الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٦٤

تنكّبت التعجب منه وتعجبت من الزيادة التي لم تسألني التعجب منها لأنه لا يجوز التعجب منه إذ كان مفعولا ، قلنا : ولم لا جاز ذلك ، وصرت في هذا إذا سألتك لا تتعجب منه تعجبت من غيره وهي الزيادة؟ فقلت : قد أجبناك فيما مضى من الكلام لم لا يجوز أن يتعجب منه ، فليس لإعادتنا إيّاه معنى ، قال : وقد نقضت العلة التي اعتللت بها في منع الجواز أنه مفعول ، وأريناك أن ذلك فاسد ، فإن كانت عندك زيادة فزد ، قلت : هذه المطالبة محال أن يتعجب من المفعول بما بيّنّا من أنّ المفعول لا يتعجّب منه ، فيجب على من أنكر هذا أن يتعجب من المفعول ، فكأنّه يجعل المفعول مفعولا ، وهذا محال ، فقال : نحن إذا قلنا : اجعل الفاعل مفعولا ساغ لنا ذلك في الفاعل إذا تعجبنا منه ، ولم يكن في الأصل مفعولا كان ذلك جائزا فيما قام مقامه ، وهو ما لم يسمّ فاعله ، وإلّا لم يكن في موضعه ولا في مقامه ، قلت : هو وإن قام مقامه في أنّا نحدّث عنه كما نحدّث عن الفاعل فنحن نعلم أنّه مفعول في الأصل ، فكيف يقال : أقمه مقام المفعول؟ وأيضا فإن أقمناه مقام المفعول فإنّ الفاعل هو المحدث للفعل ، وليس كذلك ما يقوم مقامه ، فقال : قد لزمك بهذا القول أن لا تتعجب منه على حال من الأحوال بزيادة ولا بغير زيادة ، فإنك إن زدت فيه فهو مفعول في الحقيقة ، اللهمّ إلّا أن تكون تزعم أنّك لم تتعجب منه البتّة وإنما تعجبت من غيره ، ونحن لم نسألك عن التعجب من غيره ، قلت : هذا الذي ألزمتنيه من قولك : «فقد لزمك بهذا القول أن لا تتعجب منه على حال من الأحوال بزيادة ولا بغير زيادة» بيّن بعضه أنّه لا يجوز أن تقول : ما أحمر زيدا ، فإذا زدت فيه وقع التعجب منه ، فقلت : ما أشدّ حمرة زيد ، فقال : أما تشبيهك أحمر ونحوه بباب الثلاثي فإنّه خطأ ، وذلك أنهم قد أجمعوا على أنّ الثلاثيّ يتعجب منه بلا زيادة ما لم يكن لونا ولا خلقة ، وذلك أن الخليل زعم في قوله : ما أحمر زيدا ، وما أشبهه أنّهم لم يتكلموا به لأنّه صار عندهم بمنزلة اليد والرّجل ، لأنّك لا تقول : ما أيداه ولا أرجله ، فخالف باب الثلاثي لهذه العلة ، فقد بان بقول الخليل الفرق بين هذين ، وشبّهت بين شيئين غير مشتبهين ، قلت : هذا الكلام فيه تطويل ، لأني إنما شبّهته بالألوان من أنهما جميعا لا يجوزان ، وليس يلزمني إذا شبهت به من جهة أن أشبه به من كل الجهات ، فأنا أقول إذا سئلت كيف يتعجب من قولنا : انطلق زيد : لا يجوز ، فقد صار «لا يجوز» في هذا كما لا يجوز «ما أحمر زيدا» ، فهل يلزمني أن أكون شبّهت اللّون بغير اللّون ، وأنا إنما شبهته به من أنّ هذا لا يجوز كما أنّ هذا لا يجوز؟ ، وأما قوله : «قد أجمعوا على أنّ الثلاثيّ يتعجب منه بلا زيادة ما لم يكن لونا أو خلقة» فاستثناؤه ما لم يكن لونا أو خلقة من أعجب الكلام ، لأنه لا يتعجب إلا

١٨١

من الثلاثي أو ممّا يكون أصله الثلاثي وزيد عليه ، مثل أعطى وشبهه وأيضا فإنّه لا يعرف في الألوان فعل ثلاثي ، فكيف يستثنى ما لم يعرف في الكلام؟ وأمّا ما كان خلقة وهو ثلاثي فلم يترك التعجب منه عند الأخفش ، إلّا أن أصله أكثر من الثلاثي ، وذلك عور وحول ، والأصل عنده : اعورّ واحولّ واعوارّ واحوالّ ، فلما رأيناه ثلاثيا ولم ندر ما أصله استثنيناه من الثلاثي ، ولو كان من الثلاثي لما قيل : عور ولا حول ، ولكن يقال : عار وحال ، فتنقلب الواو ألفا لحركتها وانفتاح ما قبلها ، وقولهم : عور وحول يدلّ على أنّ أصله اعوارّ واحوالّ واعورّ واحولّ ، والذي نقول في هذا : إنه لم يتعجب منه وهو ثلاثي لا يعرف أصله ، وهذا القول مشهور من قول الأخفش.

