الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٦٤

الشّاتم القاتل محبّك وادّك قاصدك معجبا خالدا في داره يوم عيد» ، فترفع الضارب بالفعل والشاتم نعته والقاتل نعت ثان ومحبّك نصب بالقاتل ووادّك نعته وقاصدك نعت ثالث وتنصب معجبا بضرب وخالدا بمعجب ، ولك رفع قاصدك بالابتداء وخبره محذوف ، أو هو خبر محذوف المبتدأ ونصبه بأعني وعلى الحال من القاتل أو من الضارب أو لوادّك ، فهذه سبعة لك مع كل واحد منها نصب وادّك بأعني أو الحال للقاتل أو الضارب أو مفعولا ، ولك رفع بأنّه خبر وبالعكس ، فذلك (٤٢) لك في محبّك النصب بالقاتل وبأعني والرفع بالابتداء وبالخبر ، فذلك (١٦٨) لك مع كل منها نصب القاتل بالشاتم وبأعني ورفعه بالابتداء وبالخبر وخفضه تشبيها بالحسن الوجه ورفعه بنعت ما قبله فذلك (١٠٠٨) لك مع كل منها نصب الشاتم بالضارب وبأعني ورفعه بالابتداء وبالخبر وجرّه تشبيها بالحسن الوجه ، ورفعه بالنعت (٦٠٤٨) مع كل منها نصب معجبا بالحال لقاصدك وبالحال للكاف من قاصدك وبالحال من الضارب ونعتا لقاصدك ونصبه بضرب (٣٠٢٤٠) مع كل منها نصب خالدا بضرب ورفعه بضرب وبنصب الضارب ولك جعل خالد بدلا من الضارب ولك عطفه عليه عطف البيان ونصبه بأعني ورفعه بالابتداء وبالخبر ونصبه بمعجب (٢٧٢١٦٠) مع كل وجه منها أن تجعل «داره» متعلقا بالضارب أو بمحبك (٥٤٤٣٢٠) وبوادّك أو بقاصدك أو بخالد ، وكذلك القول في «يوم عيد» فيتضاعف ذلك إلى العدد المذكور.

الكلام في قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ :) قال ابن الصائغ في (تذكرته) :

سئل العلامة مجد الدين الرّوذ راوري عن قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] ، فتكلم عليه ابن مالك فامتعض الروذّ راوري لكلامه ، وطعن في كلام ابن مالك ، وهذا تلخيص كلامهما مع حذف ما لا تعلّق له بالمسألة من الطّعن والإزراء.

قال الشيخ مجد الدين : استشكل الأئمّة تذكير القريب مع تأنيث الرحمة ، وتخيّل الفضلاء من قدمائهم في الجواب وجهين :

أحدهما : أنّ الرحمة بمعنى الإحسان ، وهو مذكر.

الثاني : أنّ الرحمة مصدر ، والمصادر لا تجمع ولا تؤنّث ، هذان ذكرهما الجوهري والزمخشري في كتابيهما.

وقال الفراء : القريب إذا كان للمكان وكان ظرفا كان بلا هاء ، وإذا ضمّن معنى

١٤١

النسبة والقرابة دخلت الهاء ، تقول في الأول : كانت فلانة قريبا مني ، وفي الثاني : قريبتي ، قال : وهذا كله تصرّف في كلام الله تعالى بمجرّد الظن ، وهلّا كانوا كالأصمعي ، فإنه أعلم المتأخرين بكلام العرب ، وكان إذا سئل عن شيء من كلام الله تعالى سكت ، وقال : لو أنّه غير كلام الله تعالى تكلمت فيه ، والقرآن إنّما يفهم من تحقيق كلام العرب وتتبّع أشعارهم ، فقد كان عكرمة وهو تلميذ ابن عباس إذا سئل عن شيء من مشكل القرآن يفسره ويستدل عليه ببيت من شعر العرب ، ثم يقول : الشعر ديوان العرب.

والجوابّ الحق : أن القريب على وزن فعيل ، والفعيل والفعول يستوي فيهما المذكر والمؤنث حقيقيا كان أو غير حقيقي ، قال امرؤ القيس : [المتقارب]

٤٤٢ ـ برهرهة رؤدة رخصة

كخرعوبة البانة المنفطر

فتور القيام قطيع الكلا

م تفترّ عن ذي غروب خصر

وقال في لفظ القريب : [الطويل]

٤٤٣ ـ له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم

قريب ولا البسباسة بنة يشكرا

وقال جرير : [الوافر]

٤٤٤ ـ أتنفعك الحياة وأمّ عمرو

قريب لا تزور ولا تزار

وأغرب من ذا أنّ لفظة واحدة قد اجتمع فيها التأنيث الحقيقي وغير الحقيقي ، وهي لفظة (هنّ) ، ومع ذلك حمل عليها فعيل بلا هاء ، وهي في قول جميل : [الطويل]

٤٤٥ ـ كأن لم نحارب يا بثين لو انّها

تكشّف غمّاها وأنت صديق

وقال جرير : [الطويل]

٤٤٦ ـ دعون النّوى ثم ارتمين قلوبنا

بأسهم أعداء وهنّ صديق

__________________

٤٤٢ ـ البيتان في ديوانه (ص ١٥٧) ، والبيت الأول له في لسان العرب (خرعب) و (بون) و (بره) ، وتهذيب اللغة (٣ / ٢٧٥) ، والمخصص (١٠ / ٢١٤) ، وديوان الأدب (٢ / ٨٧) ، وتاج العروس (خرعب) و (بون) و (بره) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة.

٤٤٣ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ٦٨) ، ولسان العرب (قرب).

٤٤٤ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ١٣٤).

٤٤٥ ـ الشاهد لجميل بثينة في ديوانه (ص ١٤٤) ، ولسان العرب (صدق) ، والأغاني (٨ / ١٢٤) ، والحماسة الشجرية (١ / ٥١٢) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ١٣٤٧) ، والكامل (ص ٩٦).

٤٤٦ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٣٧٢) ، ولسان العرب (صدق) ، ولذي الرمة في ملحق ديوانه (ص ١٨٩٣) ، والحماسة البصرية (٢ / ١٧٧) ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد (ص ١٨٤) ، والخصائص (٢ / ٤١٢).

١٤٢

فلو عرف القوم بعض هذه الاستشهادات لما وقعوا في ذلك.

وقال العلامة جمال الدين بن مالك : فعيل وفعول مشتبهان في الوزن والدّلالة على المبالغة والوقوع بمعنى فاعل وبمعنى مفعول ، إلّا أنّ فعيلا أخفّ من فعول ، فلذلك فاقه بأشياء منها :

كثرة الاستغناء به عن فاعل في المضاعف ، كجليل وخفيف وصحيح وعزيز وذليل ، وإنّما حقّ هذه الصفات أن تكون على زنة فاعل لأنّها من فعل يفعل ، فاستغني فيها بفعيل ولا حظّ لفعول في ذلك.

