك لحاقها للندبة نحو «وا غلاماه» و «وا زيداه» و «وا أمير المؤمنيناه».

__________________

(١) حلس : كل ما ولي ظهر الدابة تحت الرحل ، والقتب ، والسرج. اللسان (٦ / ٥٤) مادة / حلس

(٢) الكتاب (٢ / ١٨١).

(٣) خرج : وعاء من شعر أو جلد ذو عدلين ، يوضع على ظهر الدابة لوضع الأمتعة فيه.

٣٥٦

ومن ذلك زيادة ألف للإطلاق في نحو (١) :

أقلّي اللوم عاذل والعتابا

 ....... (٢)

و (٣) :

يا دار عمرة من محتلّها الجرعا

 ...... (٤)

وقد ذكرنا ذلك بما فيه في هذا الكتاب وغيره. ونحو منه لحاقها في أواخر الآي نحو (الظُّنُونَا) (الأحزاب : ١٠) و (السَّبِيلَا) (الأحزاب : ٦٧) و (قَوارِيرَا) (الإنسان : ١٥) وقد ذكرناه أيضا.

ومن ذلك زيادتها بعد هاء الضمير علامة للتأنيث ، وذلك نحو : «رأيتها» و «مررت بها» فالاسم هو الهاء ، وأما الألف فزيدت علما للتأنيث.

ومن حذف الواو في نحو قوله (٥) :

له زجل كأنّه صوت حاد

إذا طلب الوسيقة أو زمير (٦)

وقول الآخر (٧) :

فظلت لدى البيت العتيق أخيله

ومطواي مشتاقان له أرقان (٨)

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) الشاهد فيه (العتابا) حيث زيدت الألف للإطلاق.

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) الشاهد فيه (الجرعا) حيث زيدت الألف للإطلاق.

(٥) البيت للشماخ يصف حمار الوحش وهو في ديوانه (ص ١٥٥).

(٦) الزجل : رفع الصوت الطرب. الوسيقة : من الإبل والحمير : كالرفقة من الناس. الزمير : صوت المزمار. لسان العرب (٤ / ٣٢٧) مادة / زمر.

(٧) البيت من قصيدة ليعلى الأحولى الأزدي. الخزانة (١ / ٤٠١ ـ ٤٠٥). وقال البغدادي في الخزانة (١ / ٤٠٥) : قال الشيباني : «ويقال إنها لعمرو بن أبي عمارة الأزدي من بني خنيس ، ويقال : إنها لجواس بن حيان من أزد عمان». انظر المقتضب (١ / ٣٩ ، ٢٦٧).

(٨) الشاهد فيه (مشتاقان) حيث زيدت الألف فأصله (مشتقان).

٣٥٧

وقول الآخر رويناه عن قطرب (١) :

وأشرب الماء ما بي نحوه عطش

إلا لأنّ عيونه سيل واديها (٢)

وغير ذلك من هذه الأبيات ، لم يقل في نحو «رأيتها» و «نظرت إليها» إلا بإثبات الألف ، وذلك لخفة الألف وثقل الواو ، إلا أنّا قد روينا عن قطرب بيتا حذفت فيه هذه الألف تشبيها بالواو والياء لما بينها وبينهما من الشبه ، وهو قوله (٣) :

أعلقت بالذئب حبلا ثم قلت له :

الحق بأهلك ، واسلم أيّها الذيب (٤)

إمّا تقود به شاة فتأكلها

أو أن تبيعه في بعض الأراكيب (٥)

يريد : تبيعها ، فحذف الألف ، وهذا شاذ. ونحو منه بيت أنشدناه أبو علي عن أبي الحسن ، وهو (٦) :

فلست بمدرك ما فات منّي

ب «لهف» ولا بـ «ليت» ولا لو انّي (٧)

يريد : بلهفى.

وقرأ بعضهم : يا أبت (يوسف : ٤) (٨) بفتح التاء ، يريد : يا أبتاه (٩).

__________________

(١) البيت في الخصائص (١ / ١٢٨ ، ٣٧١) والمحتسب (١ / ٢٤٤).

(٢) يعني يرتوي مما به من عطش من عيون الماء السائلة في الوادي. الشاهد فيه (واديها) حيث زيدت الألف بعد هاء الضمير للدلالة على التأنيث.

(٣) البيتان في أخبار أبي القاسم الزجاجي (ص ١٥٢) ، واللسان (ركب) (١ / ٤٣٠).

(٤) الشاهد فيه (أيها) حيث زيدت الألف بعد الضمير للدلالة على التأنيث.

(٥) الشاهد فيه (تبيعه) يريد (تبيعها) حيث حذف الألف الدالة على التأنيث. وهذا شاذ لا يقاس عليه.

(٦) تقدم تخريجه ، وقد أنشده أبو علي عن أبي الحسن في المسائل العسكريات (ص ٣٥).

(٧) يقول الشاعر : أنه لا يتحسر على ما فات منه ولم يدركه بقوله : (يا ليت أو لو أني فعلت كذا لكان كذا). والشاهد فيه (لهف) يريد (لهفي).

(٨) يا أبت هذه قراءة ابن عامر وحده في جميع القرآن ، وقرأ بقية السبعة بكسر التاء. السبعة (ص ٣٤٤). وقرأ بفتح التاء من غير السبعة الأعرج وأبو جعفر. البحر المحيط (٦ / ١٩٣).

(٩) انظر المسائل البغداديات (ص ٥٠٥ ـ ٥٠٦).

٣٥٨

وأنشد سيبويه (١) :

وقبيل من لكيز شاهد

رهط مرجوم ورهط ابن المعلّ (٢)

يريد : ابن المعلّى ، فحذف الألف ، على أن هذا شاذ قليل النظير. فهذه وجوه زيادة الألف في كلام العرب ، فاعرفها.

واعلم أن الألف متى حركت انقلبت همزة ، وذلك لضعفها عن تحمل الحركة ، وقد ذكرنا ذلك في باب الهمزة في قولنا : «شأبّة» و «دأبّة» وفي القرآن (وَلَا الضَّالِّينَ) (الفتحة : ٧) و (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ)(٣) (الرحمن : ٣٩) ونحو ذلك مما أثبتناه هناك.

* * *

__________________

(١) البيت للبيد وهو في ديوانه (ص ١٩٩) والكتاب (٢ / ٢٩١).

(٢) البيت سبق شرحه والتعليق عليه.

(٣) الشاهد فيه (جأنّ) حيث حركت الألف فانقلبت همزة.

٣٥٩
٣٦٠