الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٦٤

مجلس محمد بن زياد الأعرابي مع أحمد بن حاتم (١)

بعض المعاني اللغوية

قال : وجدت بخط أبي نصر أحمد بن حاتم ، قال : اجتمعت أنا ومحمد بن زياد الأعرابي ، فسألته عن قول طفيل الغنوي : [الطويل]

٣٨٠ ـ تتابعن حتّى لم تكن لي ريبة

ولم يك عمّا خبّروا متعقّب

فقلت له ما معنى «متعقّب»؟ فقال : تكذيب ، فقلت له : أخطأت ، إنّما قوله : «متعقّب» أن تسأل عن الخبر ثانية بعد ما سألت عنه أوّل مرّة ، يقال : تعقّبت الخبر إذا سألت عنه غير من كنت سألت عنه أوّل مرّة ، ومنه يقال : تعقّبت في الغزو إذا غزوت ثم ثنّيت من سبتك ، وقوله : تتابعن يعني الأخبار ، وقال في مثله طفيل : [الطويل]

٣٨١ ـ وأطنابه أرسان جرد كأنّها

صدور القنا من بادئ ومعقّب

فأراد أنّ أطناب البيت أرسان الخيل ، وجرد : قصار الشعر ، وقوله كأنها صدور القنا في طولها وأراد كأنّها القنا ، والعرب تفعل هذا كقولك : جاء فلان على صدر راحلته ، وإنّما يريد : على راحلته ، وقوله : من بادئ ومعقّب ، يريد من فرس بادئ غزا أوّل مرّة ومعقّب غزا ثانية ، ومنه يقال : صلّى فلان أوّل اللّيل ثمّ عقّب ، يريد صلّى ثانية ، ثم سأله طاهر بن عبد الله بن طاهر ومعنا عدّة من العلماء عن معنى بيت طفيل : [الطويل]

٣٨٢ ـ كأنّ على أعرافه ولجامه

سنا ضرم من عرفج متلهّب

فقال له : ما معنى هذا البيت؟ فقال : أراد أنّ هذا الفرس شديد الشّقرة كحمرة النار ، فقلت له : ويحك! أما تستحيي من هذا التفسير؟ إنّما معناه : أنّ له حفيفا في جريه كحفيف النار ، ولهبه ، ثم أنشدته أبياتا حججا لهذا البيت ، قال امرؤ القيس : [المتقارب]

__________________

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٢٨٢).

٣٨٠ ـ الشاهد لطفيل الغنوي في ديوانه (ص ٣٧) ، ولسان العرب (عقب) ، وديوان الأدب (٢ / ٤٣٨) ، والتنبيه والإيضاح (١ / ١١٩) ، وأساس البلاغة (عقب) ، وتاج العروس (عقب).

٣٨١ ـ الشاهد لطفيل الغنوي في ديوانه (ص ١٩) ، ومقاييس اللغة (٤ / ٨٢) ، والأغاني (١٥ / ٣٤١).

٣٨٢ ـ الشاهد لطفيل الغنوي في ديوانه (ص ٢٦) ، ولسان العرب (ضرم) ، وجمهرة اللغة (ص ١٣٢٩) ، وأمالي القالي (٢ / ٣٥) ، وسمط اللآلي (ص ٦٦٦) ، والمعاني الكبير (ص ١٧).

٨١

٣٨٣ ـ سبوحا جموحا وإحضارها

كمعمعة السّعف الموقد

وقال رؤبة : [الرجز]

٣٨٤ ـ تكاد أيديها تهادى في الزّهق

من كفتها شدّا كإضرام الحرق

فأراد : عدوا كأنّه إضرام الحرق ، وقال العجاج : [الرجز]

٣٨٥ ـ كأنّما يستضرمان العرفجا

فوق الجلاذيّ إذا ما أمججا

يقول : من حفيف عدوهما كأنّهما يوقدان عرفجا ، وقال أوس بن حجر : [الطويل]

٣٨٦ ـ إذا اجتهدا شدّا حسبت عليهما

عريشا علته النّار فهو محرّق

وسئل عن بيت لطفيل : [البسيط]

٣٨٧ ـ كأنّه بعد ما صدّرن من عرق

سيد تمطّر جنح اللّيل مبلول

فقال : كأنّ الفرس بعد ما سال العرق من صدورهنّ ذئب ، فقلت : أخطأت ، إنّما معناه : كأنّ هذا الفرس بعد ما برزت صدور هذه الخيل من عرق في الصف ، وكلّ طريقة وصفّ عرقة ، يقال : عرق من قطا ومن خيل ، فيقول : كأنّ هذا الفرس ذئب قد أصابه المطر ، فهو ينجو ويعدو عدوا شديدا ، ثم سئل في هذا المجلس عن بيت لعروة : [الطويل]

٣٨٩ ـ مطلّا على أعدائه يزجرونه

بساحتهم زجر المنيح المشهّر

فقيل له : ما معناه؟ فقال : يزجرون هذا الرجل إذا نزل بساحتهم كما يزجر

__________________

٣٨٣ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ١٨٧) ، ولسان العرب (جح) ، و (معمع) ، وكتاب العين (١ / ٩٥) ، وجمهرة اللغة (ص ١٣٢٩) ، وتهذيب اللغة (١ / ١٢٣) ، وأساس البلاغة (معمع).

٣٨٤ ـ الرجز لرؤبة في ديوانه (ص ١٠٦) ، ولسان العرب (كفت) و (زهق) ، والتنبيه والإيضاح (١ / ٧٧) ، وتهذيب اللغة (٥ / ٣٩٢) ، وتاج العروس (كفت) و (حرق) و (زهق) ، ومقاييس اللغة (٣ / ٣٢) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٨٢٤) ، وكتاب العين (٣ / ٣٦٣) ، والمخصص (١٠ / ١٢٤).

٣٨٥ ـ الرجز للعجاج في ديوانه (٢ / ٦٠) ، وجمهرة اللغة (ص ١٣٢٩) ، وبلا نسبة في لسان العرب (مجج) ، وتاج العروس (مجج) ، وجمهرة اللغة (ص ٩٢).

٣٨٦ ـ الشاهد لأوس في ديوانه (ص ٧٨) ، وسمط اللآلي (ص ٦٦٧) ، والتنبيه والإيضاح (ص ٩٢).

٣٨٧ ـ الشاهد لطفيل الغنوي في ديوانه (ص ٦٠) ، ولسان العرب (صدر) و (عرق) ، وتهذيب اللغة (١ / ٢٢٥) ، ومقاييس اللغة (٤ / ٢٨٨) ، وتاج العروس (صدر) و (عرق) ، وبلا نسبة في لسان العرب (مطر) ، وجمهرة اللغة (ص ٦٣٠) ، وديوان الأدب (٢ / ٣٥٤) ، وتاج العروس (مطر).

٣٨٨ ـ الشاهد في ديوانه (ص ٧٢) ، والكامل (١ / ١٣٣) ، وجمهرة أشعار العرب (ص ٥٦٦) ، والخزانة (٤ / ١٩٦).

٨٢

المنيح ، ثمّ فسّر فقال : المنيح من القداح الذي لا نصيب له ، وإنّما هو تكثير في القداح مثل السّفيح والوغد ، فقلت له : ويحك! إنّما يزجر ما جاء له نصيب ، وهذا خامل لا نصيب له ، ثم قال : مشهّر ، تفسير هذا البيت : القدح المعروف بالفوز فيستعار لكثرة فوزه وخروجه ، ومنه يقال : منحت فلانا ناقتي سنة ، والناقة تسمّى منيحة ، وذاك إذا أعطيته لبنها ووبرها سنة ثمّ يردها ، فكذلك هذا القدح يستعار ، فهو يتبرّك به لكثرة فوزه ، وأنشدته فيه حججا ، قال ابن مقبل يصف قدحا قد استعاره لكثرة فوزه : [الطويل]

٣٨٩ ـ مفدّى مؤدّى باليدين ملعّن

خليع لحام فائز متمنّح

فأراد بقوله : متمنّح : مستعار ، وقال عمرو بن قميئة : [الطويل]

٣٩٠ ـ بأيديهم مقرومة ومغالق

يعود بأرزاق العيال منيحها

فلو كان المنيح القدح الذي لا نصيب له ما كان يثير أرزاق العيال ، ولكنه هو الذي يمنح أي : يستعار فيفوز ويقمر ، ثم أنشدته في القدح الذي يستعار ويعلم بقعقب أو يؤثّر فيه بالأسنان ، قال لبيد : [الطويل]

٣٩١ ـ ذعرت قلاص الثّلج تحت ظلاله

بمثنى الأيادي والمنيح المعقّب

فإنّما عقّب علامة لكثرة فوزه وقمره ، قال دريد : [الوافر]

٣٩٢ ـ وأصفر من قداح النّبع فرع

له علمان من عقب وضرس

الضّرس : أن يعضّ بالضّرس ليؤثر فيه.

