الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٤

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٤

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

في المسائل لابن السيد البطليوسي

لفظ الجلالة ليس أصله الإله

حكى أبو القاسم الزجاجي قال : أخبرنا أبو إسحاق بن السّرّي الزّجّاج قال : أخبرني محمد بن يزيد المبرّد قال : سمعت المازني يقول : سألني الرّياشي فقال لي : لم نفيت أن يكون الله تعالى أصله الإله ، ثم خفّف بحذف الهمزة كما يقول أصحابك؟ فقلت له : لو كان مخفّفا منه لكان معناه في حال تخفيف الهمزة كمعناه في حال تحقيقها لا يتغيّر المعنى ، ألا ترى أن اليأس والإياس بمعنى واحد؟ ولمّا كنت أعقل لقولي الله فضل مزيّة على قولي الإله ورأيته قد استعمل لغير الله في قوله : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) [طه : ٩٧] وقوله : (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) [الزخرف : ٥٨] ولمّا لم يستعمل الله إلّا للباري تعالى علمت أنّه علم وليس بمأخوذ من الإله.

الكلام في قولهم (بسم الله الرحمن الرحيم وصلّى الله على سيّدنا محمد)

وفي المسائل أيضا : سألتني قرّر الله لديك الحقّ ومكّنه وجعلك من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه عن قول الكتّاب في صدور كتبهم : بسم الله الرحمن الرحيم وصلّى الله على سيّدنا محمد ، وذكرت أنّ قوما من نحويي زماننا ينكرون عطف الصلاة على البسملة ، وقد كنت أخبرت بذلك قديما ، فحسبت أنّهم إنما يتعلّقون في إنكاره بأنّه أمر لم ترد به سنّة مأثورة ، وأنّه شيء أحدثه الكتّاب حتى أخبرني مخبرون أنّه فاسد عندهم في الإعراب ، وليسوا ينكرونه من أجل أنّه شيء محدث عند الكتّاب ، وأخبروني أنّ الصّواب عندهم إسقاط الواو ، ورأيت ذلك نصّا في رسائل بعضهم ، ورأيت بعضهم يكتب في صدور كتبه : بسم الله الرحمن الرحيم والصّلاة على رسوله الكريم ، وقد تأمّلت الأمر الذي حملهم على إنكاره ، فلم أجد شيئا يمكّن أن يتعلقوا به إلا أمرين :

أحدهما : أنّ المعطوف حكمه أن يكون موافقا للمعطوف عليه ، وهاتان جملتان قد اختلفتا ، فتوهّموا من أجل اختلافهما أنّه لا يصحّ عطف إحداهما على الأخرى.

٣

والثاني : أنّ قولنا : «بسم الله الرحمن الرحيم» جملة خبريّة ، وقولنا صلّى الله على سيّدنا محمد جملة معناها الدعاء ، فلما اختلفتا فكانت الأولى إخبارا وكانت الثانية دعاء ، وكان من شأن واو العطف أن تشرك الثاني مع الأول لفظا ومعنى لم يصحّ عندهم عطف هاتين الجملتين على بعضهما لاختلافهما لفظا ومعنى.

فإن كانت العلة التي حملتهم على إنكار ذلك اختلاف إعراب الجملتين فإنّ ذلك غير صحيح ، بل هو دليل على قلّة نظر قائله ، لأنّ تشاكل الإعراب في العطف إنما يراعى في الأسماء المفردة المعربة خاصّة ، وأمّا عطف الجمل فإنّه نوعان :

أحدهما : أن تكون الجملتان متشاكلتين في الإعراب ، كقولنا : إنّ زيدا قائم وعمرا خارج ، وكان زيد قائما وعمر خارجا ، فيعطف الاسم والخبر على الاسم والخبر.

والنوع الثاني : لا يراعى فيه التشاكل في الإعراب ، كقولنا : قام زيد ومحمّدا أكرمته ، ومررت بعبد الله وأمّا خالد فلم ألقه ، وفي هذا أبواب قد نصّ عليها سيبويه وجميع البصريين والكوفيين ، لا أعلم بينهم خلافا في ذلك ، وذلك كثير في القرآن والكلام المنثور والمنظوم ، كقوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [النساء : ١٦٢] ، وكقول خرنق:[الكامل]

٥٧١ ـ النّازلين بكلّ معترك

والطّيّبون معاقد الأزر

وقد ذكر ذلك في المختصرات الموضوعات في النحو كالجمل والكافي لابن النحاس وغيرهما.

وإن كانوا أنكروا ذلك من أجل أنّ قولنا : بسم الله الرحمن الرحيم جملة خبرية ، وقولنا : صلّى الله عليه وسلّم جملة معناها الدعاء فاستحال عندهم عطف الدعاء على الخبر ، لا سيّما ومن خاصة الواو أن تعطف ما بعدها على ما قبلها لفظا ومعنى ، وهاتان جملتان قد اختلف لفظهما ومعناهما ، فما اعترضوا به غير صحيح أيضا ، وهذا الذي قالوه يفسد عليهم من وجوه كثيرة لا من وجه واحد :

فأولها : أنّا وجدنا كلّ من صنّف من العلماء كتابا مذ بدأ الناس بالتصنيفات إلى زماننا هذا يصدّرون كتبهم بأن يقولوا : الحمد لله الذي فعل كذا وكذا ، ثم

__________________

٥٧١ ـ الشاهد للخرنق بن هفّان في ديوانه (ص ٤٣) ، وأمالي المرتضى (١ / ٢٠٥) ، والإنصاف (٢ / ٤٦٨) ، وأوضح المسالك (٣ / ٣١٤) ، والحماسة البصرية (١ / ٢٢٧) ، وخزانة الأدب (٥ / ٤١) ، والدرر (٦ / ١٤) ، وسمط اللآلي (ص ٥٤٨) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ١٦) ، والكتاب (١ / ٢٦٤) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٦٠٢) ، وبلا نسبة في رصف المباني (ص ٤١٦) ، وشرح الأشموني (٢ / ٣٩٩).

٤

يقولون بإثر ذلك : وصلّى الله على محمد ، فيعطفون الصّلاة على التحميد ، ولا فرق بين عطفها على التحميد وعطفها على البسملة ، لأنّ كلتا الجملتين خبر ، وهذا ليس مختصا بكتب الضعفاء في العربية دون الأقوياء ، ولا يكتب الجهّال دون العلماء ، بل ذلك موجود في كتب الأئمّة المتقدّمين والعلماء المبرّزين ، كالفارسيّ وأبي العباس المبرّد والمازني وغيرهم ، فلو لم يكن بأيدينا دليل ندفع به مذهب هؤلاء إلا هذا لكفى من غيره ، فتأمّل خطبتي كتاب الإيضاح للفارسي وصدر الكامل لأبي العباس المبرّد وصدر كتاب سيبويه ، وغير ذلك من الكتب ، وتأمّل خطب الخطباء وكلام الفصحاء والبلغاء ، فإنّك تجدهم مطبقين على ما وصفته لك ، فهذا وجه صحيح يدل على فساد ما قالوا.