قال : أما قولك : إنه استثنى اللون والخلقة من الثلاثي إنه من أعجب العجب ، فليس ذلك بعجب ، لأني إنما استثنيت ذلك من الثلاثي لأنه قد يأتي شيء بمعنى الخلقة يكون فعله ثلاثيا ، كقولك : عور الرجل ، فاستثنيت ذلك لهذه العلة.

وأما قولك : «انطلق زيد لا يجوز أن يتعجب منه» فهذا نقض لما قدمته ، وذلك أنّك ذكرت أن الفاعل يتعجب منه ، وجعلت ذلك علة التعجب منه ، وهو أنه فاعل ، وجعلت علة الامتناع من التعجب أن يكون مفعولا ، فقد لزمك أن تتعجب من زيد في قولك : انطلق زيد ، قلت : قوله : «إنما استثنيت من الثلاثي لأنّه قد يأتي شيء بمعنى الخلقة يكون فعله ثلاثيا كقولك : عور الرجل» يدلّ على أنّه لا يدري ما أصل عور ، وقد بيّنا أنّ أصله عند النحويين اعورّ واعوارّ ، وإنكاره منعنا أن نتعجب من «انطلق زيد» فهذا شيء قد أجمع النحويون على منعه إلّا بزيادة ، فما معنى إنكاره ما أجمع النحويون عليه؟

وأما قولك : إنك ذكرت أن الفاعل يتعجب منه وجعلت ذلك علة للتعجب منه وهو أنّه فاعل فنحن لم نقل : إنا تعجّبنا منه لأنّه فاعل ، وإنما قلنا : إنه لا يتعجب من المفعول وبيّنا لم ذلك ، وأمّا الفاعل فإنّه يتعجب منه في أكثر المواضع ، وإنما منع الفاعل في قولك : انطلق زيد أن يتعجب منه لأنّ الفعل قد جاوز ثلاثة أحرف ، فلا يجوز أن ينقل إلّا بزيادة ، نحو قولك : ما أكثر انطلاق زيد وما أشبهه.

قال محمد بن بدر النحوي : أعطى أبو جعفر علة قياسية في التعجب فقال : إنما معنى التعجّب أن أجعل الفاعل مفعولا ، ونحن نجعل الفاعل مفعولا ثم لا يكون تعجبا ، نحو : أقمته وأجلسته ، ونجد معنى التعجب والفاعل موجود ، كقولنا : جلّ الله وعزّ الله على معنى : ما أجلّ الله وما أعزّه ، لا على معنى الخبر بأنه صار جليلا ولا بأنه صار عزيزا ، وهكذا عظم شأنك وعلت منزلتك إذا لم ترد الخبر ، قال الله تعالى :

١٨٢

(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) [الكهف : ٥] وقال تعالى : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٣] ، وقال ساعدة : [الكامل]

٥٠٨ ـ هجرت غضوب وحبّ من يتغضّب

[وعدت عواد دون وليك تشعب]

أي : ما أحبّها متغضبة.

وقال الشاعر : [البسيط]

٥٠٩ ـ لم يمنع النّاس منّي ما أردت ولا

أعطيتهم ما أرادوا حسن ذا أدبا

أي : ما أحسن هذا أدبا ، ومما حكاه النحويون من اللفظ ومعناه التعجب : سبحان الله ولا إله إلا الله ، ولله درّه ، ولله أنت ، وبالله ، ولله ، وأنشد سيبويه (١) : [البسيط]

٥١٠ ـ لله يبقى على الأيّام ذو حيد

بمشمخرّ به الظّيّان والآس

وقال : هذا الرجل تعجب ، ويا للماءّ تعجّب ، وأنشد : [الطويل]

٥١١ ـ كخطّاب ليلى يا لبرثن منكم

أدلّ وأمضى من سليك المقانب

وأعطى علة أخرى ماشية فقال : لا يتعجب مما لم يسم فاعله لأنّه لا فاعل فيه ، ويبطل هذه العلة قول العرب في «جنّ زيد» : «ما أجنّه» وما أعتهه وما أشبه ذلك.