مجلس أبي محمد اليزيدي مع ياسين الزيات (٥)

حدّثنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال : أخبرني عمّي الفضل بن

__________________

٣٨٩ ـ الشاهد لابن مقبل في ديوانه (ص ٣٠) ، ومحاضرات الراغب (١ / ٣٤٥) ، والمعاني الكبير (١١٥٥).

٣٩٠ ـ الشاهد لعمرو بن قميئة في ديوانه (ص ١٧) ، ولسان العرب (سنح) ، والتنبيه والإيضاح (١ / ٢٤٨) ، وتهذيب اللغة (٤ / ٣٢٢) ، وتاج العروس (سنح).

٣٩١ ـ الشاهد للبيد في ديوانه (ص ١٧) ، وأساس البلاغة (قلص).

٣٩٢ ـ الشاهد لدريد بن الصمة في ديوانه (ص ١١٧) ، ولسان العرب (كفأ) و (عقب) و (ضرس) و (نبع) ، والتنبيه والإيضاح (١ / ١١٨) ، والمخصّص (١١ / ٣) ، وتاج العروس (كفأ) و (عقب) و (ضرس) و (نبع) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة (١٠ / ٣٩٠) ، ومجمل اللغة (٣ / ٣١٠) ، وديوان الأدب (٢ / ١٦١).

(١) انظر مجالس العلماء (٢٩٨).

٨٣

محمد بن أبي محمد اليزيدي عن أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي قال : إنّي لأطوف غداة يوم بمكة إذ لقيني ياسين الزيات ، فقال : يا أبا محمد ما نمت البارحة لشيء اختلج في صدري منعني الفكر فيه النوم ، وما كنت أودّ إلّا أن أصبح فألقاك قلت : وما ذاك؟ قال : أيجوز في كلام العرب أن يقول الرجل : «أريد أن أفعل كذا وكذا» لشيء قد فعله؟ فقلت ذلك غير جائز إلّا على ضرب من الحكاية أفسّره لك ، قال : فما تقول في قول الله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) [القصص : ٤] إلى أن بلغ إلى قوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) [القصص : ٥] فخاطب بها محمّدا صلّى الله عليه وسلّم وقد فعل ذلك قبل؟ قلت : هذا من الحكاية التي ذكرتها لك لأنّه قال : (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص : ٤] ، كأنّ تقدير الكلام : وكان من حكمنا يومئذ أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ، فحكى ذلك لمحمد صلّى الله عليه وسلّم : كما قال في قصة يحيى : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ١٥] لأنّ تقدير الكلام : وكان من حكمنا سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّا ، فحكى ذلك لمحمد صلّى الله عليه وسلّم فقال : جزاك الله خيرا يا أبا محمد ، فقد فرّجت عنّي بما شرحت لي.

مجلس أبي عثمان المازني مع يعقوب بن السكّيت (١)

أخبرنا أبو إسحاق الزجاج قال : أخبرنا أبو العباس محمد بن يزيد عن أبي عثمان قال : جمعني وابن السكيت بعض المجالس ، فقال لي بعض من حضر : سله عن مسألة وكان بيني وبين ابن السكيت ود ، فكرهت أن أتجهّمه بالسؤال لعلمي بضعفه في النحو ، فلما ألحّ عليّ قلت له : ما تقول في قول الله عز وجل : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) [يوسف : ٦٣] ، وما وزن «نكتل» من الفعل ولم جزمه؟ فقال : وزنه نفعل وجزمه لأنّه جواب الأمر ، قلت : فما ماضيه؟ ففكّر وتشوّر ، فاستحييت له ، فلمّا خرجنا قال لي : ويحك! ما حفظت الودّ ، خجّلتني بين الجماعة ، فقلت : والله ما أعرف في القرآن أسهل منها ، قال : وزن نكتل نفتعل من اكتال يكتال ، وأصله : نكتيل فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ثم حذفت الألف لسكونها وسكون اللام فصار نكتل.

مجلس أبي عثمان المازني مع أبي عمر الجرميّ (٢)

حدثني بعض إخواني قال : حذثنا أبو إسحاق الزجاج قال : أخبرنا محمد بن

__________________

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٣٠٠) ، وإنباه الرواة (١ / ٢٥٠).

(٢) انظر مجالس العلماء (ص ٣٠٥) ، وإنباه الرواة (٢ / ٨١).

٨٤

يزيد قال : حدثني المازني قال : قال أبو عمر الجرمي يوما في مجلسه : من سألني عن بيت من جميع ما قالته العرب لا أعرفه فل عليّ سبق ، فسأله بعض من حضر ، قال أبو العباس : السائل المازني ولكنّه كنى عن نفسه ، فقال له : كيف تروي هذا البيت : [الكامل]

٣٩٣ ـ من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النّساء حواسرا يندبنه

قد قمن قبل تبلّج الأسحار

قد كنّ يخبأن الوجوه تستّرا

فالآن حين بدون للنّظّار

فقال له : كيف تروي بدأن أو بدين؟ فقال : بدأن ، فقال له : أخطأت ، ففكّر ثم قال : إنّا لله ، هذا عاقبة البغي.

قال صاحب الكتاب : وقع في هذه الحكاية سهو من الحاكي لها أو من الناقل وذلك أنّه حكى أنّ المازني حضر مجلس الجرمي وهذا غلط ، والذي حدثني به علي ابن سليمان وغيره أنّ الجرمي تكلم بهذا بحضرة الأصمعي ، والسائل له الأصمعي ، وإنّما كان ذلك على الأغلوطة والتّجربة.

مجلس أبي عثمان المازني مع أبي الحسن سعيد بن مسعدة (٢)

أخبرنا أبو جعفر الطبري قال : حدثني أبو عثمان المازني قال : قال لي الأخفش سعيد بن مسعدة يوما : على أيّ وجه أجاز سيبويه (٣) في تثنية كساء كساوان بالواو؟ فقلت : بالتشبيه بقولهم : حمراوان وبيضاوان لأنّها في اللفظ همزة كما أنّها همزة ، فقال لي : فيلزمه على هذا أن يجيز في تثنية حمراء حمراءان على التشبيه بقولهم : كساءان لأنك إذا أشبهت الشيء بالشيء فقد وجب أن يكون المشبه به مثله في بعض المواضع ، فقلت : هذا لازم لسيبويه ، ثم فكّرت فقلت : لا يلزمه هذا ، فقال لي : أليس لمّا شبّهنا ما بليس فأعملناها عمل ليس ، فقلنا : ما زيد قائما ، كما نقول : ليس زيد قائما شبّهنا أيضا ليس بما في بعض المواضع فقلنا : ليس الطّيب إلّا المسك؟ ومثل هذا كثير ، ومنهم من يقول : ليس الطّيب إلّا المسك ، فنصب ، فإنه لزم الأصل ، وذلك أنّ خبر ليس منصوب منفيّا كان أو موجبا ، لأنّها أخت كان ، والمنفيّ قولك :

__________________

٣٩٣ ـ الأبيات الثلاثة للربيع بن زياد العبسي في شرح الحماسة للمرزوقي (ص ٩٥٥) ، وأمالي المرتضى (١ / ٢١١) ، والأول والثاني في الخزانة (٣ / ٥٣٨) ، والبيت الأول في مجاز القرآن (١ / ٩٧) ، والبيت الثالث في الخصائص (٣ / ٣٠٠).

