الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٦٤

يكون البحاتر هو المبتدأ وشرّ النساء هو الخبر ، فقلت له : الذي قلت هو الوجه المختار وما قاله النحويّ الذي حكيت عنه جائز غير ممتنع ، فقال : وكيف يصح ما قال؟ وهل غرض الشاعر إلّا أن يخبر أنّ البحاتر شرّ النساء؟ وجعل يكثر من ذكر الموضوع والمحمول ، ويورد الألفاظ المنطقية التي يستعملها أهل البرهان ، فقلت له : أنت تريد أن تدخل صناعة المنطق في صناعة النحو ، وصناعة النحو تستعمل فيها مجازات ومسامحات لا يستعملها أهل المنطق ، وقد قال أهل الفلسفة : يجب أن تحمل كل صناعة على القوانين المتعارفة بين أهلها ، وكانوا يريدون أنّ إدخال بعض الصناعات في بعض إنما يكون من جهل المتكلم أو عن قصد منه للمغالطة واستراحة بالانتقال من صناعة إلى أخرى. إذا ضاقت عليه طرق الكلام ، وصناعة النحو قد تكون فيها الألفاظ مطابقة للمعاني ، وقد تكون مخالفة لها إذا فهم السامع المراد ، فيقع الإسناد في اللفظ إلى شيء وهو في المعنى مسند إلى شيء آخر إذا علم المخاطب غرض المتكلم وكانت الفائدة في كلا الحالين واحدة ، فيجيز النحويون في صناعتهم : «أعطي درهم زيدا» ، ويرون أنّ فائدته كفائدة قولهم : «أعطي زيد درهما» ، فيسندون الإعطاء إلى الدرهم في اللفظ ، وهو مسند في المعنى إلى زيد ، وكذلك يجيزون : ضرب بزيد الضرب (١) ، وخرج بزيد اليوم ، وولد لزيد ستون عاما (٢) ، وقد علم أنّ الضرب لا يضرب واليوم اتّكالا على فهم السامع ، وليس هذا لضرورة شاعر ، بل هو للمعاني ، لأن الإسناد وقع فيها إلى شيء وهو في المعنى إلى شيء آخر اتّكالا على فهم السامع ، وليس هذا لضرورة شاعر ، بل هو كلام العرب الفصيح المتعارف بينها في محاوراتها ، وهذا أشهر عند النحويين من أن يحتاج فيه إلى بيان ، وممّا يبين هذا أنّ النحويين قد قالوا : إذا اجتمعت معرفتان جعلت أيتهما شئت الاسم وأيتهما شئت الخبر ، فتقول : «كان زيد أخاك» ، و «كان أخوك زيدا» (٣) ، فإن قال قائل : الفائدة فيهما مختلفة ، لأنّه إذا قال : «كان زيد أخاك» أفادنا الأخوّة ، وإذا قال : «كان أخوك زيدا» أفادنا أنّه زيد ، فالجواب : أنّ هذا جائز صحيح لا ينازع فيه منازع ، ويجوز أيضا أن يقال : «كان أخوك زيدا» والمراد : كان زيد أخاك ، فيقع الإسناد في اللفظ إلى الأخ وهو في المعنى إلى زيد ، والدليل على ذلك أنّ القرّاء قرؤوا : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) [النمل : ٥٦] ، برفع الجواب ونصبه ، فتارة يجعلون الجواب الاسم والقول الخبر ، وتارة يجعلون القول هو الاسم والجواب الخبر ،

__________________

(١) انظر شرح المفصل (٧ / ٧٣).

(٢) انظر الكتاب (١ / ٢٣٣ ، ٢٨٢).

(٣) انظر شرح المفصّل (٧ / ٩٥).

١٢١

وليس يشك أحد أنّ الغرض في كلتا القراءتين واحد وأنّ الإخبار في الحقيقة إنما هو عن الجواب ، وكذلك قوله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) [الحشر : ١٧] ، قرئ برفع العاقبة ونصبها ، ولا فرق بين الأمرين عند أحد من البصريين والكوفيين ، وكذلك قول الفرزدق : [الطويل]

٤٣٠ ـ لقد شهدت قيس فما كان نصرها

قتيبة إلّا عضّها بالأباهم

ينشد برفع النصر ونصب العضّ ، وبرفع العضّ ونصب النصر ، والفائدة في الأمرين جميعا واحدة ، وكذلك قول الآخر : [الطويل]

٤٣١ ـ وقد علم الأقوام ما كان داؤها

بثهلان إلّا الخزي ممّن يقودها

ينشد برفع الداء ونصب الخزي وبنصب الداء ورفع الخزي ، والفائدة فيهما جميعا واحدة ، وإنّما تساوى ذلك لأنّ المبتدأ هو الخبر في المعنى ، وممّا يبيّن ذلك بيانا واضحا أنّ القائل إذا قال : «شرّ النّاس الفاسق» أو قال : «الفاسق شرّ النّاس» فقد أفادنا في كلا الحالين فائدة واحدة ، وكذلك إذا قال : «أبوك خير النّاس» ، فائدته كفائدة قوله : «خير النّاس أبوك» ، لا يمكن أحدا أن يجعل بينهما فرقا ، ويشهد لذلك قول زهير : [الوافر]

٤٣٢ ـ وإمّا أن يقولوا قد أبينا

فشرّ مواطن الحسب الإباء

فهذا البيت أشبه الأشياء ببيت كثير ، وقد جعل زهير «شرّ» هو المبتدأ والإباء هو الخبر ، وإنّما غرضه أن يخبر أنّ الإباء هو شرّ مواطن الحسب ، ولا يجوز لزاعم أن يزعم أنّ الإباء هو المبتدأ وشرّ خبره ، لأنّ الفاء لا يجوز دخولها على خبر المبتدأ ، إلّا أن يتضمّن المبتدأ معنى الشرط ، ألا ترى أنّه لا يجوز : «زيد فقائم» ، وكذلك من رواه «وشرّ مواطن» ، بالواو لأنّ الواو لا تدخل على الأخبار ، لا يجوز : «زيد وقائم» ، وممّا يبيّن لك تساوي الأمر عند النحويين باب الإخبار بالذي وبالألف واللام ، فمن تأمّل قول النحويين فيه رأى ما قلناه نصا ، لأن القائل إذا سأل فقال : أخبرني عن زيد من قولنا : قام زيد فجوابه عند النحويين أجمعين أن يقال : الذي قام زيد ، والقائم زيد ، ألا ترى أنّ المجيب قد جعل زيدا خبرا؟ وإنّما سأل السائل أن يخبر عنه ولم

__________________

٤٣٠ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (ص ٣٣١) ، ولسان العرب (بهم) ، وبلا نسبة في المقتضب (٤ / ٩٠).

٤٣١ ـ الشاهد لمغلس الأسدي في شرح أبيات سيبويه (١ / ٢٧٨) ، وبلا نسبة في الكتاب (١ / ٩١) ، وشرح المفصّل (٧ / ٩٦) ، والمحتسب (٢ / ١١٦).

٤٣٢ ـ الشاهد لزهير في ديوانه (ص ٧٤) ، وبلا نسبة في المخصّص (١٦ / ٢٦).

١٢٢

يسأله أن يخبر به ، فلو جاء الجواب على حدّ السؤال لقال : زيد الذي قام ، وزيد القائم ، وباب الإخبار كله مطّرد على هذا ، وإنّما جاز ذلك عندهم لأنّ الفائدة في قولك : «الذي قام زيد» كالفائدة في قولك : «زيد الذي قام» وكذلك الفائدة في قولك : «زيد القائم» كالفائدة في قولك : «القائم زيد» ، ولو لا أنّ الأمرين عندهم سواء لما جاز هذا ، ومن أظرف ما في هذا الأمر أنّ جماعة من النحويين لا يجيزون تقديم خبر المبتدأ عليه إذا كان معرفة ، فلا يجيزون أن يقال : «أخوك زيد» والمراد : زيد أخوك ، واحتجّوا بشيئين :

أحدهما : أن المعرفتين متكافئتان ، ليست إحداهما أحقّ بأن يسند إليها من الأخرى ، وليس ذلك بمنزلة المعرفة والنكرة إذا اجتمعتا.