وأما قوله : «أجمعوا على أن الثلاثي يتعجب منه بلا زيادة ما لم يكن لونا أو

__________________

٥٠٨ ـ الشاهد لساعدة بن جؤية في شرح أشعار الهذليين (٣ / ١٠٩٧) ، ولسان العرب (حبب) و (شعب) و (غضب) و (ولى) ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة (ص ٥٩٩) ، وخزانة الأدب (٩ / ٤٢٩) ، وشرح المفصّل (٧ / ١٣٨) ، ولسان العرب (عدا).

٥٠٩ ـ الشاهد لسهم بن حنظلة في الأصمعيات (ص ٥٦) ، وخزانة الأدب (٩ / ٤٣١) ، ولسان العرب (حسن) ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق (ص ٣٥) ، وتذكرة النحاة (ص ٥٩٩) ، والخصائص. (٣ / ٤٠).

٥١٠ ـ الشاهد لأبي ذؤيب الهذلي في شرح شواهد الإيضاح (ص ٥٤٤) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٥٧٤) ، ولسان العرب (ظين) ، ولمالك بن خالد الخناعي في جمهرة اللغة (ص ٥٧) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٤٩٩) ، وشرح أشعار الهذليين (١ / ٤٣٩) ، وبلا نسبة في الجنى الداني (ص ٩٨) ، وجواهر الأدب (ص ٧٢) ، والدرر (٤ / ٢١٥) ، ورصف المباني (ص ١١٨).

٥١١ ـ الشاهد لقران أو (لفرار) الأسدي في الأغاني (٢٠ / ٣٥٤) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٦٠٤) ، ولسان العرب (سلك) ، ومعجم الشعراء (ص ٣٢٦) ، وللمجنون في ديوانه (ص ٦١) ، ولسان العرب (برثن) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٣٧٤) ، وشرح المفصّل (١ / ١٣١) ، والمقرّب (١ / ١٨٣).

١٨٣

خلقة ، فاستثناؤه ما لم يكن لونا ولا خلقة من أعجب الكلام» : «لأنه لا يتعجب إلا من الثلاثي أو ما يكون أصله الثلاثي ثم زيد عليه مثل : أعطى» وليس في قوله : «إنما يتعجب من الثلاثي» دليل على أنه أراد : لا يتعجب إلا من الثلاثة ، ألا ترى أن قائلا لو قال : إنما صلاة الظهر أربع ، لم يكن في قوله دليل على أنّ غيرها من الصّلوات لا يكون أربعا ، أو قال : إنّما في الرقة ربع العشر ، لم يكن هذا دليلا على أنّ غير الرقة لا يكون فيه ربع العشر.

قال السخاوي : لا يخفى على العلماء ميل هذا الرجل وحيفه على أبي جعفر وتخليطه فيما يتكلّم به ، ألا تراه يقول : وليس في قوله : «إنما يتعجب من الثلاثي دليل على أنه أراد لا يتعجب إلّا من الثلاثة» ظنّا منه أن هذا كلام أبي العباس ، وأخذ في الجواب عنه ، وهذا إنّما هو كلام أبي جعفر ، وأما أبو العباس فإنما قال : قد أجمعوا على أنّ الثلاثي يتعجب منه بلا زيادة ما لم يكن لونا أو خلقة ، فأنكر عليه أبو جعفر استثناءه اللّون والخلقة من الفعل الثلاثي لأنّ الألوان ليس فيها فعل ثلاثي ، ولو قال أبو العباس : إنما يتعجب من الثلاثي لانحصر التعجب في الثلاثي ، وليس هذا كقوله : إنما صلاة الظهر أربع ، إنما ذلك لمن يمنع أن تكون أقلّ من أربع أو أكثر ، وقوله : أعطى أبو جعفر علة قياسية في التعجب ، فقال : إنما معنى التعجب أن أجعل الفاعل مفعولا قال : ونحن نجعل الفاعل مفعولا ثم لا يكون تعجبا ، نحو : أقمته وأجلسته ، وهذا لا يلزمه ، لأنّه لم يقل : لا يصير الفاعل مفعولا إلا في التعجب ، إنما قال : إن قولك : ما أحسن زيدا ، أخرجت فيه الفعل الذي كان لازما فجعلته متعديا ، وكان الأصل : حسن زيد ، فصار فاعل حسن مفعول أحسن ، وما أورد عليه من الكلمات التي معناها التعجب لا يرد عليه ، لأنّه إنّما يتكلم في التعجب المبوّب له ، ألا ترى أنّ من تكلّم في باب التأكيد لا يرد عليه ما يجيء فيه معنى التأكيد من (إنّ) واللام وما أشبه هذا.