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٣١٣).

(٢) انظر الكتاب (٣ / ٣٨١).

٨٥

ليس زيد قائما والموجب قولك : ليس زيد إلا قائما وما كان زيد إلا قائما كما تقول : ما كان زيد قائما وما كان زيد إلا قائما ، وأمّا من رفع فقال : ليس الطّيب إلّا المسك ففيه وجهان :

أحدهما : وهو الأجود ، أن يضمر في ليس اسمها ويجعل الجملة خبرها ، كما قال هشام أخو ذي الرّمّة : [البسيط]

٣٩٤ ـ هي الشّفاء لدائي لو ظفرت بها

وليس منها شفاء الدّاء مبذول

التقدير : ليس الأمر شفاء الداء مبذول منها ، ولكنّه إضمار لا يظهر ، لأنه أضمر على شريطة التفسير ، وتكون إلّا في المسألة مؤخرّة ، وتقديرها التقديم حتى يصحّ الكلام ، لأنها لا تقع بين المبتدأ والخبر ، فيكون التقدير : «ليس إلّا الطّيب المسك» ، ومثله (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) [الجاثية : ٣٢] ، تقديره : إن نحن إلّا نظن ظنّا.

والوجه الآخر : أن تجعل ليس بمنزلة ما فتلغي عملها لدخول إلّا في خبرها كما تلغي عمل ما إذا دخلت إلّا في خبرها ، كما حملوا ما على ليس فنصبوا خبرها ، لأنه ليس في العربية شيئان تضارعا فحمل أحدهما على الآخر إلّا جاز حمل الآخر عليه في بعض الأحوال.

فقلت : ليس هذا مثل ذاك ، وذلك أنّه لو أجاز سيبويه في تثنية حمراء : حمراءان لجعل علامة التأنيث غير متطرفة على صورتها ، وهي متطرفة ، فهل وجدت أنت علامة التأنيث متوسطة على صورتها متطرفة؟ فسكت.

ثم قال لي : لم أجد ذلك ، ولا يلزم سيبويه ما قلنا ، وما أحسن ما احتججت له.

مجلس أبي العباس ثعلب مع جماعة (٢)

حدثني أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش ، قال : أنشدنا أحمد بن يحيى ابن الأعرابي : [الرجز]

__________________

٣٩٤ ـ الشاهد لهشام بن عقبة في الأزهيّة (ص ١٩١) ، وتذكرة النحاة (ص ١٤١) ، والدرر (٢ / ٤٢) ، ولذي الرمة في شرح أبيات سيبويه (١ / ٤٢١) ، ولهشام أخي ذي الرمة في الكتاب (١ / ١١٩) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٧٠٤) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (٢ / ٨٦٨) ، ورصف المباني (ص ٣٠٢) ، وشرح المفصّل (٣ / ١١٦) ، والمقتضب (٤ / ١٠١) ، وهمع الهوامع (١ / ١١١).

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٣١٦).

٨٦

٣٩٥ ـ وصاحب أبدأ حلوا مزّا

بحاجة القوم خفيفا نزّا

إذا تغشّاه الكرى ابر خزّا

كأنّ قطنا تحته وقزّا

أو فرشا محشوّة إوزّا

قال أبو الحسن : أنشدنا أبو العباس هذه الأبيات ثم قال : يا أصحاب المعاني ما تقولون؟ فخضنا فيه ، فلم نصنع شيئا ، فضحك ثم قال : أخبرني ابن الأعرابي أنّ اسم ابنته كان مزّة ، فناداها ورخّمها ، كأنّه قال : وصاحب أبدأ حلوا من القول يا مزّة ، ثم حذف الهاء للترخيم ، يقال : رجل نزّ إذا كان خفيفا في الحاجة ، ومثله خفيف وخفاف وندب بمعنى واحد ، وقوله : «ابرخزّا» يريد انتبه. يصفها بقلّة النوم وخفة الرأس ، وقوله : «مملوءة إوزّا» يريد : ريش إوزّ ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، كما يقال : صلّى المسجد أي : أهل المسجد.

مجلس أبي العباس أحمد بن يحيى

مع أبي الحسن محمد بن كيسان (٢)

حدّثني بعض أصحابنا قال : أخبرنا أبو الحسن بن كيسان قال : قال لي أبو العباس : كيف تقول مررت برجل قائم أبوه؟ فأجبته بخفض قائم ورفع الأب ، فقال لي : بأيّ شيء ترفعه؟ فقلت : بقائم ، فقال : أوليس هو عندكم اسما وتعيبوننا بتسميته فعلا دائما؟ فقلت : لفظه لفظ الأسماء ، وإذا وقع موقع الفعل المضارع وأدّى معناه عمل عمله ، لأنّه قد يعمل عمل الفعل ما ليس بفعل إذا ضارعه ، قال : فكيف تقول : مررت برجل أبوه قائم؟ فأجبته برفعهما جميعا ، فقال لي : فهل تجيز أن تقول : مررت برجل أبوه قائم ، فترفع به مؤخّرا كما رفعت به مقدّما؟ قلت : ذلك غير جائز عند أحد ، قال : ولمه؟ قلت : لأنه اسم جرى مجرى الفعل ، وإذا تقدّم عمل عمل الفعل ولم يكن فيه ضمير ، فإذا تأخّر كان بمنزلة الفعل المؤخّر ، فلزمه أن يقع فيه ضمير من الاسم المتقدم يرتفع به ، كما يكون ذلك في الفعل إذا تأخّر ، فلمّا كان الفعل لو ظهر هاهنا لم يرفع ما قبله كان الاسم الجاري مجراه أضعف في العمل ، وأخرى أن لا يعمل فيما قبله ، فقال لي : فاجعل الاسم مرفوعا بالابتداء وما بعده خبره على مذهبكم ، لأنّ خبر المبتدأ عندكم يكون مخفوضا ومنصوبا ، كما تقولون : زيد

__________________

٣٩٥ ـ البيتان الأول والثاني بلا نسبة في لسان العرب (نزز) ، وتهذيب اللغة (١٣ / ١٦٩) ، والرابع والخامس بلا نسبة في لسان العرب (وزز) ، والمخصّص (٨ / ١٦٦) ، وكتاب الجيم (٣ / ٣٠٢).

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٣١٨).

٨٧

في الدار وزيد أمامك. قلت : ذلك غير جائز لأنّ خبر المبتدأ إذا كان هو المبتدأ بعينه لم يكن إلّا مرفوعا ، كقولنا : زيد منطلق وعبد الله قائم وما أشبه ذلك ، وكذلك إذا قلنا : مررت برجل أبوه قائم ، فالقائم هو الأب في المعنى ، فلا يجوز أن يختلف إعرابهما ، قال : فقد جاء في الشعر الفصيح الذي هو حجّة مثل هذا الذي تنكره ، قال امرؤ القيس : [الطويل]

٣٩٦ ـ فظلّ لنا يوم لذيذ بنعمة

فقل في مقيل نحسه متغيّب

تقديره : فقل في مقيل متغيّب نحسه ، ثم قدّم وأخّر كما ترى ، فقلت له : ليس هو على هذا التقدير ، فوقع لي في الوقت خاطر ، قال : فأيّ شيء تقديره؟ فقلت : تقديره : فقل في مقيل نحسه ، وتمّ الكلام كما تقول : مررت بمضروب أبوه كريم ، والتقدير : مررت برجل مضروب أبوه ، ثم تجعل كريما نعتا للمتروك الذي في النية ، فكأنّه قال : فقل في مقيل نحسه ، يقال : قال نحسه أي سكن ، والنّحس : الدّخان أيضا ، ثم قال : متغيّب بعد أن تمّ الكلام كأنّه قال : متغيب عن النحس. فقال : هذا لعمري وجه على هذا التقدير.