والحجة الأخرى : أنّه يقع الإشكال فلا يعلم السامع أيّهما المسند وأيّهما المسند إليه ، فلمّا عرض فيهما الإشكال لم يجز التقديم والتأخير ، وكان ذلك بمنزلة الفاعل والمفعول إذا وقع الإشكال فيهما لم يجز تقديم المفعول ، كقولك : «ضرب موسى عيسى» ، وهذا قول قوي جدّا ، غير أنّ النحويين كلهم لم يتفقوا عليه ، فعلى مذهب هؤلاء لا يجوز أن يكون «شرّ النساء» خبرا مقدما بوجه من الوجوه ، فإن كان هؤلاء القوم يريدون صناعة النحو فهذا ما توجبه صناعة النحو ، وإن كانوا يريدون صناعة المنطق فقد قال جميع المنطقيين لا أحفظ في ذلك خلافا بينهم : إنّ في القضايا المنطقية قضايا تنعكس ، فيصير موضوعها محمولا ومحمولها موضوعا ، والفائدة في كلا الحالين واحدة ، وصدقها وكيفيتها محفوظان عليها ، قالوا : فإذا انعكست ولم يحفظ الصدق والكيفية سمّي ذلك انقلاب القضية لا انعكاسها ، ومثال المنعكس من القضايا قولنا : «لا إنسان واحد بحجر» ، ثم نعكس فنقول : «لا حجر واحد إنسان» ، فهذه قضية قد انعكس موضوعها محمولا ومحمولها موضوعا ، والفائة في الأمرين جميعا واحدة ، ومن القضايا التي لا تنعكس قولنا : «كلّ إنسان حيوان» ، فهذه قضية صادقة ، فإن صيّرنا موضوعها محمولا ومحمولها موضوعا ، فقلنا : «كلّ حيوان إنسان» عادت قضية كاذبة ، فهذا يسمونه انقلابا لا انعكاسا ، وبالله التوفيق.

مسألة نحوية من كتاب (المسائل) للبطليوسي

سأل سائل أدام الله عزك من بقي عندنا من طلبة النحو عن مسألة وقعت ، وهي : إذا سمّيت رجلا بالألف من ما كيف يكون بناء الاسم من ذلك وصورته في الخطّ؟ فجاوب عن ذلك المسؤول بما هذه نسخته :

١٢٣

تأمّلت ـ أعزّك الله ـ هذا السؤال ، والقياس النحوي يقتضي أن لا يشترط التسمية بحرف ساكن مثل هذا ، إذ لا بد من أن يبنى الاسم عليه ، وأن يكون الحرف المذكور أوّل ذلك الاسم ، فإن كان كما شرط ساكنا فلا بد من تحريكه ليتوصل إلى النطق به ، فيختلّ الحرف الساكن على حاله التي كان يجب أن لا يغير عنها في التسمية به لئلا تشتبه التسمية بما سمي به من حرف متحرك ، مثل ذلك كمن قال : سمّ لي رجلا بالألف من إكرام أو ما كان مثله إن قلنا : إنّ الحرف الساكن المذكور يحرك بالفتح ، فلهذا كان ينبغي أن تمتنع التسمية بالألف من «ما» ، وإن قلنا : إنه يجوز أن يسمّى رجل بالألف من «ما» فإنما ذلك على ضرب من قياس النحو أيضا ومجاري التعليل فيه ، فينبغي على تجويز ذلك أن تحرّك الألف الساكنة من «ما» بالفتح لما سنذكره بعد إن شاء الله تعالى ، فتصير همزة مفتوحة ، ثم يزاد عليها من جنسها ألف وهمزة ليكون الاسم من ذلك مبنيّا على أقلّ حروف الأسماء الأعلام المتمكّنة ، وذلك ثلاثة أحرف ، كما قالوا : إذا سمّيت رجلا بالسين من «سوف» ، فإنّك تزيد على السين ألفا وهمزة ليكون الاسم على أقل البناء في المتمكّن العلم كما قلنا ، فتقول : «جاءني ساء» و «رأيت ساء» و «مررت بساء» ، وكذلك فعلنا في مسألتنا لمّا حرّكنا الألف الساكنة من «ما» بالفتح لما نذكره بعد ، وصارت همزة مفتوحة زدنا على الهمزة ألفا وهمزة من جنسها ليكمل البناء الأقل المذكور ، فجاء على وزن بكر فنقول منه في الرفع «جاءني أا أ» وفي النصب : «رأيت أا أ» وفي الخفض : «مررت ب أا إ» ، فهذا بناؤه وصورته في الخط ، وإن شئت كتبته بالعين وأسقطت الثالثة التي هي عين الوزن استخفافا ، لئلا يجتمع ثلاث ألفات في كلمة واحدة ، فإن قيل : فكيف استجزت إسقاط هذه الألف من مثل هذا الاسم وأنت قد بنيته على ثلاثة أحرف ، وهو أقل البناء فقد أخللت ببنائك في الخط؟ فالجواب : أنّا وجدنا مثل هذا الاسم من الوزن والتمكّن قد أسقط منه ألف عين الوزن في الخط ، وأبقوه على حرفين ، وذلك الاسم أل ، فقد اتفقوا في المصحف وغيره على كتبه بألف واحدة ، وكان فيه ألفان ، إذ وزنه أا ل فسهّلوا الهمزة الوسطى ثم أسقطوها فبقي من الاسم حرفان ، وإنما استجازوا مثل ذلك لدلالة الباقي على الذاهب ، وطلبا للاختصار الذي كلام العرب مبنيّ عليه ، ولذلك جوّزنا نحن كتب أا إ بالعين قياسا على ذلك ، وإنا قلنا : إنّ تحرّك الألف الساكنة من «ما» بالفتح لأنّها لمّا كانت أول الاسم ساكنة ، واحتاجت إلى حركة ليتوصل إلى النطق بها ، كانت الفتحة أولى بها من الكسرة والضمّة ، لأنّ الألف تتولّد من الفتحة إذا أشبعت ، وتنقلب بسببها إذا كانت بعدها حركة على ياء أو واو ، نحو : قال ونام ، فكانت الفتحة أولى بتحريك الألف من

١٢٤

غيرها لذلك ، وأيضا فهذه الألف المسمّى بها من «ما» قد صارت أولا وأصلا وفاء الوزن من هذا الاسم ، فصارت كألف أخ وأب وهما ألفا قطع ، وأصل حركة ألف القطع الفتح إلّا ما شذّ لمعنى ، وأيضا فلا تكسر وتصح من الألفات السواكن عند الحاجة إلى ألف الوصل ، وهذه الألف ليست كذلك ، فصحّ بذلك كله ما قلنا. وفي هذا اللّمع كفاية فيما قصدته ، فهذا أدام الله تأييدك نصّ الجواب ، وما كان من الواجب أن يكتب مثل هذا الجواب لمثلك إلا نص السؤال مجردا ، إلّا أنه تعيّن كتب السؤال والجواب لأمر وقع ، وذلك أنّه وقف على هذا السؤال والجواب رجل ينتمي إلى علم النحو ، فقال : إن هذا الجواب ناقص عمّا يجب ، وزعم أنّ على المسؤول في هذه المسألة أن يجاوب فيها على كل وزن جاء في كلام العرب من الثلاثية إلى السباعية ، وزعم أنه يجوز أن يسمّى بالألف من ما رجل فيبنى منه الاسم على كل وزن حتى على وزن اشهيباب ، وأن لا يقتصر في التسمية به على أقل الأوزان المتمكنة ، بل يجوز على كل وزن ، وعضّد قوله بأن قال : ابن لي من ألف ما مثال جحمرش لصح البناء على ذلك المثال وغيره ، وهذا فيما رأينا خلاف مقاييس النحو ونحن واقفون عند قليل علمنا منه ، لا تتجاوز قول هذا المدعي إلّا عن دليل واضح نميل إليه ، أو هدى من مثلك نعوّل عليه ، فعسى أدام الله تأييدك أن تمنّ بالوقوف على هذه الجملة ، وتتطوّل على الجميع بإشارة كافية منك إلى ما يجوز من هذا كله ، والله يبقيك للعلوم تحييها وللقلوب تكشف عنها وتجلوها بحوله وطوله.