ومنها اطّراد بنائه من فعل كشريف وظريف وكريم ، وليس لفعول فعل يطّرد بناؤه منه. ومنها كثرة مجيئه في صفات الله تعالى وأسمائه ، كسميع وبصير وعليّ وغنيّ ورقيب ، ولم يجئ منها فعول إلّا رؤوف وودود وعفوّ وغفور وشكور ، وإذا ثبت أنه فائق لفعول في الاستعمال فلا يليق أن يكون له تبعا ، بل الأولى أن يكون الأمر بالعكس ، أو ينفرد كلّ منهما بحكم هو به أولى ، وهذا هو الواقع ، فإنّهم خصّوا فعولا المفهم معنى فاعل بأن لا تلحقه التاء الفارقة بين المذكر والمؤنّث وأن يشتركا فيه ، فيقال : رجل صبور وامرأة صبور ، وكذا شكور ونحوهما إلّا ما شذّ من عدوّ وعدوّة ، فإن قصد بالتاء المبالغة لحقت المذكر والمؤنث ، فقيل : رجل ملولة وفروقة ، وامرأة ملولة وفروقة ، ولا يقدم على هذا الوزن إلا بنقل ، وإن لم يقصد بهذا الوزن معنى فاعل لحقته التاء أيضا ، كحلوبة وركوبة ورغوثة ، وليس في شيء من هذا إلّا للنقل ، فلمّا كان لفعيل على فعول من المزية ما ذرته استحقّ أن يخصّ بأحوط الاستعمالين ، وهو التمييز بين المذكر والمؤنث ، كجميل وجميلة وصبيح وصبيحة ووضيء ووضيئة ونحوه ، وإن كان فعيل بمعنى مفعول وصحب الموصوف استوى فيه المذكر والمؤنث ، كرجل قتيل وامرأة قتيل ، وإن لم يصحب الموصوف وقصد تأنيثه أنث نحو : رأيت قتيلة بني فلان ، هذا هو المعروف ، وما ورد بخلاف ذلك عدّ نادرا ، أو تلطّف في توجيهه بما يلحقه بالنظائر ويبعده عن الشذوذ ، فمن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ،) ومنه ستة أقوال :

أحدها : أنّ فعيلا وإن كان بمعنى فاعل فقد جرى مجرى فعيل الذي بمعنى مفعول في عدم لحاق التاء ، كما جرى هو مجراه في لحاق التاء حين قالوا : خصلة حميدة وفعلة ذميمة بمعنى محمودة ومذمومة ، فحمل على جميلة وقبيحة في لحاق التاء ، وكذلك قريب في الآية الكريمة حمل على «عين كحيل» و «كف خضيب» وأشباههما في الخلو من التاء ، ونظير ذلك : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٨].

١٤٣

الثاني : أنّه من باب تأوّل المؤنث بمذكر موافق في المعنى ، كقول الشاعر : [الطويل]

٤٤٧ ـ أرى رجلا منهم أسيفا كأنّما

يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضّبا

فتأوّل كفّا وهو مؤنث بعضو فذكر صفته لذلك ، وكذلك الرحمة متأولة بالإحسان فذكر خبرها ، وتأوّلها بالإحسان أولى من تأوّل الكفّ بالعضو لوجهين :

أحدهما : أنّ الرحمة معنى قائم بالراحم ، والإحسان برّ الراحم المرحوم ومعنى البرّ في القريب أظهر منه في الرحمة.

الثاني : أنّ ملاحظة الإحسان في الرحمة الموصوفة بالقرب من المحسنين مقابلة للإحسان الذي تضمّنه ذكر المحسنين فاعتبارها يزيد المعنى قوة ، فصحّت الأولويّة ، ومن تأوّل المؤنث بمذكر ما أنشده الفراء : [المتقارب]

٤٤٨ ـ وقائع في مضر تسعة

وفي وائل كانت العاشره

فتأوّل الوقائع بأيام الحرب ، فلذلك ذكر العدد الجاري عليها فقال : تسعة ، وإذا جاز تأوّل المذكر بمؤنث في قول من قال : «جاءته كتابي فاحتقرها» أي : صحيفتي ، وفي قول الشاعر (٣) : [البسيط]

يا أيّها الرّاكب المزجي مطيّته

سائل بني أسد ما هذه الصّوت

أي : الصيحة مع ما في ذلك من حمل أصل على فرع ، فلأن يجوز تأوّل مؤنث بمذكر لكونه حمل فرع على أصل أحقّ وأولى.

الثالث : أن يكون من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف فكأنه قال : إن مكان رحمة الله قريب ، كما قال حسان : [الكامل]

٤٤٩ ـ يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل

__________________

٤٤٧ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١٦٥) ، وجمهرة اللغة (ص ٢٩١) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٤٥٨) ، ولسان العرب (خضب) و (أسف) و (كفف) ، و (بكى) ، وبلا نسبة في الإنصاف (ص ٧٧٦) ، وخزانة الأدب (٧ / ٥) ، ومجالس ثعلب (ص ٤٧).

٤٤٨ ـ الشاهد بلا نسبة في الإنصاف (٢ / ٧٦٩) ، والدرر (٦ / ١٩٦) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٥٢٠) ، ولسان العرب (يوم) ، ومجالس ثعلب (٢ / ٤٩٠) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٤٩).

(١) مرّ الشاهد رقم (١٢٩).

٤٤٩ ـ الشاهد لحسان بن ثابت في ديوانه (ص ١٢٢) ، وجمهرة اللغة (ص ٣١٢) ، وخزانة الأدب (٤ / ٣٨١) ، والدرر (٥ / ٣٨) ، وشرح المفصل (٣ / ٢٥) ، ولسان العرب (برد) و (برص) و (صفق) ، ومعجم ما استعجم (ص ٢٤٠) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (١ / ٤٥١) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣٢٤) ، وشرح المفصّل (٦ / ١٣٣) ، وهمع الهوامع (٢ / ٥١).

١٤٤

ومثله قوله صلّى الله عليه وسلّم مشيرا إلى الذهب والحرير : «هذان حرام على ذكور أمتي» (١) أي : استعمال هذين.

الرابع : أن يكون من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، أي : إن رحمة الله شيء قريب أو لطف أو برّ أو إحسان ، وحذف الموصوف سائغ ، من ذلك قوله (٢) : [السريع]

قامت تبكّيه على قبره

من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الحرب ذا غربة

قد خاب من ليس له ناصر

أي : شخصا أو إنسانا ذا غربة ، ومثله قول الآخر : [الطويل]

٤٥٠ ـ فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني

فراقك لم أبخل وأنت صديق

أي : شخص صديق ، وعلى ذلك حمل سيبويه قولهم : حائض وطامث ، قال : كأنهم قالوا : شيء حائض.

الخامس : أن يكون من باب اكتساب المضاف حكم المضاف إليه إذا كان صالحا للحذف والاستغناء عنه بالثاني ، والوجه في هذا تأنيث المذكر لإضافته إلى مؤنث على الوجه المذكور كقوله : [الطويل]

٤٥١ ـ مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النّواسم

ومثله : [الكامل]

٤٥٢ ـ بغي النّفوس معيدة نعماءها

نقما وإن عمهت وطال غرورها

وإذ كانت الإضافة تعطي المضاف تأنيثا لم يكن فيه على الوجه المذكور فلأن تعطيه تذكيرا لم يكن له كما في الآية الكريمة أحق وأولى ، لأن التذكير أصل فالرجوع إليه أسهل من الخروج عنه.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه في سننه رقم (٣٥٩٥) ، وأبو داود في سننه (٤٠٥٧).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٤٢٧).

٤٥٠ ـ الشاهد بلا نسبة في الأزهيّة (ص ٦٢) ، والإنصاف (١ / ٢٠٥) ، والجنى الداني (ص ٢١٨) ، وخزانة الأدب (٥ / ٢٤٦) ، والدرر (٢ / ١٩٨) ، ورصف المباني (ص ١١٥) ، وشرح الأشموني (١ / ١٤٦) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٠٥) ، وشرح ابن عقيل (ص ١٩٣) ، وشرح المفصل (٨ / ٧١) ، ولسان العرب (حرر) ، و (صدق) ، و (أنن) ، ومغني اللبيب (١ / ٣١) ، والمقاصد النحوية (١ / ٣١١) ، والمنصف (٣ / ١٢٨) ، وهمع الهوامع (١ / ١٤٣).

٤٥١ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ٧٥٤) ، وخزانة الأدب (٤ / ٢٢٥) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٥٨) ، والمحتسب (١ / ٢٣٧) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٣٦٧) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٤١٧) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣١٠) ، وشرح ابن عقيل (ص ٣٨٠) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٨٣٨) ، ولسان العرب (عرد) و (صدر) ، و (قبل) ، و (سفه) ، والمقتضب (٤ / ١٩٧).

