الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٦٤

وقال أيضا : إن المعربين اتفقوا على تعلّق يوم من قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ ، يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) [الطور : ٧ ـ ٩] بواقع ، مع أنّ ما لها صدر الكلام ، ولم يمنع من ذلك ما عدا الإمام فخر الدين ، واستند الإمام فخر الدين في ذلك إلى أنّ العذاب المكنيّ عنه لم يقع في ذلك اليوم ، بل بعد ذلك في يوم البعث وهذا اعتراض قريب لأنّ اليوم يطلق على تلك الأزمنة جميعها ، وعلى هذا فلا مانع من أن تكون الآية السابقة من باب التنازع ، واستند بعضهم في منع التنازع في الآية إلى أنّ ذلك يتخرج على أحد القولين في الجملة الاسمية الواقعة جوابا هل لها موضع من الإعراب أم لا؟ فإن قلنا : إنّ لها موضعا من الإعراب ينبغي أن لا يجوز التنازع ، لأنه يشترط في باب التنازع أن يكون كلّ من العاملين له استقلال ، ولا أدري كيف قيل بذلك ، فإنّ النحاة جمهورهم يعدّون قوله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف : ٩٦] من باب الإعمال مع صريح الجزم فيه ، وكذلك قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) [المنافقون : ٥] ثم إنّ شرط الاستقلال تحجير في المسألة لم نر من قيد بذلك ، وبل من جوّز ذلك حيث لا استقلال فقد ردّ ابن الصائغ على ابن عصفور استدلاله ـ أعني ابن عصفور ـ على استعمال (عسى) تامة بقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] وجعله ذلك دليلا قاطعا من جهة أنّه لا يجوز أن يعتقد أن ربك مرفوع بعسى و «يبعثك» متحمل للضمير لئلا يلزم الفصل بين أبعاض الصلة بمعمول غيرها.

وقال : أعني ابن الصائغ : يمكن أن تكون الآية من باب التنازع بأن يعمل الثاني ويجعل في الأول ضمير يعود على ربك ، فهو كما تراه قد أجاز التنازع مع أنّ العامل الأول لم يستقلّ ، وإنّما ذلك شيء كان يقوله شيخنا أثير الدين في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) [الجن : ٤] ، ويقول : كيف يجعل هذا من باب التنازع ولا استقلال في كلا الجملتين؟ وهل مثل هذا جائز؟ فيذكر ذلك على سبيل الاستكشاف لا على سبيل التقييد للباب.

قال ابن الصائغ : وأقول : إنّ من منع أن تكون هذه الآية من باب التنازع فلم يستند لأقوى من أنّ «إنّ» والفاء لهما صدر الكلام ، وما له صدر الكلام يمنع ما بعده أن يعمل فيما قبله ، فكذلك ينبغي أن يمنع ما قبله من العمل فيما بعده من جهة صدريته ، وإذا استقرّ ذلك وكان من شرط باب التنازع إمكان تسلط العامل على ذلك المعمول وعمله فيه كما تقدم في النقل عن سيبويه والعامل هنا ـ أعني الأول ـ لا يمكن أن يعمل في المتنازع فيه لما مرّ ، وقد يتقوى ذلك بما ذكره الخفاف في شرح الكتاب ، فإنه قال فيه بعد إنشاد قول الشاعر : [البسيط]

١٦١

٤٦٩ ـ كأنّهنّ خوافي أجدل قرم

ولّى ليسبقه بالأمعز الخرب

وقال : لا يجوز أن يعمل «ولّى» في الخرب ، لأن لام كي تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها ، فيمنع ما قبلها أن يعمل فيما بعدها ، انتهى. فأقول : إنّ من منع التنازع في الآية لم يأت بشيء إن كان مستنده ذلك ، لأنّ معنى قول سيبويه وغيره من النحاة : إن العاملين يشترط فيهما في هذا الباب إمكان تسلطهما على المعمول ، إنما يراد ذلك من جهة المعنى لا من جهة اللفظ ، ثم إنّ الذي يقول بأنّ ما يمنع ما بعده أن يعمل فيما قبله أن يعمل فيما بعده إن كان من أجلّاء النحاة فلا يعني به إلّا أنّه لا يصح أن يقول : ضربت ما زيدا ، كما لا يصح أن يقول : زيدا ما ضربت ، وإن كان من غيرهم فلا يعوّل عليه ، كيف ومن نقل عنه ذلك وهو ابن عصفور قد جعل قول الشاعر : [الطويل]

٤٧٠ ـ قطوب فما تلقاه إلّا كأنّه

زوى وجهه أن لاكه فوه حنظل

وقول الآخر : [الوافر]

٤٧١ ـ ولم أمدح لأرضيه بشعري

لئيما أن يكون أفاد مالا

من باب التنازع على إعمال الأول ، ولا شكّ أنّ ناصب الفعل عنده من أدوات الصدور ، وكذلك جعل قول الشاعر : [المتقارب]

٤٧٢ ـ ألا هل أتاها على بابها

بما فضحت قومها غامد

منه أيضا على إعمال الثاني ، وكيف يعتقد هذا وقد اشترط النحاة كلهم أو غالبهم في هذا الباب أن يكون للجملة الثانية بالأولى تعلّق ، إمّا بالعطف أو نحوه ، نحو قوله صلّى الله عليه وسلّم : «كما صلّيت وباركت ورحمت على إبراهيم» ، ومن إثبات العطف في ذلك قول الشاعر : [الطويل]

٤٧٣ ـ ولكنّ نصفا لو سببت وسبّني

بنو عبد شمس من مناف وهاشم

__________________

٤٦٩ ـ الشاهد لذي الرّمة في ديوانه (ص ٧٣) ، ومقاييس اللغة (١ / ٤٣٤) ، وجمهرة أشعار العرب (ص ٩٥١) ، وتاج العروس (جدل).

٤٧٠ ـ الشاهد بلا نسبة في التمام في تفسير أشعار هذيل (ص ٧٧).

٤٧١ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ٥٢٧) ، وأمالي ابن الشجري (١ / ١٧٦) ، ومعاهد التنصيص (١ / ٢٥٧).

٤٧٢ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (غمد).

٤٧٣ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (٢ / ٣٠٠) ، وأساس البلاغة (نصف) ، وتذكرة النحاة (ص ٣٤٥) ، والردّ على النحاة (ص ٩٧) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٩١) ، والكتاب (١ / ١٢٦) ، وشرح المفصّل (١ / ٧٨) ، ولسان العرب (نصف) ، والمقتضب (٤ / ٧٤).

١٦٢

وقوله (١) : [الطويل]

وهل يرجع التّسليم أو يكشف العمى

ثلاث الأثافي والرّسوم البلاقع

وقوله : [الوافر]

٤٧٤ ـ ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد

وقوله : [الطويل]

٤٧٥ ـ أرجو وأخشى وأدعو الله مبتغيا

عفوا وعافية في الرّوح والجسد

وقوله : [الطويل]

٤٧٦ ـ إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب

جهارا فكن في الغيب أحفظ للودّ

وألغ أحاديث الوشاة فقلّما

يحاول واش غير هجران ذي عهد

وقوله : [الطويل]

٤٧٧ ـ وكمتا مدمّاة كأنّ متونها

جرى فوقها واستشعرت لون مذهب

وقوله : [الطويل]

٤٧٨ ـ قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه

وعزّة ممطول معنّى غريمها

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٠٦).

٤٧٤ ـ الشاهد لقيس بن زهير في الأغاني (١٧ / ١٣١) ، وخزانة الأدب (٨ / ٣٥٩) ، والدرر (١ / ١٦٢) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٣٤٠) ، وشرح شواهد الشافية (ص ٤٠٨) ، وشرح شواهد المغني (ص ٣٢٨) ، والمقاصد النحوية (١ / ٢٣٠) ، وبلا نسبة في الكتاب (٣ / ٣٥٠) ، وأسرار العربية (ص ١٠٣) ، والإنصاف (١ / ٣٠) ، والجنى الداني (ص ٥٠) ، وجواهر الأدب (ص ٥٠) ، وخزانة الأدب (٩ / ٥٢٤) ، والخصائص (١ / ٣٣٣) ، ورصف المباني (ص ١٤٩) ، وسرّ صناعة الإعراب (١ / ٨٧) ، وشرح المفصّل (٨ / ٢٤) ، وهمع الهوامع (١ / ٥٢).