قال أبو الحسن : فحدثت أبا العباس المبرد بما جرى فقال : هذا شيء كان خطر لي ، فخالفت النحويين لأنّهم زعموا أنّه ممّا أتى به امرؤ القيس ضرورة ، ثم رأيته بعد ذلك قد أملاه.

مجلس سعيد الأخفش مع المازني (٢)

حدثني محمد بن منصور قال : سأل المازني أبا الحسن سعيد بن مسعدة عن قولهم : «زيد أفضل من عمرو وأكرم منه» فقال الأخفش : أفعل في هذا الباب إذا صحبه «من» فإنّما يضاف إلى ما هو بعضه ، فلم يثنّ ولم يجمع ، كما أن البعض كذلك لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنث ، كقولك : بعض أخواتك خرجن وخرجتا وخرج.

قال أبو عثمان : إنما معناه : فضله يزيد على فضله وكرمه يزيد على كرمه ، فكان بمعنى المصدر ، فلم يثنّ ولم يجمع ، كما أنّ المصدر كذلك ، وقال الفراء : إنّ أفعل في هذا الجنس يضاف إلى شيء يجمع الفاضل والمفضول ، فاستغني بتثنيته ما أضيف إليه وجمعه وتأنيثه عن تثنيته في ذاته وجمعه ، فصار بمنزلة الفعل الذي إذا تقدّم يستغنى بما بعده عن تثنيته وجمعه.

__________________

٣٩٦ ـ الشاهد غير موجود في ديوانه ، وهو له في لسان العرب (غيب).

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٣٢٢).

٨٨

مجلس مروان مع أبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش (١)

أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد الطبري ، قال : سأل مروان سعيد بن مسعدة الأخفش : أزيدا ضربته أم عمرا؟ فقال : أيّ شيء تختاره فيه؟ فقال : أختار النصب لمجيء ألف الاستفهام ، فقال : ألست إنّما تختار في الاسم النصب إذا كان المستفهم عنه الفعل كقولك : «أزيدا ضربته؟» ، «أعبد الله مررت به؟» فقال : بلى ، فقال له : فأنت إذا قلت : «أزيدا ضربته أم عمرا؟» فالفعل قد استقرّ عندك أنّه قد كان ، وإنّما تستفهم عن غيره ، وهو من وقع به الفعل ، فالاختيار الرفع لأنّ المسؤول عنه اسم وليس بفعل ، فقال له الأخفش : هذا هو القياس ، قال أبو عثمان : وهو أيضا القياس عندي ، ولكنّ النحويين أجمعوا على اختيار النصب في هذا لمّا كان معه حرف الاستفهام الذي هو في الأصل للفعل.

مجلس أبي العباس ثعلب مع جماعة (٢)

حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان قال : كنا عند أبي العباس ثعلب فأنشدنا للحصين بن الحمام المرّيّ : [الطويل]

٣٩٧ ـ تأخّرت أستبقي الحياة فلم أجد

لنفسي حياة مثل أن أتقدّما

فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا

ولكن على أقدامنا يقطر الدّما

فسألنا : ما تقولون فيه؟ فقلنا : الدّم فاعل جاء به على الأصل فقال : هكذا رواية أبي عبيد وكان الأصمعي يقول : هذا غلط ، وإنّ ما عليه الرواية : ولكن على أقدامنا تقطر الدّما منقوطة من فوقها ، والمعنى : ولكن على أقدامنا تقطر الجراحات الدّما ، فيصير مفعولا به ، ويقال : قطر الماء وقطرته أنا ، وأنشدنا : [الرمل]

٣٩٨ ـ كأطوم فقدت برغزها

أعقبتها الغبس منها عدما

__________________

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٧٧).

(٢) انظر مجالس العلماء (ص ٣٢٥).

٣٩٧ ـ البيت الثاني للحصين بن الحمام المريّ في جمهرة اللغة (ص ١٣٠٦) ، وديوان المعاني (١ / ١١٥) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ١٩٨) ، والشعر والشعراء (٢ / ٦٥٣) ، ولسان العرب (دمى) ، وله أو لخالد بن الأعلم في خزانة الأدب (٧ / ٤٩٠) ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد (ص ٧٧) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٢٧٩) ، وشرح شواهد الشافية (ص ١١٤) ، وشرح المفصّل (٤ / ١٥٣) ، ولسان العرب (برغز) ، والمنصف (٢ / ١٤٨).

٣٩٨ ـ البيت الأول بلا نسبة في لسان العرب (برغز) ، وجمهرة اللغة (ص ١٣٠٦) ، وتاج العروس (برغز) و (أطم) ، والثاني بلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ١٣٠٧) ، وتخليص الشواهد (ص ٧٧) ، وخزانة الأدب (٧ / ٤٩١) ، والدرر (١ / ١١١) ، ورصف المباني (ص ١٦) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٢٧٧) ، وشرح المفصّل (٥ / ٨٤) ، ولسان العرب (برغز) و (أطم) و (أبي) ، ـ ـ والمنصف (٢ / ١٤٨) ، وهمع الهوامع (١ / ٣٩) ، والثالث : بلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ١٣٠٧) ، والمخصص (٨ / ٣٨).

٨٩

شغلت ثمّ أتت ترقبه

فإذا هي بعظام ودما

فأفاقت فوقه ترشفه

وأغيض القلب منها ندما

فالدّم في موضع خفض عطف على العظام ، ولكنّه جاء به على الأصل مقصورا كما ترى ، وكان الأصمعي يقول : إنّما الرواية : فإذا هي بعظام ودماء ثم قصر الممدود ، والأطوم : البقرة الوحشية ، وبرغزها : ولدها ، والغبس جمع أغبس وهي الكلاب.

مجلس أبي العباس مع رجل من النحويين (١)

حدثني علي بن سليمان قال : سأل رجل أبا العباس في مجلسه عن قول الشاعر :

مرحبا بالّذي إذا جاء جاء ال

خير أو غاب غاب عن كلّ خير

فقال : أيهجوه أم يمدحه؟ فقال : بل يهجوه ، وفيه تقديران : أحدهما : تفسير محمد بن يزيد ، قال : يصفه بالغفلة والبلادة ، وتقديره : مرحبا بالذي إذا جاء جاء الخير ، أي حضوره غيبة ، فهذا المصراع في ذكر بلادته وغفلته ، ثم قال : أو غاب غاب عن كلّ خير ، معناه : أنّ الخير عندنا ، فإذا غاب غاب عن كلّ خير ، لأنّه لا يرجع إلى خير عنده.

قال أبو العباس أحمد : إنّما وصفه بالحرمان فقط ، وتقدير الكلام عنده : مرحبا بالذي إذا جاء غاب عن كل خير جاء الخير أو غاب ، يصفه بالحرمان والشّؤم على كلّ حال.

وقد رواه غيرهما بالنصب ، معناه مرحبا بالذي إذا جاء أتى الخير أي : صادف الخير عندنا ، أو غاب غاب عن كل خير ، أي : أنّه لا يرى الخير إلّا عندنا ، فإذا غاب عنّا حرم ، ولم يصادف خيرا ، ومثل هذا ممّا يسأل عنه : [الوافر]

٣٩٩ ـ سألنا من أباك سراة تيم

فقال : أبي تسوّده نزارا

تقديره : سألنا أباك نزارا من سراة تيم تسوّده؟ فقال : أبي ، ينتصب «أباك» بوقوع السؤال عليه و «نزارا» بدل منه ، «من» رفع بالابتداء وسراة مبتدأ ثان وتسوّده الخبر ، والمبتدأ الثاني والخبر خبر الأول ، وقوله : فقال أبي ، تقديره : هو أبي ، فيكون

__________________

(١) انظر مجالس العلماء (٣٣١).

٣٩٩ ـ الشاهد بلا نسبة في إعراب أبيات ملغزة (ص ١٢٣).

٩٠

خبر ابتداء مضمر ، وإن شئت رفعته بالابتداء والخبر بعده مقدر ، كأنّك قلت : أبي تسوّده سراة تيم.

