الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٦٤

فأجيب بأن قيل له : أبديت عوارك لمناظرك وأبرزت مقاتلك لسهام مناضلك ، إنّ هذه اللفظة تروى على أوجه مختلفة وجميعها يرجع إلى أصل واحد وعدة أوجهها أربعة :

يروى : من جمع مالا من مهاوش بالميم ، وهذه هي المشهورة عند العلماء باللغة ، ويروى من تهاوش بالتاء وكسر الواو وقد صححوه أيضا ، ويروى من تهاوش بالتاء وضمّ الواو ، وهو صحيح أيضا ، ويروى من نهاوش بالنون وكسر الواو ، وهذه هي التي أنكرها أهل اللغة ولم يثبتوا صحّتها ، والظاهر من كلامهم أنّها من غلط الرواة ، وجميع ذلك على اختلاف الرواية فيه يرجع إلى أصل واحد وهو الهوش الذي هو الاختلاط ، فليس الإشكال في نهاوش من جهة تفسيرها كما ظننته ولا من جهة كونها جمعا لواحد لم ينطق به ، ألا ترى أنّ مهاوش ونهاوش هما بمعنى الاختلاط ، وكلاهما جمع لم يستعمل واحده؟ وإنّما المشكل في هذه اللفظة هل هي صحيحة في الاستعمال معروفة عند أهل اللغة أو هي على خلاف ذلك؟ فهذا الذي كان حقك أن تبيّنه وتثبت صحته ، وإذا صح فسرت حقيقة معناها واشتقاقها ، وبينت هل هي جمع أو مفرد وما الزائد منها وما الأصل ، فأمّا قولك في نهابر : إنه مشتق من الهبر وهو القطع المتدارك فليس ذلك بالمعروف عند أهل اللغة ، وإنما هو مستعار من النّهابر والنّهابير وهي تلال الرمل المشرفة ، فسمّيت المهالك نهابر من ذلك ، ولذلك قال عمرو بن العاص لعثمان بن عفان رحمه الله : «إنّك ركبت بهذه الأمة نهابر من الأمور فتب عنها» أراد أنّك ركبت بهذه الأمة أمورا شاقة مهلكة بمنزلة من كلّفهم ركوب التلال من الرمل ، لأنّ المشي في الرمل يشقّ على من ركبه ، وقولك : «إن واحد النهابر نهبر وإن لم ينطق به» ليس بصحيح ، بل الصحيح أن واحدها نهبور على ما ذكره أهل اللغة ، لأنّهم جعلوا النّهابر التي هي المهالك مستعارة من النّهابر التي هي الرمال المشرفة وواحدها نهبور ، وأسأت العبارة بقولك : «لا يعرف جهات حلّها وحرمتها» ، وكان الصواب أن تقول : وحرمها ، لأنه يقال : حلّ وحلال وحرم وحرام ، وأخطأت أيضا في تنظيرك نهاوش في كونها جمعا لواحد لم ينطق به بقولهم : ملامح وأباطيل ، وكان حقك أن تنظرها بعباديد ونحوها ممّا لم ينطق له بواحد من لفظه ولا من غير لفظه ، ألا ترى أنّ ملامح لها واحد مستعمل من لفظها وهو لمحة ، وكذلك أباطيل واحده المستعمل باطل ، وكذلك مشابه واحده المستعمل مشبه ، وإن كنّا نقدّر أنّ واحد الجموع من جهة القياس ليس هو هذا المستعمل ، إلّا أنّه وإن كان الأمر على ذلك فلا بدّ أن يقال : إنّ هذه الآحاد لهذه الجموع وإنّ هذه الجموع لهذه الآحاد من جهة الاستعمال ، ألا ترى أنّ أبا عليّ الفارسيّ قال في كتابه العضدي : «هذا باب ما

٢٠١

بناء جمعه على غير بناء واحده المستعمل ، وذلك باطل وأباطيل وحديث وأحاديث وعروض وأعاريض» ولم يختلف أحد من العلماء في أنّ أعاريض وأحاديث واحدها : عروض وحديث من جهة الاستعمال ، كما أنّ قولهم : ليال جمع ليلة من جهة الاستعمال ، وإن كان في التقدير كأنّه جمع ليلاء ، ولو قلت : إنّ العرب قد تأتي بجموع لم تنطق بواحدها الذي يجب من جهة القياس لكنت قد سلمت في قولك من الوهم والإلباس ، ثم أسألك أولا : ما معنى قولك في صدر مسألتك : «فأوّل ذلك أن تعلم أن نهوشا واحد قد جمع على نهاوش»؟ فإنّه كلام لم يستعمله من أهل الجهل والغباوة إلّا من ختم الله على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة.

المسألة الثالثة : قال أبو نزار : روى سيبويه في كتابه عن العرب أنّهم قالوا : ليس الطّيب إلّا المسك (١) ، برفع المسك ، والقياس نصبه لأنه خبر ليس ، و «ليس» لا يبطل عملها بنقض النفي ، إلّا أن سيبويه والسيرافي تخبّطا في هذا وما أتيا بطائل ، فأوّل ذلك أن سيبويه قال : لغة في ليس ، إنها لا تعمل وإنّها مثل ما في لغة بني تميم ، وهذا لا يعرف ، فقد أخطأ سيبويه ، ثم قال السيرافي : «والصحيح أنّ اسمها الشأن والحديث في موضع رفع ، والطيب مبتدأ والمسك خبره» ، وقيل له : هذا باطل ، فإنّ إلّا الناقضة خبر ، إذ قد جاءت بين المبتدأ والخبر في الجملة الإثباتية ، واعتذر السيرافي بأن قال : «إلا أنّها على الجملة قد تقدّمها نفي» ، وهذا كله متهافت ، والذي صحّ أنّ قولهم : ليس الطيب ، ليس واسمها وإلّا ناقضة للنفي والمسك مبتدأ وخبره محذوف وتقديره : ليس الطّيب إلّا المسك أفخره ، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع النصب لأنّها خبر ليس وفيه وجه آخر وهو أن تكون إلّا بمعنى غير ، وذلك وجه في إلّا معروف ، والتقدير : ليس الطيب غير المسك مفضلا أو مرغوبا فيه ، أو ما شابه ذلك فاعرفه.

فصل في الردّ عليه : أيّها المتعالي المتعالم والمتعاطي المتعاظم قد نسبت سيبويه والسيرافي إلى أنّهما تخبّطا في هذه المسألة ولم يأتيا بطائل ، وقلت حكاية عنهما ، فأوّل ذلك أنّ سيبويه قال لغة في (ليس) : إنّها لا تعمل ، وإنّها مثل ما في لغة بني تميم ، وهذا لا يعرف ، وكان تخبّطك فيما عنه نقلته وإليه نسبته بما أسقطته من كلامه وزدته ، وهو عين التخبّط الحقيقي ، والذي ذكره سيبويه على فصّه ومنقولا عن نصه هو : «وقد زعم بعضهم أنّ (ليس) تجعل كما وذلك قليل لا يكاد يعرف ، فهذا يجوز أن يكون منه : ليس خلق الله أشعر منه ، وليس قالها زيد ، وقول حميد الأرقط : [البسيط]

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٢٠١).