ومنها : أنّ قولنا : وصلّى الله على محمّد بإثر البسملة منصرف إلى معنى الخبر ، ولذلك تأويلات مختلفة :

أحدها : أن يكون تقديره : أبدأ باسم الله الرحمن الرحيم وأقول : صلّى الله على محمد ، فيضمر القول ويعطفه على «أبدأ» ، وذلك ممّا يصرف الكلام إلى الإخبار ، والعرب تحذف القول حذفا مطردا ، شهرته تغني عن إيراد أمثلة منه ، كقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٤] ، أي : يقولون : سلام عليكم ، وكذا قوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، أي : يقولون : ما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى الله زلفى.

الثاني : على معنى : أبدأ باسم الله وبالصلاة على محمد ، فيكون من الكلام المحمول على التأويل ، كما أجاز سيبويه (١) : «قلّ رجل يقول ذلك إلّا زيد» لأنه في معنى : «ما أحد يقول ذلك إلّا زيد» ، وهذا كثير لا يستطيع أحد من أهل هذه الصناعة على دفعه ، وإن شئت كان التقدير : أبدأ باسم الله وأصلّي على محمد ، فيكون محمولا أيضا على المعنى ، وهذه التأويلات الثلاثة تصيره وإن كان دعاء إلى معنى الإخبار ، فهذا وجه آخر صحيح.

ومنها : أنه لا يستحيل عطف قولنا : وصلّى الله على محمد على قولنا : بسم الله وإن كان دعاء محضا من غير أن يتأوّل فيه تأويل إخبار ، لأنّا وجدنا العرب يوقعون الجمل المركّبة تركيب الدّعاء والأمر والنهي والاستفهام التي لا يصلح أن يقال فيها

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٣٢٦).

٥

صدق ولا كذب مواقع الجمل الخبرية التي يجوز فيها الصّدق والكذب ، وهذا أشدّ من عطف بعضها على بعض ، كنحو ما أنشدوه من قول الجميح بن منقذ : [البسيط]

٥٧٢ ـ ولو أصابت لقالت وهي صادقة

إنّ الرّياضة لا تنصبك للشيّب

فأوقع النّهي موقع خبر (إنّ). وقال آخر : [الوافر]

٥٧٣ ـ ألا يا أمّ فارع لا تلومي

على شيء رفعت به سماعي

وكوني بالمكارم ذكّريني

ودلّي دلّ ماجدة صناع

فأوقع الأمر موقع مكان خبر (كان). وقال الراجز :

٥٧٤ ـ فإنّما أنت أخ لا نعدمه

فأوقع الجملة التي هي «لا نعدمه» ومعناها الدّعاء موقع الصفة لأخ حملا على المعنى ، كأنّه قال : فإنّما أنت أخ ندعو له بأن لا يعدم ، وليس يسوغ لمعترض علينا أن يزعم أنّ هذا شيء خصّ به الشعر ، فإنّ ذلك قد جاء في القرآن والكلام الفصيح ، فمن ذلك قول الله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] ، وأجاز النحويون بلا خلاف بينهم «زيد اضربه» و «عمرو لا تشتمه» و «زيد كم مرّة رأيته» و «عبد الله هل أكرمته» وزيد جزاه الله عني خيرا ، وقد جاء عن العرب عطف الفعل الماضي على المستقبل ، والمستقبل على الماضي واسم الفاعل على الفعل المضارع ، والفعل المضارع على اسم الفاعل ، وكذلك الفعل الماضي على اسم الفاعل ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [الحديد : ١٨] ، وقال امرؤ القيس : [الطويل]

٥٧٥ ـ ألا انعم صباحا أيّها الرّبع وانطق

[وحدّث حديث الركب إن شئت واصدق]

__________________

٥٧٢ ـ الشاهد للجميح الأسدي في تذكرة النحاة (ص ٤٤٥) ، وخزانة الأدب (١٠ / ٢٤٦) ، وسرّ صناعة الإعراب (ص ٣٨٨) ، وشرح اختيارات المفضّل (١ / ١٥٣) ، وبلا نسبة في جواهر الأدب (ص ٢٣٩).

٥٧٣ ـ البيت الأول بلا نسبة في لسان العرب (سمع) ، وتاج العروس (سمع) ، والثاني لبعض بني نهشل في خزانة الأدب (٩ / ٦٦) ، ونوادر أبي زيد (ص ٣٠) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (١٠ / ٢٤٦) ، والدرر (٢ / ٥٤) ، وسرّ صناعة الإعراب (١ / ٣٨٩) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٩١٤) ، ومغني اللبيب (٢ / ٥٨٤) ، وهمع الهوامع (١ / ١١٣).

٥٧٤ ـ الشاهد بلا نسبة في المغني (ص ٦٤٧).

٥٧٥ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ١٦٨).

٦

فعطف الأمر على الدّعاء ، وهذا كثير ، وقد قال سيبويه (١) في باب ما ينصب فيه الاسم لأنّه لا سبيل له إلى أن يكون صفة : «واعلم أنّه لا يجوز : من عبد الله ، وهذا زيد الرّجلين الصّالحين ، رفعت أو نصبت ، لأنّك لا تثني إلّا على من أثبتّه وعلمته ، ولا يجوز أن تخلط من تعلم ومن لا تعلم ، فتجعلها بمنزلة واحدة ، وإنّما الصّفة علم فيمن قد علمته» ، فأبطل جواز هذه المسألة من جهة جمع الصّفتين ، ولم يبطلها من أجل عطف الخبر على الاستفهام ، ووافقه جميع النحويين على هذه المسألة ، وإنّما كان ذلك لأنّ الجمل لا يراعى فيها التشاكل في المعاني ولا في الإعراب ، وقد استعمل بديع الزمان عطف الدعاء على الخبر في بعض مقاماته ، وهو قوله (٢) : «ظفرنا بصيد وحيّاك الله أبا زيد» وما نعلم أحدا أنكر ذلك عليه ، وإذا كان التشاكل يراعى في أكثر المفردات كان أجدر ألّا يراعى في الجمل ، ألا ترى أنّ العرب تعطف المعرب على المبنيّ والمبنيّ على المعرب ، وما يظهر فيه الإعراب على ما لا يظهر؟ وفي هذا الموضع شيء يجب أن يوقف عليه ، وذلك أن قول النحويين ، بأنّ الواو تعطف ما بعدها على ما قبلها لفظا ومعنى كلام خرج مخرج العموم ، وهو في الحقيقة خصوص ، وإنّما تعطف الواو الاسم على الاسم في نوع الفعل أو في جنسه لا في كميته ولا كيفيته ، ألا ترى أنّك إذا قلت : ضربت زيدا وعمرا قد يجوز أن تضرب زيدا ضربة واحدة وعمرا ضربتين وثلاثا فتختلف الكميتان؟ وكذلك يجوز أن تضرب زيدا جالسا وعمرا قائما فتختلف الكيفيتان ، ويبيّن ذلك قول العرب : إيّاك والأسد ، فيعطفون الأسد على ضمير المخاطب ، والفعل الناصب لهما مختلف المعنى ، لأنّ المخاطب مخوف والأسد مخوف منه ، فجاز العطف وإن اختلف نوعا التخويف ، لأنّ جنس التخويف قد انتظمهما ، ونحو منه قوله تعالى : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) [يونس : ٧١] ، لأنّ الإجماع على الأمر وهو العزم عليه والجمع الذي يراد به ضمّ الأشياء المتفرّقة وإن اختلف نوعاهما فإنّ لهما جنسا يجتمعان فيه ، ألا ترى أنّهما جميعا يرجعان إلى معنى الصّيرورة والانجذاب؟ ألا ترى أنّ من عزم على الشيء فقد انجذب إليه ، وصار كما أنّ الأشياء المتفرقة إذا جمعت انجذب بعضها إلى بعض وصار كلّ واحد منها إلى الآخر؟ وكذلك قول الشاعر (٣) : [مجزوء الكامل]

يا ليت زوجك قد غدا

متقلّدا سيفا ورمحا

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٥٥).