٤٥٢ ـ لم أجده في أيّ من المصادر التي بين يديّ.

١٤٥

السادس : أن يكون من باب الاستغناء بأحد المذكورين لكون الآخر تبعا له أو معنى من معانيه ، ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] أي : فظلت أعناقهم خاضعة ، وظلّوا لها خاضعين ، فهذا منتهى ما حضرني.

وبلغني أنّ بعض الفقهاء زعم أنّ إخلاء (قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) المشار إليه من التاء لم يكن إلّا لأجل أنّ فعيلا يجري مجرى فعول في الوقوع على المذكر والمؤنث بلفظ واحد ، وضعف هذا القول بيّن وتزييفه هيّن ، وذلك أنّ قائل هذا القول إمّا أن يريد أنّ فعيلا في هذا الموضع وغيره يستحقّ ما يستحقّه فعول من الجري على المذكر والمؤنث بلفظ واحد ، وإمّا أن يريد أنّ فعيلا في هذا الموضع خاصة محمول على فعول.

فالأول : مردود لإجماع أهل العربية على التزام التاء في ظريفة وشريفة وأشباههما ، ولذلك احتاج علماؤهم إلى أن يقولوا في قوله تعالى : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم : ٢٠] : إن أصله بغوي على فعول ، فلذلك لم تلحقه التاء.

والثاني : أيضا مردود لأنه قد تقدّم التنبيه على ما لفعيل على فعول من المزايا ، ولأنه لا يليق أن تبعا لفعول ، بل الأولى أن يكون أمرهما بالعكس ، ولأنّ ذلك القائل حمل فعيلا على فعول ، وهما مختلفان لفظا ومعنى ، أمّا اللفظ فظاهر ، وأمّا المعنى فلأنّ قريبا لا مبالغة فيه لأنه يوصف به كلّ ذي قرب وإن قلّ ، وفعول المشار إليه لا بدّ فيه من مبالغة ، وأيضا فإنّ الدّالّ على المبالغة لا بدّ أن يكون له بنية لا مبالغة فيها ، ثم يقصد به المبالغة فتغيّر بنيته كضارب وضروب وعالم وعليم ، وقريب ليس كذلك فلا مبالغة فيه ، والظاهر أنّ ذلك القائل إنّما أراد حمل فعيل على فعول مطلقا واستدل على ذلك بقول الشاعر : [المتقارب]

٤٥٣ ـ فتور القيام قطيع الكلا

م تفترّ عن ذي غروب خصر

والاحتجاج بهذا ساقط من وجوه :

أحدها : أنه نادر والنادر لا حكم له ، ولو كثرت صوره وجاء على الأصل كاستحوذ واعورّ واستنوق البعير ، فما ندر ولم تكثر صوره ولا جاء على الأصل أحق.

الثاني : أن يكون قطيع الكلام أصله قطيعة الكلام ثم حذفت التاء للإضافة ، فإنها مسوّغة لحذفها عند الفراء وغيره من العلماء ، وحمل على ذلك قوله تعالى : (وَإِقامَ الصَّلاةِ) [الأنبياء : ٧٣] ومثل ذلك قوله : [البسيط]

__________________

٤٥٣ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ١٥٧).

١٤٦

٤٥٤ ـ إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا

وأخلفوك عد الأمر الّذي وعدوا

وعلى هذه اللغة قرأ بعض القراء : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) [التوبة : ٤٦] أراد عدته.

الثالث : أن يكون فعيل في قوله : قطيع الكلام بمعنى مفعول لأنّ صاحب المحكم حكى أنه يقال : «قطعه وأقطعه إذا بكّته وقطع هو وقطع فهو قطيع القول» ، فقطيع على هذا بمعنى مقطوع أي : مبكّت ، فحذف التاء على هذا التوجيه ليس مخالفا للقياس ، وإن جعل «قطيع» مبنيا على قطع كسريع من سرع فحقه على ذلك أن تلحقه التاء عند جريه على المؤنث ، إلّا أنّه شبّه بفعيل الذي بمعنى مفعول فأجري مجراه والله أعلم.

فأجاب الشيخ مجد الدين وقال : حقّ على من مارس شيئا من العلم إذا سئل عن مشكلاته أن يتجنّب في جوابه الإيجاز المخلّ والتطويل الممل ، ويتوقى الزوائد التي لا يحتاج إليها ، فإنّ العالم من إذا سئل عن عويص أوضحه بأوجز بيان من غير زيادة ولا نقصان ، وقد سئل العبد الضعيف عبد المجيد بن أبي الفرج الرّوذراوري عن هذه الآية بناء على استغراب من قصر في إتقان كلام العرب باعه ، فاستبعد حمل المذكر على المؤنث فكان جوابه أنّ القرآن المجيد عربيّ ، وإذا أطلق فصحاء العرب لفظ القريب على المؤنث الحقيقي فكيف لا يسوغ إطلاقه على غير الحقيقي؟ قال امرؤ القيس (٢) : [الطويل]

له الويل إن أمسى [ولا أمّ هاشم

قريب ولا البسباسة بنة يشكرا]

وقال جرير (٣) : [الوافر]

أتنفعك الحياة [وأم عمرو

قريب لا تزور ولا تزار]

ومع هذه الحجة الواضحة لا حاجة إلى التأويلات والتعسفات ، وقد كتب في ذلك بعض النحاة المشهورين العصريين هذه الأوراق المتقدمة وذكر فيها ما تقتضيه

__________________

٤٥٤ ـ الشاهد للفضل بن عباس في شرح التصريح (٢ / ٣٩٦) ، وشرح شواهد الشافية (ص ٦٤) ، ولسان العرب (غلب) ، و (خلط) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٥٧٢) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٤ / ٤٠٧) ، والخصائص (٣ / ١٧١) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣٠٤) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٤٨٦) ، ولسان العرب (وعد) ، و (خلط).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٤٤٣).

(٣) مرّ الشاهد رقم (٤٤٤).

١٤٧

صناعة النحو ، وحكى ما قيل في المسألة مع أنّه لا يشفي الغليل ، لأن العرب لم تقل ذلك ولا نعلم لو عرض عليهم هل كانوا يرتضونه أم لا؟ بخلاف ما أوردت من الشواهد ، فإنّه نصّ قولهم ، ولا ريب في صحته وكونه حجة ، والذي أورده من الأقوال الستة مستنبط من الظن والقياس ، وقد يكون حقا وقد لا يكون ، وقد ألحّ عليّ جماعة أن أورد على فوائده هذه ما يتوجه عليها من الاعتراضات ، فكنت آبى ذلك خيفة سقطة تنفق حتى غلبوا على رأيي ، وقالوا : هذا لا يعدّ قدحا في فضله ، فشرعت في التنبيه على ما يرد على قوله :