ثم قال محمد بن بدر : وقوله مثل «ما أعطى» و «وما أشبهه» ركاك في العبارة ، كما قال : لا يجوز التعجب من قولنا : انطلق زيد كما لا يجوز «ما أحمر زيدا» ، فهلّا قال : لا يجوز كما لا يجوز أن يصلّى الظهر ثلاثا ولا المغرب أربعا فإنه أظهر.

قال السخاوي : وأين هذا من ذاك؟ إنما شبه ممتنعا في التعجب بممتنع فيه ، وإنه يتعجب من القبيلين بأشدّ ونحوه.

ثم قال محمد بن بدر : على أن بعض النحويين قال : لا يجوز التعجب من أفعل إلّا على شريطة. قال : وأمّا قوله : «أيضا فلا يعرف في الألوان فعل ثلاثي» فقد

١٨٤

قال سيبويه : «أدم يأدم أدمة وأدم يأدم وشهب يشهب وشهب يشهب شهبة ، وقهب يقهب قهبة وكهب يكهب كهبة وصدأ يصدأ صدأة وسود يسود» ، وأنشد لنصيب : [الطويل]

٥١٢ ـ سودت فلم أملك سوادي وتحته

قميص من القوهيّ بيض بنائقه

وقال غيره : ذرئت عينه ذرأ ، والذّرأة : البياض ، وقال الراجز : [الرجز]

٥١٣ ـ وقد علتني ذرأة بادي بدي

ورثية تنهض في تشدّدي

وقال الشاعر : [الطويل]

٥١٤ ـ لقد زرقت عيناك يابن مكعبر

كما كلّ ضبّيّ من اللّؤم أزرق

وأما قوله : إنما ترك الأخفش التعجب في عور وحول لأنّ أصله اعورّ واحولّ فخلاف ما عليه أهل العلم ، لأنّهم مجمعون على أنّ الأصل الثلاثي ، وما فيه زيادة فرع ، فحول أصل لاحولّ واحوالّ ، قال سيبويه : «وأمّا الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء» فضرب واستضرب مأخوذان من الضرب ، لا أنّ ضرب من استضرب ولا استضرب من ضرب.

قال السخاوي : وهذا لا يلزم أبا جعفر لأنّه ردّ على الأخفش لا عليه ، وإنما يلام لو نقل عن الأخفش ما لم يقل ، وأيضا فإن ما ذكره عن سيبويه لا يلزم منه تخطئة الأخفش فيما ذهب إليه ، لأنه لم يقل : إن عور مأخوذ من اعورّ واعوارّ ، ولا إن حول مأخوذ من احولّ واحوالّ ، وإنما قال : إنه في معناه ، فكما لم يتعجب من ذلك لم يتعجب من هذا.

ثم قال محمد بن بدر : وأما قوله : «لو كان من الثلاثي لما قيل : حول وعور ولقيل : حال وعار بالقلب» فليس كما توهم ، وإنما صحت الواو لأنهم أرادوا بحول

__________________

٥١٢ ـ الشاهد لنصيب في ديوانه (ص ١١٠) ، وتاج العروس (سود) و (قوه) ، والأغاني (١ / ٣٣٣) ، والخصائص (١ / ٢١٦) ، والكتاب رقم (٩٣٨) ، وشرح المفصّل (٧ / ١٥٧) ، ولسان العرب (نبق) و (قوه) ، وبلا نسبة في كتاب العين (٥ / ١٨٠) ، وتاج العروس (نبق).

٥١٣ ـ الرجز لأبي نخيلة في لسان العرب (ذرأ) و (نهض) و (بدا) ، والأغاني (٢٠ / ٣٨٨) ، وسمط اللآلي (ص ٤٨٠) ، والمقتضب (٤ / ٢٧) ، والتنبيه والإيضاح (١ / ١٧) ، ولحميد بن ثور في تاج العروس (بدو) و (رثي) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في لسان العرب (بدا) ، والخصائص (٢ / ٣٦٤) ، وديوان الأدب (٤ / ٩) ، وجمهرة اللغة (ص ٦٩٦).

٥١٤ ـ الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (زرق) ، وجمهرة اللغة (ص ٧٠٨) ، والمخصص (١ / ١٠٠) ، وتاج العروس (زرق).