الجواب : وقفت على سؤال السائل وإجابة المجيب واعتراض المعترض ، والذي تقتضيه صناعة النحو والتصريف أنّه إذا سمي بحرف من الحروف لزم أن يزاد عليه حتى يبلغ بصيغته أقل ما تكون عليه صيغ الأسماء المتمكنة ، وذلك ثلاثة أحرف ، ويزاد على كل حرف حرف من نوعه ، فيقال في ما : ماء وفي لا : لاء وفي لو : لوّ وفي إي : إيّ ، وإنما فعل النحويون ذلك لأنهم رأوا العرب قد فعلت مثل ذلك فيما أعربته وصيّرته اسما من هذه الحروف ، ألا ترى قول النّمر بن تولب : [المديد]

٤٣٣ ـ علقت لوّا تكرّره

إنّ لوّا ذاك أعيانا

وقال القطامي : [الوافر]

٤٣٤ ـ ولكن أهلكت لوّ كثيرا

وقبل اليوم عالجها قدار

__________________

٤٣٣ ـ الشاهد لنمر بن تولب في ديوانه (ص ٣٩٣) ، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب (٢ / ٧٨٧) ، ولسان العرب (إمالا) ، والمقتضب (١ / ٢٣٥).

٤٣٤ ـ الشاهد ليس في ديوانه ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (إمّالا).

١٢٥

وإن أراد مريد أن يسمّي من حرف قد سمّي به مثل جعفر أو جحمرش ونحوهما من أمثلة كلام العرب كان له ذلك.

وأما قول المعترض : إن جواب المجيب لا يصح ولا يكمل حتى يتكلّف أن يصوغ من الحرف الذي يسأل عنه على جميع أوزان كلام العرب فإنّه تعسّف وغير لازم ، إلّا أن يشترط عليه السائل ذلك في مسألته ، وأما التسمية بالألف من ما ولا فقد ذكر ذلك ابن جني ، وفيه خلاف لما قاسه هذا المجيب عن المسألة ، فقال إذا أردت أن تصيّر الألف من «لا» اسما زدت على الألف ألفا ثانية ، فتجتمع ألفان ساكنتان فتحرك الأولى منهما بالكسر لالتقاء الساكنين ، فتنقلب الثانية ياء بانكسار ما قبلها فتصير إي ، ولا يكون اسم متمكن على حرفين الثاني منهما حرف لين ، فتزيد على الياء ياء أخرى وتدغم الأولى فيها ، فتقول : إيّ ، كما تقول إذا صيّرت في الخافضة اسم رجل : رفيّ.

قال ابن جني (١) : وإن بنيت من هذه الكلمة فعلا على حدّ قولك : كوّفت كافا وقوّفت قافا وسيّنت وعيّنت عينا لزمك أن تقول : أوّيت ألفا. قال : وإنّما جعلنا قياس عين هذه الكلمة أن تكون واوا دون أن تكون ياء لأنّا لمّا زدنا على الألف ألفا واحتيج إلى زيادة حرف ثالث ليتم الاسم ثلاثة أحرف صارت الألف المزيدة واقعة موقع عين الفعل ، وإذا كانت الألف المجهولة ثانية عينا أو في موضع العين وجب على ما وصّانا به سيبويه أن نعتقد فيها أنها منقلبة عن واو ، حملا على باب طويت وشويت لأنه أكثر من باب حييت وعييت ، فصارت إيّ كأنها من باب رقيّ وسيّ ونحوهما مما عينه واو ، فكما أنّك لو بنيت من القيّ والسّيّ فعّلت لقلت : قوّيت وسوّيت ، فأظهرت العينين واوين ، فكذلك تقول في فعّلت من إيّ التي أدّى إليها القياس : أوّيت.

فهذه مسألة قد كفانا ابن جني فيها التعب وأرانا وجه القياس فيها ، فينبغي لمن أراد أن يصوغ منها مثالا على بعض أمثلة كلام العرب أن يجريها مجرى أوى يأوي ، ويركب على ذلك قياسه ، فيقول في مثال جعفر منها : أيّا وفي مثال سفرجل : أويّا وفي مثال جحمرش : أيّني وفي مثال إوزّة : إيّاة ، ونحو ذلك ، وبالله التوفيق.

مسائل أخرى سئل عنها البطليوسي

وردت من الشعر منظومة في أبيات من شعر ، وهي : [الطويل]

__________________

(١) انظر المنصف (٢ / ١٥٤).

١٢٦

جوابك يا ذا العلم إنّي لسائل

عن أشياء من ذا النّجو تخفى وتعظم

فأورد عليها من كلامك شافيا

تبيّن به كلّ البيان وتفهم

فمثلفك للإفهام يدعى وترتجى

فوائده إن جلّ أو عنّ مبهم

علام تعلّ الشيء علّة غيره

فتسقمه وهو الصّحيح المسلّم

ويبرأ إن أضحى سواه مسلّما

من إعلاله وهو العليل المسقّم

وما القول في «لا بأس» إن يك معربا

فحذفك للتنوين نكر معظّم

وإن يك مبنيّا فقولك نصبه

بلا خطإ يحصى عليك ويرسم

وإن يك مبنيّا لديك ومعربا

فذا النّكر أدهى في النفوس وأعظم

فبرّد غليلا في نفوس كأنّها

طيور ظماء حول علمك حوّم

ولم صرفوا ما كان وصفا مؤنّثا

كعاقلة والوصف بالمنع يحكم

ولم يصرفوه اسما لذات معرّفا

وذلك بطل يبطل الباب معظم

أيصرف والتأنيث فيه محقّق

ويمنعه إن كان لغوا ويحرم

فقرطس بسهم العلم أغراض مطلبي

ولا تك فيه الظّنّ بالغيب ترجم

جواب المسألة الأولى : فأجاب أبو محمد بن السيّد رحمه الله : [الطويل]