(٢) انظر مقامات الهمذاني ، المقامة البغدادية (٢٠).

(٣) مرّ الشاهد رقم (١٣٨).

٧

ومعناه : وحاملا رمحا ، لأنّ التّقلّد نوع من الحمل ، ولأجل هذا الذي ذكرناه من حكم العطف بالواو قلنا في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦] ، في قراءة من خفض الأرجل : إنّ الأرجل تغسل والرّؤوس تمسح ، ولم يوجب عطفها على الرّؤوس أن تكون ممسوحة كمسح الرؤوس ، لأنّ العرب تستعمل المسح على معنيين :

أحدهما : النّضح ، والآخر الغسل ، حكى أبو زيد : تمسّحت للصلاة أي : توضّأت ، وقال الراجز :

٥٧٦ ـ أشليت عنزي ومسحت قعبي

أراد أنّه غسله ليحلب فيه ، فلمّا كان المسح نوعين أوجبنا لكلّ عضو ما يليق به ، إذ كانت واو العطف كما قلنا إنّما توجب الاشتراك في نوع الفعل وجنسه لا في كميته ولا في كيفيته ، فالنّضح والمسح جمعهما جنس الطّهارة كما جمع تقلّد السيف وحمل الرّمح جنس التّأهّب للحرب والتّسلّح ، وهكذا قولنا : بسم الله الرحمن الرحيم وصلّى الله على سيّدنا محمّد ، وإن كان الإخبار والدعاء قد اختلفا فإنّهما قد اتّفقا في معنى التّقدمة والاستفتاح أو في معنى التّبرّك والاستنجاح ، فإن قال قائل : قد أنكر النحويون أن يقال : ليت زيدا قائم وعمر بالرفع عطفا على موضع ليت وما عملت فيه ، وهل ذلك إلّا من أجل اختلاف الجملتين بأن إحداهما تصير خبرا والثانية تمنيا؟ فالجواب : أنّ هذا الذي توهّمته لا يصحّ من وجهين :

أحدهما : أن إنكار النحويين العطف على موضع (ليت) ليس من أجل ما ظننته ، وإنّما منعوه لأنّ (ليت) قد أبطلت الابتداء فلم تبق له لفظا ولا تقديرا ، ولو كان لليت ومعمولها موضع وعطف عمر عليه لم يكن عطف خبر على تمنّ كما توهّمته ، وإنّما كان يكون عطف خبر على خبر لأنّ التمني إنما كان لعامل اللفظ دون الموضع لو كان هناك موضع.

والوجه الثاني : أنّ قولنا : ليت زيدا قائم وعمر لا يعدّ جملتين ، وإنما يعدّ جملة واحدة ، لأنّ الخبر الذي كان يتم الجملة الثانية سقط استغناء بخبر الاسم الأول ، ولو قلت : ليت زيدا قائم وليت عمرا قائم لكانتا جملتين ، وهذا كقوله : قام زيد وقام عمر ، فيكون الكلام جملتين ، فإذا قلت : قام زيد وعمر صارت جملة واحدة ، ويدلّ

__________________

٥٧٦ ـ الرجز لأبي نخيلة في لسان العرب (قأب) ، وبلا نسبة في لسان العرب (شلا) ، ومجمل اللغة (٣ / ١٧٤) ، ومقاييس اللغة (٣ / ٢٠٩) ، وأساس البلاغة (شلو) ، وتاج العروس (شلا).

٨

على ذلك أنّ النحويين يجيزون : مررت برجل قائم زيد وأبوه ، ولا يجيزون : مررت برجل قائم زيد وقائم أبوه ، لأنّ الكلام الأوّل جملة واحدة ، فاكتفي فيها بضمير واحد يعود إلى الموصوف ، والثانية تجري مجرى جملتين ، فلا بدّ في كل واحدة منهما من ضمير ، وكذلك يجيزون : زيد قام عمر وأبوه ، ولا يجيزون : زيد قام عمر وقام أبوه ، لتعرّي الجملة الواحدة من ضمير يعود إلى المبتدأ.

الكلام في قوله تعالى : (وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ)

سألت عن قول الله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران : ١٨٣] ، وقلت بأيّ شيء انتصب «قائما» وما العامل فيه؟ وأين خبر التبرئة من هذه الآية؟ وذكرت أنّ بعض المنتحلين لصناعة النحو أنكر قولنا : إنّ «قائما» هاهنا منصوب على الحال ، وزعم أنه كفر من قائله ، وإنما قال ذلك فيما يرى لأنّ الحال فيما ذكر النحويون منتقلة وفضلة في الكلام ، والقيام بالقسط صفة لله تعالى لم يزل موصوفا بها ولا يزال ، ولا يصحّ فيها الانتقال ، ونحن نربأ بأنفسنا أن نكون ممّن يجهل ما يوصف به الله تعالى فنصفه بما لا يجوز ، أو يغيب عنّا هذا المقدار من علم اللسان ، وإنما أتي هذا المعترض من قلّة بصره بهذه الصناعة وسوء فهمه لباب الحال ، وقد أجبتك عن ذلك بما فيه كفاية وإقناع ، وبالله أستعين وعليه أتوكّل.

أما خبر التبرئة في هذه الآية فمحذوف تقديره عند البصريين لا إله في الوجود إلّا هو ، أو لا إله موجود إلّا هو ، ونحو ذلك من التقدير ، وخبر التبرئة قد يحذف إذا كان في الكلام دليل عليه ، كقولهم : لا بأس يريدون : لا بأس عليك وكقول عبد يغوث الحارثي : [الطويل]

٥٧٧ ـ فيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن

نداماي من نجران أن لا تلاقيا

أراد أنه لا تلاقي لنا ، وقوله : «هو» بدل من موضع لا وما عملت فيه لأنّ التبرئة وما تعمل فيه في موضع رفع على الابتداء ، وهي في ذلك بمنزلة إنّ وما تعمل فيه ،

__________________

٥٧٧ ـ الشاهد لعبد يغوث بن وقاص في الكتاب (٢ / ٢٠١) ، وخزانة الأدب (٢ / ١٩٤) ، وشرح اختيارات المفضّل (ص ٧٦٧) ، وشرح التصريح (٢ / ١٦٧) ، وشرح المفصّل (١ / ١٢٨) ، والعقد الفريد (٥ / ٢٢٩) ، ولسان العرب (عرض) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٢٠٦) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (١ / ٤١٣) ، ورصف المباني (ص ١٣٧) ، وشرح الأشموني (٢ / ٤٤٥) ، وشرح ابن عقيل (ص ٥١٥) ، وشرح قطر الندى (ص ٢٠٣) ، والمقتضب (٤ / ٢٠٤).