١٨٥

من المعنى ما ما أرادوا باحولّ ، فأجروه مجراه لا أن أصل فعل افعلّ ولا افعالّ ، ألا ترى أنهم قالوا : احتال واعتاد واقتاد بالإعلال ، وإنما أصحوه حين أرادوا معنى ما يصح ، فقالوا : اجتوروا واعتونوا واحتوشوا ، لأنّهم أرادوا معنى تجاوروا وتعاونوا وتحاوشوا ، لا أن أحدهما أصل الآخر ، فهكذا عور وحول ، يدل على هذا أنّهم إذا أرادوا غير هذا المعنى أعلّوه فقالوا : عار زيد عين عمر وسادها ، قال : وأما قوله : «فتقلب الواو لحركتها وحركة ما قبلها» فيلزمه أن يقول في أدلو : أدلا لحركتها وحركة ما قبلها ، والوجه لحركتها وانفتاح ما قبلها ، قال : وأما قول الأخفش فإنما أراد به أنّ افعلّ وافعالّ الأصل في الاستثقال لا أنّ حول مأخوذ منهما ، وهذا قول سيبويه (١) : استغنوا عن حمر باحمرّ كما استغنوا عن فقر بافتقر ، والمستغنى به هو الفرع والمستغنى عنه هو الأصل.

قال السخاوي : قوله : إنّ الأخفش أراد أنّهما الأصل في الاستثقال ، فأيّ استثقال في عور وحول؟ وليس ما قال سيبويه في حمر واحمرّ ، ثم استدرك خطأه فقال : على أنّ افعلّ وافعالّ مطّردان في الألوان ، نحو اسودّ واسوادّ وابيضّ وابياضّ واصفرّ واصفارّ ، إلا أنّ افعلّ أكثر لأنّه الأصل في الاستثقال ، قال : وأمّا حول وعور فمن باب الأدواء لأنّهما عيبان والعيب أشبه بالأدواء ، وليس افعلّ وافعالّ في باب الأدواء كثيرا لا يكادون يقولون في اجربّ : اجرابّ ولا في اجذمّ اجذامّ ، وإنما يجرونه مجرى الداء ، نحو : جرب وضلع وشتر ، وهو أدخل في الداء منه في الألوان ، إلّا أنّهم يشبهون الشيء بالشيء إذا قاربه ، فيقولون : حول وعور وجرب كما قالوا : وجع وضمن وزمن ، ولا تكاد تجد في الألوان اسما على فعل ، فلا يقولون : حمر ولا صفر ولا شهب ، قال : فهذا يقويّ أنّ العيوب مخالفة للألوان التي لا يمتنع فيها افعلّ وافعالّ ، وافعالّ لا يمنع من الألوان لأنه مبنيّ له ، وأمّا العيوب فأقرب إلى الأدواء ، هكذا ذكر سيبويه.

قال محمد بن بدر : إنما لم يتعجبوا من «ضرب زيد» وأشباهه إلّا بالزيادة كراهة أن يلتبس ، ففرّقوا بين التعجب من فعل الفاعل والمفعول ، وذلك أنّهم فرّقوا بين فعل الفاعل وفعل المفعول في غير التعجب ، فأرادوا أن يفرّقوا بينهما أيضا في التعجب ، فلو قالوا في : «ضرب زيد» : ما أضرب زيدا لالتبس فعل الفاعل بفعل المفعول ، فأتوا بالزيادة ليصلوا إلى الفرق بينهما ، فإن قال : فقد قالت العرب في «جنّ زيد» : ما أجنّه ، وهذا يبطل علتك ، قيل له : إن قولهم : ما أجنّه محمول على المعنى ، فاستجازوا فيه ما استجازوا فيما حمل عليه ، ألا ترى أنّ «جنّ زيد فهو

__________________

(١) انظر الكتاب (٤ / ١٤).

١٨٦

مجنون» داخل في حيّز الأوصاف التي لا تكون أعمالا وإنما تكون خصالا في الموصوفين بغير اختيارهم؟ مثل كرم فهو كريم ولؤم فهو لئيم ، خصال لا يفعلها الموصوف ، فهكذا جنّ زيد فهو مجنون ، إنّما هي خصلة في الموصوف لا اختيار له فيها ، فأجرى مجرى رقع فهو رقيع وبلد فهو بليد إذ كان داخلا في معناه ، والدليل على صحة هذا أنّ العرب لا تتعجب من افعلّ ، ولا يقولون : ما أحمره ولا ما أسوده ولا أفطسه ، ويتعجبون من أحمق وأرعن وألدّ وأنوك ، فيقولون : ما أحمقه وما أرعنه وما ألدّه وما أنوكه ، لأنّ أحمق بمنزلة بليد ، وألدّ بمنزلة مرس وأنوك بمنزلة جاهل ، فحملوه على المعنى ، فهكذا جنّ زيد حمل على المعنى ، لأن العرب تشبه الشيء بالشيء ، وتحمل على المعنى إذا وافقه واقترب منه ، فمن ذلك قولهم : حاكم زيد عمر برفع الاثنين جميعا لأنّ كل واحد منهما فاعل ، قال أوس : [الطويل]

٥١٥ ـ تواهق رجلاها يداه ورأسه

لها قتب خلف الحقيبة رادف

وقال القطاميّ : [الوافر]

٥١٦ ـ فكرّت تبتغيه فوافقته

على دمه ومصرعه السّباعا

لأنّ السّباع قد دخلت في المصادفة ، وقال : [الخفيف]

٥١٧ ـ لن تراها ولو تأمّلت إلّا

ولها في مفارق الرّأس طيبا

لأنّ الطّيب قد دخل في الرؤية.