٢٠٢

٥٢١ ـ فأصبحوا والنّوى عالي معرّسهم

وليس كلّ النّوى يلقي المساكين

وقول هشام (٢) : [البسيط]

هي الشّفاء لدائي لو ظفرت بها

وليس منها شفاء الدّاء مبذول

والوجه والحدّ فيه أن تحمله على أنّ في ليس إضمارا ، وهذا مبتدأ كقوله : إنّه أمة الله ذاهبة ، إلّا أنّهم زعموا أنّ بعضهم قال : ليس الطّيب إلّا المسك ، وما كان الطيب إلّا المسك» إلى هذا انتهى كلام سيبويه ، فأحلت عبارته عن الصواب فقلت : قال سيبويه : لغة في ليس إنها لا تعمل فبدأت بنكرة في اللفظ لم تأت لها بخبر ، وزدت في كلامه أنّها لا تعمل ، ولم يذكر سيبويه ذلك ، ولا يصحّ أن يذكره ، لأنه لم يقطع بكونها غير عاملة ، ثم قلت عنه : وإنها مثل ما في لغة بني تميم ، فزدت ما لم يذكره ، وكيف يجعلها مثل ما التميمية التي قد حصل القطع بإبطال عملها ، وهو يقول بعد ذلك : والوجه أن يكون فيها إضمار الشأن؟ ثم قلت عنها أيضا : وهذا لا يعرف ، فأسقطت يكاد ، وبإسقاطها يتناقض الكلام ، لأنّ سيبويه قد ثبت عنده معرفة هذا ، وهو قولهم : ليس الطّيب إلّا المسك ، بدليل قوله : إنه يجوز أن يكون عليه قولهم : ليس خلق الله أشعر منه ، وصحّ ذلك بما حكاه الأصمعي وأبو حاتم عن أبي عمرو به العلاء ، قال : ليس في الأرض حجازيّ إلّا وهو ينصب ولا تميميّ إلّا وهو يرفع ، وساق المجلس السابق بين أبي عمرو وعيسى بن عمر ، ثم قال : فقد ثبت من هذه الحكاية أنّ قولهم : ليس الطّيب إلّا المسك بالرفع معروف في كلام العرب ، فلا يصح إذا أن يكون كلام سيبويه إلّا بزيادة يكاد ، وقلت عند فراغك من حكاية كلام سيبويه بزعمك : ثم قال السيرافي : والصحيح أنّ اسمها شأن وحديث في موضع رفع ، والطّيب مبتدأ والمسك خبره ، وقيل له : هذا باطل فإن «إلّا» الناقضة خبر إذ قد جاءت بين المبتدأ والخبر في الجلة الإثباتية ، واعتذر السيرافي بأن قال : إلّا أنّها على الجملة قد تقدّمها نفي ، فإذا بك فيما حكيته عن السيرافي أيضا قد مسخت ما نسخت وغيّرت ما عنه عبّرت ، وذلك أنّ نصّ كلام السيرافي في هذه المسألة هو ذا : «وقد احتجوا بشيء آخر هو أقوى من الأوّل ، وهو قول بعض العرب : ليس الطّيب إلّا

__________________

٥٢١ ـ الشاهد لحميد بن ثور في الأزمنة والأمكنة (٢ / ٣١٧) ، وأمالي ابن الحاجب (ص ٦٥٦) ، وتخليص الشواهد (ص ١٨٧) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٨٢) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٩ / ٢٧٠) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٧٥) ، وشرح الأشموني (١ / ١١٧) ، وشرح المفصّل (٧ / ١٠٤) ، والمقتضب (٤ / ١٠٠) ، ولحميد الأرقط في الكتاب (١ / ١١٧).

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٩٤).

٢٠٣

المسك ، قالوا : ولو كان في ليس ضمير الأمر والشأن لكانت الجملة التي في موضع الخبر قائمة بنفسها ونحن لا نقول : الطيب إلّا المسك ، وليس الأمر كما ظنّوا ، لأنّ الجملة إذا كانت في موضع خبر اسم قد وقع عليه حرف النفي فقد لحقها النفي في المعنى ، ألا ترى أنّك إذا قلت : ما زيد أبوه قائم ، فقد نفيت قيام أبيه ، كما لو قلت : ما زيد قائم ، فعلى هذا يجوز أن تقول : ما زيد أبوه إلّا قائم ، كأنّك قلت : ما أبو زيد قائم» ، هذا كلام السيرافي رحمه الله ، فأمّا توجيهك المسألة على ما صحّ في زعمك ، وهو أن تجعل الطّيب اسم ليس والمسك مبتدأ وخبره محذوف تقديره : ليس على الطيب إلا المسك أفخره أو على أن تكون «إلّا» بمعنى غير ، والتقدير : ليس الطيب غير المسك مفضلا أو مرغوبا فيه ، فشيء لم يسبقك إليه أحد ، ولم يخطر مثله قبلك ببال بشر ، وهو تقديرك الاسم مبتدأ وحذف خبره ، وهو أفخره مع كون اللفظ لا يقتضي هذا الخبر ولا يدل عليه ، وتقديرك في الوجه الآخر إلّا بمعنى غير تشير بها إلى أنّها وما بعدها صفة للطّيب على حدّ قوله عزّ وجلّ : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) [الأنبياء : ٢٢] أي : غير الله ، وجعلك الخبر محذوفا وهو مفضلا أو مرغوبا فيه ، فيكون المعنى عندك : أنّ الطّيب لا يرغب الناس فيه ، وإنّما يرغبون في المسك ، لأنّ هذا تقدير قولك : ليس الطيب غير المسك مرغوبا فيه ، وعلى أنّ سيبويه ذكر في حكايتهم ما أوجب التوقف عمّا أجازه من أنّ الوجه أن يكون في ليس إضمار ولا يكون حذفا ، فقال بعد أن قدم الوجه في قوله (١) : [البسيط]

... وليس منها شفاء الدّاء مبذول

وقولهم : ليس خلق الله أشعر منه : إلّا أنّهم زعموا أنّ بعضهم قال : ليس الطّيب إلا المسك ، وما كان الطيب إلا المسك ، ووجه توقفه عن أن يحمل ليس في لغتهم على ضمير الشأن والقصة أنّه وجدهم يرفعون المسك في (ليس) وينصبونه في (كان) ، فيقولون : ما كان الطّيب إلّا المسك ، فلو كان في (ليس) إضمار لوجب أن يكون في كان إضمار أيضا ، فكونهم يختصون الرفع بليس دون كان حتى لا يوجد منهم من يرفع المسك في كان ولا ينصب في ليس دليل على أنّ ليس هاهنا حرف لا عمل لها ، وبهذا يبطل قولك : إنه لو كان على إضمار أفخره في الوجه الأول أو إضمار مرغوبا فيه أو مفضلا في الوجه الثاني لوجب مثل ذلك في كان ، فيقال : ما كان الطيب إلا المسك ، على تقدير : إلا المسك أفخره ، أو على تقدير : غير المسك مفضلا أو

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٩٤).

٢٠٤

مرغوبا فيه ، ولو وجّهت أيها المتعسف هذه المسألة على ما وجّهه النحويون لأرحت واسترحت ، وهو أن تجعل الطيب اسم ليس وإلّا المسك بدلا منه ، والخبر محذوفا ، وتقديره ليس في الدنيا الطيب إلا المسك ، وعلى ذلك حملوا قول الشاعر : [الكامل]

٥٢٢ ـ لهفي عليك للهفة من خائف

يبغي جوارك حين ليس مجير

يريد : حين ليس في الدنيا مجير ، وقد أجاز أبو علي أن تكون اللام في الطيب زائدة على حدّ زيادتها في قولهم : ادخلوا الأوّل فالأوّل ، فيصير التقدير : ليس طيب إلا المسك ، على تأويل ليس في الوجود طيب إلّا المسك ، أي أنّ كل طيب غير المسك فليس بطيب على طريق المبالغة في وصف المسك ، وبالجملة فإنّ هذا القول الذي ذهب إليه النحويون لا يصح بما حكاه سيبويه من قولهم : وما كان الطيب إلا المسك على ما قدمت ذكره ، وليس ذلك لغتين ، فيقال : إنّ «ليس الطّيب إلا المسك» لغة قوم ، و «ما كان الطيب إلا المسك» لغة قوم آخرين ، بل القوم الذين يقولون : ليس الطيب إلا المسك ، فيرفعون ، هم القائلون : ما كان الطيب إلا المسك ، فينصبون على ما حكاه سيبويه ، وبهذا السبب توقف عن حمل (ليس) في لغتهم على أنّ فيها إضمارا ، وهذه اللغة ليست هي المشهورة ، وليس الشاذ النادر الخارج عن القياس يوجب إبطال الأصول.