٤٧٥ ـ الشاهد بلا نسبة في تذكرة النحاة (ص ٣٣٧) ، وشرح شذور الذهب (ص ٥٤١).

٤٧٦ ـ البيت الأول بلا نسبة في أوضح المسالك (٢ / ٢٠٣) ، وتخليص الشواهد (ص ٥١٤) ، والدرر (٥ / ٣١٩) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٥) ، وشرح التصريح (١ / ٣٢٢) ، وشرح شذور الذهب (ص ٥٤٣) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٧٤٥) ، وشرح ابن عقيل (ص ٢٧٩) ، ومغني اللبيب (١ / ٣٣٣) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٢١) ، وهمع الهوامع (٢ / ١١٠).

٤٧٧ ـ الشاهد لطفيل الغنوي في ديوانه (ص ٢٣) ، وأمالي ابن الحاجب (ص ٤٤٣) ، والإنصاف (١ / ٨٨) ، والردّ على النحاة (ص ٩٧) ، ولسان العرب (كمت) و (شعر) و (دمي) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٢٤) ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد (ص ٥١٥) ، وتذكرة النحاة (ص ٣٤٤) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٠٤) ، والمقتضب (٤ / ٧٥).

٤٧٨ ـ الشاهد لكثير عزّة في ديوانه (ص ١٤٣) ، وخزانة الأدب (ص ١٤٣) ، وشرح التصريح (١ / ٣١٨) ، والدرر (٥ / ٣٢٦) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٩٠) ، وشرح المفصّل (١ / ٨) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٣) ، وهمع الهوامع (٢ / ١١١) ، وبلا نسبة في الإنصاف (١ / ٩٠) ، وأوضح المسالك (٢ / ١٩٥) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٠٣) ، وشرح شذور الذهب (ص ٥٤١) ، ولسان العرب (ركا) ، ومغني اللبيب (٢ / ٤١٧).

١٦٣

وقوله : [الكامل]

٤٧٩ ـ وإذا تنوّر طارق مستطرق

نبحت فدلّته عليّ كلابي

وقول الآخر : [الطويل]

٤٨٠ ـ جفوني ولم أجف الأخلّاء إنّني

لغير جميل من خليليّ مهمل

وقول الآخر : [البسيط]

٤٨١ ـ هوينني وهويت الغانيات إلى

أن شبت فانصرفت عنهنّ آمالي

وقول الآخر : [البسيط]

٤٨٢ ـ يرنو إليّ وأرنو من أصادفه

في النّائبات فأرضيه ويرضيني

وقول الآخر : [الطويل]

٤٨٣ ـ سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا

فسيّان لا حمد لديك ولا ذمّ

حتى إنّ ابن الدهان نقل عن البغدادي اشتراط العطف في هذا الباب ، ولا شكّ أنّ حرف العطف يمتنع أن يعمل ما بعده فيما قبله ، والمشترط ذلك محجوج بقوله تعالى : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩] وقوله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف : ٩٦] ، وقول الشاعر : [الطويل]

٤٨٤ ـ ولقد أرى تغنى به سيفانة

تصبي الحليم ومثلها أصباه

وبقول الشاعر : [مجزوء الكامل]

٤٨٥ ـ بعكاظ يعشي النّاظري

ن إذا هم لمحوا شعاعه

__________________

٤٧٩ ـ الشاهد لابن هرمة في ديوانه (ص ٧٧) ، وأمالي المرتضى (٢ / ١١٣) ، والخزانة (٤ / ٥٨٤).

٤٨٠ ـ الشاهد بلا نسبة في أوضح المسالك (٢ / ٢٠٠) ، وتخليص الشواهد (ص ٥١٥) ، وتذكرة النحاة (ص ٣٥٩) ، والدرر (١ / ٢١٩) ، وشرح الأشموني (١ / ١٧٩) ، وشرح التصريح (٢ / ٨٧٤) ، وشرح قطر الندى (ص ١٩٧) ، ومغني اللبيب (٢ / ٤٨٩) ، والمقاصد النحوية (٣ / ١٤) ، وهمع الهوامع (١ / ٦٦).

٤٨١ ـ الشاهد بلا نسبة في تخليص الشواهد (ص ٥١٥) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٠٤) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٣١).

٤٨٢ ـ الشاهد بلا نسبة في تذكرة النحاة (ص ٣٥١).

٤٨٣ ـ الشاهد للحطيئة في ديوانه (ص ٣٢٩) ، وديوان المعاني (١ / ٣٩) ، وبلا نسبة في المقرّب (١ / ٢٥٠).

٤٨٤ ـ الشاهد لو علة الجرمي في شرح أبيات سيبويه (١ / ٢٥٨) ، وبلا نسبة في المقتضب (٤ / ٧٥) ، ولرجل من باهلة في الكتاب (١ / ١٢٨).

٤٨٥ ـ الشاهد لعاتكة بنت عبد المطلب في الدرر (٥ / ٣١٥) ، وشرح التصريح (١ / ٣٢٠) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٧٤٣) ، والمقاصد النحوية (٣ / ١١) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٢ / ١٩٩) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٠٦) ، وشرح شذور الذهب (ص ٥٤٤) ، وشرح ابن عقيل (ص ٢٨٠) ، ومغني اللبيب (٢ / ٦١١) ، والمقرّب (١ / ٢٥١) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٠٩).

١٦٤

وبقوله : [مجزوء الرمل]

٤٨٦ ـ علّموني كيف أبكي

هم إذا خفّ القطين

وكل هذه الشواهد أو غالبها يرد على من منع التنازع في الآية.

وكان من سنين وقع الكلام في قوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) [الجن : ٧] وأنّه يجوز أن يكون ذلك من باب التنازع ولا أثر للموصول في منع ذلك ، ولا يقال : إنّ «أن» والفعل لا يضمر فلا يجوز التنازع لأنّ من شرط باب التنازع صحة عمل المهمل في الضمير ، لأنّا نقول : لا يمتنع أن يعود الضمير على مثل ذلك ، ومنه قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ١٨٤] ، وقوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧] ، وكان أيضا تقدم لي مع الشيخ علاء الدين مثل ذلك في قوله تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران : ١٩٤] وأنه يجوز أن يكون من ذلك على تقدير على ألسنة رسلك.

وإذا استقرّ جواز التنازع في الآية فاعلم أنّه على إعمال الثاني ، والقاعدة في مثل ذلك أنّ الأول إذا طلب منصوبا حذف على المختار ، إن كان ممّا يجوز الاستغناء عنه ، ولكن بقي النظر هل نقدره ضميرا أو ظاهرا؟ والأولى أن نقدره مضمرا لأن ذلك شأن باب التنازع ، فإن قلت : قد تقرر أنّه متى دار الأمر بين شيئين وكان أحدهما هو الأصل وجب المصير إليه ، قلت : نعم الأمر كذلك إلّا لعارض ، وهاهنا ثم ما يمنع من ذلك ، وهو أنّه إذا كان من باب التنازع وجب القول بأنّ الأول ضمير ، وساغ لتشبث الجملة الثانية بالأولى ولم يقبح من جهة أنه ليس مذكورا لفظا ، ولو لم يكن ذلك لاستحالت المسألة ، ولم يكن إذ ذاك من باب التنازع ، وهذا فرق ما بين المحذوف للدلالة أو التفسير ، فتنبّه لذلك فإني لم أجد أحدا نبه عليه ، وممّا يقوّي ذلك منع النحاة كالخفاف في الشرح التنازع في الحال والتمييز ، فلا يقال : «جاء زيد وقعد عمر ضاحكا» على التنازع ، والسبب في ذلك أنّه لا بد في التنازع من أنّك إذا أعملت الواحد أضمرت في الآخر إمّا تحذفه وإمّا تبقيه ، وإذا فلا شكّ أنّه يجوز : «جاء زيد وقعد عمر ضاحكا» على أنّك حذفت من الأولى لدلالة الثاني عليه هذا ما لا أعتقد فيه خلافا ، انتهى.