قال السخاوي : إنما قالوا : ما أجنّه لأن جنّ لا فاعل له ، فهو في المعنى تعجّب من الفاعل ، لأنّه لا يقال : جنّه إنما يقال : أجنّه.

قال محمد بن بدر : فإن قال : فقد قالوا : ما أسرّني بكذا وكذا ، وهذا دليل على أنّه يجوز أن يتعجّب من «ضرب زيد» ، قيل له : ليس في هذا دليل يدل على جواز التعجب من ضرب زيد ، لأنه يجوز أن يكون «ما أسرّني» تعجبا من سررت ، ويكون محمولا على ما قدّمنا ذكره في «جنّ زيد» ، فيكون بمنزلة «برّ حجّك فهو مبرور» ، قال : ويجوز أن يكون «ما أسرّني بكذا» تعجبا من سارّ كما يقال : زيد سارّ أي :

__________________

٥١٥ ـ الشاهد لأوس بن حجر في ديوانه (ص ٧٣) ، والكتاب (٣٤٥١) ، وسرّ صناعة الإعراب (٢ / ٤٨٣) ، وسمط اللآلي (ص ٧٠٠) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٢٧٣) ، ولسان العرب (وهق) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٤٢٥) ، والمقتضب (٣ / ٢٨٥).

٥١٦ ـ الشاهد للقطامي في ديوانه (ص ٤١) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ٣٣٠) ، والمحتسب (١ / ٢١٠) ، ونوادر أبي زيد (ص ٢٠٤) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٢٦).

٥١٧ ـ الشاهد لعبيد الله بن قيس الرقيات في ملحق ديوانه (ص ١٧٦) ، وبلا نسبة في الخصائص (٢ / ٤٢٩) ، وشرح المفصّل (١ / ١٢٥) ، والمقتضب (٣ / ٢٨٤).

١٨٧

حسن الحال في نفسه وأهله وماله ، وفرس سارّ ، أي : حسن الحال في جسمه ولحمه ، وضيعة سارّة بمعنى آهلة عامرة ، فيكون سارّ بمعنى قولك : ذو سرور ، ثم يتعجب منه على هذا ، كما قالوا : عيشه راضية أي : ذات رضى ، ورجل طاعم كاس أي : ذو طعام وكسوة ، فيكون «ما أسرني» جاريا على ما قدّمنا غير خارج عمّا رتبنا.

المسألة الثالثة : قال أبو جعفر : كيف تأمر من قوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) [مريم : ٧٩] ومن قوله تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) [البقرة : ٢٥٥]؟ فقال أبو العباس : هاتان مسألتان ، أمّا «إدّا» فلا يؤمر منه ، لأنّه اسم موضوع للدّاهية والأمر العظيم ، قال أبو جعفر : فقد قالت العرب : أدّ يؤدّ فنطقت بالفعل ، ثم صرّفه النحويون فقالوا في الأمر منه : أدّ يا هذا ، بالإدغام والضم والكسر وبالإظهار ، نحو : اودد مثل : اردد ، قال أبو العباس : التصريف فيها دعوى تحتاج إلى برهان ، قال أبو جعفر : لا يحتاج إلى ذلك وقد حكوا لها نظائر من المضاعف ، منها قول أحمد بن يحيى : «تقول : ازرر عليك قميصك وزرّه وزرّه وزرّه ، مثل مدّه ومدّه ومدّه» ، قال أبو العباس : هذه الأشياء لا تصرّف قياسا ، ولا يشبّه بعضها ببعض إلّا بسماع من العرب ، إذ كان هذا لجاز أن نقول : وذر يذر وودع يدع قياسا على قام يقوم وضرب يضرب ، وإنما نصرّف منه ما صرّفت العرب ، ونترك منه ما لم تصرفه العرب اقتداء بها ، قال أبو جعفر : ليس هذا قول أحد من النحويين علمناه ، وذلك أنّه لا يمتنع القياس في شيء من المضاعف على ردّ يردّ ، فنقلو : سنّ يسنّ وأدّ يؤدّ ، كما قلنا ردّ يردّ ، ولو كنا لا ننطق إلا بما نطقت به العرب ولا نقيس على كلامها لبطل أكثر الكلام ، ولا يجوز قياس وذر يذر وودع يدع على المضاعف لأنّه معتل قلّ استعمالهم الماضي فيه لاستثقالهم الواو حتى تبدل ، فيقولون في وحد : احد ، فلمّا استثقلوا الواو وكان «ترك» في معنى ودع ووذر استغنوا عنه بترك وإن كان بعض العرب قد قال : ودع ووذر على القياس فلا معنى لقوله : لجاز أن تقول وذر وودع لأنه قد قيل ، قال أبو العباس : إنّا لم نشبه مضاعفا بمضاعف ، وإنّما أردنا أن نريك أنّ العرب قد تصرّف شيئا وتمنعه في نظيره ، وأمّا قولك : «إن هذا معتل» فليس بالاعتلال منع من أن يبنى له ماض ، مثل وزن يزن ، قال أبو جعفر : هذا الذي ألزمتنيه من أنّي قلت : إنّه لم يبن منه ماض لأنّه معتل غير لازم ، وكلامي يبين خلاف هذا لأني قلت : لم يبن منه ماض لعلة ، فكيف ألزم أنّي اعتللت بأنه لم يقع منه ماض لأنه معتل؟ قال أبو جعفر : ولم يجب عن المسألة الأخرى وهي : «ولا يؤده» ، والجواب أن يقول : أد يا هذا نظير قلّ لأنّ آد يؤد مثل قال يقول.