المسألة الرابعة : قال أبو نزار : قال الله عزّ وجلّ : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) [النساء : ١٢] ، وقد ذكر في نصب كلالة أشياء كلّها فاسدة ، وخلط ابن قتيبة غاية التخليط ، والذي يقال : إنّ الكلالة قد فسّرت بتركة ليس فيها ولد ، لا جرم أنّ الإعراب ينطبق على هذا ، فإن المعتاد أنّ الإنسان إنما يدأب ليترك لولده بعد موته ، فإذا حضر الموت ولا ولد له ظهر تعبه ، فقوله : يورث يقدر بعده كالّا وكلالة ، فإنّ كلّ قد جاء بمعنى تعب ، والمعنى يورث في حال ظهور تعبه وكلاله ، وكلال مصدر كلّ ، وقد قال سيبويه : إنّ تاء التأنيث تدخل على المصدر المجردة وذوات الزوائد دخولا مطردا ، فهي تدل على المرة الواحدة ، فنصب كلالة لأنّه مصدر منقلب عن حال ، وما أكثر ذلك في كلامهم ، ومنه : أرسلها العراك فقال الرادّ عليه :

__________________

٥٢٢ ـ الشاهد للشمردل بن عبد الله الليثي في شرح التصريح (١ / ٢٠٠) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٩٢٧) ، والمقاصد النحوية (٢ / ١٠٣) ، وللتميميّ الحماسيّ في الدرر (٢ / ٦٣) ، وللتيميّ في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٩٥٠) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (١ / ٢٨٧) ، وجواهر الأدب (ص ٢٠٥) ، وشرح الأشموني (١ / ١٢٦) ، ومغني اللبيب (٢ / ٦٣١) ، وهمع الهوامع (١ / ١١٦).

٢٠٥

يا هذا غلطت أوّلا في التلاوة بإسقاط الواو من قوله عزّ وجلّ : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) ثم قلت : إنّ العلماء قد ذكروا في نصب كلالة أشياء جميعها عندك فاسد ، وإنّ تخليط ابن قتيبة فيها على تخليطهم زائد ، وسأبيّن صحّة أقوال العلماء فيها ، وأنّ الفساد إنما جاء من قلّة فهمك لمعانيها : [الوافر]

٥٢٣ ـ ومن يك ذا فم مرّ مريض

يجد مرّا به الماء الزّلالا

اعلم أنّ الكلالة فيما نحن بصدده هي في الأصل مصدر قولك : كلّ الميّت يكلّ كلالة فهو كلّ ، وذلك إذا لم يرثه ولد ولا والد ، وكذلك أيضا يقال : رجل كلّ إذا لم يكن له ولد ولا والد ، فهذا أصل الكلالة ، أعني كونها حدثا لا عينا ، ثم يوقعونها على العين ولا يريدون بها الحدث ، كما يفعلون ذلك بغيرها من المصادر ، فيقولون : هذا رجل كلالة أي : كلّ ، كما يقولون : عدل أي : عادل ، وعلى هذا الوجه حمل جمهور العلماء وأهل اللغة قول الله عز وجلّ :

(وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) [النساء : ١٢] فجعلوا الكلالة اسما للمورث ، ولم يريدوا أنّها بمعنى الحدث ، فيكون نصب كلالة على هذا من وجهين :

أحدهما : أن يكون خبر كان.

والثاني : أن يكون حالا من الضمير في «يورث» على أنّ تقدير كان هي التامة ، فيكون التقدير فيه : وإن وقع أو حضر رجل يورث وهو كلالة أي : كلّ.

وعلى هذين الوجهين أعني في نصب الكلالة ذهب أبو الحسن الأخفش ، وأجاز غيره أن تكون الكلالة في الآية على بابها ، أعني أن تكون اسما للحدث دون العين ، فيكون انتصابها أيضا من وجهين :

أحدهما : أن تكون من المصادر التي وقعت أحوالا ، نحو : جاء زيد ركضا ، والعامل فيه يورث على حدّ ما تقدّم ، وكلالة هاهنا مصدر في موضع الحال كما كان في قولهم : هو ابن عمّي دنية.

والوجه الآخر : أن يكون انتصاب كلالة في الآية انتصاب المصادر التي تقع أحوالا ، ويكون في الكلام حذف مضاف تقديره : يورث وراثة كلالة ، وعلى ذلك قولهم : ورثته كلالة ، وقول الفرزدق : [الطويل]

٥٢٤ ـ ورثتم قناة الدّين لا عن كلالة

عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

__________________

٥٢٣ ـ البيت للمتنبي في ديوانه (ص ١٣٠).

٥٢٤ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (ص ٨٥٢) ، والكامل (٣ / ٢٠٤) ، واللسان (كلل).

٢٠٦

أي : ورثتموها عن قرب واستحقاق ، فهذه أربعة أوجه من كلام العلماء في نصب الكلالة لا شبهة فيها ولا إنكار على مستعمليها.

وقد أجاز قوم من أهل اللغة أن تكون الكلالة اسما للوارث وهو شاذّ والحجّة فيه ما روي عن الحسن أنّه قرأ : وإن كان رجل يورث ويورث كلالة فإن صحّ هذا الوجه جاز أن يكون انتصابها على ما انتصب عليه أولا ، وهو أن تكون خبر كان أو حالا من الضمير في يورث إذا جعلت كان تامة ، إلّا أنّه لا بدّ من تقدير حذف مضاف تقديره : وإن كان الميت ذا كلالة ، وهذا كله واضح بيّن بعيد من التخليط والإشكال ، والكلام الذي هو جدير بالنبذ والرفض هو قولك : «إنّ الكلالة قد فسرت بتركة ليس فيها ولد ، وإنّ المعتاد أن الإنسان إنّما يدأب ليترك لولده بعد وفاته ، فإذا حضره الموت ولا ولد له ظهر تعبه» ، ثم ذكرت بعد ذلك أنّها من المصادر المنصوبة على الحال ، فنقضت كلامك وأوجبت على سامعك ملامك ، وذلك أنّك زعمت أنّ الكلالة قد فسرت بتركة الميت ، وهذا مذهب من يجعل الكلالة اسما للوارث دون الموروث ، فتكون على هذا اسما للشخص دون الحدث ، ثم قلت : إنها من المصادر المنصوبة على الحال ، وإذا كانت مصدرا فهي اسم للحدث ، فهذا تناقض بيّن ، وقلت : إنّ الكلالة مشتقة من كلّ إذا تعب وإنّ التقدير : يورث ذا كلالة ، فغلطت ووهمت وفي مهامه الجهالة همت ، ولو كانت الكلالة مصدر كلّ إذا تعب لكان اسم الفاعل منها كالّا أو كليلا ، ولجاز في المصدر أن يقال : كلّا وكلولا ، والمعروف عند أهل اللغة إنما هو كلّ ، لأنه يقال : رجل كلّ لا ولد له ولا والد ، وقد كلّ يكلّ كلالة ، فلمّا ألزموا المصدر بالكلالة واسم الفاعل بالكلّ علم أنّ الكلالة ليست مصدرا لكل إذ تعب.

وأمّا قولك : «إنّ المعتاد في الإنسان أنّه إنما يدأب ليترك لولده ، فإذا حضره الموت وليس له ولد ظهر تعبه» فهو بحمد الله كلام غير محصّل ، وذلك أنّه إذا كان إنّما يتعب لولده فينبغي إذا ورث كلالة أن لا يكون له تعب إذ لا ولد له ، وأمّا قولك : إن سيبويه قال : إن تاء التأنيث تدخل على المصادر المجرّدة وذوات الزيادة دخولا مطّردا ، فهي تدل على المرّة الواحدة ، فهذا منك غلط فاضح ، وطريق وهمك فيه بيّن واضح ، وذلك أنّك بيّنت أنّ الكلالة مصدر كلّ إذا تعب ، ثم وقع في نفسك أنّه لا يجوز أن يكون مصدر كلّ إلّا الكلالة فقلت : لا ينكر دخول الهاء لأنّ سيبويه قد أجاز دخولها على المصادر فغلطت في ذلك من وجهين :

أحدهما : أنّ المرة الواحدة في باب المصادر الثلاثية إنما بابها الفعلة كضربته

٢٠٧

ضربة ، وذلك هو المطّرد فيها ، وأنّ المصدر الذي هي الجنس يختلف إلى أوزان مختلفة ، ألا ترى أنّك تقول : قعدت قعودا وجلست جلوسا؟ ولا يجوز غير ذلك ، لا تقول : جلست جلوسة ولا قعدت قعودة ، ولو كانت الكلالة يراد بها المرة الواحدة لم يجز هنا إلّا الكلّة.