قال الشيخ تاج الدين بن مكتوم في تذكرته ومن خطّه نقلت

سئل شيخنا أبو حيان : هل يجوز مثل «قام زيد وعمر وبكر وخالد كلّهم»؟ فأفتى بالجواز قياسا على التثنية ، قال : [الطويل]

__________________

٤٨٦ ـ الشاهد بلا نسبة في أمالي القالي (١ / ١٦٣) ، والمقرّب (١ / ٢٥١).

١٦٥

٤٨٧ ـ أولاك بنو خير وشرّ كليهما

[جميعا ومعروف ألمّ ومنكر]

وقياسا على النعت نحو : «قام زيد وعمر وبكر العقلاء» لاشتراكهما في أنّهما تابعان بغير واسطة ، انتهى.

قال ابن مكتوم : ويقتضي النظر عدم الجواز ، لأن مثل ذلك لا يحتاج إلى التأكيد لكونه نصا في المراد منه ، فليتأمل.

وفي هذه التذكرة : قال ابن الأبرش : سألني الوزير أبو الحسين بن السراج عن قول طفيل : [الطويل]

٤٨٨ ـ وراكضة ما تستجنّ بجنّة

بعير حلال غادرته مجعفل

فقال : ألم يقل النحاة : إنّ اسم الفاعل إذا وصف بطل عمله وقد وصف هذا بقوله : «ما تستجنّ بجنة» وأعمل في بعير حلال ، وكان يجب أن لا يعمل؟ قلت له : الذي قال ذلك قال : إذا نوي الإعمال قبل الصفة ، وكذلك فعل هاهنا فاستحسنه ، قال ابن الأبرش : ثم إني رأيت لابن جني أنّ هذه الجملة في موضع نصب على الحال من الضمير في راكضة وليست بصفة ، انتهى.

وفي التذكرة المذكورة : قال عالي بن عثمان بن جني : سألت أبي عن إعراب قوله : [المديد]

٤٨٩ ـ غير مأسوف على زمن

ينقضي بالهمّ والحزن

فأجاب : إن المقصود ذمّ الزمان الذي هذه حاله ، فكأنه قال : زمان ينقضي بالهمّ والحزن غير مأسوف عليه ، فزمان مبتدأ وما بعده صفة له وغير خبر الزمان ، ثم حذفت المبتدأ مع صفته وجعلت إظهار الهاء مؤذنا بالمحذوف لأنك إنما جئت بالهاء لمّا تقدمها ذكر ما ترجع إليه ، فصار اللفظ بعد الحذف والإظهار : غير مأسوف

__________________

٤٨٧ ـ الشاهد لمسافع بن حذيفة العبسيّ في خزانة الأدب (٥ / ١٧١) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٩٩٠) ، وبلا نسبة في حاشية ياسين (٢ / ١٢٤) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٥٦٥).

٤٨٨ ـ الشاهد لطفيل في ديوانه (ص ٦٨) ، ولسان العرب (جعفل) و (حلل) ، وتهذيب اللغة (٣ / ٣٢٣) ، وتاج العروس (جعفل) و (حلل) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة (٢ / ٢٢) ، والمخصص (٧ / ١٤٧).

٤٨٩ ـ الشاهد لأبي نواس في الدرر (٢ / ٦) ، وأمالي ابن الحاجب (ص ٦٣٧) ، وخزانة الأدب (١ / ٣٤٥) ، ومغني اللبيب (١ / ١٥١) ، وتذكرة النحاة (ص ١٧١) ، وشرح الأشموني (١ / ٨٩) ، وشرح ابن عقيل (ص ١٠١) ، والمقاصد النحوية (١ / ٥١٣) ، وهمع الهوامع (١ / ٩٤).

١٦٦

على زمن ينقضي بالهم والحزن ، قال : وإن شئت قلت : إنه محمول على المعنى كما حملت «أقلّ امرأة تقول ذلك» على المعنى ، فلم تذكر في اللفظ خبرا لأقلّ مع أنه مبتدأ ، وقد أضفت أقل إلى امرأة ووصفت المرأة ب تقول ، ذاك كأنك قلت : قلّ امرأة تقول ذلك ، فلم تحتج «أقل» إلى خبر لأنها في معنى «أقلّ» ، وكذلك حمل سيبويه على المعنى قول من قال : «خطيئة يوم لا أراك فيه» (١) على معنى : يوم خطأ لا أراك فيه ، وما حمل على المعنى كثير في القرآن وفصيح الكلام. انتهى كلام أبي الفتح رحمه الله.

وقال ابن الحاجب في إعرابه : لا يصحّ أن يكون عامل لفظيّ هنا يعمل في غير ، وإذا لم يكن عامل لفظي فإمّا أن يكون مبتدأ وإمّا أن يكون خبرا ، فلا يصحّ أن يكون مبتدأ لأنه لا خبر له ، لأنّ الخبر إمّا أن يكون ثابتا أو محذوفا ، الثابت لا يستقيم لأنّه إمّا «على زمن» وإمّا «ينقضي» ، وكلاهما مفسد للمعنى ، وأيضا فإنك إذا جعلته مبتدأ لم يكن بدّ من أن تقدر قبله موصوفا ، وإذا قدرت قبله موصوفا لم يكن بدّ من أن يكون «غير» له ، و «غير» هاهنا ليست له وإنما هي لزمن ، ألا ترى أنّك لو قلت : «رجل غيرك مرّ بي» لكان في غيرك ضمير عائد على رجل ، ولو قلت : «رجل غير متأسف على امرأة مرّ بي» لم يستقم لأن غيرا لمّا جعلته في المعنى للمرأة خرج عن أن يكون صفة لما قبله ، ولو قلت : «رجل غير متأسّف عليه مرّ بي» جاز لأنّه في المعنى للضمير ، والضمير عائد على المبتدأ فاستقام ، فتبين أيضا أنّه لا يكون مبتدأ لذلك. وإن جعلت الخبر محذوفا لا يستقيم لأمرين :

أحدهما : أنّا قاطعون بنفي الاحتياج إليه.

والآخر : أنّه لا قرينة تشعر بحذفه ، ومن شرط صحة حذف وجود القرينة ، وإن جعلته خبر مبتدأ مقدّر لم يستقم لأمور : منها : أنك إذا جعلته خبرا لم يكن بدّ من ضمير يعود منه إلى المبتدأ ، لأنه في معنى مغاير ، ولا ضمير فلا يصحّ أن يكون خبرا.

الثاني : أنّا قاطعون بنفي الاحتياج إليه.

الثالث : أن حذف المبتدأ مشروط بالقرينة ، ولا قرينة ، فتبين إشكال إعرابه كذلك.

وأولى ما يقال فيه أنه أوقع المظهر موقع المضمر لمّا حذف المبتدأ من أول الكلام ، فكأنّ التقدير : زمن ينقضي بالهمّ والحزن غير مأسوف عليه ، فلمّا حذف

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ١٣٧).