أمّا ما ذكره من اشتباه فعيل وفعول في الوزن والدّلالة على المبالغة والوقوع بمعنى فاعل وبمعنى مفعول ، وأنّ فعيلا أخفّ من فعول وأنّه فاقه بأشياء منها : اطّراد بنائه من فعل ، وكثرة مجيئه في أسماء الله تعالى ، وإذا فاقه لا يكون تبعا له ، وهل الأمر إلا بالعكس أو مستويان؟ إلى آخره ، فكلّ هذه دعاو تعسر إقامة الحجة عليها خصوصا مع المنازعة ، ولئن سلمت فهي خارجة عن مسألتنا ، لأنّ السؤال وقع عن جواز إطلاق القريب على الرحمة ، فجوابه : ذلك جائز لدلالة كذا وكذا عليه ، فبقية المقدمات ضائعة مبذولة ، ولا مدخل لها فيما وقع السؤال عنه ، ومثاله من سئل عن زيارة الكعبة المعظّمة هل تجب أم لا؟ فأجاب بأنّ المتوجّه إليها لا بدّ أن يكون محرما ، وميقاته من جهة المدينة ذو الحليفة وعدّد له المواقيت ، فيقول له السائل : أنا لم أسألك إلّا عن وجوب زيارتها ، وما ذكرته بمعزل عن ذلك ، ويجري مجرى هذا قول المتكلّم في فعيل وفعول : أبواب المصادر ستة : فعل يفعل كحلب يحلب ، وفعل يفعل كضرب يضرب ، وفعل يفعل كذهب يذهب وفعل يفعل كقرم يقرم ، وفعل يفعل ككرم يكرم ، وفعل يفعل كوثق يثق ، وكلّه يشتقّ منه فعيل ، إلّا أنّ أكثره من فعل يفعل ويكون بمعنى فاعل كشريف وظريف وكريم وعظيم ، وقد يرد من غيره بمعنى المفعول ، كصريع وجريح وكليم وهزيم ، وتتكلم في فعول بما يناسب ذلك أو يقاربه عند الشروع في مسألتنا في لفظة القريب ، والعاقل يعلم أنّ هذه المباحث لا مدخل لها فيما نحن فيه ، وإن كانت من تفاريع لفظة القريب ، وقوله في فعول : «إن لم يقصد به معنى فاعل لحقته تاء كحلوبة وركوبة» منقوض بقولهم : ناقة عصوب للّتي تعصب ركبتاها عند الحلب ، وسلوب وعجول للتي اخترم ولدها ، فإنّ وزنه فعول وليس للفاعل ولا تلحقه التاء ، وكذا الجزور والخلوج والبسوس (١) ، والحضون والشّطور والثّلوث (٢) ، وكل هذه صفات للناقة والشاة ، ووزنها فعول لم تلحقها التاء

__________________

(١) الجزور : الناقة المجزورة. والخلوج : الغزيرة اللبن. والبسوس : التي تدرّ عند الإبساس.

(٢) الحضون : التي قد ذهب أحد طبييها. والشطور : التي يبس خلفان من أخلافها. والثّلوث : الناقة التي يبس ثلاثة من أخلافها.

١٤٨

وليست للفاعل ، وأمّا الأقوال الستة التي ذكرها فإني أشير إلى ما يرد على كل واحد منها إشارة لطيفة :

أمّا قوله : «قريب» بمعنى فاعل أجري مجرى فعيل بمعنى مفعول كما أجري ذلك مجرى هذا في لحاق التّاء فلا شكّ أنّه من قول النحاة ، لكن ما الدليل عليه؟ فإنّه مجرد دعوى ، ويرد عليه أنّ أحد الفعلين مشتق من فعل لازم والآخر من فعل متعدّ ، فلو أجري على أحدهما حكم الآخر لبطل الفرق بين اللازم والمتعدي ، إن كان على وجه العموم ، وإن كان على وجه الخصوص فأين الدليل عليه؟ والحقّ أنّ كلّا من الفعلين يطلق على المذكر بلا تاء ولا خلاف فيه ، وعلى المؤنث تارة مع التاء وأخرى بلا تاء أصالة ، كما ورد في أشعار الفصحاء ، لا على سبيل التبعية ولا على وجه الشذوذ والندرة ، وتشبيه أحدهما بالآخر كما زعموا لأنّ الأصل في الكلام الحقيقة وقد كثر شواهد ذلك ، قال جرير يرثي خالدة : [الكامل]

٤٥٥ ـ نعم القرين وكنت علق مضنّة

وأرى بنعف بليّة الأحجار

وقال : [الكامل]

٤٥٦ ـ فسقاك حين حللت غير فقيدة

هزج الرّواح وديمة لا تقلع

وقال الفرزدق : [الطويل]

٤٥٧ ـ فداويته عامين وهي قريبة

أراها وتدنو لي مرارا وأرشف

وامرأة قبين وسريح وهريت ، وفروك وهلوك ورشوف وأتوف ورصوف (٤) وامرأة ملولة وفروقة وامرأة عروب (٥) وسحابة دلوج (٦) ، ولا استغراب في إطلاق رميم على العظام مع أنها جمع تكسير مؤنث فهو على وفاق كلام فصحاء العرب ، قال جرير مع فصاحته ولم ينكر عليه : [البسيط]

٤٥٨ ـ آل المهلّب جذّ الله دابرهم

أمسوا رميما فلا أصل ولا طرف

__________________

٤٥٥ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٨٦٢).

٤٥٦ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٩١١).

٤٥٧ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (٢ / ٢٥) ، وجمهرة أشعار العرب (ص ٨٧٩).

(١) القبين : المنكمش في أموره. والسريح : السهل. والهريت : الواسع الشدقين. والفروك : المبغضة لزوجها. والهلوك : الفاجرة الشبقة. والرشوف : الطيّبة الفم. والأنوف : الطيّبة ريح الأنف.

والرصوف : الصغيرة الفرج.

(٢) الفروقة : الشديدة الخوف. والعروب : الضاحكة.

(٣) السحابة الدلوج : الثقيلة بحملها.

٤٥٨ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ١٧٦) ، ولسان العرب (ملح) ، ومجمع الأمثال (١ / ١٧٦).

١٤٩

وأما الاعتراض على القول الثاني فهو أنّا لا نسلم تأويل المذكر بمؤنث يوافقه أو يلزمه ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال : رأيت زيدا فكلّمتني وأكرمتني ، ورأيت هندا فكلّمني وأكرمني بناء على أنّ زيدا نفس وجثة وهندا شخص وشبح.

وأمّا قوله : «كفّا مخضّبا» فالكفّ قد يذكر كما في هذا البيت لفقدان علامات التأنيث ، وقد يؤنث كما في أكثر موارده ، وهذا أولى من التأويل كيلا تلزم المفسدة التي ذكرناها ، وحمل الرحمة على الإحسان بعيد ، لأنّ اللفظ إذا دلّ على معنى فإمّا أن يدلّ عليه على وجه الحقيقة أو المجاز ، والقسمان منتفيان هنا لأن حضور المعنى بالبال لازم عند إطلاق اللفظ في كلام القسمين لجواز انفكاك كل واحد منهما عن الآخر ، لأنّ الرحمة قد توجد وافرة فيمن لا يتمكن من الإحسان أصلا ، كالوالدة الفقيرة بالنسبة إلى ولدها ، وقد يوجد الإحسان ممّن لا رحمة في طباعه ، كالملك القاسي فإنّه قد يحسن إلى بعض أعدائه لمصلحة نفسه أو ملكه ولا تلقى عنده رحمة ، وإذا تبيّن جواز انفكاك كل واحد عن الآخر فلا يجوز إطلاق أحدهما لى الآخر ، ولا انفكاك بين الكف وبين كونها عضوا ، لأنّ كل كفّ عضو وإن لم يكن كل عضو كفّا ، فبينهما ملازمة الخاص والعام والملازمة مصححة للمجاز ، ولا ملازمة بين الرحمة والإحسان كما بيّنا ، فيتعذر تأويل الرحمة بالإحسان ، وقد سلّمنا أنّ معنى القرب في البرّ أظهر منه في الرحمة ، ولكن هذا جواز إطلاق اسم أحدهما على الآخر ، لأنّ جواز الإطلاق منحصر في الحقيقة والمجاز ، وكلاهما معدوم فيما نحن فيه.

وأمّا قوله ثالثا : «إنه من باب حذف المضاف» فذلك إنّما يصحّ حيث يحسن ويتعيّن ، كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، فإنّه يتعيّن إضمار أهلها ، وهاهنا لا يصح إضمار المكان ولا يحسن ولا يتعيّن ، أمّا أنّه لا يصحّ فلأنّ الرحمة صفة الله تعالى ، والموصوف لا مكان له ، لأنّ البراهين القاطعة دلّت على أنّ ربّنا لا يحلّ مكانا وإلّا لكان جسما أو مفتقرا إلى جسم ، فكذلك صفته لا يكون لها مكان ، انتهى.