٩

فإن قيل : فما الذي يمنع من أن يكون هو الموجود في الآية خبر التبرئة ولا يحتاج إلى تكلّف هذا الإضمار؟ فالجواب : أنّ ذلك خطأ من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ لا هذه لا تعمل إلا في النكرات ، فإن جعلت هو خبرها أعملتها في المعرفة وذلك لا يجوز.

والثاني : أنّ ما بعد إلّا موجب ولا لا تعمل في الموجب ، إنّما تعمل في المنفيّ.

والثالث : أنّك إن جعلت هو خبر التبرئة كنت قد جعلت الاسم نكرة والخبر معرفة ، وهذا عكس ما توجبه صناعة النحو ، لأن الحكم في العربية إذا اجتمعت معرفة ونكرة أن تكون المعرفة هي الاسم والنكرة الخبر ، فلذلك جعل النحويون الخبر نحو هذا محذوفا.

وأمّا قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) فإنّه لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه :

١ ـ إمّا أن يكون منصوبا على المدح والتعظيم.

٢ ـ وإمّا أن يكون منصوبا على الحال.

٣ ـ وإمّا أن يكون منصوبا على النعت لإله المنصوب بالتبرئة ، فأمّا نصبه على المدح والتعظيم فواضح يغني وضوحه عن القول فيه ، وأمّا نصبه على الصفة لإله فإنّ ذلك خطأ ، لأنّ المراد بالنفي هاهنا العموم والاستغراق ، فإذا جعلت قائما صفة لإله فإنّ التقدير : لا إله قائما بالقسط إلّا هو ، فرجع النفي خصوصا وزال ما فيه من العموم وجاز أن يكون ثمّ إله آخر غير قائم بالقسط ، كما أنّك إذا قلت : لا رجل ظريفا في الدار إلا زيد ، فإنما نفيت الرجال الظرفاء خاصة وجاز أن يكون هناك رجل آخر غير ظريف ، وهذا كفر صريح ، نعوذ بالله منه.

وأمّا نصبه على الحال فإنّه لا يخلو من أحد أربعة أوجه :

إمّا أن يكون حالا من اسم الله تعالى.

وإمّا أن يكون حالا من المضمر.

وإمّا أن يكون حالا من المنصوب بأنّ.

وإمّا أن يكون حالا من المضمر الذي في خبر التبرئة المقدّر.

فإن جعلته حالا من اسم الله تعالى فالعامل فيه شهد ، تقديره : شهد الله في حال قيامه بالقسط أنّه لا إله إلّا هو وشهدت الملائكة وأولو العلم ، وليس هذا قبيحا من أجل أنّك ذكرت أسماء كثيرة وجئت بالحال من بعضها دون بعض ، قال ابن جني : «ألا ترى أنّك لو قلت : جاء زيد راكبا وعمر وخالد ، فجعلت الحال من

١٠

بعضهم لجاز باتّفاق» ، وإذا جعلت قائما حالا من هو فالعامل في الحال معنى النفي ، لأن الأحوال تعمل فيها المعاني كما تعمل في الظروف ، فيكون التقدير : شهد الله أنّ الرّبوبيّة ليست إلّا له في حال قيامه بالقسط ، فهذان الوجهان صحيحان.

فأمّا كونه حالا من الضمير المنصوب بأنّ أو من الضمير الذي في خبر التبرئة المحذوف فكلاهما خطأ لا يجوز.

أمّا امتناعه من أن يكون حالا من الضمير المنصوب بأنّ فلعلّتين :

إحداهما : أنّ أنّ المفتوحة تقدّر هي وما عملت فيه بتقدير المصدر ، وما بعدها من اسمها وخبرها صلة لها ، فإن جعلت قائما حالا من اسمها كان داخلا في الصلة ، فتكون قد فرّقت بين الصّلة والموصول بما ليس من الصلة وذلك مستحيل.

والعلة الثانية : أنّك إن جعلته حالا من اسم أنّ لزمك أن تعمل أنّ في الحال ، وأنّ لا تعمل في الأحوال شيئا ولا في الظروف ، فإن قلت : قد قال النابغة الذبياني : [البسيط]

٥٧٨ ـ كأنّه خارجا من جنب صفحته

[سفّود شرب نسوه عند مفتأد]

فنصب على الحال من اسم كأنّ وجعل العامل فيها ما في كأنّ من معنى التشبيه ، فهلّا أجزت مثل ذلك في أنّ فالجواب : أنّ ذلك إنّما يجوز عند البصريين في كأنّ وليت ولعلّ خاصّة ، لأنّ هذه الأحرف الثلاثة أبطلت معنى الابتداء ممّا يدخل عليه ، وأحدثت في الكلام معنى التّمنّي والتّرجّي والتشبيه فأشبهت الأفعال ، فإن قيل : فإنّ المفتوحة تدخل على الجملة فتصرفها إلى تأويل المصدر ، ألا ترى أنّك تقول : بلغني أنّك قائم فيكون معناه : بلغني قيامك؟ فهلّا أعملت في الحال ما فيها من تأويل المصدر؟ فالجواب : أنّ ذلك خطأ لأنّ المصدر الذي تقدّر به أنّ المفتوحة إنّما ينسبك منها ومن صلتها التي هي اسمها وخبرها ، فإذا جعلت قائما حالا من اسمها كان داخلا في صلتها ، فيلزمك من ذلك أن يعمل الاسم في نفسه ، وذلك محال ، فلهذا الذي ذكرناه استحال أن ينتصب «قائما» على الحال من اسم أنّ.

فأمّا امتناعه من أن يكون حالا من الضمير المقدّر في خبر التبرئة المحذوف فمن أجل أنّ المراد بالنفي العموم والاستغراق على ما قدّمناه ، فإذا جعلته حالا من

__________________

٥٧٨ ـ الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه (ص ١٩) ، وخزانة الأدب (٣ / ١٨٥) ، والخصائص (٢ / ٢٧٥) ، ولسان العرب (فأد) ، وتهذيب اللغة (١٤ / ١٩٦) ، وبلا نسبة في رصف المباني (ص ٢٢١) ، وكتاب العين (٨ / ٨).