مجلس أبي عمرو بن العلاء مع أبي عبيدة (١)

حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان قال : حدثني محمد بن يزيد قال : حدثنا المازني عن أبي عبيدة قال : سمعت أبا عمرو بن العلاء يقرأ : (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) [الكهف : ٧٧] ، فسألته عنه فقال : هي لغة فصيحة ، وأنشد قول الممزّق العبديّ (٢) : [الطويل]

وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها

نسيفا كأفحوص القطاة المطرّق

يقال اتّخذ اتّخاذا ، وتخذ يتخذ تخذا بمعنى واحد.

مجلس أبي عمرو مع الأصمعي (٣)

حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان ، حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال : حدثنا أبو الفضل الرّياشيّ قال : سمعت الأصمعي يقول : سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول : الشّعف بالعين غير معجمة أن يقع في القلب شيء فلا يذهب ، يقال : قد شعفني يشعفني إذا ألقي في قلبي ذكره وشغله ، وأنشد للحارث بن حلّزة اليشكريّ : [الكامل]

٤٠٠ ـ ويئست ممّا كان يشعفني

منها ولا يسليك كاليأس

قلت : قرأت القراء : (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) [يوسف : ٣٠] بالغين معجمة وشعفها بالعين غير معجمة.

مجلس الأصمعي مع الكسائي (٥)

حدّث حماد بن إسحاق عن أبيه ، قال : كنا عند الرشيد فحضر الأصمعي والكسائي فسأل الرشيد عن بيت الراعي : [الكامل]

__________________

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٣٣٣).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٥٤).

(٣) انظر مجالس العلماء (ص ٣٣٤).

٤٠٠ ـ الشاهد للحارث بن حلزة اليشكري في ديوانه (ص ٤٩) ، ولسان العرب (شعف) ، وشرح اختيارات المفضّل (٢ / ٦٣٦) ، وشعراء النصرانية (ص ٤٢٠).

(٤) انظر مجالس العلماء (ص ٣٣٦) ، والخزانة (١ / ٥٠٣).

٩١

٤٠١ ـ قتلوا ابن عفّان الخليفة محرما

ودعا فلم أر مثله مخذولا

فقال الكسائي : كان قد أحرم بالحج ، فضحك الأصمعي وتهاتف فقال الرشيد : ما عندك؟ فقال : والله ما أحرم بالحج ولا أراد أيضا أنّه دخل في شهر حرام ، كما يقال : أشهر وأعام إذا دخل في شهر وفي عام ، فقال الكسائي : ما هو إلّا هذا ، وإلّا فما معنى الإحرام؟ قال الأصمعي : فخبّرني عن قول عديّ بن زيد : [الرمل]

٤٠٢ ـ قتلوا كسرى بليل محرما

فتولّى لم يمتّع بكفن

أيّ إحرام لكسرى؟ فقال الرشيد : فما المعنى؟ فقال : يريد أنّ عثمان لم يأت شيئا يوجب تحليل دمه ، وكل من يحدث مثل ذلك فهو في ذمّة ، فقال الرشيد : يا أصمعي ما تطاق في الشعر.

مجلس أبي يوسف مع الكسائي (٣)

حدّث أبو العباس أحمد بن يحيى قال : حدّثني سلمة عن الفراء قال : كتب الرشيد في ليلة من الليالي إلى أبي يوسف صاحب أبي حنيفة : أفتنا حاطك الله في هذه الأبيات : [الطويل]

٤٠٣ ـ فإن ترفقي يا هند فالرّفق أيمن

وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم

فأنت طلاق والطّلاق عزيمة

ثلاثا ومن يخرق أعقّ وأظلم

فقد أنشد البيت : عزيمة ثلاث ، وعزيمة ثلاثا بالنصب ، فكم تطلق بالرفع وكم تطلق بالنصب؟ قال أبو يوسف : فقلت في نفسي : هذه مسألة فقهيّة نحويّة ، إن قلت فيها بظنّي لم آمن الخطأ ، وإن قلت : لا أعلم قيل لي : كيف تكون قاضي القضاة وأنت لا تعرف مثل هذا؟ ثم ذكرت أنّ أبا الحسن عليّ بن حمزة الكسائي معي في الشارع ، فقلت : ليكن رسول أمير المؤمنين بحيث يكرم ، وقلت للجارية : خذي

__________________

٤٠١ ـ الشاهد للراعي النميري في ديوانه (ص ٢٣١) ، وجمهرة اللغة (ص ٥٢٢) ، وتهذيب اللغة (٥ / ٤٥) ، وأساس البلاغة (حرم) ، ولسان العرب (حرم) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٧٥١) ، وتاج العروس (حرم) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة (٢ / ٤٥) ، ومجمل اللغة (٢ / ٤٩) ، والمخصّص (١٢ / ٣٠٠).

٤٠٢ ـ الشاهد لعدي بن زيد في ديوانه (ص ١٧٨) ، والمزهر (١ / ٥٨٤) ، وبلا نسبة في لسان العرب (حرم) ، وجمهرة اللغة (ص ٥٢٢) ، وتاج العروس (حرم).

(١) انظر مجالس العلماء (ص ٣٣٨) ، والخزانة (٢ / ٧٠).

٤٠٣ ـ الشاهد هو البيت الثاني وهو بلا نسبة في خزانة الأدب (٣ / ٤٥٩) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٦٨) ، وشرح المفصّل (١ / ١٢) ، ومغني اللبيب (١ / ٥٣).

٩٢

الشمعة بين يديّ ، فدخلت إلى الكسائي وهو في فراشه ، فأقرأته الرّقعة فقال لي : خذ الدّواة واكتب : أمّا من أنشد البيت بالرفع فقال : عزيمة ثلاث فإنّما طلّقها بواحدة ، وأنبأها أنّ الطّلاق لا يكون إلّا بثلاثة ولا شيء عليه ، وأمّا من أنشد : عزيمة ثلاثا فقد طلّقها وأبانها لأنّه كأنه قال : أنت طالق ثلاثا ، وأنفذت الجواب ، فحملت إليّ آخر اللّيل جوائز وصلات ، فوجهت بالجميع إلى الكسائي.

مجلس الرشيد مع المفضّل الضبّي

قال الزجاجي في (أماليه) (١) : أخبرنا أحمد بن سعيد الدمشقي ، حدثنا الزبير ابن بكار ، حدثني عمّي مصعب بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن مصعب قال : قال المفضّل الضّبّي : وجّه إليّ الرشيد فما علمت إلّا وقد جاءني الرسول ليلا فقال : أجب أمير المؤمنين ، فخرجت حتى صرت إليه وهو متّكئ ، ومحمد بن زبيدة عن يساره ، والمأمون عن يمينه ، فسلّمت فأومى إليّ بالجلوس فجلست ، فقال لي : يا مفضّل ، قلت : لبّيك يا أمير المؤمنين ، قال : كم في (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٣٧] من اسم؟ فقلت : ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين ، قال : وما هي؟ قلت : الياء لله عز وجل ، والكاف الثانية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، والهاء والميم والواو في الكفار ، قال : صدقت ، كذا أفادنا هذا الشيخ يعني الكسائي ، وهو إذ جالس ، ثم قال : فهمت يا محمد؟ قال : نعم ، قال : أعد المسألة ، فأعادها كما قال المفضل ، ثم التفت فقال : يا مفضل عندك مسألة تسأل عنها؟ قلت : نعم يا أمير المؤمنين. قول الفرزدق : [الطويل]

٤٠٤ ـ أخذنا بآفاق السّماء عليكم

لنا قمراها والنّجوم الطّوالع

قال : هيهات ، قد أفادنا هذا متقدّما قبلك هذا الشيخ ، لنا قمراها يعني الشمس والقمر ، كما قالوا : سنّة العمرين ، يريدون أبا بكر وعمر ، قلت : زيادة يا أمير المؤمنين في السؤال ، قال : زد ، قلت : فلم استجيز هذا؟ قال لأنه إذا اجتمع اسمان من جنس واحد وكان أحدهما أخفّ على أفواه القائلين غلّبوه فسمّوا الآخر باسمه ، فلمّا كانت أيام عمر أكثر من أيام أبي بكر وفتوحه أكثر غلّبوه وسمّوا أبا بكر باسمه ، وقال تعالى : (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) [الزخرف : ٣٨] ، وهو المشرق والمغرب ، قلت : قد بقيت مسألة أخرى ، فالتفت إليّ الكسائي وقال : أفي هذا غير ما قلت؟ قلت : بقيت الغاية التي

__________________

(١) انظر المزهر للسيوطي (٢ / ١٨٩) ، والمسألة ليست في الأمالي.