والوجه الثاني : من غلطك هو جهلك بكون الكلالة جنسا لا واحدا من جنس يراد بها المرة ، وذلك قول الأعشى : [الطويل]

٥٢٥ ـ فآليت لا أرثي لها من كلالة

ولا من حفّى حتّى تزور محمّدا

ألا ترى أنّ الكلالة هنا بمعنى الكلال ، وليس يراد بها المرة الواحدة؟

وأمّا قولك : إنّ كلالة مصدر منقلب عن حال فكلام بيّن الاضطراب مبنيّ على غير الصواب ، إذ المصدر إذا صار حالا فإنّما يقال : انقلب إليها لا انقلب عنها ، لأنه منتقل عن انتصابه على أنّه مفعول مطلق إلى انتصابه على أنّه حال.

المسألة الخامسة : قال أبو نزار : قال سيبويه (٢) : لو بنيت من شوى مثل عصفور لقلت : شوويّ ، ووجهه مذهبه أنّ الأصل شويوي لا خلاف فيه ، فهو يقلب الياء الأولى واوا كما يفعل في رحى ، فإنّه رحويّ ، ثم يفتح الواو قبلها ، وما قلبها واوا إلّا معتزما كسرها كما في النّسب ، فلمّا فعل ذلك انقلب الواو التي بعدها ياء ، وهذا لا يليق بصنعة البناء ، ولا يجوز أن يتظاهر بهذا من له صنعة تامة وقوة في علم التصريف ، والذي ذكره سيبويه لا يشهد له أصل ولا يناسب الصنعة ، وإنما هو تحكّم منه ، والصحيح أن يقال : إن الأصل شويويّ ، ويجب أن يمضي القياس في قلب الواوين ياءين لاجتماعهما مع الياءين وسبقهما بالسكون ، فصار إلى شيّيّ ، فاختزلت حركة الياء الثانية وهي الضمة ، ثم حذفت لالتقاء الساكنين ، ثم حذفت الياء الأخرى لأنه بقي ساكنان أيضا ، فبقي شيّ ، فقلبت الضمة التي على الشين إلى الكسرة فصار إلى شيّ ، كما فعلوا في بيض جمع أبيض ، وإنّما هو بيض بضم الباء ، ثم كسرت الباء المجاورة الياء ، فإن قيل : فقد أجحفت بالكلمة بهذه الحذوف قلت : العرب تمضي القياس وإن أفضى إلى حذف معظم الكلمة ، وشواهد ذلك كثيرة.

قال الرادّ عليه : يا هذا لقد خضت بحرا لست من خوّاضه ، وركبت جامحا

__________________

٥٢٥ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١٨٥) ، وخزانة الأدب (١ / ١٧٧) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٥٧٧) ، وشرح المفصّل (١٠ / ١٠٠).

(١) انظر الكتاب (٤ / ٥٥٠).

٢٠٨

لست من روّاضه ، إنّك قلت هذه المسألة عن سيبويه فحرّفت وخرّفت ، وأحلت إذ عليه بخطائك أحلت وأنا أنصّ كلام سيبويه ، ثم أظهر بعد ذلك فساد ما ذهبت إليه ، وأوجّه هذه المسألة على الوجه الصحيح المطّرد الجاري على طريق كلام العرب بمشيئة الله وعونه.

أمّا نصّ كلام سيبويه فيها فهو (١) : «وتقول في فعلول من شويت وطويت : شوويّ وطوويّ ، وإنّما حدّها وقد قلبوا الواوين طيّيّ وشيّيّ ، ولكنّك كرهت الياءات كما كرهتها في حيّيّ حين أضفت إلى حيّة فقلت : حيويّ».

وهذا كلام قد جمع مع الاختصار البيان ، فاستغنى عمّا أوردته في توجيهك بزعمك من الهذيان.

وأمّا قولك : «والصحيح في هذا شويوي ويجب أن يمضى في القياس في قلب الواوين ياءين ، فتصير «شيّيّ» ثم تختزل حركة الياء الثانية وهي الضمة ، ثم تحذف لالتقاء الساكنين ، ثم تحذف الياء الأخرى لالتقاء الساكنين ، فتصير إلى شيّ ، ثم تكسر الشين فتصير إلى شيّ ، كما فعلوا في بيض» فإنّك صرفت في هذا التصريف عن وجه الصواب ، وأتيت فيه بما لا يصدر مثله عن ذوي الألباب ، ما خلا قولك : إن الواوين قلبتا ياءين لاجتماعهما مع الياءين وسبقهما بالسكون ، وهو قول سيبويه الذي بدأنا به ، ألم تعلم أنّه تقرّر عند جميع النحويين أنّ كل اسم كانت فيه ياء أو واو وسكّن ما قبلها أنّ حركتها لا تختزل لاما كانت أم عينا؟ فمثال اللام قولنا : ظبي ودلو وكرسيّ وعدو ، ومثال العين : أبيت وأعين وأدون وأسوق وأعينة وأخونة ومخيط ومقول ، وربما نقلوا حركة الياء أو الواو إلى الساكن الذي قبلها إذا كان يقبل الحركة ، وذلك مثل معيشة ومشورة ، ولهذا قياس يذكر في التصريف ، فيعلم بهذا فساد قولك : إنّ حركة الياء اختزلت مع كون ما قبلها ساكنا ، وقد تقرّر أنّه إذا سكنّ ما قبل الياء والواو في هذا النحو صحّتا ، وإنما تختزل حركة الياء إذا انكسر ما قبلها في مثل : القاضي ، فإنّ الياء تكون ساكنة في الرفع والجر لثقل الحركة عليها مع كسر ما قبلها ، ولو سكن ما قبلها لصحّت ، كذلك الواو أيضا تختزل حركتها إذا انضم ، ما قبلها في مثل يغزو ، والأصل فيها أن تكون متحركة بالضم إلّا أنّه كره ذلك فيها لثقل الضمة عليها مع تحرّك ما قبلها ، وإذا ثبت فساد هذه المقدمة فسد ما بنيته عليها من الحذوف المجحفة الملبسة التي يمنعها جميع النحاة ، ثم قلت : «العرب تمضي القياس وإن أفضى إلى حذف معظم حروف الكلمة» فليس هذا القول بصحيح على

__________________

(١) انظر الكتاب (٤ / ٥٥٠).

٢٠٩

الإطلاق ، إنما ذلك في مثل الأمر من وعى ووشى ، فإنّه يرجع إلى حرف واحد من قبل أنّ فعل الأمر من كل فعل معتل اللام لا بدّ من حذف لامه ، وكل واو وقعت بين ياء وكسرة في مثل : يعد ويزن فلا بدّ من حذفها ، فالضرورة قادت إلى ذلك مع زوال اللّبس ، وأما مثل : قاول وبايع وما يجري مجراه فليست فيه ضرورة موجبة للحذف كوجوبه في الأمر من وعى ووشى.

ثم قال الرادّ عليه : اعلموا أنّ معرفة هذه المسألة إنما تصح بعد معرفة النسب إلى حيّة ، فإذا عرف كيف ينسب إليها عرف كيف يبنى من «شوى» مثل عصفور ، وذلك أنّ قياس النّسب إلى حيّة يوجب أن يقال فيها على الأصل : حيّيّ ، فتدخل ياء النسبة المشدّدة على ياء حيّة المشدّدة ، فيجتمع أربع ياءات ، إلّا أنّ العرب كرهت اجتماع الياءات ، ففتحوا الياء الأولى الساكنة لتنقلب الياء الثانية ألفا لكونها قد تحركت وانفتح ما قبلها ، فإذا صارت ألفا على هذه الصورة وهي حيايّ وجب قلب الألف واوا لأنّ ياء النسبة لا يكون ما قبلها إلا مكسورا ، والألف لا تقبل الحركة ، وإذا لم يمكن تحريكها وجب أن تقلب إلى حرف يقبل الحركة وهو الواو ، كما فعلوا ذلك في رحى وعصا حين قالوا : رحويّ وعصويّ ، وإنما لم يقلبوها ياء كراهة اجتماع ثلاث ياءات ، فقد صار الأصل في حيويّ : حيّيّ وحيايّ ثم حيويّ ، فهذا هو الأصل المطّرد الجاري في كلام العرب ، وعلى هذا يصحّ لكم كيف يبنى من شويت مثل عصفور ، وذلك أنّ حقه إذا جاء على الأصل : شويوي ، ثم يجب قلب الواوين ياءين لاجتماعهما مع الياءين وسبقهما بالسكون ، فيصير «شيّيّ» مثل قولك : حيّ وحيّيّ قد وجب فيه تحريك الياء الساكنة بالفتحة ثم قلب الياء الثانية ألفا ثم قلبها واوا بعد ذلك إلى أن صارت إلى قولنا : حيويّ ، وكذلك في قولهم : شيي فتحوا الياء الأولى الساكنة ، فلمّا تحرّكت عادت إلى أصلها أن تكون واوا لأنّها عين الكلمة من شوى ، وإنّما قلبت ياء لسكونها ، فقلت : شوييّ ، ثم قلبت الياء الثانية ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصار شوايّ ، ثم وجب قلب الألف واوا لمشابهة الياء المشدّدة التي بعد الألف المشددة التي للنّسب ، فلمّا كانت ياء النسبة تقلب الألف التي قبلها واوا في مثل : رحويّ إذا نسب إلى رحى فكذلك تقلب هذه الياء المشددة الألف واوا وإن لم تكن للنسب لأنّها صورتها في مثل هذا الموضع ، فلذلك قلت : شوويّ ، والأصل : شيّيّ ثم شوييّ ثم شوايّ ثم شوويّ على مساق الأمر في النسب إلى حيّة ، فهذا عليه جميع فضلاء النحاة ، ولم نعلم أنّ أحدا منهم تعدّاه إلى سواه.