قال الشيخ علاء الدين التركماني : هذا غلط وغفلة لأنّ الرحمة من صفات الفعل لا من صفات الذات حتى يستحيل فيها المكان ، انتهى.

وأمّا أنّه لا يحسن ولا يتعيّن فلأنّهما فرعا الصحة ، وبطلان الأصل يقتضي بطلان الفرع ، وأمّا الظواهر المشعرة بإثبات المكان كقوله : «وارتفاع مكاني» (١) فيجب تأويلها جزما ، وإلّا لبطل حكم العقل ، ويلزم من بطلانه بطلان الشرع ، لأنّ صحّته لم تثبت إلّا بالعقل ، نعم لو أضمر أثر رحمة الله لكان قريبا.

__________________

(١) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (١ / ٥٠٠) رقم (١٠٤).

١٥٠

وأمّا قوله : «رابعا : إنه من باب حذف الموصوف» إلى آخره ، وما ذكر عن سيبويه في طامث وحائض فبالله أحلف إنّ هذا التقدير والتقرير لا يرتضيه فصيح بدويّ ولا بليغ حضري ، وأيّ حاجة إلى أن يضمر في الآية شيء فيقال : شيء قريب؟ ولا يكفي في تقدير مباني كلام الله عز وجل وإيضاح معانيه مجرد الجواز النحوي والاحتمال الإعرابي ، بل لا بدّ من رعاية الفصاحة القصوى والبلاغة العليا ، وأيّة فصاحة في أن يقول القائل : شيء قريب؟ وأيّ لطف في أن يقال : المرأة شيء حائض ، مع أنّ الشيء أعمّ المعلومات؟ ولذلك يشمل الواجب والممكن حتى بعض المعدومات عند بعض أهل العلم ، ومن الذي يرضى لنفسه بمثل هذا الكلام في المستهجن؟ وهلّا قيل : الهاء والتاء إنما يحتاج إليهما للفرقان بين المذكر والمؤنث في صفة يمكن اشتراكهما فيها إماطة للالتباس ، أمّا الصفة المختصّة بالنساء كالحيض فلا حاجة فيها إلى العلامة المميزة ، والناس لفرط جمودهم على ما ألفوه بظنون أنّ ما قاله سيبويه هو الحق الساطع وأنّ إلى قوله المنتهى في معرفة كلام الرب ، ولا خفاء في أنّه الجواد السابق في هذا المضمار فأمّا أن يعتقد أنّه أحاط بجميع كلام العرب وأنّه لا حقّ إلّا ما قاله فليس الأمر كذلك ، فما من أحد إلّا ويقبل قوله ويردّ منه ، ولو لم يكن لسيبويه إلا قوله في باب الصفة المشبهة : «مررت برجل حسن وجهه» بإضافة حسن إلى الوجه وإضافة الوجه إلى الضمير العائد على الرجل ، فقد خالفه جميع البصريين والكوفيين في ذلك ، لأنه قد أضاف الشيء إلى نفسه ، فكيف يعتقد مع هذا صحة قوله في كلّ شيء؟.

وأمّا قوله : خامسا يكتسب المضاف حكم المضاف إليه لا سيّما التأنيث فله نظائر صحيحة فصيحة يوثق بها لتقدّم قائليها وشهرتهم ، قال النابغة : [البسيط]

٤٥٩ ـ حتّى استغثن بأهل الملح ضاحية

يركضن قد قلقت عقد الأطانيب

وقال الأعشى (٢) : [الطويل]

[وتشرق بالقول الذي قد أذعته]

كما شرقت صدر القناة من الدّم

وقال لبيد : [الكامل]

٤٦٠ ـ فمضى وقدّمها وكانت عادة

منه إذا هي عرّدت إقدامها

__________________

٤٥٩ ـ الشاهد لسلامة بن جندل في ملحق ديوانه (ص ٢٣٣) ، ولسان العرب (طنب) ، وتهذيب اللغة (١٣ / ٣٦٨) ، وتاج العروس (طنب) ، وللنابغة الذبياني في ديوانه (ص ٥٠) ، وأساس البلاغة (طنب) ، وجمهرة اللغة (ص ٣٦١).

(١) مرّ الشاهد رقم (١٣٣).

٤٦٠ ـ الشاهد للبيد في ديوانه (ص ٣٠٦) ، والخصائص (٢ / ٤١٥) ، ولسان العرب (عرد) ، و (قدم) ، وكتاب العين (١ / ٣٢) ، وبلا نسبة في الخصائص (١ / ٧٠).

١٥١

وقال جرير (١) : [الكامل]

لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع

فبمثل هذا ينبغي أن يتمسك لا بأشعار المجاهيل الخاملين التي تمسك بها وأظنّها للمحدثين ، فأمّا اكتساب التأنيث من المؤنّث فقد صح بقولهم ، وأمّا عكسه فيحتاج إلى الشواهد ، ومن ادّعى جوازه فعليه البيان.

وأمّا قوله : «سادسا أنه يكون من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر» إلى آخره فإنّ قوله : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] ليس من هذا القبيل ، لأنّ المراد بأعناقهم رؤساؤهم ومعظّموهم ، وأيضا فإن الخبر محكوم به على الاسم ، فكيف يعرض عنه ويحكم به على المضاف إليه؟ ولو جاز ذلك لساغ أن تقول : كان صاحب الدّرع سابغة ، فظلّ مالك الدار متسعة.

وقوله : رحمة الله قريب وهو قريب ، وحذف الخبر من الجملة الأولى والمبتدأ من الثانية ، واجتزأ بالخبر في الثانية عن الخبر في الأولى فكلام عجيب تقصر عبارتي عن شرح ضعفه.

وأمّا ما نمي إليّ من جري فعيل مجرى فعول ، وقوله : إمّا أن يدعى ذلك على العموم في جميع الصور إلى آخره فهذا لم أقصده ولا ذكرت الأصالة والتبعية ، ولا أنّ هذا بمعنى فاعل وذاك بمعنى مفعول ، بل لمّا سئلت عن جري قريب على الرحمة أجبت : بأنّه لا غرو ولا استبعاد ، لأنّ أفاضل العرب وفصحاءهم قد أطلقوا الفعيل والفعول على المؤنث الحقيقي ، فعلى غير الحقيقي أولى ، ومن جملتهم امرؤ القيس ، قوله : «الاستدلال به ضعيف» ليس كذلك لأن الفتور على وزن فعول ، وقد أطلق بعض فصحاء العرب في هذا البيت كليهما على امرأة والتأنيث فيهما حقيقي.

وقوله : «إنه نادر» ، قلنا : لا نسلم ، بل نظائره كثيرة ، وهي محفوظة فطالبونا بها نوردها ، ولئن سلمنا أنه نادر فالغرض أنه عربي ، وعلى أنّا نقول : إن ساغ الاستشهاد بالنادر فلا وجه لإنكار ما ذكرنا ولم يسغ فكيف احتجّ بقوله : «وقائع في مضر تسعة»؟.

وقوله : «يجوز أن يراد بالقطيع القطيعة والإضافة تسقط التاء» قلنا : لو جاز ذلك لجاز أن يقال : «ماتت ابن فلان» يريد ابنته ، وقوله : «وقد يجوز أن يكون فعيل بمعنى مفعول في قطيع» إلى آخره ، قلنا : يدعي جواز الإطلاق ، وهو أعمّ من أن

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٣٤).