١٦٧

المبتدأ من غير قرينة تشعر به أتى به ظاهرا مكان المضمر ، فصارت العبارة فيه كذلك ، وهو وجه حسن ولا بعد في مثل ذلك ، فإنّ العرب تجيز : «إن يكرمني زيد إنّي أكرمه» وتقديره : إني أكرم زيدا إن يكرمني ، فقد أوقعت زيدا موقع المضمر لما اضطررت إلى إعادة الضمير إليه وأوقعت المظهر لما أخّرته عن الظاهر ، فتبين لك اتساعهم في مثل ذلك وعكسه ويحتمل أن يقال : إنهم استعملوا غيرا بمعنى لا كما استعملوا لا بمعنى غير ، وذلك واسع في كلامهم ، فكأنه قال : لا تأسف على زمن هذه صفته ، ويدلّ على استعمالهم غيرا بمعنى لا قولهم : «زيد عمرا غير ضارب» ولا يقولون : «زيد عمرا مثل ضارب» لأنّ المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف ، ولكنه لمّا كانت غير تحمل على لا جاز فيها ما لا يجوز في مثل ، وإن كان بابهما واحدا ، وإذا كانوا قد استعملوا «أقلّ رجل يقول ذلك» بمعنى النفي مع بعده عنه بعض البعد فلأن يستعملوا غيرا بمعنى لا مع موافقتها لها في المعنى أجدر ، فإن قيل : فإذا قدرتموه بمعنى لا فلا بد له من إعراب من حيث إنه اسم فما إعرابه؟ قلنا : إعرابه كإعراب «أقلّ رجل يقول ذاك» فهو مبتدأ لا خبر له استغناء عنه ، لأنّ المعنى : ما رجل يقول ذاك ، فإذا كان كذلك صحّ المعنى من غير احتياج إلى خبر ، ولا استنكار بمبتدأ لا خبر له إذا كان المعنى بمعنى جملة مستقلة ، كقولهم : أقائم الزيدان ، فإنّه بالإجماع مبتدأ ولا يقدّر محذوف ، والزيدان فاعل به ، فهذا مبتدأ لا خبر له في اللفظ ولا في التقدير ، وإنما استقام لأنه في معنى أيقوم الزيدان؟ وكذلك قول بعض النحويين في مثل تراك ونزال : إنه مبتدأ وفاعله مضمر ، ولا خبر له لاستقامة المعنى من حيث كان معناه انزل واترك ، وهذا هو الصحيح فيه ، وقد ذهب كثير إلى أنه منصوب انتصاب المصدر ، كأنه قيل في نزال : انزل نزولا ، وهذا عندي ضعيف لأنه لو كان كذلك وجب أن يكون معربا بمثابة سقيا ورعيا ، ونحن نفرّق بين سقيا وبين نزال ، فكيف يمكن حملها على إعراب واحد وهو أن يكونا مصدرين مع أنّ أحدهما معرب والآخر مبني؟ والله أعلم.

وقال ابن مكتوم في موضع آخر من تذكرته : مأسوف مفعول من الأسف وهو الحزن ، و «على» متعلق به ، كقولك أسفت على كذا أسفا وحزنت عليه حزنا ولهفت عليه لهفا وأسيت عليه أسى ، وموضع قوله : «بالهم» نصب على الحال ، والتقدير : ينقضي مشوبا بالهمّ ، و «غير» رفع بالابتداء ، ولمّا أضيفت إلى اسم المفعول ، وهو مسند إلى الجار والمجرور ، استغنى المبتدأ عن خبر كما استغنى قائم ومضروب في قولك : «أقائم أخواك» و «ما مضروب غلاماك» عن خبر من حيث سدّ الاسم المرفوع بهما مسدّ الخبر ، لأنّ «قائم» و «مضروب» قاما مقام يقوم ويضرب ، فتنزّل كلّ واحد

١٦٨

منهما مع المرفوع به منزلة الجملة ، وكذلك إذا أسندت اسم المفعول إلى الجر والمجرور سدّ الجار والمجرور مسدّ الاسم الذي يرتفع به ، كقولك : «أيحزن على زيد» و «ما يؤسف على عمرو» فلمّا كانت غير للمخالفة في الوصف فجرت لذلك مجرى حرف النفي ، وأضيفت إلى اسم المفعول وهو مسند إلى الجار والمجرور والمتضايفان بمنزلة الاسم الواحد سدّ ذلك مسدّ الجملة حيث أفاد قولك : غير مأسوف على زيد ما يفيده قولك : ما يؤسف على زيد ، قال أبو حيان : ونظيره في الإعراب قول المتنبي : [الرمل]

٤٩٠ ـ ليس بالمنكر أن برّزت سبقا

غير مدفوع عن السّبق العراب

قال ابن مكتوم في تذكرته :

ذكر لي شيخنا أبو حيان أنّ بعض الطلبة سأل ابن الأخضر عن نصب مقالة في قول الشاعر : [الطويل]

٤٩١ ـ مقالة أن قد قلت [سوف أناله

وذلك من تلقاء نفسك رائع]

فأنشده ابن الأخضر : [الطويل]

٤٩٢ ـ [إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم]

ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدي

قال : فكرر الطالب عليه السؤال وذلك بحضرة ابن الأبرش ، فقال ابن الأبرش : قد أجابك لو عقلت.

قال ابن مكتوم : وذكر لي شيخنا أنه كوتب بذلك من غزّة وأنّه أجاب عن ذلك على الفور بما حاصله : إنّ مقالة بدل من فاعل فعل في بيت قبل البيت الذي هي فيه ، وهو قول النابغة الذبياني : [الطويل]

٤٩٣ ـ أتاني أبيت اللّعن أنّك لمتني

وتلك التي تستكّ منها المسامع

مقالة أن قد قلت

 ...

__________________

٤٩٠ ـ الشاهد في ديوانه (ص ١٣٢) ، وشرح أبيات المغني للبغدادي (٤ / ٤) ، ومعاهد التنصيص (٣ / ٥٣).

٤٩١ ـ الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه (ص ٣٤) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨١٦) ، ولسان العرب (سكك) ، ومغني اللبيب (٢ / ٥١٨).

٤٩٢ ـ الشاهد لعدي بن زيد العبادي في ديوانه (ص ١٠٧) ، وبلا نسبة في المغني (ص ٥٧٣).

٤٩٣ ـ الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه (ص ٣٤) ، ولسان العرب (سكك) ، ومقاييس اللغة (٣ / ٥٩) ، ومجمل اللغة (٣ / ٥٣) ، وأساس البلاغة (سكك) ، وتاج العروس (سكك) ، وبلا نسبة في المخصص (٩ / ٨).

١٦٩

فمقالة بدل من فاعل أتاني وهو «أنك لمتني» ، وهي تروى بالرفع والنصب ، فمن رفع فظاهر ، ومن نصب بناها على الفتح لإضافتها إلى مبنيّ ، وصار ذلك نظير قوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] ، و (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات : ٢٣] ، وقول الشاعر : [الرمل]

٤٩٤ ـ [تداعى منخراه بدم]

مثل ما أثمر حمّاض الجبل

[البسيط]

[فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش] وإذ ما مثلهم بشر (٢)

[البسيط]

ولم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت

[حمامة في غصون ذات أو قال](٣)

انتهى معنى جواب شيخنا وهو محكيّ عن أبي الحجاج الأعلم ، وفي هذا الجواب نظر ، فإنّهم نصّوا على أنّه ليس كل ما يضاف إلى مبنيّ يجوز بناؤه ، وإنّما ذلك مخصوص بما كان مبهما ، نحو : غير ومثل وبين ودون وحين ونحوها ، وقد ذكرت له ذلك بعد فأذعن له ، فإن كان ابن الأخضر أراد ذلك ففيه ما ذكرناه وإن كان أراد غيره فيفكر في وجهه ، انتهى.

قال ابن مكتوم : سألني بعض الأصحاب عن نصب يمين وشمال في قول أبي الطيب المتنبي : [الوافر]

٤٩٥ ـ وأقسم لو صلحت يمين شيء

لما صلح العباد له شمالا

فأعربتهما تمييزين ، ثم ظهر لي بعد ذلك أنهما حالان ، وذاكرت بذلك شيخنا الأستاذ أبا حيان فقال لي : سألني شيخنا بهاء الدين بن النحاس عن نصبهما فقلت له : على الحال كقولي : أصلح لك غلاما وتلميذا ، فقال : يظهر لي أنه تمييز ، قلت له : التمييز الذي عن تمام الكلام ، وهذا البيت منه على تقديرك لا بدّ أن يكون منقولا من فاعل أو من مفعول على رأيي ، وهذا لا يصلح فيه ذلك ولا في قولي : أصلح لك تلميذا ، فقال : يصح أن تقدر يصلح لك تلميذي فقلت له : لفظ التلميذ هو الفاعل أو المفعول ، والتلميذ مصدر ، ولو قدرناه :

__________________

٤٩٤ ـ الشاهد بلا نسبة في رصف المباني (ص ٣١٢) ، وشرح المفصّل (٨ / ١٣٥) ، ولسان العرب (حمض) ، والمقرب (١ / ١٠٢).

(١) مرّ الشاهد رقم (١٨٨).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٣٢٨).