المسألة السادسة : قال أبو نزار : قد شاع في كلام العرب حمل الشيء على معناه

٢١٠

لنوع من الحكمة ، وذلك كثير في القرآن العزيز : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) [يوسف : ١٠٠] بمعنى : لطف بي ، وكذا قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص : ٥٨] ، فإنّ ابن السّرّاج حمله على المعنى ، لأنّ من بطر فقد كره ، والمعنى : كرهت معيشتها ، وهذا أكثر من أن يحصى ، وعليه قول المتنبي (١) : [البسيط]

٥٢٦ ـ لو استطعت ركبت النّاس كلّهم

إلى سعيد بن عبد الله بعرانا

قالوا : معناه لو استطعت جعلت الناس بعرانا فركبتهم إليه ، لأنّ في «ركبت» ما يؤدي معنى «جعلت» وليس في «جعلت» معنى «ركبت».

فقيل في جوابه : غيّرت لفظ التلاوة ونقلت معنى الكلمة عمّا وضعت له ، أمّا لفظ التلاوة فهو : «وقد أحسن بي» ، وأما نقل الكلمة فهو تأولك «أحسن بي» على «لطف بي» ، وإنّما حملك على ذلك أنّك وجدت «أحسن» تعدّى بإلى في مثل قول القائل : قد أحسنت إليه ، ولا تقول : قد أحسنت به ، وجهلت أنّ الفعل قد يتعدّى بعدّة من حروف الجر على مقدار المعنى المراد من وقوع الفعل ، لأنّ هذه المعاني كامنة في الفعل ، وإنما يثيرها ويظهرها حروف الجر ، وذلك أنّك إذا قلت : خرجت ، فأردت أن تبين ابتداء خروجك قلت : خرجت من الدار فإن أردت أن تبين أنّ خروجك مقارن لاستعلائك قلت : خرجت على الدابة ، فإن أردت المجاوزة للمكان قلت : خرجت عن الدار ، وإن أردت الصحبة قلت : خرجت بسلاحي ، وعلى ذلك قال المتنبي : [الطويل]

٥٢٧ ـ أسير إلى إقطاعه في ثيابه

على طرفه من داره بحسامه

فقد وضح بهذا أنّه ليس يلزم في كل فعل أن لا يتعدّى إلا بحرف واحد ، ألا ترى أنّ «مررت» المشهور فيه أنه يتعدى بالباء ، نحو : مررت به ، وقد يتعدى بإلى وعلى ، فتقول : مررت إليه ومررت عليه ، وكذلك قوله سبحانه : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) ، وذلك أنّ الباء قد جاءت متصلة بحسن وأحسن ، فتقول : حسن به ظنّي ، ثم تنقله بالهمزة : أحسنت به الظن ، وذلك في الإساءة ، فيكون التقدير في الآية : وقد أحسن الصنع بي ، ثم حذف المفعول لدلالة المعنى عليه ، وحذف المفعول في العربية كثير ، من ذلك قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [لقمان : ١٧] ، يريد : وأمر الناس بالمعروف وانههم عن المنكر ، وكذا قوله تعالى : (رَبِّيَ الَّذِي

__________________

٥٢٦ ـ انظر ديوانه (ص ١٦٨).

٥٢٧ ـ الشاهد للمتنبي في ديوانه (٤ / ١١٥) ، وتاج العروس (سبع).

٢١١

يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] ، أي : يحيي الموتى ويميت الأحياء ، فيصير المعنى في قوله تعالى : (أَحْسَنَ بِي) أي : أوقع جميل صنعه بي ، وإذا عدّيته بإلى يصير المعنى فيه الإيصال ، كأنه قال : أوصل إحسانه إليّ ، والمعنى متقارب ، وإن كان تقدير كل واحد منهما غير تقدير الآخر ، فليس ينبغي أن يحمل فعل على معنى فعل آخر إلّا عند انقطاع الأسباب الموجبة لبقاء الشيء على أصله ، كقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور : ٦٣] ، والشائع في الكلام : يخالفوه أمره ، فحمل على معنى : يخرجون عن أمره ، لأنّ المخالفة خروج عن الطاعة ، وكذا قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) [الأعراب : ٢٠٤] ، والشائع في الكلام فاستمعوه ، وإنما حمل على معنى أنصتوا.

قال : وأما قولك في بيت أبي الطيب : «إنّه على معنى «جعلت» فيصير «ركبت» قد تعدّى في هذا الموضع إلى مفعولين» ، فهو غلط منك ، وإنما غلّطك في ذلك أنّك رأيت بعرانا اسما جامدا لا يصح نصبه على الحال ، وإنما ينصب على الحال عندك ما كان مشتقا من فعل كضاحك ومسرع ، وهذا وهم منك ، وهب أنّا سلّمنا لك هذا التوجيه الذي وجهت به بيته هذا ، فكيف تصنع في بيته الآخر : [الوافر]

٥٢٨ ـ بدت قمرا ومالت خوط بان

وفاحت عنبرا ورنت غزالا

أتراك تجعل هذه المنصوبات كلّها مفعولات ، وتتصيد في كل فعل من هذه الأفعال معنى يصير به متعديا إلى مفعول به؟ وكيف تصنع في قولهم : بعت الشاء شاة بدرهم ، وبيّنت له حسابه بابا بابا ، وكلّمته فاه إلى فيّ؟ فهذه الأسماء الجامدة كلّها عند النحويين أحوال ، ويكون تقديره قوله : بدت قمرا : مضيئة كالقمر ، ومالت خوط بان : متثنّية ، وفاحت عنبرا أي : طيّبة النّشر كالعنبر ، ورنت غزالا أي : مليحة النظر كالغزال ، وممّا يدلّك على أنّها أحوال دخول واو الحال عليها إذا صارت جملة ، كقولك : بدت وهي قمر ، ومالت وهي خوط بان ، وكذلك بيّنت له حسابه بابا بابا ، المعنى : مبوّبا مفصّلا ، وبعت الشاء شاة بدرهم ، أي : مسعّرا ، ويكون قول أبي الطيب على ذلك : ركبت الناس بعرانا بمعنى مركوبين لي وحاملين ، وممّا يدلّ على أنّ بعرانا في بيت أبي الطيب حال لا مفعول ثان للجعل كونه يجوز إسقاطه ، ولو كان مفعولا ثانيا لم يجز إسقاطه ، ألا ترى أنّه لو قال : ركبت الناس كلّهم إلى سعيد لم يحتج إلى زيادة ، ولو قال : جعلت الناس كلّهم إلى سعيد وسكت لم يتمّ الكلام ،

__________________

٥٢٨ ـ الشاهد للمتنبي في ديوانه (ص ١٢٥) ، وأمالي المرتضى (٢ / ١٢٩) ، والخزانة (١ / ٥٣٧).

٢١٢

وهذا مما يشهد بفساد ما ذهبت إليه ، وأيضا فإنّ الركوب لم يجئ في كلام العرب بمعنى الجعل كما جاء الترك في مثل الشاعر : [الكامل]

٥٢٩ ـ وتركتنا لحما على وضم

لو كنت تستبقي على اللّحم

فعدّت «تركت» لمّا حمله على معنى «جعلت» ، فأمّا الركوب بمعنى الجعل فليس بموجود في شيء من كلام العرب.