سألت لعمري عن مسائل تقتضي

جوابا وتفهيما لمن يتعلّم

لأنّ اطرّاد الحكم ليس بلازم

إذا أوجبته علّة ليس تلزم

وقد أوجبوه في مواضع جمّة

بلا علة تقضي بذاك وتحكم

سوى علقة لفظيّة وتناسب

خفيّ يراه الماهر المتقدّم

لأنّ تصاريف الكلام شبيهة

بنشئ فروع عن أصول تقسّم

فيشرك منها الجزء أقسامه التي

تناسبه فيما يصحّ ويسقم

وفي كل علم إن نظرت تسامح

كثير وإقناع وظنّ مرجّم

وما النحو مختصا بذلك وحده

لمن يكثر التّنقير عنه وينعم

ولكن له فيما وجدنا نظائر

يراها بعين اللّبّ من يتوسّم

فلا تطلبن في كلّ شيء حقيقة

فإنّك تعدو إن فعلت وتظلم

سأضرب أمثالا لما أنا قائل

لها موقع في لبّ من يتفهّم

ألم تر أنّ الدّاء يشري دفينه

فيضني بعدواه الصحيح ويؤلم

وينزع عرق السّوء من بعد غاية

فيسري به في النّسل داء ويعظم

كحذفهم للهمز من يكرم الفتى

مشاركة فيما جنى المتكلّم

وحذفك واو الوعد حملا على التي

تعلّ وذا حكم من النحو محكم

١٢٧

كذاك قرين السّوء يردي قرينه

وينجي من الشرّ البعاد ويعصم

لذلك أردى من جهينة ياءها

مقارنة الهاء التي تتهضّم

ونجّى قريشا أن يصاب بيائه

تنائي قرين السّوء فهو مسلّم

ألم تر صوّاما نجت إذ تباعدت

عن اللّام من داء غدت فيه صيّم

وللجار أسباب يراعى مكانها

وللرّحم الدّنيا حقوق تقدّم

كصحّة عين الفعل من عور الفتى

لصحّتها في اعورّ والله أعلم

وكاجتوروا صحّت لأجل تجاوروا

شفاعة ذي القربى لمن هو مجرم

وقد زعموا التصحيح للواو فيهما

إرادة تنبيه على الأصل منهم

كأعولت يا ثكلى وأطولت يا فتى

وأجودت يا سعدى وأغيلت تكتم

وإن شئت أجريت التحرك فيهما

كمجرى حروف اللّين إن كنت تفهم

كما أنّ يرمى القوم أو يقعد الفتى

سواء إذا جازيت أو حين تجزم

ومثل حبارى في الإضافة عندهم

غدت جمزى في ما به النحو يحكم

ومكوزة شبه بذاك ومحبب

وثهلل إن حصّلت قولي ومريم

وقد جعلوا للاسم سيمى لكونه

على مثل وزن الفعل فيما تيمّموا

فقالوا لمن يشكي الخليل ويشتكي

إلام ولكن أنت يا صاح ألوم

وقد يلحقون الضدّ طورا بضدّه

كربّ فتى أودى وكم نيل مغنم

جواب المسألة الثانية

و «لا بأس» في إعرابه وبنائه

بأيّهما قلت اعتراض ملزّم

لحذفك تنوين الذي هو معرب

وذلك رأي عندنا لا يسلّم

وإن يك مبنيّا ففيم وصفته

على لفظه والنّكر في ذاك أعظم

وجمعك للضدّين أعظم شنعة

ولم يتوهّم فيه ذا متوهّم

وقد أكثروا فيه المقال وشقّقوا

إلى أن أقلّوا النّاظرين وأبرموا

وأكثر ما قالوه ما فيه طائل

لقارئه إلا الكلام المنمنم

فمن قائل ظنّ البناء وقائل

يظنّ به الإعراب فيما يرجّم

ورأي ذوي التحقيق أنّ بناءه

يضارع إعرابا وذا الرأي أحكم

كما ضارع الإعراب في غيره البنا

إذا قلت : جارات لأسماء أكرم

توسّط بين الحالتين فأمره

خفيّ على غير النّحارير منهم

لذا كثر الإشكال فيه فلم يبن

وخلّط فيه كلّ من يتكلّم

ويشبهه حال المنادى كلاهما

من النّحو فخصوص بهذا ومعلم

١٢٨

لذلك جاز الحمل للوصف فيهما

على اللفظ والمعنى كما جاء عنهم

فهذا الذي أختار فيه لأنّه

لمبصره أهدى سبيلا وأقوم

جواب المسألة الثالثة

وليست تعدّ التاء في النحو علّة

لشيء سوى الأعلام إن كنت تعلم

وما كان فرقا لم يعدّ بعلّة

كذا قال ذو الفهم النبيل المعظّم

يراعون في ذاك اللّزوم كطلحة

وليس يراعى منه ما ليس يلزم

وعلّته أنّ الصّفات مقيسة

على الفعل في تصريفها إذ تقسّم

فقام وقامت منهما صيغ قائم

وقائمة فيما تقول وتزعم

لذا أنّثوا الأوصاف طورا وذكرّوا

لما أرجؤوا في الفعل منها وقدّموا

وما لم يصغ منه فليس مؤنّثا

كقولهم : هند ولود ومتئم

وتأنيثنا للفعل ليس حقيقة

ولا لازما بل ضدّه فيه ألزم

فأضعفها ضعف الذي هو أصلها

كذا ضعف أصل الشيء يوهي ويهدم

وقوّى التي في الاسم أن ليس جاريا

على الفعل فالتأنيث في مخيّم

وعلّة سكرى أو جلولاء فردة

ولكنّها كالعلّتين لديهم

كذا علّتا تلك الصفات كعلّة

قضى فيه بالعكس القياس المقدّم

إذا عدّ في ذاك اللزوم بعلّة

مسلّمة فالضدّ ذا مسلّم

فدونكها تحوي غوامض جمّة

من العلم لا يبدو عليهنّ ميسم

ضربت لها أمثالها بنظائر

من الحسن عن معقولهنّ تترجم

وزدت أمورا قادها الطبع سمحة

وساعدني فيها القريض المنظّم

وأكثر أهل النحو عنهنّ نائم

وأفهامهم عنهنّ تكبو وتكهم

نتيجة ذهن صاغ منهنّ حلية

تحلّى بها للعلم جيد ومعصم

تباهي بطليوس بها كلّ بلدة

وتشهر أنّى وجّهت وتكرّم

مسألة نحويّة في أمالي ثعلب

في (أمالي ثعلب) : أنشد الفرزدق : [البسيط]

٤٣٥ ـ يا أيّها المشتكي عكلا وما جرمت

إلى القبائل من قتل وإبآس

إنّا كذلك إذ كانت همرّجة

نسبي ونقتل حتى يسلم النّاس

__________________

٤٣٥ ـ البيتان بلا نسبة في لسان العرب (همرج) و (بين) ، وتاج العروس (همرج).

١٢٩

قال : قلت له : لم قلت : من قتل وإبآس؟ فقال : ويحك! فكيف أصنع وقد قلت : حتى يسلم الناس؟ قال : قلت : فبم رفعته؟ قال : بما يسوءك وينوءك ، قال ثعلب : وإنّما رفعه لأن الفعل لم يظهر بعده كما تقول : «ضربت زيدا وعمر» ، ولم يظهر الفعل ، فرفعت كما تقول : «ضربت زيدا وعمر مضروب».

مسألة في تذكرة ابن هشام

حضر الفرزدق مجلس عبد الله بن أبي إسحاق ، فقال له : كيف تنشد هذا البيت : [الطويل]

٤٣٦ ـ وعينان قال الله كونا فكانتا

فعولان بالألباب ما تفعل الخمر

فأنشده : فعولان ، فقال له عبد الله : ما عليك لو قلت فعولين؟ فقال الفرزدق : لو شئت أن أسبّح لسبّحت ونهض ، فلم يعرفوا مراده ، فقال عبد الله : لو قال : فعولين لأخبر أنّ الله خلقهما وأمرهما ، ولكنه أراد : هما يفعلان بالألباب ما تفعل الخمر.

مسألة للفارسي : قال أبو علي الفارسي في التذكرة :

سأل مروان بن سعيد الكسائي في مجلس يونس عن وزن أولق فقال الكسائي : أفعل ، فقال مروان : استحييت لك يا شيخ ، قال أبو علي : وذلك أنّ أولق يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون فوعلا من تألّق البرق ، فتكون همزته أصلا.

والثاني : أن يكون أفعل من ولق إذا أسرع ، لأنّ الأولق الجنون ، وهي توصف بالسرعة ، ويكون ألق فهو مألوق إذا أخذه الأولق من البدل اللازم ، كما قالوا : عيد وأعياد. انتهى.