١١

المضمر الذي في الخبر المحذوف صار التقدير : لا إله موجود في حال قيامه بالقسط إلّا هو ، فيصير النفي واقعا على الآلهة القائمين بالقسط دون غيرهم ، ويوهم هذا الكلام أنّ ثمّ إلها غير قائم بالقسط ، كما أنّك إذا قلت : لا رجل موجود سخيّا إلّا زيد ، فإنما نفيت الرجال الأسخياء خاصة دون غيرهم ، وهذا كفر ، فصحّ بجميع ما قدّمناه أنّ قائما لا يصحّ إلّا أن يكون حالا من اسم الله تعالى أو من هو ، فإن قال قائل : فكيف جاز لكم أن تجعلوه حالا من اسم الله تعالى أو من ضميره ، والحال منتقلة وفضلة في الكلام ، وهذه الصفة لم يزل الله تعالى موصوفا بها ولا يزال؟ فالجواب : أنّه ليس كلّ حال منتقلة ولا فضلة في الكلام كما زعم هذا الزاعم بل من الأحوال ما لا يصحّ انتقاله ولا يجوز أن يكون فضلة ، ألا ترى أن النحويين قد أطلقوا الحال على أشياء من القرآن وغيره لا يصح فيها الانتقال ، كقوله تعالى : (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [فاطر : ٣١] ، (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) [الأنعام : ١٥٣]؟ والحقّ لا يفارقه التّصديق ، وصراط الله تعالى لا تفارقه الاستقامة ، وقالوا في قوله تعالى : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً) [البقرة : ١٣٣] : إنّه منصوب على الحال من الله ، وقالوا في قوله تعالى : (الم ، اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) [آل عمران : ١ ـ ٣] : إنّها جملة في موضع الحال من الله ، كأنّه قال : الله الحي القيوم نزل عليك الكتاب متوحّدا بالرّبوبيّة ، وأجازوا أيضا أن يكون في موضع الحال من الضمير في «نزّل» ، وكذلك قول العرب : «ضربي زيدا قائما» ، «وأكثر شربي السّويق ملتوتا» ، و «دعوت الله سميعا» ، ونحو ذلك إن تتبّعناه ، فإن قال قائل : فكيف صحّ أن تسمّي هذه الأشياء حالا وهي غير متنقلة والكلام محتاج إليها؟ فالجواب عن ذلك من وجوه كلها مقنع :

أحدها : أنّ الحال شبيهة بالصفة ، والصفة ضربان : ضرب يحتاج إليه الموصوف ولا بدّ له منه ، وذلك إذا التبس بغيره ، وضرب لا يحتاج إليه ، وإنّما يذكر للمدح أو الذّمّ أو التّرحّم ، فوجب أن تكون الحال كذلك.

ومنها : أنّ الشيء إذا وجد فيه بعض خواصّ نوعه ولم يوجد فيه بعضها لم يخرجه عن نوعه نقصان ما نقص منها ، ألا ترى أنّ الرسم له خواصّ تخصّه مثل : التنوين ودخول الألف واللام عليه والنعت والتصغير والنداء؟ ولم يلزم أن توجد هذه الخواصّ كلّها في جميع الأسماء ، ولكن حيثما وجدت كلّها أو بعضها حكم له بأنّه اسم ، وكذلك الأحوال في هذه المواضيع فيها أكثر خواصّ الحال وشروطها موجودة فيها ، فلا يخرجها عن حكم الحال نقصان ما نقص منها ، كما لا يخرج من وما نحوهما عن حكم الأسماء نقصان ما نقصها من خواصّ الأسماء.

١٢

ومنها : أنّ النحويين لم يريدوا بقولهم : إنّ الحال فضلة في الكلام أنّ الحال مستغنى عنها في كلّ موضع على ما يتوهّم من لا دربة له بهذه الصناعة ، وإنّما معنى ذلك أنّها تأتي على وجهين : إمّا أن يكون اعتماد الكلام على سواها والفائدة منعقدة بغيرها ، وإمّا أن تقترن بكلام تقع الفائدة بهما معا ولا تقع الفائدة بها مجرّدة ، وإنما كان ذلك لأنّها لا ترفع ولا يسند إليها حدث واعتماد كل جملة مفيدة إنما هو على الاسم المرفوع الذي أسند إليه الحدث أو ما هو في تأويل المرفوع ، ولا تنعقد فائدة بشيء من المنصوبات والمجرورات حتى يكون معها مرفوع أو ما هو في تأويل المرفوع ، كقولنا : ما جاءني من أحد ، وإنّ زيدا قائم ، فتأمّل هذا الموضع فإنّه يكشف عنك الحيرة في أمر الحال وفيه لطف وغموض.

وأمّا القيام الذي وصف الله تعالى به نفسه في هذه الآية فليس يراد به المثول والانتساب لأن هذا من صفة الأجسام تعالى الله عن ذلك ، وإنما المراد بالقيام هاهنا القيام بالأمور والمحافظة عليها ، يقال : فلان يقوم بأمر فلان أي : يعنى به ويهتبل بشأنه ، ومنه قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) [النساء : ٣٤] ، أي : متكلّفون بأمورهنّ ومعنيّون بشؤونهنّ ، ومنه قول الأعشى : [المتقارب]

٥٧٩ ـ يقوم على الوغم في قومه

فيعفو إذا شاء أو ينتقم

الكلام في قولنا : يا حليما لا يعجل

سألت وفّقك الله عن قولنا في الدعاء : يا حليما لا يعجل ويا جوادا لا يبخل ويا عالما لا يجهل ، ونحو ذلك من صفات الله تعالى ، وقلت : كيف يصحّ أن يقال في مثل هذا : منادى منكور والقصد به إلى الله تعالى؟ وإن كان معرفة فكيف انتصب وخرج مخرج التنكير؟ وهذا سؤال من لم يتمهّر في معرفة اللسان العربي ، واعتراض من لم يتصوّر غرض هذه الصناعة تصوّرا صحيحا ، وأنا أعلمك لم ذلك وأشرح لك ما التمسته شرحا يسرو عنك ثوب الحيرة ، ويزيل عنك عارض هذه الشبهة إن شاء الله تعالى ، فأقول وبالله التوفيق : إنّ الوجه في هذا وما أشبهه من صفات الله تعالى أن يقال فيه : إنه منادى مخصّص ، وهذه عبارة غير معتادة عند النحويين ، وإنما جرت عادتهم في نحو هذا أن يسمّوه المنادى المشبّه بالمضاف والمنادى الممطول أي المطوّل ، من قولك مطلت الحديدة إذا مددتها ، ومنه اشتقّ المطل في الوعد ، ومعنى

__________________

٥٧٩ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ٨٩) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة (٦ / ١٢٧) ، وشرح السبع الطوال (ص ٢٧٣).