المسألة السابعة : قال أبو نزار : وهذه المسألة سئلت عنها بغزنة لمّا دخلتها ، فبيّنت مشكلها للجماعة وأوضحتها ، وذلك أني سئلت عن قول الراجز : [الرجز]

٥٣٠ ـ وقوّل إلّا ده فلا ده

فذكرت أنّ هذه من باب كلمات نابت عن الفعل فعملت عمله ، وبعضها في الأمر وبعضها في الخبر ، نحو : صه ومه ، وبله زيدا ، وهيهات بمعنى بعد ، و «ده» في كلام العرب بمعنى صحّ أو يصحّ ، ألا ترى أنّ قوما جاؤوا إلى سطح الكاهن وخبؤوا له خبيئة فسألوه فلم يصرّح فقالوا : لا ده ، أي : لا يصحّ ما قلت ، فقال لهم : «إلّا ده فلا ده ، حبة برّ في إحليل مهر» فأصاب ، فكأنه قال : إلّا يصحّ فلا يصحّ أبدا ، لكنني أقول في المستقبل ما تشهد له الصحة ، وكان كما قال ، إلّا أنّ التنوين الداخل على هذه الكلمة ليس هو على نحو التنوين الداخل على رجل وفرس ، ولكنه تنوين دخل على نوع من تنكير.

قال الرادّ عليه : قولك : «ده اسم من أسماء الفعل» ليس بصحيح على مذهب الجماعة ومن له حذق بهذه الصناعة ، والصحيح في هذه الكلمة أنّها اسم فاعل من دهي يدهى فهو ده وداه ، والمصدر منه الدّهاء والدّهي فيكون المراد بده أنّه فطن ، لأنّ الدّهاء الفطنة وجودة الرأي ، فكأنه قال : إلّا أكن دهيّا أي : فطنا فلا أدهى أبدا ، هذا أصله ، ثم أجريت هذه اللفظة مثلا إلى أن صارت يعبّر بها عن كل فعل تغتنم الفرصة في فعله ، مثال ذلك أن يقول الإنسان لصاحبه وقد أمكنت الفرصة في طلب ثأر : إلّا ده فلا ده أيّ : تطلب ثأرك الآن فلا تطلبه أبدا ، وهذا الرجز لرؤبة ، وقبله : [الرجز]

__________________

٥٢٩ ـ الشاهد لحارث بن وعلة الذهلي في شرح الحماسة للمرزوقي (ص ٢٠٦).

٥٣٠ ـ الشاهد لرؤبة بن العجاج في ديوانه (ص ١٦٦) ، ومجاز القرآن (١ / ١٠٦) ، وشرح المفصّل (٤ / ٨١).

٢١٣

٥٣١ ـ فاليوم قد نهنهني تنهنهي

وأول حلم ليس بالمسفّه

وقوّل إلّا ده فلا ده

ومعناه : إلّا تفلح اليوم فمتى تفلح؟ أي : إلّا تنته اليوم فلا تنتهي أبدا ، فهذا معنى ده في هذا المثل.

وأمّا إعرابه فإنّه في موضع نصب على خبر كان المحذوفة ، تقديره : إلّا أكن دهيّا فلا أدهى أبدا ، ونظير ذلك من كلام العرب : مررت برجل صالح إلّا صالحا فطالح ، تقديره : إلّا يكن صالحا فهو طالح ، وإننّما أسكن الياء وكان من حقها أن تكون منصوبة من قبل أنّ الأمثال تتنزّل منزلة المنظوم ، وهذه الياء حسن إسكانها في الشعر ، كقوله (٢) : [البسيط]

يا دار هند عفت إلّا أثافيها

[بين الطويّ فصارات فواديها]

فقد ثبت بهذا أنّ «ده» اسم فاعل لا اسم فعل ، وهي معربة لا مبنية ، وتنوينها تنوين الصرف لا تنوين التنكير ، ويذلك على أنّها ليست من أسماء الأفعال كونها واقعة بعد حرف الشرط ، ألا ترى أنه لا يحسن إلّا صه فلا صه وإلّا مه فلا مه وإلّا هيهات فلا هيهات.

المسألة الثامنة : قال أبو نزار : أنشدني شيخي الفصيحيّ للأعشى : [المنسرح]

٥٣٢ ـ آنس طملا من جديلة مش

غوفا بنوه بالسّمار غيل

فسأل عن غيل ، فقلت : قد جاء مادتها ساعد غيل للممتلئ ، ألا ترى إلى قوله : [الرجز]

٥٣٣ ـ [لكاعب مائلة في العطفين]

بيضاء ذات ساعدين غيلين

والسّمار : اللبن ، كأنّه يقول : إنّ بني هذا الصائد امتلؤوا من شرب اللبن ، إلّا أنّ الراجز بناه على فعال ، فقدر غيلا على زنة حمار وكتاب ثم جمعه على غيل كما قالوا : حمر وكتب ، فإن قيل : فما سمعنا غيالا قيل : قد أسلفنا أنّ العرب تنطق بجمع لم يأت واحده ، فهي تقدّر وإن لم يسمع.

__________________

٥٣١ ـ الرجز لرؤبة في ديوانه (ص ١٦٦).

(١) مرّ الشاهد رقم (٦١).

٥٣٢ ـ الرجز لمنظور بن مرثد الأسدي في تاج العروس (غيل) ، وبلا نسبة في لسان العرب (غيل) ، وتهذيب اللغة (٨ / ١٩٥) ، والمخصّص (١ / ١٦٨) ، ومقاييس اللغة (٤ / ٤٠٦) ، وديوان الأدب (٣ / ٣٠٥).

٢١٤

وأجيب بأن قيل له : قد أتعبت الأسماع بلغطك وغلطك ، وأزعجت الطباع بخطائك وسقطك يا هذا ، إنّ تفسيرك للغيل بأنهم الذين امتلؤوا من شرب اللبن قياسا على الغيل وهو الساعد الممتلئ شيء لم يذهب إليه أحد من أهل اللغة ، وإنما ذهبوا إلى أنّ الغيل هو أن ترضع المرأة ولدها وهي حامل ، واسم ذلك اللبن أيضا الغيل ، ولم يقل أحد منهم : إنّ الغيل هو الامتلاء من شرب اللبن ، وإنما فسّرت لفظة الغيل في بيت الأعشى على غير هذا ، وهو : [البسيط]

٥٣٤ ـ إنّي لعمر الّذي خطّت مناسمها

تخدي وسيق إليه الباقر الغيل

على وجهين : أحدهما : أنّها الكثيرة من قولهم : غيل أي : كثير ، وقيل : الغيل هاهنا السّمان من قولهم : ساعد غيل أي : سمين ، والغيل بمعنى الكثير هو المراد في البيت الأول ، لأنّه يصف هذا الصائد بالفقر وكثرة الأولاد ، وأنّهم ليس لهم غذاء إلّا السّمار ، وهو اللبن الرقيق ، وأما قولك : إن غيلا جمع غيال واحد لم ينطق به فمن أفحش غلطاتك وأفضح سقطاتك ، بل هو جمع غيل ، والغيل : الماء الكثير وجمعه غيل ، ونظيره سقف وسقف ، وكذلك الغيل السّمان واحدها غيل أيضا ، وإنما غلطك في ذلك أنّ الغالب في فعل أن يكون جمعا لفعال أو فعال ، مثل حمار وحمر وقذال وقذل ، فقضيت أنّ غيلا جمع غيال ، وأمّا تفسيرك السّمار بأنّه اللبن على الإطلاق فغلط يجوز على مثلك من أهل التحريف ، وإنما صوابه أن تقول : السّمار : اللبن الرقيق أو اللبن المخلوط بالماء لأن تسمير اللبن هو خلطه بالماء ، فإن أكثر فيه الماء سمّوه المضيّح ، وتفسير البيت على وجه الصواب أنّه يصف حمار وحش أو ثور وحش آنس طملا أي : صائدا ، والطّمل : الذئب شبهه به ، يقول : هذا الثور الوحشي آنس صائدا له عائلة وأطفال ليس لهم غذاء إلّا اللبن المخلوط بالماء ، فهو لذلك أشدّ الناس اجتهادا في أن ينال صيد هذا الثور الوحشي ، ليشبع به عياله وأولاده.