١٥٢

يكون فعيل بمعنى فاعل أو مفعول ، وكذب الخاص لا يوجب كذب العام ، فالوجهان الآخران اللذان ذكرهما آنفا بتقدير صحتهما لا يقدحان في استدلالنا ، وقوله : «إن كان سرع فإنما يحذف منه التاء تشبيها له بفعيل الذي في معنى مفعول» مدخول ، لأن هذا مشتق من اللازم وذاك من المتعدي ، وقوله فيما كتب «لأجل» صوابه أن يقول : من أجل ، قال الله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) [المائدة : ٣٢] ، وقال الشاعر : [الوافر]

٤٦١ ـ من اجلك يا الّتي تيّمت حبّي

[وأنت بخيلة بالودّ عنّي]

وقال آخر : [الطويل]

٤٦٢ ـ عليهم وقار الحلم من أجل أنّني

به أتغنّى باسمها غير معجم

وقوله : «إن قصد به المبالغة» ليس بصحيح ، فإن «قصد» لا يعدّى بنفسه بل باللام وإلى ، قال جرير : [الكامل]

٤٦٣ ـ إنّ القصائد يا أخيطل فاعترف

قصدت إليك مجرّة الأرسان

وقال آخر : [الوافر]

٤٦٤ ـ وأوقد للضّيوف النّار حتّى

أفوز بهم إذا قصدوا لناري

ونقله رغوثة غير موثوق به ولا بدّ له من شاهد ، قال الراعي النميري : [ ]

٤٦٥ ـ فجاءت إلينا والدّجى مدلهمّة

رغوث شتاء قد تترّب عودها

آخر ذلك.

وإذ وصلنا إلى هنا فلنتمم الفائدة ، فإن الشيخ جمال الدين بن هشام ألف في هذه القضية رسالة فلنسقها ، قال رحمه الله تعالى :

قال الله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] ، في هذه الآية الكريمة سؤال مشهور ، الأدب في إيراده وإيراد أمثاله أن يقال : ما الحكمة في كذا؟ تأدبا مع كتاب الله تعالى ، فيقال : ما الحكمة في تذكير قريب مع أنّه صفة

__________________

٤٦١ ـ الشاهد بلا نسبة في الكتاب (٢ / ١٩٨) ، وأسرار العربية (ص ٢٣٠) ، والجنى الداني (ص ٢٤٥) ، وخزانة الأدب (٢ / ٢٩٣) ، والدرر (٣ / ٣١) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٢٩٩) ، وشرح المفصّل (٢ / ٨) ، واللامات (ص ٥٣) ، ولسان العرب (لتا) ، والمقتضب (٤ / ٢٤١) ، وهمع الهوامع (١ / ١٧٤).

٤٦٢ ـ الشاهد لذي الرّمة في ديوانه (ص ٧٠٦) ، وحجاز القرآن (٢ / ٩١) ، والكامل (١ / ٢٩٥).

٤٦٣ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ١٠١٣).

٤٦٥ ـ الشاهد للراعي النميري في شرح ديوان الحماسة للتبريزي (٣ / ١٦١) ، وهو ليس في ديوانه.

١٥٣

مخبر بها عن المؤنث وهو الرحمة ، مع أنّ الخبر الذي هذا شأنه يجب فيه التأنيث؟ تقول : هند كريمة ، ولا تقول : كريم ولا ظريف ، وإنما بيّنت كيفية السؤال لأنني وقفت على عبارة شنيعة لبعض المفسرين في تقرير السؤال أنكرتها ، اللهمّ ألهمنا الأدب مع كلامك ولا تردّنا على أعقابنا بأهوائنا وحسن السؤال نصف العلم ، وقد أجاب العلماء رحمهم الله تعالى بأوجه جمعتها ، فوقفت منها على أربعة عشر وجها منها قويّ وضعيف ، وكلّ مأخوذ من قوله ومتروك ، ونحن نسرد ذلك بحول الله وقوته متتبعين له بالتصحيح والإبطال بحسب ما يظهره الله تعالى ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الوجه الأول : أنّ الرحمة في تقدير الزيادة ، والعرب قد تزيد المضاف ، قال الله سبحانه : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] أي : سبّح ربّك ، ألا ترى أنه لا يقال في التسبيح : سبحان اسم ربي ، إنّما يقال : سبحان ربي؟ والتقدير : إنّ الله قريب ، فالإخبار في الحقيقة إنّما هو عن الاسم الأعظم ، إنّ الله قريب من المحسنين.

قلت : وهذا الوجه لا يصح عند علماء البصرة ، لأن الأسماء لا تزاد في رأيهم ، إنّما تزاد الحروف ، وأمّا (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فلا يدلّ على ما قالوه ، لاحتمال أن يكون المعنى : نزّه أسماءه عمّا لا يليق بها ، فلا تجر عليه اسما لا يليق بكماله ، أو لا تجر عليه اسما غير مأذون فيه شرعا ، وهذا هو أحد التفسيرين في الآية الكريمة ، وإذا أمكن الحمل على محمل صحيح لا زيادة فيه وجب الإذعان له لأنّ الأصل عدم الزيادة.

الثاني : أنّ ذلك على حذف مضاف ، أي : إن مكان رحمة الله قريب ، فالإخبار إنّما هو عن المكان ، ونظيره قوله صلّى الله عليه وسلّم مشيرا إلى الذهب والفضة : «إنّ هذين حرام» فأخبر عن المثنّى بالمفرد ، لأنّ حقيقة الكلام وأصله : إنّ استعمال هذين حرام ، وكذلك قول حسان بن ثابت (١) : [الكامل]

يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل

أي : ماء بردى ، فلهذا قال «يصفق» بالتذكير ، مع أنّ بردى مؤنث ، انتهى.

وهذا المضاف الذي قدّره في غاية البعد ، والأصل عدم الحذف ، والمعنى مع ترك هذا المضاف أحسن منه مع وجوده.

الثالث : أنّه على حذف الموصوف ، أي : إنّ رحمة الله شيء قريب ، كما قال الشاعر (٢) : [السريع]

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٤٩).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٤٢٧).

١٥٤

قامت تبكّيه على قبره

من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدّار ذا غربة

قد ذلّ من ليس له ناصر

أي : تركتني في الدار شخصا ذا غربة ، وعلى ذلك يخرج سيبويه قولهم : «امرأة حائض» (١) ، أي : شخص ذو حيض ، وقول الشاعر أيضا (٢) : [الطويل]

فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني

طلاقك لم أبخل وأنت صديق

أي : وأنت شخص صديق ، وهذا القول في الضعف كالذي قبله ، بل هو أشدّ منه ضعفا ، لأنّ تذكير صفة المؤنث باعتبار إجرائها على موصوف مذكر محذوف شاذ ينزّه كتاب الله عنه ، ثم الأصل عدم الحذف.

الرابع : أنّ العرب تعطي المضاف حكم المضاف إليه في التذكير والتأنيث إذا صحّ الاستغناء عنه ، فمثال إعطائه حكمه في التأنيث قولهم : «قطعت بعض أصابعه» فأعطوا البعض حكم الجمع المضاف إليه في التأنيث ، ومنه القراءة الشاذة : تلتقطه بعض السيارة [يوسف : ١٠] ، ومثال إعطائه حكمه في التذكير قوله : [البسيط]

٤٦٦ ـ إنارة العقل مكسوف بطوع هوى

[وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا]

ومنه الآية الكريمة. انتهى. وهذا الوجه قال فيه أبو علي الفارسي في تعاليقه على كتاب سيبويه ما نصه : «هذا التقدير والتأويل في القرآن بعيد فاسد ، إنما يجوز هذا في ضرورة الشعر».

الخامس : أنّ فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، كرجل جريح وامرأة جريح ، نقل هذا الوجه أبو البقاء في إعرابه (٤) ، وأقرّ قائله عليه ، وهو خطأ فاحش ، لأنّ فعيلا هنا ليس بمعنى مفعول.