٤٩٥ ـ الشاهد في ديوانه (ص ١٣١).

١٧٠

يصلح لك تلميذي لم يكن معناه معنى أصلح لك تلميذا ، قال : وحكى لي الشيخ بهاء الدين أنّ بعضهم حكى عن المخلص الطّوخي أنه أعربه خبر صلح وجعلها من أخوات صار وبمعناها قلت له : هذا لم يثبت عن أهل اللسان فيما علمناه فلا نقول به ، انتهى كلام أبي حيان.

عود الضمير في (لكن) في قول

الحسن البصري (كأنك بالدنيا لم تكن)

في (تذكرة) ابن مكتوم : قال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عمرون الحلبي في شرحه لمفصل الزمخشري ، وانتهى فيه إلى قوله : الوزن الرابع عشر نجده في المصادر في قول الحسن البصري : «كأنّك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل» (١) يحتمل الضمير في «تكن» أن يكون للمخاطب وأن يكون للدنيا ، وكذا الضمير في «لم تزل» وتقديره على الأول : كأنك لم تكن بالدنيا ، ويكون التشبيه في الحقيقة للحالين لا للذي له الحال ، ومثله : كأنّ زيدا قائم ، فقد ظهر أنّ التشبيه لا يفارق كأنّ ، وليس قول من قال : إنها تكون للتشبيه إذا كان خبرها اسما ، وأما إذا كان فعلا أو ظرفا أو حرف جرّ فظنّ وتخيّل ، ليس بشيء لأنّ ما ذكرنا من التأويل لا يبقى إشكالا وجريها على حقيقتها أولى ، وتقديره : إنّ حالك في الدنيا يشبه حالك زائلا عنها ، وكأنّ حالك في الآخرة الكائنة عن حالك في الدنيا بحالة لم تزل في الآخرة ، والأوّل أولى ، فإذا كان الضمير للمخاطب يكون «بالدنيا» ظرفا وكان تامة وهي خبر كأنّ ، وإذا جعلت في «تكن» للدنيا فيحتمل أن يكون «بالدنيا» الخبر ، و «لم تكن» في موضع نصب على الحال من الدنيا ، أو على أنّه صفة لمحذوف إذا لم يجوّز أن تقع الماضية حالا بجعلها صفة تقديره : دنيا لم تكن ونصب دنيا إمّا على الحال وإمّا على تقدير واو الحال ، وكذا لم تزل ، فإن قيل : إنّ «بالدنيا» لا يتم به الكلام والحال فضلة فالجواب : إن من الفضلات ما لا يتم الكلام إلّا به ، كقوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] و «معرضين» حال من الضمير المخفوض ، ولا يستغني الكلام عنها ، لأنّ الاستفهام في المعنى إنّما هو عنها.

وممّا يبين ذلك أيضا قولهم : ما زلت بزيد حتّى فعل ، لا يتم الكلام بقولك : بزيد وممّا يبين صحة الحال جواز دخول الواو فتقول : كأنّك بالشمس وقد طلعت ، وعلى ذلك يحمل قول الحريري (٢) : [الهزج]

__________________

(١) انظر البيان والتبيين (٢ / ٧٠).

(٢) انظر مقامات الحريري (ص ٧٥).

١٧١

٤٩٦ ـ كأنّي بك تنحطّ

[إلى اللّحد وتنغطّ]

يكون «بك» الخبر ، و «تنحط» حال ، هذا هو الوجه ، وخرّجه المطرّزيّ في (شرح المقامات) (١) : كأنّي أبصر بك ، إلّا أنّه ترك الفعل لدلالة الحال ، وما ذكرته أولى ، لأنّ فيما ذكره إضمار فعل وزيادة حرف جر لا يحتاج إليه فيما ذكرته ، انتهى.

آراء نحوية لابن جنّي : وفي تذكرة ابن مكتوم : قال ابن جني فيما نقلته من تعاليقه : أنشدنا أبو علي لمخلد الموصليّ يهجو طفيليّا : [السريع]

٤٩٧ ـ لو طبخت قدر على فرسخ

أو بذرى نيق بأعلى الثّغور

وكان يحمي القدر كلّ الورى

بكلّ ماضي الحدّ عضب بتور

وكنت في السّند لو افيتها

يا عالم الغيب بما في القدور

ثم سألنا عن قوله : «يا عالم الغيب بما في القدور» أين موضع السؤال منه؟ فرجعنا إليه فقال : قوله : «بما في القدور» بدل من الغيب وعالم هنا بمعنى عارف الذي يتعدّى إلى مفعول واحد ، والتقدير : يا عالما بما في القدور ، مثل : «يا ضارب زيد أخا عمر» تقديره : يا ضاربا أخا عمر ، ولا يكون «بما في القدور» مفعولا ثانيا بعالم الذي بمعنى عارف ، لأنّك تقول : عرفت زيدا ، فقوله : بما في القدور مفعول به ، تقول : علمت زيدا وعلمت زيدا وعلمت بزيد.

وفيها : قال ابن جني : آخر بيت ألقاه أبو علي على أصحابه قوله : [الخفيف]

٤٩٨ ـ لم يطيقوا أن ينزلوا فنزلنا

وأخو الحرب من أطاق النّزولا

ولم يذكر شيئا وقال : سلوني عنه في وقت آخر ، قال ابن جني : اكتفى بالمسبّب عن السبب لأن تقديره : فأطقنا فنزلنا.

وفيها : قال ابن جني : دخلت على أبي علي يوما وبين يديه كانون فقال لي : كيف تبني من ضرب مثل كانون على رأي من جعله من الكنّ وعلى رأي من جعله من كون الكانون؟ فقلت : إذا أخذته من الكنّ تقول : ضاروب ، وتوقّفت في الآخر ، فقال : ضربون لأن كانون على هذا فعلون.

وفيها : قال ابن جني : جرى حديث مبرمان عند أبي علي فقال : ذكر مبرمان أنه سأله المبرد عن قوله : [الوافر]

__________________

٤٩٨ ـ الشاهد لمهلهل في الحيوان (٦ / ٤٢٩) ، وشروح سقط الزند (ص ٦٦) ، والخزانة (٢ / ٣٠٥) وبلا نسبة في سمط اللآلي (ص ٧٨٩) ، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي (١ / ١٩٣).

١٧٢

٤٩٩ ـ فغضّ الطّرف [إنك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا]

فقال : إن كنت تلفّظت بها وحدها أو أولا فإنّي أجوّز فيها الأوجه الثلاثة ، مثل مدّ مدّ ومدّ ، والرفع على هذا أجود ، ثم دخلت الألف واللام في الاسم الذي يليها ، وقد حركت الضاد لالتقاء الساكنين بالضم للإتباع ، فإن أوليتها اسما فيه الألف واللام قبل أن تحرّك الضاد الثانية فإنّي أجوز الكسر ولا أجوّز الضم ، لأنّ التحريك الآن للساكن الثالث ، وهو ولام التعريف ، ولا يصح فيه إتباع لأنّ التحريك من الثالث لا من الثاني ، قال لي المبرد : ما كان عندي أنّ الآخر يفهم مثل هذا.

وفيها : قال ابن جني (١) : قال أبو علي الفارسي : سألت ابن خالويه بالشام عن مسألة فما عرف السؤال بعد أن أعدته ثلاث مرات ، وهو : كيف تبني من «وأى» مثل كوكب على قراءة من قرأ (قَدْ أَفْلَحَ) [المؤمنون : ١] بفتح الدال على تخفيف الهمزة وإلقاء حركتها على ما قبلها ، ثم تجمعه بالواو والنون ثم تضيفه إلى نفسك؟

وجوابها أنّه في الأصل ووأي نحو كوكب ، فانقلبت الياء ألفا لتحريكها وانفتاح ما قبلها ، فصار ووأى ثم خففت الهمزة ، فألقيت حركتها على الواو الساكنة فصار ووى واجتمع معك واوان والنون أويون مثل : مصطفيون في الأصل ، فانقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار : أواون فاجتمع ساكنان فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فصار أوون مثل : مصطفون ، ثم أضفته إلى نفسك فقلت : أووي وحذفت النون لأنها لا تجمع في الإضافة ، فاجتمع حرفا علّة وسبق أحدهما بالسكون فقلبته ياء وأدغمته ياء بعدها فصار أويّ ، وهو الجواب.