المسألة التاسعة : قال أبو نزار : وسئلت في بغداد عن قول الشاعر (٢) : [المديد]

غير مأسوف على زمن

ينقضي بالهمّ والحزن

فلم يعرف وجه رفع غير ، وأوّل من أخطأ فيه شيخنا الفصيحيّ فعرفته ذلك ، والذي ثبت الرأي عليه أنّ المعنى لا يؤسف على زمن ، فغير مرفوع بالابتداء ، وقد تمّ

__________________

٥٣٤ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١١٣) ، ولسان العرب (غيل) ، وتهذيب اللغة (٣ / ٤١٦) ، وتاج العروس (غيل) ، وكتاب الجيم (٣ / ١٤).

(١) مرّ الشاهد رقم (٢٧٢).

٢١٥

الكلام وحصول الفائدة مسدّ الخبر ، ولا خبر في اللفظ ، كما قالوا : أقائم أخواك ، والمعنى : أيقوم أخواك ، فقائم مبتدأ ، وسدّ تمام الكلام مسدّ الخبر ولا خبر في اللفظ.

فقيل له : عجبنا أن أخطأت مرة بالصواب ، وجريت في توجيه هذه المسألة على سنن الإعراب.

المسألة العاشرة : قال أبو نزار : تقول العرب : جئت من عنده ، لأنّ من قضى وطرا من شخص فقد صار المعنى عنده غير مهمّ في نظره ، لأنّ الذي انقضى قد خرج عن حدّ الاهتمام به ، وبقي اختصاص الشخص بالموضع المختص بمن كان الغرض متعلقا به ، فأردت أن تذكر انفصالك عن مكان يخصه ، فقلت : من عنده ، فأمّا إذا كان الإنسان قد اعتزم أمرا يريده من شخص فإن المكان القريب من ذلك الشخص لا يهمّه ، وإنما المهم ذكر الإنسان الذي حاجتك عنده ، فالحكمة تقتضي أن تقول : إليه ولم يجز إلى عنده ، هذه حكمة العرب ، فأمّا سيبويه فقال : استغنوا بإليه عن «عنده» كما استغنوا بمثل وشبه عن ك.

فقال الرادّ عليه : يا هذا كانت إصابتك في مسألتك آنفا فلتة اغتفلتها ، وجميع ما وجّهت به في مسألتك هذه خارج عن الأصل المنقول ، ولم يذهب إليه أحد من ذوي العقول ، وذلك أنّ الذي ذهب إليه المحصّلون من أهل هذه الصناعة هو أنّ الظروف التي ليست بمتمكنة مثل : عند ولدن ومع وقبل وبعد حكمها أن لا يدخل عليها شيء من حروف الجر لعدم تمكنها وقلة استعمالها استعمال الأسماء ، وإنّما أجازوا دخول من عليها توكيدا لمعناها وتقوية له ، ولمّا لم يجز في شيء منها أن يكون انتهاء إلّا بذكر إلى لم يجز دخولها عليه تأكيدا لمعناه ، كما كان ذلك في من ، وقد قدمت أنّ حكم هذه الظروف أن لا يدخل عليها شيء البتّة من حروف الجر للزومها الظرفية وقلّة تصرّفها ، ولو لا قوة الدلالة فيها على الابتداء وقوة من على سائر حروف الجر بكونها ابتداء لكل غاية لما جاز دخول من عليها ، ألا ترى أنّه قد جاء في كلامهم كون «من» يراد بها الابتداء والانتهاء في مثل : رأيت الهلال من خلل السّحاب ، فخلل السّحاب هو ابتداء الرؤية ومنتهاها ، فهذا مما يدلّ على قوة من وضعت إلى ، فلذلك أجازوا : من عنده ومن معه ومن لانه ومن قبله ومن بعده ولم يجيزوا إلى عنده وإلى قبله وإلى بعده ، فهذه خمسة الظروف لا يدخل عليها شيء من الحروف الجارة سوى من ، وسبب ذلك ما تقدم ذكره.

وأما قولك : إنّ سبب ذلك هو أنّ من قضى وطرا إلى آخره فهذيان المبرسمين

٢١٦

ودعوى المتحكّمين ، وذلك أنّه لو كان الأمر على ما ذهبت إليه لامتنع أن تقول : رجعت إلى داره ، فينبغي على هذا أن يكون الصواب : رجعت إليه وعدت إليه ، فيكون قول من قال : رجعت إلى داره وعدت إلى منزله ، لا يصحّ كما لا يصح «إلى عنده» ، لأنّ المهم إنما هو الشخص دون محلّه ، وإذا امتنع ذلك مع عنده فكذلك يمتنع مع البيت والمنزل وغيرهما ، وأمّا قولك : «إنّ المكان القريب من ذلك الشخص لا يهمّه» فإنّ هذا الكلام يقتضى منه أنه إذا بعد مكانه منه احتيج إلى ذكره فيقال : رجعت إلى عنده ، وذلك أنّه إنّما جاز إسقاطه لقرب المكان الذي فيه الشخص ، واستغنى عن ذكره لقربه ، فيلزمه أن لا يسقطه عند بعده ، ولو قدّرنا أنّ جميع ما ذكرته من جواز دخول من على عند وامتناع دخول إلى عليها صحيح لوجب عليك أن تستأنف جوابا آخر عن امتناع دخول إلى على (قبل) و (بعد) و (مع) و (لدن) وجواز دخول من عليها ، وليس في جميع ما ذكرته جواب عن ذلك ، وليس الجواب عند النحويين إلا ما قدّمناه فافهم ذلك. انتهت المسائل العشر.

من أبيات المعاني المشكلة الإعراب

قال السخاوي في (سفر السعادة) : من أبيات المعاني المشكلة الإعراب ، قال : ولسنا نعني بأبيات المعاني ما لم يعلم ما فيه من الغريب ، وإنّما يعنون بأبيات المعاني ما أشكل ظاهره وكان باطنه مخالفا لظاهره ، وإن لم يكن فيه غريب ، أو كان غريبه معلوما ، قوله : [الطويل]

٥٣٥ ـ ومن قبل آمنّا وقد كان قومنا

يصلّون للأوثان قبل محمّدا

نصب محمّدا بآمنّا لأنه بمعنى صدّقنا محمّدا ، وقيل : بإسقاط الخافض ، وهذا أحسن ، وقوله : [الطويل]

لقد قال عبد الله شضرّ مقالة

كفى بك يا عبد العزيز حسيبها

عبد الله مثنى حذف نونه للإضافة وألفه لالتقاء الساكنين وعبد منادى مرخم عبدة ، ثم ابتدأ فقال : العزيز حسيبها ، كما تقول : الله حسيبك ، انتهى.

الكلام في قوله تعالى : (وَرُوحٌ مِنْهُ)

في تفسير الثعلبي : كان لهارون الرشيد غلام نصراني جامعا لخصال الأدب وكان الرشيد يحاوله ليسلم فيأبى ، فألحّ عليه يوما فقال : إن في كتابكم حجّة لما

__________________

٥٣٥ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (أمن) ، وأمالي ابن الشجري (١ / ١١٢).

٢١٧

أنتحله ، قوله تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١] ، فدعا الرشيد العلماء وسألهم عن جوابها ، فلم يجد فيهم من يزيل الشبهة ، فقيل له : قدم حجّاج خراسان وفيهم عليّ بن الحسين بن واقد ، إمام في علم القرآن ، فدعاه وذكر النصراني الشبهة ، فاستعجم عليه الجواب فقال : يا أمير المؤمنين قد سبق في علم الله أنّ هذا الخبيث يسألني عن هذا ، ولم يخل الله كتابه عن جوابه ولم يحضرني الآن ، والله عليّ أن لا أطعم حتى آتي بحقها ، ثم أغلق عليه بيتا مظلما ، واندفع يقرأ القرآن ، فبلغ من سورة الجاثية : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] ، فصاح أقيموا الباب ، ففتح وقرأ الآية على الغلام بين يدي الرشيد ، وقال : إن كان قوله : (وَرُوحٌ مِنْهُ) يوجب كون عيسى بعضا منه فيجب أن يكون ما في السماوات وما في الأرض بعضا منه ، فانقطع النصراني وأسلم ، وفرح الرشيد وأعظم جائزة عليّ بن واقد وجدت بخط الشيخ شس الدين بن القماح في مجموع له.