٤٠٤ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (ص ٤١٩) ، وخزانة الأدب (٤ / ٣٩١) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٣) ، ومغني اللبيب (٢ / ٦٨٧) ، ولسان العرب (عوي) ، وبلا نسبة في لسان العرب (شرق) و (قبل) ، والمقتضب (٤ / ٣٢٦).

٩٣

أجراها الشاعر المفتخر في شعره ، قال : وما هي؟ قلت : أراد بالشمس إبراهيم خليل الرّحمن ، وبالقمر محمدا صلّى الله عليه وسلّم عليهما ، وبالنجوم الخلفاء الراشدين ، قال : فاشرأبّ أمير المؤمنين ، ثم قال : يا فضل بن الربيع احمل إليه مائة ألف درهم ومائة ألف لقضاء دينه.

مسألة بين الزجاجي وبين ابن الأنباري في معنى المصدر

قال الزجاجي في كتابه المسمّى (إيضاح علل النحو) (١) : مسألة جرت بيني وبين أبي بكر الأنباري في المصدر ، قلت له مرة : ما المصدر في كلام العرب من طريق اللغة؟ فقال : المصدر : المكان الذي يصدر عنه ، كقولنا : مصدر الإبل وما أشبهه ، ثم تقول : مصدر الأمر والرأي تشبيها ، والمصدر أيضا هو الذي يسميه النحويون مصدرا ، كقولنا : ضرب زيد ضربا ومضربا وقام قياما ومقاما وما أشبه ذلك ، والمفعل يكون مكانا ومصدرا ، قلت له : فإذا كان كذلك فلم زعم الفراء أنّ المصدر منصدر عن الفعل ، فأيّ قياس جعله بمنزلة الفاعل؟ وقد صحّ عندك أنّه يكون معمولا فيه بمعنى مصدر أو مكان كما ذكرت وهل يعرف في كلام العرب مفعل بمعنى الفاعل فيكون المصدر ملحقا به؟ فقال : ليس هو كذلك عند الفراء ، إنّما هو عنده بمعنى مفعول ، كأنه أصدر عن الفعل لا أنه هو صدر عنه ، فهو بمعنى مفعول ، كما قيل : مركب فاره ومعناه مركوب ومشرب عذب ومعناه مشروب ، قال الشاعر : [الطويل]

٤٠٥ ـ وقد عاد عذب الماء بحرا فزادني

على ظمئي أن أبحر المشرب العذب

أراد المشروب العذب ، يقال : أبحر الماء واستبحرته ، إذا صار ملحا غليظا ، قلت له : ليس يجب أن يجعل دليله على صحة دعواه ما ينازع فيه ولا يسلم له ، ولا يجده في كلام العرب ، قال : فأين وجه المنازعة هاهنا؟ قلت له : إجماع النحويين كلهم على أنّ المأكل يكون بمعنى الأكل والمكان والمشرب بمعنى الشّرب والمكان ، ومنه قيل : رجل مقنع أي مقنوع به ، وليس في كلام العرب مفعل بمعنى مفعل ، ليس فيه مكرم ، بمعنى مكرم ، ولا معطى بمعنى معطى ولا مقفل بمعنى مقفل ، إنما يجيء المفعل بمعنى المفعول فهل تعرف أنت في كلامهم مفعلا بمعنى مفعل معدولا عنه ، فيكون مصدرا ملحقا به ، هل تعرفه في كلامهم أو تذكر له شاهدا

__________________

(١) انظر الإيضاح في علل النحو (ص ٦٢).

٤٠٥ ـ الشاهد لنصيب في ديوانه (ص ٦٦) ، ولسان العرب (بحر) ، و (خرف) ، وأساس البلاغة (ملح).

٩٤

من شعر أو غيره ، أو رواية أو قياسا يعمل عليه؟ فقال : إنّ أصحابنا يقولون : المصدر جاء بمعنى مفعل شاذا لا يقاس عليه ، إنّما هو اختصاص غير مقيس عليه ، والشواذ في كلامهم غير مدفوعة. قلت له : أمّا إذا صاروا إلى باب الشهوات والدعاوى بغير برهان فالكلام بيننا ساقط ، فأمّا الشواذ فإنّما يقبل ما نقلته النقلة وسمع منها في شعر أو شاهد كلام ، لا ما يدّعيه المدّعون قياسا ، وقد قال بعض أصحابنا : إنّ المصدر بمعنى الانصدار ، كأنّه ذو الانصدار منه ، كما قيل : السّلام المؤمن ، ومعناه ذو السّلام ، قلت له : فقد رجع القول بنا إلى أنّه في معنى فاعل ، وقد مضى الكلام فيه ، فذكرت ما جرى بيننا لأبي بكر بن الخياط فقال : هذه أشياء يولّدها من عنده على مذاهب القوم ، ليست محكيّة عن الفراء ولا موجودة في كتبه ، ولكنّها ممّا يرى أنّها تؤيد المذهب وتنصره ، ثم رأيته بعد ذلك بمدة بعيدة قد ذكر هذه الاحتجاجات أو قريبا منها في بعض كتبه ولم يرجع عنها.

مسائل سأل عنها أبو بكر الشيباني أبا القاسم الزجاجي

هذه إحدى عشرة مسألة سأل عنها أبو بكر الشّيباني أبا القاسم الزّجاجي في كتاب أنفذه إليه من طبريّة إلى دمشق فكتب إليه في الجواب :

بسم الله الرحمن الرحيم

حفظك الله وأبقاك وأتمّ نعمته عليك وأدامها لك ، وقفت يا أخي جعلني الله فداك على مضمّن كتابك الوارد مع أخينا حفظه الله ، والجواب عنه يصدر إليك ولا يتأخر بحول الله ومشيئته ، ووقفت على ما ضمّنته آخره من المسائل التي اشتبهت عليك ، وبادرت إليك بتفسيرها في هذا الكتاب لعلمي بتعلّق قلبك بها ، وليتعجّل أخونا حفظه الله الانتفاع بها ، وأتبعتها مسائل من عندي منتخبة من ضروب شتّى ، أنت تقف عليها وتذكرني بها ، ومهما عرض لك من أمثال هذا فلا تنقبض في مفاتحتي به ، فإنّي أسرّ بذلك ، وأقضي إليك فيه ما عندك على مبلغ ما يتناهى إليه علمي إن شاء الله تعالى.

المسألة الأولى

أما قولهم : «هذا زيد السّعديّ سعد بكر» وقولك : كيف يعرب سعد ، وما الاختيار فيه فإنّ هذه المسألة يختار فيها الكوفيون الخفض ، فيقولون : زيد السّعديّ سعد بكر ، قالوا : لأن معنى قولنا : زيد السعديّ : زيد من سعد ، ثم تقول : سعد بكر على الترجمة ، لأنّا نريد بهذا الكلام الإضافة ، وليس يمتنعون من إجازة نصبه.

٩٥

فأما أصحابنا البصريون فلا يجيزون خفض هذا البتّة ، لأنّ قولنا : زيد السعديّ ، سعد مرفوع وليس بمرفوع ، وإنّما الياء المثقلة في آخره دلّت على النّسب إليه ، ولا يكون المضاف إليه أولا والدّال على الإضافة آخرا ، ولعمري أنّ النسب إضافة ، لأنّا إذا قلنا : رجل بكريّ وتميميّ فإنّما نضيفه إليه ، ولكنّه ليس على طريقة المضاف والمضاف إليه ، وليس هاهنا لفظ خافض ولا مخفوض ، وقد سمّى سيبويه النسب إضافة على الوجه الذي ذكرته لك ، فيقول أصحابنا : «زيد السعديّ سعد بكر» بالنصب على أعني سعد بكر ، ولا يمتنعون من الرفع على معنى هو : سعد بكر ، وليست هذه المسألة مسطرة لأصحابنا في شيء من كتبه ، وهي مسطرة في كتب الكوفيين ، ولكنّي سألت عنها أبا بكر بن الخياط وابن شقير ، فأجابني بما ذكرته لك.