١٣

قولنا : إنه منادى مخصّص أنّ حليما وجوادا وعالما ونحوها صفات يوصف بها الباري جلّ جلاله ويوصف بها المخلوقون ، وهي وإن اتّفقت ألفاظها متباينة في المعاني ، كما أنّ إذا قلنا في الباري تعالى : إنه سميع بصير ، وقلنا في زيد : إنه سميع بصير ، فالمعنى مختلف وإن اتفقت العبارة ، لأنّ زيدا سميع بأذن بصير بحدقة لأنّه ذو جوارح وأبعاض ، والله تعالى منزّه عن مثل هذه الصفات ، جلّ عمّا يصفه به الجاهلون وتقدّس ممّا يقول فيه المبطلون ، وإنما نريد بقولنا فيه : إنه سميع وإنه بصير أنّه لا يغيب عنه شيء من خلقه وأنّه مشاهد لجميع حركاتهم وأعمالهم ، لا يخفى عنه مثقال الذّرّة ، ولا يغيب عنه ما تجنّه الصدور ويختلج به الضمير ، ولذلك إذا قلنا : إنّ زيدا حيّ فإنّما نريد بذلك أنّ له نفسا حسّاسة مقترنة بجسم ، وإذا قلنا في الباري تعالى : إنه حيّ فإنما نريد بذلك أنّه مدرك للأشياء ، ويجوز أن يراد بذلك أنّه موجود لم يزل ولا يزال ، والعرب تسمى الوجود حياة والعدم موتا ، فيقولون للشمس ما دامت موجودة حيّة ، فإذا عدمت سمّوها ميّتة ، قال ذو الرمة : [الطويل]

٥٨٠ ـ فلمّا رأين اللّيل والشّمس حيّة

حياة الّذي يقضي حشاشة نازع

شبّه الشمس عند غروبها بالحيّ الذي يجود بنفسه ، وقال آخر يصف النار : [الطويل]

٥٨١ ـ وزهراء إن كفّنتها فهو عيشها

وإن لم أكفّنها فموت معجّل

فجعل وجود النار حياة وعدمها موتا ، ولم نرد بإنشاد هذين البيتين تمثيل حياة الباري تعالى بالحياة المذكورة فيهما لأنّ ما ذكره الشاعران من ذلك مجاز واستعارة وحياة الباري تعالى وجميع صفاته حقائق لا تشبّه بشيء من صفات المحدثات ولا تكيّف ، وإنّما تؤخذ توقيفا وتسليما لا قياسا ، وقد اجتمع العارفون بحدود الكلام على أنّ الاشتراك في الأسماء لا يوجب التشابه بين المسمّيات بها ، وإنّما تشبّه الأشياء باتفاقها في المعاني لا في الألفاظ ، وليس بين الباري تعالى وبين مخلوقاته اشتباه في معنى من المعاني ، فإذا أرادوا أن يجعلوا هذه الصفات مختصّة به تعالى زادوا عليها ألفاظا تخصّصها وتجعلها مقصورة عليه ، فقالوا : يا حليما لا يعجل ويا جوادا لا يبخل ، ويا عالما لا يجهل ، ونحو ذلك ، فصارت هذه الصفات خاصة لا يصح أن يوصف بها غيره ، لأنّ كلّ حليم فلا بدّ له من طيش وهفوة ، وكلّ جواد فلا بدّ له من بخل وعلّة ،

__________________

٥٨٠ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ٨٠١) ، وأساس البلاغة (حشش) ، وتاج العروس (شرق) ، والعمدة (١ / ٢٧٥).

٥٨١ ـ البيت بلا نسبة في أمالي القالي (٢ / ٨٨).

١٤

وكل عالم فلا بدّ له من جهل وحيرة ، فأمّا الحلم المحصن الذي لا يلحقه طيش والجود المحصن الذي ليس فيه بخل والعلم المحصن الذي لا يقترن به جهل فإنها صفات خاصة به تعالى لا حظّ فيها لغيره ، وهذه الزيادة التي زيدت عليها في موضع نصب على الصفة ، كأنّه قيل : يا حليما غير عجول ، ويا جوادا غير بخيل ويا عالما غير جهول ، فالفائدة في هذه الألفاظ المزيدة على هذه الأسماء ما ذكرناه من التخصيص.

فإن قال قائل : فقد علمت أنّا إذا قلنا : يا حليم ويا جواد ويا عالم فقد فهم أنّ هذه الصفات مخالفة لصفات البشر ، فإذا كان ذلك مفهوما من أنفس هذه الصفات فما الفائدة في زيادة هذه الألفاظ عليها؟ فالجواب : أنّ الفائدة في ذلك أنّا إذا قلنا : يا حليم ويا جواد ويا عالم فإنّما يقع التباين والخلاف بالمعاني لا بالألفاظ ، وإذا قلنا : يا جوادا لا يبخل ويا حليما لا يعجل ويا عالما لا يجهل وقع التباين والخلاف بالمعاني والألفاظ معا ، وإذا انفصل الشيئان لفظا ومعنى كان أبلغ في التباين من أن ينفصلا معنى لا لفظا ، ويدلّك على أنّ الغرض في ذلك ما ذكرته قول عطاء الخراساني في «بسم الله الرحمن الرحيم» : «كان الباري تعالى يوصف بالرحمن ، فلمّا تسمّى به المخلوقون زيد عليه الرحيم» ، فهذا نصّ جليّ على أنّهم قصدوا تخصيصه تعالى بلفظ لا يوصف به سواه ، ولذلك قال المفسرون في «الله» : إنه اسم ممنوع ، فلأجل هذا قلنا : إن مثل هذا ينبغي أن يقال فيه : منادى مخصّص ، وإنما وجب أن ينتصب هذا النوع من المناديات وإن كان غير منكور لأنّ اللفظ الأوّل لمّا كان محتاجا إلى اللفظ الثاني لأنّه الذي يتمّ معناه ويخصّصه أشبه المنادى المضاف الذي لا يتمّ إلّا بالمضاف إليه فانتصب كانتصابه ، وصار بمنزلة قولك : يا خيرا من زيد ويا ضاربا رجلا ، ولذلك سمّى النحويون هذا النوع المنادى المشبّه بالمضاف.

وأمّا قولي : إن هذا سؤال من لم يتمهّر في معرفة اللسان العربي واعتراض من لم يتصوّر هذه الصناعة تصوّرا صحيحا فإنما قلت ذلك لأنّ هذا السؤال يدلّ على أنّ صاحبه يعتقد أنّ كلّ منادى معرفة غير مضاف مرفوع رفع بناء في كلام العرب ، وليس كذلك لأنّ المنادى في كلام العرب ينقسم إلى أربعة أقسام :

منادى منكور نحو : يا رجلا ، ومنادى مضاف نحو : يا عبد الله ، ومنادى مفرد وهو نوعان :

أحدهما : ما كان معرفة قبل النداء ، نحو : يا زيد.

والثاني : ما كان قبل النداء نكرة وتعرّف في النداء بإقبال المنادى عليه واختصاصه إيّاه بالنداء دون غيره ، نحو : يا رجل.

١٥

والقسم الرابع : هو المنادى المشبّه بالمضاف ، وهو الذي لا يستقل بنفسه ويفتقر إلى ما يتمّه ، كقولك يا خيرا من زيد ويا ضاربا رجلا ، وكرجل سمّيته ثلاثة وثلاثين ، فإنّك تقول : يا ثلاثة وثلاثين فإن قلت : كيف يكون قولنا : يا خيرا من زيد ويا ضاربا رجلا معرفة وقد خرج بلفظ النكرة؟ قلت : فإن تعرفه يكون على وجهين :

أحدهما : أن تسمي بذلك رجلا فيصير قولك : يا خيرا من زيد ويا ضاربا رجلا بمنزلة قولك : يا زيد ويا عمرو ونحوهما من الأسماء المختصة.