قال محمد بن بدر : قول أبي العباس : «لا يجوز أن يؤمر من قوله تعالى :

١٨٨

(إدا) لأن العرب لم تبن منه فعلا» الذي عليه عامة أهل العلم ، لأنّ الإدّ وصف غير جار على فعل ، وإنما هو موضوع في كلام العرب للأمر العظيم ، فحكمه حكم الأسماء التي جاءت غير جارية على فعل ، وإذا كان هكذا لم يجز أن يبنى منه فعل من حيث إنّ الأسماء ليست مأخوذة من الأفعال وإنما الأفعال تصدر عنها ، ولو كانت الأسماء كلها مشتقة لارتفع أن يكون في الكلام اسم البتة ، والدليل على هذا أنّه ليس أحد من العرب ولا من العلماء يجيز أن يأمر من صاع وفرس ولا من جعفر وحبرج (١) وضفدع ، ولا من الأوصاف التي ليست بجارية على فعل ، نحو خود وبكر ولصّ وسلهب وعرطل وجعشم (٢) لأنّ هذه الأسماء غير جارية على فعلها ، يدل على أنّ من الأوصاف ما لا يجوز أن يبنى له فعل متصرف في الأمر والدعاء والخبر وغير ذلك الأسماء المبنية للمبالغة ، نحو : أكال وأكول ، لا يجوز أن يصرّف منها فعل لأنّ هذه الأبنية وإن كانت تعمل عمل الأفعال فهي غير جارية على الفعل ، وإذا كان ما يعمل عمل الفعل لا يجوز أن يصرّف له فعل فما لا يعمل عمل الفعل أولى أن لا يصرّف له فعل ، هذا قول أهل التحصيل من أهل صناعة النحو ، ولا يقال : أدّ يؤدّ فهو إدّ ، إنما يقال : أدّ يؤدّ أدّا فهو آدّ ، وليس الإدّ هو الآدّ ، لأن الآدّ جار على الفعل ، والإدّ وصف غير جار على فعل ، وقول أبي جعفر : «قد صرّفه النحويون» تقوّل منه ، والذين يقولون : أدّ يؤدّ فهو آدّ إذا ألقاه في الإدّ فهو بمنزلة لحمه يلحمه فهو لاحم إذا أطعمه اللحم ، فلو قيل لنا : كيف تأمرون من اللحم لقلنا : لا يجوز ، لأنّ اللحم اسم غير مشتق من فعل ، ولا هو وصف جار على فعل ، ولا تكلّم من لفظه بفعل ، فيكون هو اسما لذلك الفعل ، وكذلك شحمه وزبده إذا أطعمه الشحم والزّبد ، وقولك : أدّه بمنزلة قولك : زبده ، وقولك : يؤدّه بمنزلة قولك : يزبده ، وقولك آد كقولك : زابد ، والإدّ الذي هو الأمر العظيم بمنزلة الزّبد الذي هو اللبن ، فكما لا يجوز أن تأمر من الزّبد كذلك لا يجوز أن تأمر من الإدّ ، ولا تصرّف له فعلا يكون هو اسما له ، هذا هو الذي عليه أهل العلم باللغة ، ومعنى قولهم : كيف يؤمر من الأسماء إنما هو مجاز ، لأنّ الأسماء لا يؤمر بها وإنّما يؤمر بالفعل إذا كان غير واقع ، فإذا قال قائل : كيف يؤمر من ضارب أو من طويل فإنما معناه : كيف يؤمر من الفعل الذي هو جار عليه أو اسم له ، فتقول : اضرب وطل ، لأنّهم يقولون : ضرب وطال ، فإن قيل لنا : كيف يؤمر من بكر وخود؟ قلنا : لا يجوز لأنّه ليس اسما للفعل ولا جار على فعل ، فسبيله الأسماء

__________________

(١) الحبرج : ذكر الحبارى.