المسألة الثانية

كيف الاختيار في النّسب إلى ماذرايا وجرجرايا (١) وقاليقلا ، أما جرجرايا وماذرايا فالاختيار في النسب إليهما أن تقول : جرجرائيّ وماذرائيّ بهمزة بعد ألف بعدها ياء النّسب ، وقياس ذلك أنّ الألف التي في آخر جرجرايا وماذرايا يلزم حذفها في النسب ، لأنّ الألف في النسب إذا وقعت خامسة فصاعدا يلزم حذفها ، كما تقول في النسب إلى حبارى حباريّ ، وإلى جحجبى (٢) جحجبيّ ، هذا متّفق عليه ولا خلاف فيه ، فلمّا وقعت الألف في هذين الاسمين سابعة كان حذفها لازما ، فلمّا حذفت الألف بقيت في آخر الاسم ياء قبلها ألف في موضع حركة طرفا فلزم قبلها ألفا والإبدال منها همزة ، كما يلزم مثل ذلك في سقاء وشفاء ، وكذلك كل ياء أو واو وقعت طرفا قبلها ألف لزم قبلها همزة على هذا القياس ، فقيل : جرجرائيّ وماذرائيّ كما ترى ، وقال سيبويه (٣) في النسب إلى حولايا وبردرايا (٤) : حولائيّ وبردرائيّ ، قال : تحذف الألف الأخيرة لأنّها سادسة ، وتقلب الياء التي قبلها ألفا لوقوعها طرفا قبل ألف ، ثم تبدل منها همزة ، وإن شئت قلت : جرجراويّ وماذراويّ ، فأبدلت من الهمزة واوا كما أجازوا في سماء : سماويّ وفي كساء : كساويّ وفي سقاء : سقاويّ تشبيها

__________________

(١) ماذرايا : قرية فوق واسط. (معجم البلدان ٤ / ٣٨١). وجرجرايا : بلد من أعمال النهروان (معجم البلدان ٢ / ٥٤).

(٢) جحجبى : حيّ من الأنصار. (انظر لسان العرب : جحجب).

(٣) انظر الكتاب (٢ / ٢٧٢).

(٤) حولايا : قرية كانت بنواحي نهروان. (معجم البلدان ٢ / ٢٦٦) ، وبردرايا : موضع بالنهروان في أعمال العراق. (معجم البلدان ١ / ٥٥٥).

٩٦

لها بحمراويّ وصفراويّ ، وكما أجازوا في التثنية كساوان وسقاوان تشبيها بقولهم : حمراوان ، والوجه الهمز ، وكذلك قد أجاز سيبويه (١) في النسب إلى سقاية وصلاية سقاويّ وصلاويّ ، والاختيار عنده سقاويّ وصلائيّ على ما ذكرت لك.

وأما قاليقلا فليس من هذا ، لأنّ هذا من جنس الأسماء المركبة من اسمين نحو : معديكرب وبعلبك ورام هرمز وشغر بغر في قولهم : «ذهب القوم شغر بغر» أي : متفرّقين ، و «ذهبت غنمه شذر مذر» ، وكذلك (قالي قلا) ، حكاه سيبويه (٢) في هذا الباب مع هذه الأسماء ، وذكر أنّه في اسمين جعلا اسما واحدا ، فالنّسب إلى هذا الجنس من الأسماء بحذف الآخر والنسب إلى الصدر ، كقولك في النسب إلى معديكرب : معديّ وإلى رام هرمز : راميّ وإلى بعلبك : بعليّ ، فأمّا قولهم : بعلبكيّ فمولّد من اصطلاح العامة عليه ، وإنّما وجب حذف الآخر من هذا الجنس في النّسب كما تحذف هاء التأنيث ، لأنّ القياس فيهما سواء ، كقولك في طلحة : طلحيّ وفي عائشة : عائشيّ فكذلك قاليقلا ، النّسب إليه : قاليّ كما ترى بحذف العجز ، والنسب إلى الصدر كما ذكرت لك.

المسألة الثالثة

كيف الاختيار في قولهم : «هذه ثلاث مائة درهم فضّة خلاص وازنة جياد» الرفع أم النصب؟ أمّا الوجه في الفضّة والخلاص والجياد فالنصب ، لأنّ هذا تمييز جنس الفضّة وتخليصه ، فتقول : هذه ثلاث مائة درهم فضة خلاصا جيادا ، فنصبه على التمييز والتفسير ، فتميز ثلاث مائة بالدّرهم المخفوض ، لأنّه وإن كان مخفوضا فهو مفسّر لجنس الفضة ، لأنّ ثلاث المائة جائز أن تكون دراهم وغير دراهم ، ثم تميّز الجملة بالفضة ، أعني جملة الدراهم التي دلّ عليها الدرهم بالفضة ، لأنّ الدراهم جائز أن تكون فضة وغير فضة من شبه ونحاس ورصاص وحديد ، تم تميز الفضة بالخلاص لأنّ منها خلاصا وغير خلاص ، ثم تميز ذلك بالجياد ، هذا وجه الإعراب والاختيار ، والرفع جائز على إضمار المبتدأ فتقول : هذه ثلاث مائة درهم فضّة خلاص جياد ، وأمّا الاختيار في «وازنة» لو أفردتها فالرفع ، فتقول : هذه ثلاث مائة درهم وازنة فترفعها على النعت ، لأنّها ممّا يميّز بها ما قبلها ، لأنّها غير مميّزة جنسا من جنس ، إذ كانت غير دالّة على جنس من الأجناس ، كدلالة الفضة والخلاص والجياد ، وإنّما هي

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ٣٨١).

(٢) انظر الكتاب (٣ / ٣٣٧).

٩٧

نعت ، كأنّه أراد أنّها وازنة كاملة غير ناقصة ، والنّصب فيها جائز ، وإذا ذكرتها مع الفضّة والخلاص والجياد نصبتها معها فقلت : هذه ثلاث مائة درهم فضة خلاصا وازنة جيادا ، والاختيار ما ذكرت لك.

المسألة الرابعة

كيف الاختيار في تعريف «ثلاث مائة درهم»؟ لا يجيز أصحابنا البصريون أجمعون في هذه إلّا إدخال الألف واللام في الاسم الأخير المخفوض ، فيقولون : ما فعلت ثلاث مائة الدّرهم وأربع مائة الدّينار ، وكذلك كلّ عدد فسّر بمخفوض مضاف إليه ، فتعرفه بإدخال الألف واللام في المضاف إليه ، نحو قولك خمسة الأثواب وخمسة الغلمان وثلاث مائة الدّرهم وألف الدّينار ، هذا هو القياس في تعريف كل مضاف أن يعرّف المضاف إليه ، مثل قولك : هذا غلام رجل وفرس عبد ، تقول في تعريفه : ما فعل غلام الرجل وفرس العبد ، فيتعرف المضاف بتعريف المضاف إليه ، قال ذو الرّمّة : أنشده سيبويه : [الطويل]

٤٠٦ ـ وهل يرجع التّسليم أو يكشف العمى

ثلاث الأثافي والرّسوم البلاقع

ولم يقل : الثلاث الأثافي وقال الفرزدق : أنشده أبو عمر الجرميّ : [الكامل]

٤٠٧ ـ ما زال مذ عقدت يداه إزاره

فسما فأدرك خمسة الأشبار

والكوفيون يجيزون : ما فعلت الخمسة الأثواب والعشرة الدراهم والخمس الجواري والثلاث المائة الدّرهم ، فيجمعون بين الألف واللام والإضافة ، وكان الكسائيّ يروي عن العرب أنّها تقول : هذه الخمسة الأثواب والمائة الدرهم ، قال :

__________________

٤٠٦ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ١٢٧٤) ، وإصلاح المنطق (ص ٣٠٣) ، وجواهر الأدب (ص ٣١٧) ، وخزانة الأدب (١ / ٢١٣) ، والدرر (٦ / ٢٠١) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٣٠٨) ، وشرح المفصّل (٢ / ١٢٢) ، ولسان العرب (خمس) ، ومجالس ثعلب (ص ٢٧٥) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (١ / ٣٥٨) ، وتذكرة النحاة (٣٤٤) ، وشرح الأشموني (١ / ٨٧) ، والمقتضب (٢ / ١٧٦) ، والمنصف (١ / ٦٤) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٥٠).