والوجه الثاني : أن تقبل بندائك على رجل معيّن تختصّه من جميع من بحضرتك ، فيصير قولك : يا خيرا من زيد ويا ضاربا رجلا بمنزلة قولك : يا رجل لمن تقبل عليه.

فهذا ما عندي في جواب ما سألت عنه ، وبالله التوفيق.

سؤال العضد وجواب الجاربردي وردّ العضد على الجاربردي

وانتصار ولد الجاربردي

لأبيه على العضد (١)

كتب العضد مستفتيا علماء عصره : يا أدلّاء الهدى ومصابيح الدّجى حيّاكم الله وبيّاكم ، وألهمنا الحقّ بتحقيقه وإيّاكم ، ها أنا من نوركم مقتبس وبضوء ناركم للهدى ملتمس ، ممتحن بالقصور لا ممتحن ذو غرور ، ينشد بأطلق لسان وأرقّ جنان : [المتقارب]

٥٨٢ ـ ألا قل لسكّان وادي الحمى

هنيئا لكم في الجنان الخلود

أفيضوا علينا من الماء فيضا

فنحن عطاش وأنتم ورود

قد استبهم قول صاحب (الكشاف) (٢) أفيضت عليه سجال الألطاف : (مِنْ مِثْلِهِ)(٣) [البقرة : ٢٣] متعلّق بسورة صفة لها ، أي : بسورة كائنة من مثله ، والضمير لما نزّلنا أو لعبدنا ، ويجوز أن يتعلّق بقوله : فأتوا ، والضمير للعبد» حيث جوّز في الوجه الأول كون الضمير لما نزّلنا تصريحا وخطره في الوجه الثاني تلويحا ، فليت شعري ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزّلنا ، وفأتوا من مثل ما نزّلنا بسورة ،

__________________

(١) انظر طبقات الشافعية الكبرى (١٠ / ٤٧).

(٢) انظر الكشاف (١ / ٢٤١).

(٣) الآية (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.)

١٦

وهل ثمّ حكمة خفيّة أو نكتة معنويّة أو تحكّم بحت؟ بل هذا مستبعد في مثله ، فإن رأيتم كشف الرّيبة وإماطة الشّبهة والإنعام بالجواب ، أثبتم أجزل الأجر والثّواب.

جواب الجاربردي : فكتب العلّامة فخر الدين الجاربردي وعقّد ، تمنّي الشعور معلّقا بالاستعلام لما وقع بالدّخيل مع الأصيل الأدخل في الإبهام ، أشعر بأنّ المتمنّي تحقّق ثبوت شيء ما منها والانتفاء رأسا ، ولا يستراب أن انتفاء الفائدة اللفظية والفائدة المعنوية يجعل التخصيص تحكّما ساذجا فإن رفع الإبهام ينصب البعض للتكثير الثاني خبر ما فما مغزى التخصيص على البيان فاضرب عن الكشف صفحا مجانبا الاستدراك كما في الاستكشاف ، وإن ريم ما يعنى بالتحقيق فيه والأخصّ في الاستعمال فزيغ الدّاله لا زلة خبير كعثرة عثارها للادخل بمنزلة في أنزلنا أولا بشهادة الدّغدغة لعثوره عليها في أنزلنا ثانيا ، والتبيين جنس التعيين ، فإنها من بنات خلعت عليهنّ الثياب ثم فنتهنّ وحثوت عليهنّ التراب : [الطويل]

٥٨٣ ـ فبح باسم من تهوى ودعني من الكنى

فلا خير في اللّذّات من دونها ستر

[الكامل]

٥٨٤ ـ إنّي امرؤ أسم القصائد للعدى

إنّ القصائد شرّها أغفالها

ردّ العضد : فكتب العضد على الجواب : أقول وأعوذ بالله من الخطأ والخطل ، وأستعفيه من العثار والزّلل : الكلام على هذا الجواب من وجوه :

الأول : أنّه كلام تمجّه الأسماع وتنفر عنه الطّباع ، ككلمات المبرسم غير منظوم ، وكهذيان المحموم ليس له مفهوم ، كم عرض على ذي طبع سليم وذهن مستقيم فلم يفهم معناه ولم يعلم مؤدّاه ، وكفى وكيلا بيني وبينك كل من له حظّ من العربية وذكاء ما مع الممارسة لشطر من الفنون الأدبية.

الثاني : لمّا أجمل الاستفهام لشدّة الإبهام فسّره بما لا يدلّ عليه بمطابقة ولا بتضمّن ولا بالتزام ، وحاصله أنّ ثبوت أحد الأمرين هاهنا محقّق ، وإنما التردّد في التّعيين ، فحقيق بأن يسأل عنه بالهمزة مع (أم) دون هل مع أو ، فإنّه سؤال عن أصل الثبوت.

الثالث : أنّا لا نسلّم تحقّق أحد الأمرين حقيقة لجواز أن لا يكون لحكمة خفيّة

__________________

٥٨٣ ـ البيت لأبي نواس في ديوانه (ص ٢٨).

٥٨٤ ـ الشاهد بلا نسبة في أساس البلاغة (غفل) و (وسم) ، ولبشامة بن الغدير في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٣٩٤).

١٧

ولا نكتة معنوية ، بل لأمر بيّن في نفسه على السائل أو لشبهة قد تخايلت للحاكم وتضمحلّ بتأمّل ، فلا يكون تحكّما بحتا ، ولئن سلّمنا الحصر فلم لا يجوز أن يتجاهل السائل تأدّبا واعترافا بالقصور وتجنّبا عن التّيه والغرور؟.

الرابع : أنّ (أو) هذه أهي الإضرابية؟ أفهذا باعه في الوجوه العربية؟ فأين أنت من قولهم : لا تأمر زيدا فيعصيك أو تحسبه غلامك وأقلّ خدّامك أو لا تدري من أمامك؟ أبعد ما أذبت نفسك ليلا ونهارا في شعب من العربيّة مذ نيطت بك العمائم إلى أن اشتعل الرأس شيبا يخفى عليك هذا الجليّ الظاهر الذي هو مسطور في الجمل لعبد القاهر؟.

الخامس : هب أنّ هذا خطأ صريح ، ألا يمكن أن تتحمّل له محملا صحيحا أليس المقصود هنا كالصبح يتبلّج وكالنار في حندس الظّلم على رأس العلم تؤجّج؟ فماذا كان لو اشتغلت بعد ما يغنيك من الجواب وتنطق (١) بفضل الصواب بما لا يعنيك من التخطئة في السؤال؟

السادس : قد أوجب الشرع ردّ التحيّة والسّلام ، وندب إلى التلطّف في الكلام ، فمن يؤفك فقد اقترف الإثم واستحقّ الذّمّ وأساء الأدب وتجنّب الأمم ، وأشعر بأنّه ليس له من الخلق خلاق ، ولم يرزق متابعة من بعث لتتميم مكارم الأخلاق.