السادس : أنّ فعيلا بمعنى فاعل قد يشبّه بفعيل بمعنى مفعول ، فيمنع من التاء في المؤنث ، كما قد يشبهون فعيلا بمعنى مفعول بفعيل بمعنى فاعل فيلحقونه التاء ، فالأول كقوله سبحانه : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٨] ،

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ٤٢٣).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٤٥٠).

٤٦٦ ـ الشاهد لبعض المولّدين في المقاصد النحوية (٣ / ٣٩٦) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٣ / ١٠٥) ، وخزانة الأدب (٤ / ٢٢٧) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣١٠) ، وشرح التصريح (٢ / ٣٢) ، ومغني اللبيب (٢ / ٥١٢).

(٣) انظر إملاء ما منّ به الرحمن (١ / ٢٧٦).

١٥٥

ومنه : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] ، والثاني كقولهم : خصلة ذميمة ذميمة وصفة حميدة حملا على قولهم : قبيحة وجميلة.

السابع : أنّ العرب قد تخبر عن المضاف إليه وتترك المضاف ، كقوله تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] ف «خاضعين» خبر عن الضمير المضاف إليه الأعناق لا عن الأعناق ، ألا ترى أنّك إذا قلت : «الأعناق خاضعون» لا يجوز لأنّ جمع المذكر السالم إنّما يكون من صفات العقلاء ، لا تقول : أيد طويلون ولا كلاب نابحون؟ انتهى.

ولعل هذا القول يرجع إلى القول بالزيادة وقد بيّنّا ما عليه ، وقد قيل : إنّ المراد بالأعناق في هذه الآية الكريمة الرؤساء ، وقيل : الجماعة ، وإنه يقال : جاء زيد في عنق من الناس أي في جماعة.

الثامن : الرحمة والرّحم متقاربان لفظا ، وهذا واضح ، ومعنى بدليل النقل عن أئمة اللغة فأعطي أحدهما حكم الآخر ، وهذا القول ليس بشيء ، لأنّ الوعظ والموعظة والعظة تتقارب أيضا ، فينبغي أن يجيز هذا القائل أن يقال : موعظة نافع وعظة حسن ، وكذلك الذكر والذكرى ، فينبغي أن يقال : ذكرى نافع كما يقال : ذكر نافع.

التاسع : أنّ فعيلا هنا بمعنى النّسب ، فقريب هنا معناه : ذات قرب ، كما يقول الخليل في حائض : إنه بمعنى ذات حيض ، وهذا أيضا باطل لأنّ اشتمال الصفات على معنى النّسب مقصور على أوزان خاصة ، وهي : فعّال وفعل وفاعل.

العاشر : أنّ فعيلا مطلقا يشترك فيه المذكر والمؤنث ، حكى ذلك ابن مالك عن بعض من عاصره ، وهذا القول من أفسد ما قيل ، لأنه خلاف الواقع في كلام العرب ، يقولون : امرأة ظريفة وامرأة عليمة ورحيمة ، ولا يجوز التذكير في شيء من ذلك ، ولهذا قال أبو عثمان المازني في قوله تعالى : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٨] : إنّه مفعول والأصل : بغوي ، ثم قلبت الواو الياء والضمة كسرة وأدغمت الياء في الياء ، فأمّا قول الشاعر (١) : [المتقارب]

فتور القيام قطيع الكلا

م تفترّ عن ذي غروب خصر

فالجواب عنه من أوجه :

أحدها : أنّه نادر.

الثاني : أنّ أصله قطيعة ، ثم حذفت التاء للإضافة ، كقوله سبحانه : (وَإِقامَ *

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٤٢).

١٥٦

الصَّلاةِ) [الأنبياء : ٧٣] و [النور : ٣٧] ، وأصله : وإقامة الصلاة ، والإضافة مجوّزة لحذف التاء ، كما توجب حذف النون والتنوين ، نصّ على ذلك غير واحد من القراء.

الثالث : أنه إنما جاز لمناسبة قوله : فتور ، ألا ترى أنّ فتورا فعول ، وفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث؟

الحادي عشر : أنهم يقولون : «فلانة قريب من كذا» يفرقون بذلك بين قريب من قرب النّسب وقريب من قرب المسافة ، فإذا قالوا : هذه قريبة من فلان ، فمعناه قرب المسافة ، وإذا قالوا : قريب فمعناه من القرابة.

وهذا القول عندي باطل لأنّه مبنيّ على أنّه يقال في القرب النسبي «فلان قريبي» ، وقد نص الناس على أنّ ذلك خطأ ، وأنّ الصواب أن يقال : فلان ذو قرابتي ، كما قال : [البسيط]

٤٦٧ ـ يبكي الغريب عليه ليس يعرفه

وذو قرابته في الحيّ مسرور

الثاني عشر : أن هذا من تأويل المؤنث بمذكر موافق في المعنى ، واختلف هؤلاء ، فمنهم من يقدّر : إنّ إحسان الله قريب ، ومنهم من يقدّر : لطف الله قريب ، ومن مجيء ذلك في العربية قول الشاعر (٢) : [الطويل]

أرى رجلا منهم أسيفا كأنّما

يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضّبا

فأوّل الكفّ على معنى العضو ، وهذا الوجه باطل ، لأنّه إنّما يقع هذا في الشعر ، وقد قدّمنا أنّه لا يقال : موعظة حسن ، وإنّما يقال كما قال سبحانه : (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل : ١٢٥] ، هذا مع أنّ الموعظة بمنزلة الوعظ في المعنى ، وهذا يقاربه في اللفظ ، وأمّا البيت الذي أنشدوه قنصّ النحاة على أنّه ضرورة شعر ، وما هذه سبيله لا يخرّج عليه كتاب الله تعالى.

الثالث عشر : أنّ المراد بالرحمة هنا المطر ، والمطر مذكر ، وهذا القول يؤيّده عندي ما نتلوه من قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الأعراف : ٥٧] ، وهذه الرحمة هي المطر ، فهذا تأنيث معنوي ، إلّا أنّه قد يعترض عليه من أوجه :

__________________

٤٦٧ ـ الشاهد لعثير بن لبيد العذري أو لحريث بن جبلة العذري أو لرجل من أهل نجد في لسان العرب (دهر) ، ولعثير بن لبيد العذري أو لحريث بن جبلة العذري أو لأبي عيينة المهلبي في تاج العروس (دهر).

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٤٧).

١٥٧

أحدها : أن يقال : لو كانت الرحمة الثانية هي الرحمة الأولى لم تذكر ظاهرة لأنّ هذا موضع الضمير ، فإن قيل : إنّ ذلك ليس بواجب قلت : نعم ، ولكنّه مقتضى الظاهر ، وبهذا يصح الترجيح.

الثاني : أنّه إن أمكن الحمل على العام وهو مطلق الرحمة لا يعدل إلى الخاص ، لا يقال هذا إذا لم يعارض معارض يقتضي الحمل على الخاص ، كالتذكير هنا لأنّا نقول هذا إنّما يقال إذا لم يكن للتذكير وجه إلا الحمل على إرادة المطر كما ذكرت ، وليس الأمر هنا كذلك.

الثالث : أنّ الرحمة التي هي المطر لا تختصّ بالمحسنين ، لأنّ الله تعالى تكفّل برزق العباد طائعهم وعاصيهم ، وأمّا الرحمة التي هي الغفران والتجاوز فإنّها تختصّ في خطاب الشرع بالمحسنين المطيعين ، وإن كانت غير موقوفة عليهم لا شرعا ولا عقلا عند أهل الحق ، إلّا أنّ ذلك يذكر على سبيل التنشيط للمطيعين والتخويف للعاصين ، وهذا فيه لطف ، وقلّما يتنبّه له إلّا الأفراد ، ومن ثمّ زلّت أقدام المعتزلة ، فإنّهم يجدون في خطاب الشرع ما يقتضي تخصيص الغفران والتجاوز والإحسان بالمطيعين ، فينفون رحمة الله عن أصحاب العصيان ، فيحجرون واسعا : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] ، (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ١٠٥] ، (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) [آل عمران : ٤٠] ، (يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) [المائدة : ١] ، هذا الذي فطرنا الله عليه من حسن الاعتقاد ، وإيّاه نسأل التوفية عليه بمنه وكرمه.