قال ابن جني : أنشد أبو علي للمتنبي : [الكامل]

٥٠٠ ـ من كلّ من ضاق الفضاء بجيشه

حتّى ثوى فحواه لحد ضيّق

وقال لأصحابه : كم مجرورا في هذا البيت؟ فقال بعض الحاضرين : خمسة وقلت أنا : ستة ، فتعجبوا من قولي وقالوا : قد عرفنا ، كل ومن وجيش والهاء المتصلة به وثوى فأين الآخر؟ قلت : الجملة من الفعل والفاعل ، وهي : ضاق الفضاء ، لأن من نكرة غير موصولة ، لأن كّلا لا تضاف إلّا إلى النكرة التي في معنى الجنس ، «وضاق الفضاء» مجرور الموضع لأنّه صفة لمن ، فقال الشيخ : هو كما قال.

__________________

٤٩٩ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٨٢١) ، وجمهرة اللغة (ص ١٠٩٦) ، وخزانة الأدب (١ / ٧٢) ، والدرر (٦ / ٣٢٢) ، وشرح المفصل (٩ / ١٢٨) ، ولسان العرب (حدد) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٤ / ٤١١) ، وخزانة الأدب (٦ / ٥٣١) ، وشرح الأشموني (٣ / ٨٩٧) ، وشرح شافية ابن الحاجب (ص ٢٤٤) ، والمقتضب (١ / ١٨٥).

٥٠٠ ـ الشاهد في ديوانه (ص ٢١) ، ومحاضرات الراغب (٢ / ٢١٧).

١٧٣

قال ابن جني : سأل بعضهم الشيخ أبا علي عن قولنا : زيد منطلق ، فقال : زيد معرفة ومنطلق نكرة ، والمنطلق هو زيد نفسه ، فكيف صار معرفة ونكرة في حين واحد؟ فأجاب بأنّ العين واحدة والحال مختلفة ، ومعنى هذا أنّ «منطلق» هو زيد عينا ، ولكن فيه بيان حال وإخبار بأمر مجهول غير زيد وهو الانطلاق.

قال ابن جني : قال لنا أبو علي : سقط على فكري البارحة شيء جيد يدل على شدّة اتصال تاء التأنيث بالكلمة ، وهو قولك : دحرجة وبابه ، الاستدلال من ذلك أنّه قد ثبت أنّ المشتق يجب أن يكون لفظه مخالفا للفظ المشتق منه ، لأنّه لو كان مثله ولم يكن مخالفا له كان إيّاه ، ولم يكن أحدهما بأن يجعل أصلا أولى من الآخر ، وقد ثبت أن الفعل مشتق من المصدر ، فيجب أن يكون لفظهما مخالفا ، ولا مخالفة بين دحرج الذي هو فعل ماض مشتق وبين دحرجة إلا بالتاء ، ولو جعلتها منفصلة زال الخلاف بينهما ، فدلّ هذا على شدّة اتصال التاء بها ، وللتاء تأثير في تغيير الكلمة ، ألا ترى أنك تقول : ليس في الكلام مفعل نحو مكرم ، وتجد هذا المثال مع تاء التأنيث نحو المقبرة؟ قال بعض الحاضرين : مضرب مثل ضرب فعبّس وجهه وقال : أتريد تغييرا أكثر من التحريك والتسكين؟

قال ابن جني : سألت أبا علي عن قولنا : إن لم تفعل ، ما العامل في تفعل؟ فقال : لمه؟ فقلت : فإن للشرط والمعنى عليه فما عملها؟ فقال : إنها عاملة في «لم تفعل» كلها بمجموعها ، لأنّ لم تنزّلت منزلة بعض أجزائه ، والدليل على صحة ذلك قول سيبويه (١) : «زيدا لم أضرب» ، وحرف النفي لا يعمل ما بعده فيما قبله ، إلّا أنّ لم تنزلت منزلة بعض الفعل فعمل كما عمل لو لم يكن معه لم ، ولا خلاف ولا إشكال في جواز «إن لم تفعل» ، والجازم لا يدخل على الجازم كما لا يدخل على الناصب ولا الجار على الجار ، إذ الحرف لا يكون وحده معمولا ، ولا بد من هذا التنزيل ، ولكنّ لا علامة لجزم إن في اللفظ ، وإنّما هو مجزوم الموضع بإن.

مسألة لابن مكتوم في تذكرته

قال ابن مكتوم في تذكرته : مسألة : قال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز : [البسيط]

٥٠١ ـ الشّمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك نجوم اللّيل والقمرا

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ١٩٠).

٥٠١ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٧٣٦) ، وأمالي المرتضى (١ / ٥٢) ، وشرح شواهد الشافية (ص ٢٦) ، وشرح شواهد الشافية (ص ٢٦) ، والعقد الفريد (١ / ٩٦) ، ولسان العرب (كسف) و (بكى) ، وبلا نسبة في لسان العرب (شمس).

١٧٤

اختلف الرواة في رواية هذا البيت ، فرواه البصريون هكذا ، ورواه الكوفيون : الشمس كاسفة ليست بطالعة ، ورواه بعض الرواة : (تبكي عليك نجوم الليل والقمرا) برفع نجوم ونصب القمر ، ورواه بعضهم بنصبهما معا ، وقد اختلف أصحاب المعاني وأهل العلم من الرواة ، وذوو المعرفة من النحاة في تفسير وجوه هذه الروايات وكتابتها في العربية ، فأما من روى : الشمس طالعة ليست بكاسفة فإنّه ينصب نجوم الليل بكاسفة ويعطف القمر عليها ، وتبكي يحتمل أن يكون في موضع رفع على أنّه خبر بعد خبر ، ويحتمل أن يكون في موضع نصب على الحال إمّا من الشمس وإمّا من اسم ليس ، ونصب نجوم الليل بكاسفة أشهر الجوابات وأعرفها وأقربها مأخذا ، والمعنى أن الشمس لم تقو على كسف النجوم والقمر لإظلامها وكسوفها بسبب هذا المصاب العظيم ، وقيل : نجوم الليل والقمر منصوبان بتبكي نصب الظرف ، أي : تبكي عليك مدّة نجوم الليل والقمر ، كما قالوا : «لا أكلمك سعد العشيرة» و «لا أكلّمك هبيرة بن سعد» و «القارظين» ونحو ذلك ، وهذا الإعراب موافق لرواية الكوفيين : الشمس كاسفة ليست بطالعة ، وقيل : إنّ نجوم الليل والقمر منصوبان بتبكي نصب المفعول به ، ومعنى تبكي تغلب في البكاء فهو من باب المغالبة الآتي على فاعلته ففعلته أفعلة بضم العين إلّا في باب وعدت وبعت ورميت ، فإنه يجيء على أفعلة بكسر العين ، قالوا : وعلى هذا فيحتمل أن يراد بالنجوم والقمر السادات والأماثل كما قال النابغة : [الطويل]

٥٠٢ ـ فإنّك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب

وأما من رفع نجوم الليل ونصب القمر فإنّ ذلك من باب المفعول معه ، نحو : استوى الماء والخشبة ، وهذا الإعراب أيضا موافق رواية الكوفيين ، وذكر أبو نصر الحسن بن أسد الفارقي في رواية من نصب نجوم الليل والقمر أن المعنى : تبكي عليك ونجوم الليل والقمر ، أي : تبكي الشمس عليك مع نجوم الليل والقمر فحذف الواو وهو يريدها ، وهو أغرب الوجوه المقولة في هذا البيت.

وأمّا رواية الكوفيين : الشمس كاسفة ليست بطالعة ، فإنه استعظم أن تطلع الشمس ولا تكسف لمثل هذا المصاب العظيم ، كما قالت الخارجية : [الطويل]

__________________

٥٠٢ ـ الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه (ص ٧٨) ، والكامل (٣ / ٣٣) ، وأمالي المرتضى (١ / ٤٨٧) ، ومعاهد التنصيص (١ / ٣٥٩).