قال أبو حيان : ولا ينكر على الكسائي لأنّهم قالوا : أولق فهو مألوق ، قال : ولو ادّعى مدّع أنّ الأصل الواو ، وأنّها أبدلت همزة كقولهم في وعد : أعد ثم لزم البدل في مألوق وكثر هذا أكثر من أصله لكان قولا ، انتهى.

مسألة ذكرها أبو حيان : قال أبو حيان في (شرح التسهيل) :

من المسائل التي جرى فيها الكلام بين أبي العباس بن ولاد وأبي جعفر النحاس مسألة :

كيف تبنى من رجا مثل افعللت؟ سأل أبو جعفر عن ذلك ، فقال : ارجووت ،

__________________

٤٣٦ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ٢٩٧) ، وديوان المعاني (١ / ٢٣٥) ، وسمط اللآلي (ص ٤٠٨) ، وبلا نسبة في الخصائص (٣ / ٣٠٢).

١٣٠

فقال أبو جعفر : هذا خطأ ، لأنّا لا نعلم خلافا بين النحويين أنّ الواو إذا وقعت طرفا فيما جاوز الثلاثة من الفعل أنّها تقلب ياء ، كما قالوا في أفعلت من غزوت : أغزيت وفي استفعلت : استغزيت ، والوجه : ارجويت أرجوي ارجواء وأنا مرجو ، مثل احمررت أحمرّ احمرارا وأنا محمرّ ، إلّا أنّك تقلب في ارجويت أرجوي وتدغم في احمرّ يحمرّ.

وقال محمد بن بدر البغدادي : قول أبي العباس في افعللت : ارجووت تمثيل على الأصل قبل الإعلال ، وسبيل كلّ ممثّل أن يتكلم بالمثال على الأصل ، ثم ينظر في إعلاله بعد ، فافعللت على الأصل ارجووت وعلى الإعلال : ارجويت ، ومن قال كينونة : فيعلولة ذهب إلى الأصل ، ومن قال فيلولة ذهب إلى اللفظ ، وإذا بنوا مثل عصفور من «غزا» قالوا : غزووّ ، فالفراء يتركه على هذا ولا يعلّه ، وسيبويه يعلّه بعد ذلك ويقول (١) : غزويّ ، وقد ردّ على ابن بدر مصنف كتاب (سفر السعادة) ، فقال : قول ابن بدر في ارجووت : إنه تمثيل على الأصل غير صحيح ، لأنّ ذلك لم ينطق به في الأصل كما نطق بكيّنونة كما قال : [الرجز]

٤٣٧ ـ يا ليت أنّا ضمّنا سفينه

حتى يعود الوصل كيّنونه

وإنّا يمثّل بالأصل ما لا يصح تمثيله على اللفظ ، كقولك في عدة إنّه فعلة ، ولا تقول : علة ، وفي غد إنه فعل ولا تقول فع ، ثم إن أبا جعفر لم يسأل عن تمثيل الأصل ، وإنّما سأل عمّا يصح أن ينطق به ، فما للمسؤول اقتصر على تمثيل الأصل وترك ما ينبغي أن يقال؟

قال أبو حيان : وما ردّ به صاحب سفر السعادة لا يلزم ، ألا ترى ما قاله أبو بكر ابن الخياط في وزن ارعوى : إنه يجوز أن يقال فيه : افعلل وافعلى؟ فافعلل على الأصل وافعلى على الفرع ، قال : وذكر وزنه على الأصل أقيس ، فأدغم افعلل في نحو احمرّ فصار افعلّ وأعل في نحو ارعوى ، فجاز أن يقال : وزنه افعلّ وافعلى.

مسألة في (طبقات النحويين) لأبي بكر الزبيدي (٣) :

أنشدنا بعض الأدباء لأبي عبيد الله محمد بن يحيى بن زكريا المعروف بالقلفاط : [السريع]

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ٣٧٩).

٤٣٧ ـ الرجز بلا نسبة في الإنصاف (ص ٧٩٧) ، وشرح شواهد الشافية (ص ٣٩٢) ، ولسان العرب (كون) ، والمنصف (٢ / ١٥).

(٢) انظر طبقات الزبيدي (ص ٢٨٠).

١٣١

يا سائلي عن وزن مسحنكك

من آن أينا وأنى يأني

تقديره من آن مؤينّن

ومن أنى قولك مؤننيّ

فهكذا تقديره منهما

ليس على ذي بصر يعيي

ثمّ الكسائي وتصغيره

أسهل شيء أيّها الملقي

تصغيره لا شك فيه كسي

يّ فمن في مثل ذا يخطي

أربع ياءات وأنت امرؤ

نقصته ياء ولم تدر

وبعد هذا فعين واسمعن

فإنّني إيّاك مستفتي

عن وزن فيعول وعن وزن فع

لول جميعا من طوى يطوي

وعن فعول من قوي ومف

عول أجب واعجل ولا تبطي

وكيف تصغير مطايا اسم إن

سان وما الحرف الذي تلقي

منه فإن كنت امرأ جاهلا

فلست تحلي لا ولا تمري

وعن خطايا اسما مسمّى به

إن كنت تصغيرا له تدري

هل ياؤه قل بدل لازم

أنت لها لا بدّ مستبقي

أم هل تعود الياء مهموزة

فسّر لنا تفسير مستقصي

إن كان تصغير مطايا (١) كتص

غير خطايا قل ولا تخطي

فإن تصب هذا فأنت امرؤ

أعلم من خليل النّحوي

قال أبو بكر الزبيدي : لم يصنع شيئا في قوله : آن أينا وفي مؤينّن لأنّ اشتقاق يئين من الأوان ، فإن قال قائل : كيف يكون فعل يفعل من ذوات الواو وقد حظر ذلك جماعة النحويين ، قيل له : آن يئين على مثال فعل يفعل ، مثل حسب يحسب وكذلك زعم سيبويه نصا ، ولذلك انقلبت الواو ياء ، وذكر القتيبي (٢) أنّ آن يئين مقلوب من أنى يأني ، وذلك غلط لما بيّنّاه ، فأمّا أنى يأني فمن ذوات الياء ومنه اشتق الإني لواحد الآناء ، وكذلك قوله : ولا تمري إنّما هو ولا تمرّ ، والذي قاله من كلام العامة ، انتهى.

مناظرة بين ابن ولآد وبين ابن النحاس

وقال الزبيدي (٣) : حدثني محمد بن يحيى الرّباحي قال : بلغني أنّ بعض ملوك مصر جمع بين أبي العباس بن ولّاد وبين أبي جعفر بن النحاس وأمرهما بالمناظرة ،

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ٥٢٥ ، و ٤ / ٣٣).

(٢) انظر أدب الكاتب (ص ٣٨١).

(٣) انظر طبقات النحويين واللغويين (ص ٢١٩) ،

١٣٢

فقال ابن النحاس لأبي العباس : كيف تبني مثال افعلوت من رميت؟ فقال أبو العباس : ارمييت ، فخطّأه أبو جعفر وقال : ليس في كلام العرب افعلوت ولا افعليت ، فقال أبو العباس : إنما سألتني أن أمثّل لك بناء ففعلت.

قال الزبيدي : وأحسن ابن ولّاد في قياسه حين قلب الواو ياء وقال في ذلك بالمذهب المعروف ، لأن الواو تقلب ياء في المضارعة لو قيل ، ألا ترى أنك كنت تقول فيه : يرميني؟ فلذلك قال : ارمييت ، والذي ذكره أبو جعفر أنّه لا يقال افعلوت ولا افعليت صحيح ، فأمّا ارعويت واجأويت فهو على مثال افعللت مثل احمررت ، فانقلبت الواو الثانية ياء لانقلابها في المضارعة ، أعني يرعوي ، ولم يلزمها الإدغام كما لزم احمر لانقلاب المثال الثاني ألفا في ارعوى ، وقد كان سعيد الأخفش يبني من الأمثلة ما مثّل له وسئل أن يبني عليه ، وإن لم يكن ذلك في كلام العرب ، وفي ذلك حجّة لابن ولّاد ، وإن كان قولا قد رغب عنه جماعة النحويين ، انتهى.