٤٠٧ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (ص ٣٠٥) ، والجنى الداني (ص ٥٠٤) ، وجواهر الأدب (ص ٣١٧) ، وخزانة الأدب (١ / ٢١٢) ، والدرر (٣ / ١٤٠) ، وشرح التصريح (٢ / ٢١) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٣١٠) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٧٥٥) ، وشرح المفصّل (٢ / ١٢١) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٣٢١) ، والمقتضب (٢ / ١٧٦) ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق (ص ٣٠٣) ، وأوضح المسالك (٣ / ٦١) ، والدرر (٦ / ٢٠٣) ، وشرح الأشموني (١ / ٨٧) ، ولسان العرب (خمس) ، ومغني اللبيب (١ / ٣٣٦) ، وهمع الهوامع (١ / ٢١٦).

٩٨

«شبّهوه بقولهم : هذا الحسن الوجه والكثير المال» ، وليس مثله ، لأنّ قولك : «هذا حسن الوجه» ، مضاف إلى معرفة ، ولم يتعرف لأنّ إضافته غير محضة ، فلمّا أردت تعريفه أدخلت عليه الألف واللام فعرّفته بهما ، وإنّما عوّل الكسائيّ في ذلك على السماع ، ولم يكن ليرويّ رحمه الله إلّا ما سمع ، ولكن ليس هذا من لغة الفصحاء ولا من يؤخذ بلغته ، وليس كلّ شيء يسمع من الشواذ والنوادر يجعل أصلا يقاس عليه.

أخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج قال : سمعت أبا العباس محمد ابن يزيد المبرد يقول : «إذا جعلت النّوادر والشّواذّ غرضك واعتمدت عليها في مقاييسك كثرت زلّاتك». وأخبرنا أبو إسحاق قال : أخبرني أبو العباس المبرد قال : أخبرني أبو عثمان المازني قال : أخبرني أبو عمر صالح بن إسحاق الجرمي قال : أخبرني أبو زيد الأنصاري أن قوما من العرب يقولون : هذه العشرة الدّراهم والخمسة الأثواب ، فيجمعون بين الألف واللام والإضافة ، قال : وليس هم بالفصحاء ، وقد حكى أيضا الأخفش سعيد بن مسعدة هذه الحكاية عن بعضهم وردّها وقال : ليس بمأخوذ بها.

قال أبو عمر الجرمي : فقلت لمن يجيز : «هذه الخمسة الدراهم والعشرة الأثواب» بالخفض : كيف تقول : هذا نصف الدرهم وثلث الدرهم؟ أتجيز «هذا النّصف الدرهم والثّلث الدرهم»؟ فقال : لا ، هذا غير جائز ، لا أقول إلّا : «هذا نصف الدرهم وثلث الدرهم» فقلت له : فما الفصل بينهما؟ فقال : الفصل بينهما أنّ العرب قد تكلمت بذاك ولم تتكلم بهذا ، فقلت له : فهذه رواية أصحابنا عنهم تعارض روايتكم ، وهذا بيت الفرزدق وبيت ذي الرمة ، وبعد فهذا القياس اللازم في تعريف المضاف ، إنّما يعرّف بتعريف المضاف إليه ، فلم يأت بمقنع ، وإذا كان العدد مفسّرا بمنصوب يميّز الجنس فأردت تعريفه أدخلت الألف واللام في أوّله ، ولم تدخلها في المميّز لعلتين : إحداهما : أنّ التمييز لا يجوز تعريفه ، لأنّه واحد دالّ على جنس ، والواحد من الجنس منكور ، والأخرى : لأنّ تعريف المميّز لا يعرف المميّز منه لانقطاعه عنه وانفصاله عنه ، فلا فائدة في تعريفه إذا كان المقصود بالتعريف لا يتعرف به ، فتقول : «ما فعلت لأحد عشر درهما والتسعة عشر ثوبا والخمسون درهما والتسعون ثوبا» ، وكذلك ما أشبهه ، هذا هو القياس وعليه اجتماع جلّة النحويين من البصريين والكوفيين وحذّاق الكتاب ، وقد أجاز بعضهم : «ما فعلت الثلاثة العشر درهما» ، فأدخل الألف واللام في موضعين ، وذلك خطأ لأنّ هذين الاسمين قد جعلا بمنزلة اسم واحد ، وأقبح منه إجازة بعضهم : «ما فعلت الخمسة العشر الدرهم» ، فأدخل الألف واللام في ثلاثة مواضع ، وهذا كلّه فاسد ، وكذلك

٩٩

تقول : «هؤلاء ما فعلت العشرون الدرهم» وعليه أكثر الكتاب ، والقياس ما ذكرت لك ، وقد جاء في كلام العرب ما ركب من اسمين جعلا اسما واحدا ، ثم عرف فأدخلت الألف واللام في أوله ، وذلك قول ابن أحمر ، أنشده سيبويه والفراء والأصمعي والجماعة : [الوافر]

٤٠٨ ـ تفقّأ فوقه القلع السّواري

وجنّ الخازباز به جنونا

فأدخلوا الألف واللام في صدر الاسم ثم لم يعيدوهما.

المسألة الخامسة

قولك : «هذا عشرون درهما نصفين أو نصفان»؟ وما الوجه في ذلك؟ الوجه في نصفين الرفع لأنهما صفة للعشرين ، وليس ما يميز جنس العشرين من سائر الأجناس ، والنصب بعد ذلك جائز على التمييز ، والرفع أجود.

المسألة السادسة

قوله : ما العلة في تأنيث قوله عزّ وجلّ : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠]؟ اعلم أنّ هذه الآية تقرأ على وجهين : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) بتنوين عشر ورفع الأمثال صفة للعشر ، وجعلوا العشر حسنات ، فلذلك أنّثوا لأنّ ذكر الحسنة قد جرى متصلا بالعشر ، فلا لبس في ذلك ، وتقرأ : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) بترك التنوين وخفض الأمثال ، والمثل مذكر ، ولكنّه أنّث حملا على المعنى لأنّ الأمثال حسنات ، والأصل : فله عشر حسنات أمثالها ، ومثله ممّا أنّث حملا على المعنى ـ واللفظ مذكر ـ قول ابن أبي ربيعة (٢) : [الطويل]

فكان مجنّي دون من كنت أتّقي

ثلاث شخوص كاعبان ومعصر

فأنّث والشخص مذكر لأنّه أراد نساء وفسّر ذلك بقوله : كاعبان ومعصر ، ومثله قول الأعور بن البراء الكلابي (٣) :  [الطويل]

__________________

٤٠٨ ـ الشاهد لابن أحمر في ديوانه (ص ١٥٩) ، وإصلاح المنطق (ص ٤٤) ، وجمهرة اللغة (ص ٢٨٩) ، والحيوان (٣ / ١٠٩) ، وخزانة الأدب (٦ / ٤٤٢) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٣٠٥) ، وشرح المفصّل (٤ / ١٢١) ، ولسان العرب (فقأ) ، و (خوز) ، و (قلع) ، و (جنن) ، وبلا نسبة في فقه اللغة للصاحبي (ص ١٤٣) ، ولسان العرب (أين) ، وما ينصرف وما لا ينصرف (ص ١٠٧).

(١) مرّ الشاهد رقم (١٣١).

(٢) مرّ الشاهد رقم (١٣٢).

١٠٠