١٧٥

٥٠٣ ـ أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنّك لم تجزع على ابن طريف

قال ابن مكتوم في (تذكرته) : قال ابن الطرّاوة في المقدّمات في قول سيبويه : باب ما يحمل الاسم فيه على مرفوع ومنصوب : كلامه في هذا الباب صحيح وعارضوه بأوهام كثيرة يوقف عليها وعلى بعضها من كتب الشارحين ، وإنما أوقع لهم الشك توهمهم أنّ الواو عاطفة ولم يعرضوا للجامعة بحرف ، وقد أشرت إليها في قوله :

«ما مثل زيد ولا أخيه يقول ذاك» (٢) و «يقولان ذاك» على معتقدي في الواو وأظرف ما رأيت من هذا الجهل بالواو الجامعة شيء نصّه الفسويّ في الإيضاح ، فإنه بسط القول في التأنيث والتذكير ، فكان فيما ذكر أن التاء تحذف مع المؤنث من غير الحيوان ، وعد منه ضروبا ثم قال : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) [القيامة : ٩] ، فأدخله في باب ما يحذف منه التاء والأصل استعمالها ، ولم يفطن لما هو بسبيله من الواو الجامعة وأن التاء لا تجوز هنا البتّة ، وإنما أخبرتك بهذا لنعلم أنّ هذه الأصول التي أغفلت من أوكد الواجبات إحكامها والأخذ بما يتوهم فيه نقضها وإبرامها ، وهذه الحال نفسها أوقعت خواصّ أهل الأندلس في طرح الواو من قولك : وصلّى الله عليه وسلم ، إذ توهموها عاطفة ، فاختلفت آراؤهم فيما وضعوا مكانها واتفقوا على إسقاطها تقصيرا بالسلف وتمرسا بالخلف مع العجب بأنفسهم والغفلة عما تورّطوا فيه من جهلهم ومن الحق على من لا يعلم أن يقتدي بمن تقدّمه ولا يرسل في الباطل قدمه لا سيّما فيما نقلته الكافّة وأطبقت عليه الأمة ، انتهى.

رأي في إعراب : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ :) رأيت بخط ابن القمّاح قال : ذكر القفطي في كتاب (إنباه الرواة على أنباه النحاة) أن القاضي إسماعيل بن إسحاق سأل أبا الحسن محمد بن أحمد بن كيسان : ما وجه قراءة من قرأ : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣] على ما جرى به عادتك من الإغراب في الإعراب؟ فأطرق ابن كيسان مليّا ثم قال : تجعلها مبنيّة لا معربة وقد استقام الأمر ، قال : فما علة بنائها؟ قال : لأنّ المفرد منها هذا وهو مبني ، والجمع هؤلاء ، وهو مبني ، فتحمل التثنية على الوجهين ،

__________________

٥٠٣ ـ الشاهد لليلى بنت طريف في الأغاني (١٢ / ٨٥) ، والحماسة الشجرية (١ / ٣٢٨) ، والدرر (٢ / ١٦٣) ، وشرح شواهد المغني (ص ١٤٨) ، ولليلى أو لمحمد بن بجرة في سمط اللآلي (ص ٩١٣) ، وبلا نسبة في لسان العرب (خبر) ، ومغني اللبيب (١ / ٤٧) ، وهمع الهوامع (١ / ١٣٣).

(١) انظر الكتاب (١ / ١١١).

١٧٦

فأعجب القاضي ذلك وقال : ما أحسنه لو قال به أحد ، فقال ابن كيسان : ليقل به القاضي وقد حسن.

مسألة نحوية للحريري

سأل عنها علي بن أبي زيد الفصيحيّ أبا محمد القاسم بن علي الحريري قال : ما يقول سيّدنا أدام الله توفيقه في انتصاب لفظي بعض الشعراء ، وهو قوله : [المتقارب]

٥٠٤ ـ تعيّرنا أنّنا عالة

ونحن صعاليك أنتم ملوكا

وعلى ما ذا عطف قوله : ونحن ، وعلى أيّ وجه يعمل المتنبي وغيره من الشعراء نحو : [المنسرح]

٥٠٥ ـ [ربحلة] أسمر مقبّلها

سبحلة] أبيض مجرّدها

وهل هما من الصفات المشبهة بأسماء الفاعلين أم لا؟ فإن الشريطة في الصفة المشبهة باسم الفاعل أن لا تكون جاية على يفعل من فعلها ، نحو : حسن وكريم ، فإنّ حسنا ليس على زنة يحسن ، وأسمر على زنة يسمر ويسمر ، فإنّ اللغتين قد حكيتا وليس هذا شرطها ، ينعم بإيضاحها.

الجواب : اللهمّ إنّا نعوذ بك أن نعنت كما نستعيذك أن نعنت ، ونبرأ إليك من أن نفضح كما نستعصمك من أن نفضح ، ونستمنحك بصيرة تشغلنا بالمهمات عن التّرّهات وتنزّهنا عن التعلّم للمباهاة والمباراة ، ونسألك اللهمّ أن تجعلنا ممّن إذا رأى حسنة رواها ، وإن عثر على سيئة واراها برحمتك يا أرحم الراحمين. وقفت على السؤالين الملوّح بشرّ مصدرهما وهجنة مصدرهما ، إذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الأغلوطات وزجر عن تطلّب السّقطات والعثرات ، وكان ابن سيرين إذا سئل عن عويص اشمأزّ منه ، وقال : «سل أخاك إبليس عن هذا» ، ومع هذا فإنّي كرهت ردّ السّائل ، ولربّ عييّ أفصح من لسن ، لا سيّما إذا لم يأت بحسن.

أمّا السؤال الأول فهو من مسائل المعاياة وأسولة الإعنات ، ولا عيب أن يجهله النحويّ المدرّس فضلا عمّن لا يدّعي ولا يلبس ، وهو من الأبيات التي جرى فيها التقديم والتأخير لضرورة الشعر ، وتقديره : «تعيّرنا أنّنا عالة صعاليك ملوكا أنتم

__________________

٥٠٤ ـ الشاهد بلا نسبة في تذكرة النحاة (ص ١٧١) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٤٤) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٤٣٧) ، ومغني اللبيب (٢ / ٤٣٩).

٥٠٥ ـ الشاهد للمتنبي في ديوانه (١ / ٢٩٨).

١٧٧

ونحن» وعالة فيه جمع عائل المشتق من عال يعول ، وانتصاب صعاليك به وملوكا صفتهم ، وأمّا أسمر وأبيض فإنّما أعملا لمجيء الفعل منهما على افعلّ وافعالّ المخالفين لزنتيهما ، فهذا ما حضرني من الجواب ، ولعلي نكّبت فيه عن طريق الصواب.

قال السخاوي : وما أرى هذا الجواب مستقيما لأنّ الملوك لا تكون صفة للصعاليك ، وقوله في تقديره : «صعاليك ملوكا أنتم ونحن» لا معنى له وإنما الصواب أن يقال : إنّ عالة بمعنى عالني الشيء إذا أثقلني ، أي : تعيّرنا بأنّا عالة ملوكا ، أي : نثقلهم بطرح كلّنا عليهم في حال التصعلك ، فصعاليك منصوب على الحال ، وقوله «ونحن» مبتدأ وأنتم خبره ، أي : ونحن مثلكم فكيف تعيرنا؟ قال الله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦] ، وتقول النحاة : أبو يوسف أبو حنيفة ، وتقدير الشعر «تعيّرنا أننا عالة ملوكا صعاليك ونحن أنتم» (١) ، وفي عال بمعنى أثقل جاء قول أميّة بن أبي الصّلت : [الخفيف]

٥٠٦ ـ سلع ما ومثله عشر ما

عائل ما وعالت البيقورا

أي : أثقلت البقر بما حمّلت في أذنابها من السّلع والعشر.