وزن (ارعوى) في شرح التسهيل لأبي حيان : قال أبو بكر محمد بن أحمد بن منصور المعروف بابن الخياط ، وهو من شيوخ أبي القاسم الزجاجي ، ومن أصحاب أبي العباس أحمد بن يحيى : أقمت سنين أسأل عن وزن ارعوى فلم أجد من يعرفه ، ووزنه له فرع وأصل ، فأصله أن يكون افعلّ مثل احمرّ كأنّه ارعوّ ، وكرهوا أن يقولوا ذلك ، لأن الواو المشددة لم تقع في آخر الماضي ولا المضارع ، ولو نطقوا بارعوّ ثم استعملوه مع التاء لوجب إظهار الواوين ، كما أنّهم إذا ردّوا احمرّ إلى التاء قالوا : احمررت وأظهروا المدغم ، فلم يقولوا : ارعووت فيجمعوا بين الواوين كما لم يقولوا قووت ، فقلبوا الواو الثانية منه (١) ، ولا ريب أنّ إحدى الواوين زائدة ، كما لا ريب في أنّ إحدى الراءين في احمررت زائدة ، قال : فإن قيل فما الحاصل في وزن ارعوى؟ قال : فجائز أن يقول : افعلل ، قال : ولو قال قائل : افعلى لكان وجها ، والأول أقيس ، ولو قيل : ابن من الغزو مثل احمرّ لقيل : اغزوى كما قيل ارعوى ، وكذا جميع ذوات الثلاثة التي ياؤها في موضع الواو جارية هذا المجرى ، انتهى كلامه.

الأصل في (مهيمن) : في (التعليقة على المقرّب) للشيخ بهاء الدين بن النحاس :

قال المبرد : بلغني أنّ ابن قتيبة قال : إنّ مهيمنا تصغير مؤمن ، والهاء بدل من الهمزة ، فوجّهت إليه أن اتّق الله ، فإنّ هذا خطأ يوجب الكفر على من تعمّده وإنّما هو مثل مسيطر.

__________________

(١) انظر شرح الشافية (٣ / ١٩٣).

١٣٣

القول في فاضت نفسه وفاظت

قال صاحب (المغرب) (١) : قال الحميدي في (جذوة المقتبس) : قال لي أبو محمد علي بن أحمد : كتب الوزير أبو الحسن جعفر بن عثمان المصحفيّ إلى أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي اللغوي كتابا فيه «فاضت نفسه» بالضاد ، فجاوبه الزبيدي بمنظوم بيّن له فيه الخطأ دون تصريح ، وهو : [المنسرح]

قل للوزير السّنيّ محتده

لي ذمّة منك أنت حافظها

عناية بالعلوم معجزة

قد بهظ الأوّلين باهظها

يقرّ لي عمرها ومعمرها

فيها ونظّامها وجاحظها

قد كان حقّا قبول حرمتها

لكنّ صرف الزّمان لافظها

وفي خطوب الزمان موعظة

لو كان يثني النفوس واعظها

إن لم تحافظ عصابة نسبت

إليك قدما فمن يحافظها

لا تدعن حاجتي مطرّحة

فإنّ نفسي قد فاظ فائظها

فأجابه المصحفيّ : [المنسرح]

خفّض فواقا فأنت أوحدها

علما ونقّابها وحافظها

كيف تضيع العلوم في بلد

أبناؤه كلّهم يحافظها

ألفاظهم كلّها معطّلة

ما لم يعوّل عليك لافظها

من ذا يساويك إن نطقت وقد

أقرّ بالعجز عنك جاحظها

علم ثنى العالمين عنك كما

ثنى سنا الشمس من يلاحظها

وقد أتتني فديت شاغلة

للنّفس أن قلت : فاظ فائظها

فأوضحنها تفز بنادرة

قد بهظ الأوّلين باهظها

فأجابه الزبيدي وضمّن شعره الشاهد على ذلك : [الطويل]

أتاني كتاب من كريم مكرّم

فنفّس عن نفس تكاد تفيظ

فسّر جميع الأولياء وروده

وسيء رجال آخرون وغيظوا

لقد حفظ العهد الذي قد أضاعه

لديّ سواه والكريم حفيظ

وباحثت عن فاظت وقد قيل : قالها

رجال لديهم في العلوم حظوظ

روى ذاك عن كيسان سهل وأنشدوا

مقال أبي الغيّاظ وهو مغيظ

__________________

(١) الخبر غير موجود في كتاب المغرب في حلى المغرب.

١٣٤

وسمّيت غيّاظا ولست بغائظ

عدوّا ولكنّ الصّديق تغيظ

ولا رحم الرحمن روحك حيّة

ولا هي في الأرواح حين تفيظ

مسألة في تذكرة أبي حيان : [الرمل]

كيف يخفى عنك ما حلّ بنا

أنا أنت القاتلي أنت أنا

أنا الأول مبتدأ ، وأنت الأول مبتدأ ثان ، والألف واللام لأنا وقاتلي لأنت ، فقد جرى اسم الفاعل صلة على الألف واللام التي هي أنا ، فأبرز ضميره وهو أنت ، فأنت يرتفع بقاتلي ، وأنا خبر عن الألف واللام ، وهي وما بعدها خبر عن أنت الأول ، وهو وما بعده خبر عن أنا الأول ، والعائد إلى أنا الأول أنا الثاني ، وإلى أنت الأول أنت الثاني والياء في قاتلي عائدة على الألف واللام ، وموضع أنت الثاني وما بعده رفع لأنه خبر مبتدأ ، وموضع الألف واللام رفع لأنه خبر المبتدأ الذي هو أنا ، وأنت فاعل قاتلي ، وأنا خبر عن الألف واللام ، وقال ابن بري : فيه وجهان :

أحدهما : أن يجعل الألف واللام لأنا ، والفعل لأنت ، فأنا مبتدأ وأنت مبتدأ ثان ، والقاتلي مبتدأ ثالث لأنه غير أنت ، إذ الألف واللام لأنا ، والعائد على الألف واللام الياء في قاتلي لأنها أنا في المعنى ، وأنت فاعل بالقاتلي أبرزه لمّا جرى على غير من هو له ، إذ الألف واللام لأنا والفعل لأنت ، وأنا خبر القاتلي ، والقاتلي وخبره خبر أنت وأنت وخبره خبر أنا.

والثاني : أن تكون الألف واللام والقاتلي لأنت ، فأنا على هذا مبتدأ وأنت مبتدأ ثان ، والقاتلي خبر أنت ، ولا يبرز الضمير فيه لأنه جرى على من هو له ويكون الكلام قد تم عند قوله : القاتلي ، ويكون أنت أنا على طريقة المطابقة للأوّل ، ليكون آخر الكلام دالّا وجاريا على أوّله ، ألا تراه قال في أول الكلام : أنا أنت؟ ولهذا قال في آخره : أنت أنا ، أي : كيف أشكو ما حلّ بي منك وأنا أنت وأنت أنا؟ فإذا شكوتك فكأنما أشكو نفسي ، قال : ولو جعلت الألف واللام والفعل في هذه المسألة لأنا لقلت : أنا أنت القاتلك أنا ، فأنا مبتدأ وأنت ثان والقاتلك ثالث لأنه غير أنت ، وفيه ضمير يعود على الألف واللام التي هي أنا في المعنى ، ولم يبرز الضمير الذي في القاتلك ، والقاتلك وخبره خبر أنت وأنت وخبره خبر أنا. قال السّخاوي في (سفر السعادة) : هذا البيت وضعه النحاة للتعليم.