من مراسلات الشيخ ضياء الدين أبي العباس

قال : من مراسلات شيخنا العلامة ضياء الدين أبي العباس أحمد ابن الشيخ أبي عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن عمر بن عبد المنعم الأنصاري القرطبي إلى بعض الحكام بقوص (١) وقد جرى كلام في مسألة نحوية جوابا عنها ، كان سيدنا متّع الله ببركتي علمه وعمله ، ومنحه راحتي طاعته وأمله في بارحته التي أشرق دجاها بأسرّته ، ووضح سناها بغرّته ، نثر من جوهر فضله الشفّاف ودرره التي تلج حشا الأصداف ، وضوّع من عرف علمه الذي هو أضوع من عنبر المستاف ونشر من أردية لفظه كلّ رقيق الحاشية معل الأطراف ، وسأل عن أبيات مساور العبسي : [الرجز]

٥٣٦ ـ قد سالم الحيّات منه القدما

الأفعوان والشّجاع الشّجعما

وذات قرنين ضموزا ضرزما

عن ناصب الأفعوان والشجاع ورافع الحيات ، وما معنى ضموزا وضرزم؟ فسقيا لفضيلته التي نوّر كمامها واشتدّ تمامها وأمطر غمامها واشتمل على الفضل بدؤها

__________________

(١) قوص : مدينة في صعيد مصر (معجم البلدان ٤ / ٢٠١).

٥٣٦ ـ الرجز للعجاج في ملحق ديوانه (٢ / ٣٣٣) ، وجمهرة اللغة (ص ١١٣٩) ، وله أو لأبي صياح الفقعسي أو لمساور العبسي أو لعبد بني عبس في خزانة الأدب (١١ / ٤١١) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٨١) ، وبلا نسبة في الكتاب (١ / ٣٤٤).

٢١٨

وختامها ، أمّا الحيّات ففاعل والأفعوان والشجاع بدل منه منصوب اللفظ ، فإن قيل : كيف يكون بدلا ومن شأن البدل مشابهة المبدل منه في إعرابه ، وقد قلتم : إنّ الحيّات مرفوع وهذا منصوب؟ قلنا : كل واحد من الأفعوان والشّجاع فيه معنى الفاعلية والمفعولية فالحيّات ارتفع لفظه بما فيه من معنى الفاعلية وانتصب الأفعوان والشّجاع بما فيهما وفي الحيات من معنى المفعولية ، وإنما قلنا : إنّ كلّا منهما فاعل ومفعول لأنّ لفظ سالم يقتضي الفاعلية من فاعلته ، فلزم أن يكون كلّ منهما فاعلا بما صدر من فعله مفعولا بما صدر من فعل صاحبه ، لأنّ الحيّات سالمت القدم وسالمتها فلم تطأها ، فالحيّات فاعلة مفعولة ، والقدم فاعلة مفعولة ، فجاز أن يحمل اللفظ في الأفعوان والشجاع على ما فيهما وفي الحيات من معنى المفعولية ، وصح به معنى البدل ، وأمّا «ذات قرنين» فارتفع بالعطف على لفظ الحيات ، ولو انتصب لجاز ، وأمّا ضموزا فهو الساكت ، «وضرزما» فهو الصلب ، وهما حالان.

ما اختلف فيه من شعر أبي القاسم الحريري

قال الصلاح الصفدي (١) : اختلفت أنا والمولى شرف الدين حسين بن ريان في قول الحريري : [السريع]

٥٣٧ ـ فلم يزل يبتزّه دهره

ما فيه من بطش وعود صليب

فذهب هو في إعراب قوله : «ما فيه» إلى أنّه في موضع نصب على أنه مفعول ثان ، وذهبت أنا إلى أنه بدل اشتمال من الهاء التي في قوله : يبتزّه ، فكتب شرف الدين فتيا من صفد وجهّزها إلى الشيخ كمال الدين بن الزّملكاني ، وهي : ما تقول السادة علماء الدهر وفضلاء هذا العصر ، لا برحوا لطالبي العلم الشريف قبلة ، وموطن السؤال ومحلّه في رجلين تجادلا في مسألة نحوية ، وهي في بيت من المقامات الحريرية ، وهو :

فلم يزل يبتزّه دهره

ما فيه من بطش وعود صليب

ذهب إلى أنّ معنى يبتزّه يسلبه ، وكلّ منهما وافق في هذا مذهب خصمه مذهبه ، ومواطن سؤالهما الغريب إعراب قوله : «ما فيه من بطش وعود صليب» لم يختلفا في نصبه ، بل خلفهما فيما انتصب به ، فذهب أحدهما إلى أنّه بدل اشتمال من الهاء المنصوبة في يبتزّه ، وله على ذلك استدلال ، وذهب الآخر إلى أنّه مفعول ثان ليبتزه ، وجعل المفعول الهاء ، واختلفا في ذلك ، وقاصداكم جاءا وقد سألا الإجابة عن

__________________

٥٣٧ ـ انظر المقامة الفارمية العشرين (ص ١٩٥).

٢١٩

هذه المسألة فقد اضطرّا في ذلك إلى المسألة ، فكتب الشيخ كمال الدين الجواب : الله يهدي إلى الحق ، كلّ من المختلفين المذكورين قد نهج نهج الصواب ، وأتى بحكمة وفصل خطاب ، ولكلّ من القولين مساغ في النظر الصحيح ، ولكنّ النظر إنما هو في الترجيح ، وجعل ذلك مفعولا أقوى توجيها في الإعراب ، وأدقّ بحثا عند ذوي الألباب ، أما من جهة الصناعة العربية فلأنّ المفعول متعلق الفعل بذاته التي بوقوع الفعل عليه معنية ، والبدل مبيّن بكون الأول معه مطروحا في النيّة ، وهذا الفعل بهذا المعنى متعدّ إلى مفعولين ، و «ما فيه من بطش» هو أحد ذينك الاثنين ، لئلا يفوت متعلّق الفعل المستقل ، والبدل بيان يرجع إلى توكيد بتأسيس المعنى مخلّ ، وأما من جهة المعنى فلأن المقام مقام تشكّ وأخذ بالقلوب ، وتمكين هذا المعنى أقوى إذا ذكر ما سلب منه مع بيان أنّه المسلوب ، فذكر المسلوب منه مقصود كذكر ما سلب ، وفي ذلك من تمكين المعنى ما لا يخفى على ذوي الإرب ، ووراء هذا بسط لا تحتمله هذه العجالة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال الصلاح الصفدي : لا أعلم أحدا يأتي بهذا الجواب غيره ، لمعرفته بدقائق النحو وبغوامض علمي المعاني والبيان ودربته بصناعة الإنشاء.

من الفوائد المتعلّقة بالمقامات

قال القاضي تاج الدين السّبكي في (الطبقات الكبرى) (١) : ومن الفوائد المتعلقة بالمقامات : سأل ابن يعيش النحوي زيد بن الحسن الكنديّ عن قول الحريري في المقامة العاشرة (٢) : «حتى إذا لألأ الأفق ذنب السّرحان وآن انبلاج الفجر وحان» ما يجوز في قوله : «الأفق ذنب السرحان» من الإعراب؟ وأشكل عليه الجواب ، حكى ذلك ابن خلّكان (٣) ، وذكر أنّ البندهيّ جوّز في شرح المقامات رفعهما ونصبهما ورفع الأول ونصب الثاني وعكسه.

قال ابن خلكان : ولو لا خوف الإطالة لأوردت ذلك ، قال : والمختار نصب الأفق ورفع ذنب قال ابن السّبكي : وقال الشيخ جمال الدين بن هشام ومن خطه نقلت : كأنّ رفعهما على حذف مفعول لألأ وتقدير ذنب بدلا ، أي : حتى إذا لألأ الوجود والأفق ذنب السّرحان ، وهو بدل اشتمال ، ونظيره : سرق زيد فرسه ، ويضعّفه أو يردّه

__________________

(١) انظر طبقات الشافعية الكبرى (٧ / ٢٦٩).

(٢) انظر مقامات الحريري (ص ٧٠).

(٣) انظر وفيات الأعيان (٧ / ٤٧).

٢٢٠