وأمّا أسمر وأبيض وأحمر فإنّهم أجروا هذا الضّرب مجرى الصفة المشبهة باسم الفاعل ومن ذلك «أجبّ» في قوله : [الوافر]

٥٠٧ ـ ونمسك بعده بذناب عيش

أجبّ الظّهر ليس له سنام

يجوز في الظهر الرفع والنصب والجر ، وكذلك تقول في مؤنث أحمر مررت برجل حمراء جاريته ، كما تقول : حسنة جاريته ، أجروا حمراء مجرى حسنة ، وشبّهت هذه بالصفة المشبهة باسم الفاعل في أنّها تذكر وتؤنّث وتثنّى وتجمع وأنّها تدلّ على معنى ثابت ، وشبّه أفعل التفضيل أيضا بالصفة المشبهة إذا لم يكن مصحوبا بمن وكان صفة لما ذكرناه نحو أجب.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٥٠٤).

٥٠٦ ـ الشاهد لأمية بن أبي الصلت في ديوانه (ص ٣٦) ، والأزهيّة (ص ٨١) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٣٠٥) ، ولسان العرب (علا) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٣٢٢) ، ولسان العرب (بقر) ، و (سلع) و (عول) ، ومغني اللبيب (١ / ٣١٤).

٥٠٧ ـ الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه (ص ١٠٦) ، والأغاني (١١ / ٢٦) ، وخزانة الأدب (٧ / ٥١١) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٢٨) ، وشرح المفصّل (٦ / ٨٣) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٥٧٩) ، وبلا نسبة في أسرار العربية (ص ٢٠٠) ، وأمالي ابن الحاجب (١ / ٤٥٨) ، والإنصاف (١ / ١٣٤) ، وشرح الأشموني (٣ / ٥٩١) ، وشرح ابن عقيل (ص ٥٨٩) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٣٥٨) ، ولسان العرب (جبب) و (ذنب) ، والمقتضب (٢ / ١٧٩).

١٧٨

مسائل جرت بين أبي جعفر بن النحاس وابن ولّاد

وفي (سفر السعادة) أيضا : هذه مسائل جرت بين أبي جعفر النحاس وبين أبي العباس بن ولّاد ، وبعث قولهما إلى ابن بدر ببغداد ومال مع أبي العباس على أبي جعفر ميلا مفرطا وكأنّه قد ارتشي ، وقال لي شيخنا أبو القاسم الشاطبي رحمه الله ، وقد وقفته على هذه المسائل واغتبط بها غاية الاغتباط : أبو جعفر النحاس يسلك في كلامه طريق النجاة ، وأبو العباس له ذكاء وصدق رحمه الله ، وستقف من كلام الرجلين على ما يدلك على صحة ذلك.

المسألة الأولى : ابتدأ أبو جعفر فقال لابن ولّاد : كيف تبني من «رجا يرجو» افعللت وافعليت وافعلوت؟ فقال أبو العباس : أمّا افعليت فارجويت ، وأما افعلوت فارجووت ، وأمّا افعللت فارجووت أيضا.

فقال أبو جعفر : هذا كله خطأ ، أما ارجويت في افعليت فلا يعرف في كلام العرب افعليت ، ولو جاز أن يكون ارجويت افعليت للزم أن تقول في أغزيت : أفعيت ، لأنّ من زعم أنّ الراء من جعفر زائدة لزمه أن يقول : هو فعلر وأن يقول في ضربب فعلب ، ولا يقوله أحد.

قال السخاوي : هذه العبارة في قوله : «لأن من زعم أنّ الراء من جعفر زائدة» ليس بجيدة ، لأنّها توهم أنّ من الناس من يقول ذلك ، وكان الصواب أن يقول : إذ لو زعم زاعم أن الراء من جعفر ، ثم قال : وأمّا ارجووت في افعلوت وافعللت فأعجب في الخطأ من الأول ، لأنّا لا نعلم خلافا بين النحويين أنّ الواو إذا وقعت طرفا فيما جاوز الثلاثة من الفعل أنّها تقلب ياء ، كما قالوا في أفعلت من غزوت : أغزيت ، وفي استفعلت : استغزيت ، والوجه عند أبي جعفر لا يبنى من «رجا» إلّا افعللت ، فيقال ارجويت أرجوي ارجواء فأنا مرجو ، مثل احمررت أحمرّ احمرارا فأنا محمرّ ، إلّا أنّك تفك في ارجويت أرجوي وتدغم في احمرّ يحمرّ ، وهو كثير في كلام العرب ، نحو ابيضضت واصفررت.

قال محمد بن بدر : إنما قال في افعليت : ارجويت بالياء لأنّها مبدلة من الواو ، والمبدل من الحرف زائد بمعنى البدل والزائد يمثل على لفظه.

قال السخاوي : هذا خطأ لأنّ هذا لو صحّ لقيل في قال وباع وزنه قال.

قال ابن بدر : وأمّا جوابه في افعلوت ارجووت وفي افعللت ارجووت أيضا فإنه تمثيل على الأصل قبل الإعلال ، وسبيل كل ممثل أن يتكلم بالمثال على الأصل ، ثم

١٧٩

ينظر في إعلاله بعد ، فافعللت على الأصل : ارجووت وعلى الإعلال : ارجويت ، ومن قال كينونة فيعلولة ذهب إلى الأصل ، ومن قال فيلولة ذهب إلى اللفظ ، وإذا بنوا مثال عصفور من غزا قالوا : غزووّ ، فالفراء يتركه على هذا ولا يعلّه ، وسيبويه يعله بعد ذلك فيقول : غزويّ ، وقال ابن بدر : وقول أبي جعفر : «لو جاز أن يكون ارجووت افعليت» إلى قوله : «لا يقوله أحد» فغثّ لا معنى له ولا للإتيان به وجه.

قال السخاوي : قول ابن بدر في ارجويت : إنه تمثيل على الأصل غير ، لأن ذلك لم ينطق به في الأصل كما نطق بكيّنونة ، كما قال (١) : [الرجز]

يا ليت أنّا ضمّنا سفينه

حتّى يعود الوصل كيّنونه

وإنما يمثّل بالأصل ما لا يصح تمثيله على اللفظ ، كقولك في عدة : إنه فعلة ، ولا تقول : علة وفي غد إنّه فعل ، ولا تقول : هو فع ، ثم إنه لم يسأل عن تمثيل الأصل ، وإنما سأل عمّا يصحّ أن ينطق به ، فما له اقتصر على تمثيل الأصل وترك ما ينبغي أن يقال؟

المسألة الثانية : قال أبو جعفر : سألني هذا الفتى فقال : كيف تقول : ضرب زيد؟ فقلت : ضرب زيد ، فقال : كيف تتعجب من هذا الكلام؟ فقلت : ما أكثر ما ضرب زيد فلم لم تجز التعجب من المفعول بلا زيادة كما جاز التعجب من الفاعل بلا زيادة؟ فقلت : لأن التعجب يكون الفعل فيه لازما ، فإذا قيل : أخرجه إلى باب التعجب فمعناه اجعل الفاعل مفعولا ، كما تقول : قام زيد ، ثم تقول : ما أقوم زيدا ، فمعناه على مذهب الخليل : شيء أقوم زيدا ، فإذا جئنا إلى ما لم يسمّ فاعله لم يجز أن نتعجب منه حتى نزيد في الكلام ، لأنه لا فاعل فيه ، فقال : ليس يخلو المتعجب منه في حال الزيادة من أن يكون فاعلا في الأصل أو مفعولا ، فإن كان مفعولا في الأصل فقد نقضت قولك بأنّا لا نتعجب إلّا من الفاعل ، وإن كان فاعلا فقد لزمك أن تتعجب منه على ما قدّمت من القول بلا زيادة ، فقلت : ألزمتني ما لم أقلّ ، لأنّه قال : إن كان مفعولا في الأصل فقد نقضت قولك ، وإلا فقد قلت : إني لا أتعجب منه إلا على كلام آخر ، فكيف تلزمني أن أتعجب منه؟ فقال : أما قولك : إني ألزمتك ما لا يلزمك فدعوى لا بيّنة معها.

وأما قولك : إني لا أتعجب منه بزيادة فليس يخلو تعجّبك من أن يكون واقعا عليه في نفسه أو على الزيادة ، فإن كان واقعا عليه فقد لزمك ما ألزمتك ، وإن كان واقعا على الزيادة فقد تعجبت ممّا لم أسألك عن التعجب منه ، فإن قلت : إنّي إنّما

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٣٧).

١٨٠