المسائل التي جرت بين السهيليّ وابن خروف رحمهما الله تعالى

منقولة من تذكرة الشيخ تاج الدين بن مكتوم

ذكر بعض الناس محجورين في عقد له يتضمّن ذكورا وإناثا ، فاحتاج في خلال

١٣٥

العقد إلى ذكره أنثى منهم ، فقال : إحدى المحجورين ، فمنع من ذلك السهيلي وقال : قول الشاعر : [السريع]

٤٣٨ ـ [إنّي أتيحت لي يمانية]

إحدى بني الحارث [من مذحج]

هو كقول النابغة : [البسيط]

٤٣٩ ـ إحدى بليّ [وما هام الفؤاد بها

إلا السّفاه وإلّا ذكرة حلما]

وقول الآخر :

إحدى ذوي يمن

 ...

وليس في شيء منها شاهد لمن زعم أنّه يجوز إحدى المسلمين وأنت تعني مسلما ومسلمة أو إحدى المسلمين وأنت تعني مسلمة ومسلمين ، لأنّ الجمع الذي على حدّ التثنية هو بمنزلتها ، ولو جاز أن تقول في حمار وأتان : هذه إحدى الحمارين ، وما تقدّم من الأبيات إنما هو على حذف مضاف ، كما قال الله تعالى : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] ، فأنّث لأنه أراد عشر حسنات ، ولو قال أيضا : هي أحد قريش أو أحد بليّ لم يمتنع ، وأمّا الذي لا بدّ فيه من لفظ أحد فما تقدّم من قوله : أحد المسلمين وأنت تعني مسلما ومسلمة ، وقولك : أحد المسلمين وأنت تعني كذلك ، وشاهد ذلك قوله عليه السّلام للمتلاعنين : «أحدكما كاذب فهل من تائب» (٣) ، ولو كانوا ثلاثة لقيل : أحدهم امرأة لأنّ لفظ التذكير قد شملهم ، فحكم الجزء إذا حكم الكلّ ، ولا سيما إذا كان ذلك الجزء لا يتكلّم به إلا مضافا والأصل في هذا النفي العام ، تقول : ما في الدار أحد ، فيقع على الذكر والأنثى ، وإنّما قالت العرب : أحد الثلاثة لأنك أردت معنى النفي ، كأنّ المعنى : لا أعيّن أحدا منهم دون آخر ، ويدلّ أيضا على ذلك أنّ تغليب المذكر على المؤنث وتغليب من يعقل على ما لا يعقل باب واحد ، وتغليب المذكر أقوى في القياس ، لأنّ لفظ المذكر أصل ثم يدخل عليه التأنيث ، وليس كذلك لفظ من يعقل ، وقد تعدّى تغليب من يعقل الجملة إلى جزئها ، قال الله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) [النور : ٤٥] لما كان جزءا من الجملة التي غلّب فيها من يعقل في قوله تعالى : «فمنهم» ، وإذا جاز هذا هنا فأحرى أن يجوز في أحد الأربعة أوجه :

أحدها : أنّ أحدا يقع على الذكر والأنثى ، لكونه في معى النفي كما تقدم في قولك : أحد الثلاثة.

__________________

٤٣٨ ـ الشاهد للعرجي في ديوانه (ص ١٧) ، والأغاني (١ / ٣٧٩) ، والخزانة (٢ / ٤٢٩).

٤٣٩ ـ الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه (ص ٦١) ، والدرر (٦ / ٢٠٠) ، وهمع الهوامع (٢ / ١٥٠).

(١) أخرجه البخاري في صحيحه (٤ / ص ١٧٧٢) ، والمستدرك على الصحيحين (٢ / ٢٢٠).

١٣٦

والآخر : أنّ تغليب المذكر أقوى من تغليب من يعقل ، لأنّ المذكر والمؤنث جنس واحد ، بل نوع واحد تميّز أحدهما بصفة عرضيّة ، ألا ترى أنّه لا يسبق إلى الوهم تحليل الخنزيرة الأنثى من ذكر في القرآن مذكرا؟ وما لا يعقل مخالف لجنس من يعقل.

والثالث : أنّ المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد.

والرابع : أنّ أحدا مع أنّه مضاف لا يستعمل منفصلا ، لا يقال : هذه المرأة إحدى ، ولا رجل أحد.

قال ابن خروف : «إحدى المحجورين» صحيح يعضده السّماع والقياس ، قال تعالى : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) [الأعراف : ٣٨] ، فجمع بين تذكير وتأنيث في مضاف ومضاف إليه وهو بعضه وإحدى المحجورين أحرى لأنّ تأنيث الآية غير حقيقي ، ويشبهه قوله سبحانه : (هِيَ حَسْبُهُمْ) [التوبة : ٦٨] ، وقوله (١) : [البسيط]

[يا أيّها الراكب المزجي مطيّته

سائل بني أسد] ما هذه الصّوت

وقوله : [الرجز]

٤٤٠ ـ [أرمي عليها] وهي فرع أجمع

فذكّر بعض الجملة وأنّث بعضا ، وهما جميعا شيء واحد ، ومن ذلك قولهم :

أربعة بنين وثلاثة رجال ، فأنّثوا المضاف والمضاف إليه مذكر وقالوا في أربعة رجال وامرأة : خمسة ، فإذا أشاروا إلى المرأة قالوا : خامسة خمسة ، وممّا يدلّ عليه أنّا وجدنا العرب راعت المعنى المؤنث ولم تراع اللفظ المذكر في كثير من كلامها ، قال : [الطويل]

٤٤١ ـ [إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفه]

تقول : هزيز الرّيح مرّت بأثأب

وقوله (٤) : [الكامل]

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٢٩).

٤٤٠ ـ الرجز لحميد الأرقط في شرح شواهد الإيضاح (ص ٣٤١) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٥٠٤) ، وشرح التصريح (٢ / ٢٨٦) ، وبلا نسبة في ديوان الأدب (١ / ١١٨) ، وإصلاح المنطق (ص ٣١٠) ، وأوضح المسالك (٤ / ٢٨٦) ، وخزانة الأدب (١ / ٢١٤) ، والمخصص (١ / ١٦٧) ، ومقاييس اللغة (١ / ٢٦) ، وشرح عمدة الحافظ (ص ٥٧٦) ، والخصائص (٢ / ٣٠٧) ، والأزهيّة (ص ٢٧٦).

٤٤١ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ٤٩) ، وشرح التصريح (١ / ٢٦٢) ، ولسان العرب (هزز) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٤٣١) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٢ / ٧١).

(٢) مرّ الشاهد رقم (١٣٤).

١٣٧

[لما أتى خبر الزبير] تواضعت

سور المدينة [والجبال الخشّع]

ومثله كثير ، فهذا ونحوه روعي فيه المعنى ، فهو أشدّ ممّا نحن بصدده ، وإحدى بليّ وأمثاله لا يحتاج فيه إلى حذف مضاف كما زعم السهيلي ، لكن لمّا كانت قبائل تجمع الذكور والإناث جاز ذلك فيها ، وإجازته «هي أحد قريش» و «هي أحد بليّ» عطف ولو قيل أحد المحجورين على قوله سبحانه : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [الأحزاب : ٣٢] لم يجز لأنه في الآية الكريمة بعد النفي ، والمراد به نفي العموم ثم بيّن بقوله : «من النساء» ، وأمّا استشهاده بقوله في المتلاعنين : «أحدهما كاذب» فغفلة ، لأن المقصد هنا أحدهما لا بعينه ، ولو عنى المؤنث لأنّث ، فهو كقوله سبحانه : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) [الإسراء : ٢٣] ، ومنع من إفراد أحد وإحدى وقد قال سبحانه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] وقالوا : أحد وعشرون وإحدى وعشرون ، وقوله : «لا يسبق إلى وهم أحد تحليل الخنزيرة الأنثى» قد ذهب إلى ذلك طوائف من أهل الفساد ، ولم يدلّ عندنا على تحريمها إلّا فحوى الخطاب وكون الألف واللام للجنس.