السابع : أنّه أعرض عن الجواب ، وزعم أنّه من بنات خلع عليهنّ الثياب وحثى عليهنّ التراب ، فإن كان حقّا فلا ريب في أنّها تكون ميّتة أو بالية ، ومع هذا فمصداق كلامه أن ينبش عنها أو أن يأتي بمثلها فنرى ما هيه؟

الثامن : أنّ السؤال لم يخصّ به مخاطب دون مخاطب ، بل أورد على وجه التعميم والإجمال مرعيّا فيه طريق التعظيم والإجلال موجّها إلى من وجّه إليه ، ويقال : مصدّق أنت من أدلّاء الهدى ومصابيح الدّجى ، فأنّى رأى نفسه أهلا للخطاب معيّنا للجواب؟ وهلّا درأه عن نفسه معرفة بقدره وعلما بغوره ، ومحافظة على طوره إلى من هو أجلّ منه قدرا وأنور بدرا في هذه البلدة من زعماء التحرير وفحوله النحارير الذين لا يفوتهم سابق ولا يشقّ غبارهم لاحق.

وإن كان لا يرى فوقه أحدا فإنه للعمه والعمى والحماقة العظمى ، ومالداء النّوك من دواء ، وليس لمرض الجهل المركب من شفاء.

التاسع : البليغ من عدّت هفواته والجواد من حصرت كبواته وأمّا من لا يأمن مع الدّعدعة سوء العثار ، ويحتاج إلى من يقود عصاه في ضوء النهار ، فإذا سابق في

١٨

المضمار العتاق الجياد وناضل عند الرّهان ذوي الأيدي الشّداد ، فقد جعل نفسه سخرة للسّاخرين وضحكة للضاحكين ، ودريّة للطاعنين وغرضا لسهام الرّاشقين.

العاشر : أظنّك قد غرّك رهط احتفّوا من حولك ، وألقوا السّمع إلى قولك ، يصدّقونك في كلّ هذر ويصوّبونك في كلّ ما تأتي وتذر ، ولم تمرّ بقراع الأبطال اللهاميم ، ولم تدفع إلى جدليّ مماحك يعركك عرك الأديم ، فظننت بنفسك الظّنون ، ورسخ في دماغك هذا الفنّ من الجنون ولم ترزق أديبا ولا ناصحا لبيبا. [الطويل]

٥٨٥ ـ فما كلّ ذي نصح بمؤتيك نصحه

وما كلّ مؤت نصحه بلبيب

فها أنا أقول لك قول الحق الذي يأتي في غير نفس أبيّة ، ولا يصرفني عنه هوى ولا عصبيّة ، فاقبل النّصيحة واتّق الفضيحة ، ولا ترجع بعد إلى مثل هذا ، فإنّه عار في الأعقاب ، ونار يوم الحساب ، هداك الله وإيانا سبيل الرشاد. انتهى.

انتصار إبراهيم ولد الجاربردي لأبيه

وقد تصدّى إبراهيم ولد الجاربردي لنصرة والده في رسالة سمّاها : «الصّارم في قطع العضد الظالم». فقال :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وبه نستعين ، والعاقبة للمتّقين ، ولا عدوان إلّا على الظالمين ، والصّلاة والسّلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين سيّدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

أمّا بعد : فيقول الفقير إلى الله تعالى إبراهيم الجاربردي :

بينما كنت أقرأ كتاب الكشاف في سنة ستين وسبعمائة بين يدي من هو أفضل أهل الزمان ، لا بالدّعاوى بل هو باتفاق أهل العلم والعرفان ، أعني من خصّه الله تعالى بأوفر حظّ من العلى والإحسان ، مولانا وسيدنا الإمام العالم العلّامة شيخ الإسلام والمسلمين ، الدّاعي إلى ربّ العالمين ، قامع المبتدعين وسيف المناظرين ، إمام المحدّثين حجة الله على أهل زمانه ، والقائم بنصرة دينه في سرّه وإعلانه بقلمه

__________________

٥٨٥ ـ الشاهد لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه (ص ٤٥) ، والحيوان (٥ / ٦٠١) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٤٣٨) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٦٣٦) ، ولأبي الأسود أو لمودود العنبري في شرح شواهد المغني (ص ٥٤٢) ، وبلا نسبة في الدرر (٥ / ٢٦٦) ، والكتاب رقم الشاهد (١٠٤٣) ، ومغني اللبيب (ص ١٩٨) ، وهمع الهوامع (٢ / ٩٥).

١٩

ولسانه ، خاتمة المجتهدين بركة المؤمنين أستاذ الأستاذين قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب السّبكي ، لا زالت رباع الشّرع معمورة بوجوده ورياض الفضل مغمورة بجوده ، ويرحم الله عبدا قال : آمينا ، إذ وصلت إلى قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] فرأيت عند بعض من الفضلاء الحاضرين شيئا من كلام القاضي عضد الدّين الشيرازي على كلام والدي الذي كتبه على سؤاله المشهور عن الفرق بين (فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزّلنا) و (فأتوا من مثل ما نزّلنا بسورة) ، فأخذت منه رجاء أن أطّلع على بدائع من رموزه ، وودائع من كنوزه ، فوجدته قد فطم عن ارتضاع أخلاف التحقيق ، وحرم عن الاغتراف من بحر التدقيق ، جعل الإيراد عنادا ، والمنع ردعا ، والرّدّ صدّا ، والسؤال نضالا والجواب عيّابا فركب متن عمياء وخبط خبط عشواء وقال ما هو تقوّل وافتراء ، وكلام والدي عنه براء ، كأنّه طبع على اللّفاء أو جبلت طينته من المراء ، فمزج الشّهد بالسّمّ وأكل الشعير وذمّ ، فأضحكت حركة البهمة في استيفاء القصاص ، فكتبت هذه الرسالة المسمّاة بالسيف الصّارم في قطع العضد الظالم ، ولأجازينّه عن حسناته العشر بأمثالها ، قال الله تعالى : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٤١] وقال تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة : ٤٥] ، وجراحة اللّسان أعظم من جراحة السّنان ، قال الشاعر : [الوافر]

٥٨٦ ـ جراحات السّنان لها التئام

ولا يلتام ما جرح اللّسان

وقال آخر : [الهزج]

٥٨٧ ـ وبعض الحلم عند الجه

ل للذّلّة إذعان

وفي الشّرّ نجاة حي

ن لا ينجيك إحسان

وقال آخر : [البسيط]

٥٨٨ ـ لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم

وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا

وأسأل الله التوفيق ، وبيده أزمّة التحقيق ، أقول : أيّها السّائل رحمك الله ، أمّا

__________________

٥٨٦ ـ الشاهد بلا نسبة في تاج العروس (كلم) ، وليعقوب الحمدوني في العقد الفريد (٢ / ٤٤٥).

٥٨٧ ـ البيت الأول للفند الزمّاني في أمالي القالي (١ / ٢٦٠) ، وحماسة البحتري (ص ٥٦) ، وخزانة الأدب (٣ / ٤٣١) ، والدرر (٥ / ٢٥٠) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٩٤٤) ، والمقاصد النحوية (٣ / ١٢٢) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني (٢ / ٣٣٨) ، وهمع الهوامع (٢ / ٩٣).

٥٨٨ ـ البيت للفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب في الأضداد (ص ٤٨) ، والمؤتلف والمختلف (ص ٤١) ، والخزانة (٣ / ٥٢١).

٢٠