وهذا الوجه يمكن الجواب عنه بأنه كما جاز تخصيص الخطاب بالغفران بالمحسنين على سبيل الترغيب كذلك تخصيص المطر الذي هو سبب الأرزاق بهم ترغيبا في الإحسان.

الرابع : أنّك لو قلت : إن مطر الله قريب لوجدت هذه الإضافة تمجّها الأسماع وتنبو عنها الطباع ، بخلاف «إن رحمة الله» ، فدلّ على أنّه ليس بمنزلته في المعنى ، وهذا الوجه يمكن الجواب عنه بأمرين :

أحدهما : أن يقال : لا ندّعي أنّ الرحمة بمعنى المطر ، بل إنّ مجموع رحمة الله استعمل مرادا به المطر.

والثاني : أنّ المطر معلوم أنّه من جهة الله سبحانه ، فإضافته إليه كأنها غير مفيدة ، بخلاف قولك : رحمة الله ، فإن الرحمة عامة ، فإن للعباد رحمة خلقها الله سبحانه يتراحمون بها بينهم ، فإذا أضيفت الرحمة إليه سبحانه أفاد أنّه ليس المقصود

١٥٨

الرحمة المضافة إلى العباد ، ونظيره أنك تقول : كلام الله لأن الكلام عام ، ولا نقول : قرآن الله لأنّه خاص بكلام الله سبحانه ، والإنصاف أن يقال في هذا القول : إنّه لا يخلو أمر قائله من أمرين ، وذلك لأنه إمّا أن يدّعي أنّ الرحمة لفظ مشترك بين المطر وغيره ، وأنه موضوع بالأصالة للمطر كما أنه موضوع لغيره بالأصالة ، أو يدّعي أنه موضوع لغيره بالأصالة أو يدعي أنه موضوع لغير المطر بطريق الأصالة ، ثم تجوّز به عن الرحمة ، فإن ادّعي الأول فقد يمنع ذلك بأنّ الذهن إنما يتبادر عند إطلاق الرحمة إلى غير المطر ، والمشترك إنما حقه أن يكون على الاحتمال بالنسبة إلى معنييه أو معانيه ، لا يكون أحدها أولى من غيره وإنّما يتعيّن المراد بالقرينة ، ثم إنا لا نجد أهل اللغة حيث يتكلمون على الرحمة يقولون :

ومن معانيها المطر ، فلو كانت موضوعة له لذكروها كما يذكرون معاني المشترك ، وإن ادّعي الثاني فيلزمه أن يجيز في فصيح الكلام : أرض مخضر ، وسماء مرتفع ورحمة واسع ، ويقول : أردت بالأرض المكان وبالسماء السقف وبالرحمة الإحسان ، وهذا ما لا يقول به أحد من النحويين ، وإنّما يقع ذلك في الشعر أو في نادر من الكلام وما هذه سبيله لا يخرج عليه كتاب الله تعالى الذي نزل بأفصح اللغات وأرجح العبارات وألطف الإشارات.

فإن قلت : فإني أجد في كلام كثير من المفسرين تخريج آيات من التنزيل على مثل ذلك ، كما قالوا في قوله سبحانه : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) [النساء : ٨] ثم قال تعالى : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) إنّه جاز حملا على المعنى القسمة وهو المقسوم.

قلت : الذي عليه أهل التحقيق أنّ الضمير عائد على ما من قوله تعالى : (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ) أي : فارزقوهم من الذي تركه الوالدان على أنّ القسم والقسمة واقعان في العربية على المقسوم وقوعا كثيرا ، فلا يمتنع عود الضمير على القسمة مذكرا ، يدلك على ذلك قوله سبحانه : (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) [القمر : ٢٨] أي : مقسوم بينهم.

واعلم أنّه لا بعد في أن يقال : إنّ التذكير في قوله سبحانه «قريب» لمجموع أمور من الأمور قدمناها.

فنقول : لمّا كان المضاف يكتسب من المضاف إليه التذكير ، وهي مقاربة للرّحم في اللفظ ، وكانت الرحمة هنا بمعنى المطر ، وكانت «قريب» على صيغة فعيل ، وفعيل الذي بمعنى فاعل قد يحمل على فعيل الذي بمعنى مفعول جاز التذكير ، وليس هذا نقضا لما قدّمناه ، لأنّه لا يلزم من انتقاء اعتبار شيء من هذه الأمور مستقلا انتقاء اعتباره مع غيره.

١٥٩

هذا آخر ما تحرر لي في هذه الآية الكريمة والله تعالى أعلم بغيبه. انتهى كلام ابن هشام.

رأي نحويّ لابن الصائغ

قال ابن الصائغ في (تذكرته) : تكلم بعض مشايخ العصر وهو الشيخ تقيّ الدين السّبكي بمدرسة الملك المنصور على قوله تعالى في سورة «والذاريات» : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ ، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : ٥٤ ـ ٥٥] ، ونقل عن المفسرين فيها قولين :

الأوّل : أنّ المعنى : تولّ عن أولئك الكفار وأعرض عنهم فما تلام على ذلك ، وارفع التذكير فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧].

الثاني : أنّ المعنى : تولّ عن الكفار وأعرض عنهم وذكّر المؤمنين فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين ، قال : وعلى القول الثاني يحتمل أن تكون الآية من باب التنازع ، فاعترض على هذا بأنّ شرط باب التنازع إمكان تسلّط العاملين السابقين على المعمول المتنازع فيه ، ولذا لم يجز سيبويه أنّ بيت امرئ القيس من باب التنازع ، أعني قوله : [الطويل]

٤٦٨ ـ [فلو انّ ما أسعى لأدنى معيشة]

كفاني ولم أطلب قليل من المال

ومن أجاز ذلك فلما ذكره المازني ، ليس هذا موضع ذكره ، أو لما ذكره ابن ملكون وقد ردّ عليه ، وإذا تحرر هذا فالآية لا يمكن أن تحمل على التنازع ، لأنّ «ذكر» لا يمكنه العمل في المؤمنين من جهة الحيلولة بينهما بالفاء وإنّ ، وكلّ منها له صدر الكلام ، وما له صدر الكلام لا يعمل ما قبله فيما بعده ، وقد نقل عن ابن عصفور أنه قال : «كل ما لا يعمل فيما قبله لا يعمل ما قبله فيما بعده» ، فنازع في أنّ الفاء مانعة ، واستند في منعه إلى ما حكي من قولهم : «زيدا فاضرب» ، وقال : «هذه الفاء للسببية كالتي هنا لا فرق بينهما ، إذ المعنى : تنبه فاضرب زيدا».

__________________

٤٦٨ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ٣٩) ، والإنصاف (١ / ٨٤) ، وتذكرة النحاة (ص ٣٣٩) ، وخزانة الأدب (١ / ٣٢٧) ، والدرر (٥ / ٣٢٢) ، وشرح شذور الذهب (ص ٢٩٦) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٣٤٢) ، وشرح قطر الندى (ص ١٩٩) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٣٥) ، وهمع الهوامع (٢ / ١١٠) ، وتاج العروس (لو) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني (١ / ٢٠١) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٨٠) ، ومغني اللبيب (١ / ٢٥٦) ، والمقتضب (٤ / ٧٦) ، والمقرّب (١ / ١٦١).

١٦٠