قال السهيليّ : لا دليل في قوله سبحانه : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) لأنّه لم يجتمع في الآية مؤنث ومذكر فغلّب المذكر ، يعني أنّ آحاد الأمم مؤنثات من حيث الأمم جمع أمة ، وليس في جمع أمة على أمم نقل مؤنث إلى مذكر ، ولكنّ هذا هو باب جمع هذا المؤنث ، فإذا قلت أخراهم فلم ينقص كما فعلته في إحدى المحجورين ، لأنك في إحدى المحجورين نقلت مؤنثا إلى مذكر ، وجعلت محجورة محجورا كأنّه شيء محجور ، فإذا فعلت ذلك فواجب عليك أن تقول أحد من حيث قلت فيه محجور ، وقد يتعقب هذا بأنّ ضميرهم ضمير مذكرين نساء ورجالا بلا شك ، فوجب الجمع بين إحدى المحجورين وبين أخراهم أنّ لفظ هم لم يستعمل حتى صيّر من كان ينبغي أن يقال فيه هي يقال فيه هو كما نقلت محجورة إلى محجور فانظره ، وأيضا فإنّ أولى وأخرى قد تستعملان منفصلتين بخلاف إحدى ، وقوله سبحانه : (هِيَ حَسْبُهُمْ) وقول الشاعر (١) :

وهي فرع أجمع

لا دليل فيهما ، وليسا في شيء ممّا نحن بصدده ، بل يشبهان قولك : هي أحد المسلمين ، فإنّا نقول هي ثم نقول أحد ، وقوله سبحانه : (هِيَ حَسْبُهُمْ) كقولك : امرأة عدل ، وقوله : «وهي فرع» كقولك للمرأة إنسان ، وأمّا قوله : «ما هذه الصوت»

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٤٠).

١٣٨

فلا حجة فيه ، وليس ممّا نحن فيه في شيء ، وإنّما اضطرّ فأنّث لإرادة الصيحة ، واستدلالة أيضا بثلاثة بنين وأربعة رجال ليس من الباب في شيء ، واستدلاله بخامسة خمسة كذلك ، لأن خامسة من باب اسم الفاعل كقائمة وقاعدة ، واسم الفاعل يجري على أصله إن كان لمذكر فهو مذكر وإن كان لمؤنث فهو مؤنث ، فقولك : خامسة خمسة كقولك : ضاربة الرجل.

قال ابن خروف في هذا : إذا كان اسم الفاعل ينبغي أن يجري على أصله فكذلك أحد وإحدى واللّبس الذي كان يدخل في اسم الفاعل لو لم يؤنث هو اللّبس الذي يدخل في إحدى.

قال السهيلي : وأمّا استشهاده بنحو «هزيز الريح» والأبيات التي أنشدها سيبويه فلا حجّة في شيء من ذلك ، وأما قوله : «وإحدى بليّ» وأمثاله لا يحتاج إنّما قصدت أنّه لا يلزم غير وجود إحدى بليّ أن تقول : إحدى المحجورين ، فإنّ بينهما فرقا وهو أنّ المحجورين لا يشتمل على جملة نساء كما يشتمل عليها القبيلة.

وأمّا ردّه عليّ في قوله عليه السّلام : «أحدهما كاذب» فهذيان لأنّي لم أستشهد بالحديث إلّا على تغليب المذكر خاصّة ، وأمّا ردّه المنع من إفراد أحد وإحدى واستشهاده بقوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فليست الآية مما نحن فيه ، وأمّا قوله : قد ذهب إلى تحليها دون الذّكور طوائف من الفسّاد فتعقب سخيف ، انتهى.

قال ابن الحاج : وردّ ابن خروف هذه الفصول كلّها بما لا يشفي وأبان أنه لم يفهم عن السهيلي شيئا ، ولم يذكر ابن الحاج الردّ.

مسألة

مناظرة بين ابن خروف والسهيلي

«أكل كلّ ذي ناب من السّباع حرام» (١) قال ابن خروف : للسهيلي في هذا الحديث من سوء التأويل والهذر والافتيات على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما لا خفاء به ، أعاذنا الله مما ابتلي به ، وإنّها لزلّة عظيمة يجب استتابة قائلها ، وذلك أنّه قال : يجوز أن يحمل الحديث على أصل رابع وهو المضارعة ، فإنّ الله تعالى إذا حرّم شيئا حرّمت الشريعة ما يضارعه ، كما حرم ما يضارع الزنا مضارعة قريبة وكره ما يضارعه من بعد ، كالنظرة والقعود في موضع امرأة قامت عنه حتى تزد ، روي ذلك عن عمر رضي الله عنه ، والتلذذ بشم طيب على امرأة ، ونظائر كثيرة ، فلمّا حرّم الله

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ (٢ / ٢٥) ، والنسائي في سننه (٢ / ٢٠٠).

١٣٩

الخنزير حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يضارعه ويشاركه في النّاب والصّفة الخنزيرية ، فحرّم الله سبحانه الأصل وحرم رسوله الفرع ، والكلّ من عند الله ، كما حرم الله الجمع بين الأختين ، وحرم رسول الله الجمع بين العمة وابنة أخيها وبين الخالة وابنة أختها ، وبين العمتين والخالتين بناء منه عليه السّلام على الأصل الثابت في كتاب الله تعالى والتفاتا إليه ، كذلك حرم كل ذي ناب بناء على الأصل الثابت من تحريم الخنزير استنباطا منه ونظرا إليه.

قال ابن خروف : هذا الرجل يخبر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يحرم شيئا بالاستنباط من غير أن يؤمر بتحريمه ، وقوله : «والكل من عند الله» كلام ملغى إذ لا يجتمع مع ما قبله ولرسول الله صلّى الله عليه وسلّم البراءة والتنزيه مما نسب إليه.

قال السّهيليّ : ما أجهل هذا الجاهل حيث ينكر ما لا ينكره أحد ، وهو مسطور في (مختصر الطليطلي) ، لأن مؤلفه ذكر أنه صلّى الله عليه وسلّم يستنبط الشرائع ، وهذا الجاهل من جفاة المقلدين فليقنعه على طريقة التقليد كلام الطليطلي ، واستنباط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صحيح لا يدفع في ثبوته ، ولا ينكره إلّا جلف جاف ، وكلّ ما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم مما لم ينطق به القرآن وإن كان متضمنا لكل شيء فهو على هذا المنحى ، وإذا لم يستنبط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمن ذا يستنبط؟

مسألة

بين السهيلي وابن خروف

قال السّهيليّ في قوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) [المائدة : ٦٠] الألف واللام يدّلان على معنى الاتّعاظ والاعتبار ، وفهم ابن خروف عنه أنه يثبت للألف واللام معنى ثالثا أو رابعا ، وهو معنى الاتعاظ ، فردّ عليه بأنّه قال ما لم يقله أحد.

قال السّهيليّ رادّا عليه : إنما أردت أنّ الله سبحانه لمّا خاطب أهل الكتاب بهذا ، فأشار إلى الجنس المعروف من القردة والخنازير التي مسخ من سلف من الأمم على هيئتها وصورتها لم يكن بدّ من الألف واللام الدّالتين على تعيين الجنس حين دخل الكلام معنى الاتعاظ والاعتبار والتخويف ، ولو قال قردة وخنازير لم يكن فيه ذلك.

مسألة

لابن العريف يبلغ وجوه إعرابها أكثر من ألفي ألف وجه

مسألة من تخريج ابن العريف تبلغ من وجوه الإعراب ألفي ألف وجه وسبعمائة ألف وجه وأحدا وعشرين ألف وجه وستمائة وجه ، وهي هذه : «ضرب الضّارب

١٤٠