(٢) الخود : الفتاة الحسنة الخلق ، والسلهب : الطويل ، والعرطل : الفاحش الطويل ، والجعشم : الصغير البدن القليل اللحم.

١٨٩

التي هي موضوعة غير مشتقة ، وكذلك قتال وأكال وضروب لا أفعال لها ، وهكذا سلهب وجعشم وعكروت وما أشبهه ، وهو كثير ، فهذا حقيقة ما ذهب إليه خصمك ، ولا حجة لك فيما حكيته عن ثعلب لأنّا لا نخالفك فيه ، وحكايتك عن النحويين أنّه لا يمتنع شيء من الأسماء من أن نقيسه على ردّ يردّ كذب عليهم ، وقولك : «لو كنا لا ننطق إلّا بما نطقت به العرب ولا نقيس على كلامها لبطل أكثر الكلام» يدل على جهل باللغة لأن من الكلام ما لا يقاس ومنه ما يقاس ، ولو قيل : كيف يؤمر بإدّ أو بكر أو صارورة أو قتال أو ما أشبه ذلك مما ليس بجار على فعل لقلنا : العرب لا تأمر من هذه الأوصاف بلفظ الصفة إلّا أن يكون له فعل منطوق به ، نحو : طل واقصر واسهل واكرم ، لأنهم يقولون : طال وقصر وسهل وكرم ، ولا يأمرون من بكر ولا خود ولا لص ولا إدّ وما أشبهه ، لأنّها لا فعل لها ، فإن آثرنا أن نأمر بشيء منها ألزمناه كان وجعلناه خبرا لها ، فتقول : كن إدّا أو كوني خودا ، وذلك أنّ معنى اضرب كن ضاربا ، فهكذا ينبغي إذا أمرت بهذه الأوصاف ، وكذلك الأسماء يؤمر بها على هذا ، فيقال : كن عليه سيفا وكن له حجرا وكن فيها أسدا ، قال الله تعالى : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) [الإسراء : ٥٠] في الأسماء ، وقال عزّ وجلّ : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١٣٥] وقال عزّ وجلّ : (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) [آل عمران : ٧٩] في الأوصاف ، وقال الشاعر : [الطويل]

٥١٨ ـ أحار بن بدر قد وليت ولاية

فكن جرذا فيها تخون وتسرق

فإن قال : فكيف يؤمر من طريق ما يتكلم عليه أهل اللغة من التصريف من الأبنية قياسا لم يتكلّم به؟ قيل له : إذا تكلّفنا ذلك فإنّ إدّا ليس بعمل ولا داء ولا علة ولا لون ولا خلقة ، وإنما هو خصلة ، وأفعال الخصال لا تكون إلّا على فعل يفعل ، فيكون الفعل من إدّ كالفعل من حلّ فيكون إدّ بكسر الهمزة كقولك : حلّ ، فإن شئت قلت : إدّ بكسر الهمزة والدال ، كقولك حلّ ، وإن شئت قلت : إيدد كما تقول : إحلل وقولك : إدّ كقولك : حلّ ، هذا هو القياس الذي يعمل عليه ، وبالله الثقة.

المسألة الرابعة : سأل أبو العباس فقال : كيف تقول : مررت برجل أسهل خدّ غلام أشدّ سواد طرّة؟ فقال أبو جعفر : في هذه المسألة وجوه أجودها أن تزيد فيها

__________________

٥١٨ ـ الشاهد لأنس بن زنيم في ديوانه (ص ١١٤) ، ولسان العرب (سرق) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٢٩٦) ، وله أو لأنس بن أبي أنيس في الدرر (٣ / ٥٤) ، ولأبي أنيس أو لابن أبي إياس الديلي أو لأبي الأسود الدؤلي في أمالي المرتضى (١ / ٣٨٤) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني (٢ / ٤٦٩) ، وهمع الهوامع (١ / ١٨٣).

١٩٠

ألفا ولاما ، فتقول : مررت برجل أسهل خدّ الغلام أشدّ سواد الطّرّة ، وإنّما قلنا : إن هذا أجود الوجوه لأنّ سيبويه قال (١) : «اعلم أنّ كينونة الألف واللام في الاسم الآخر أكثر وأحسن من أن لا يكون فيه الألف واللام ، لأنّ الأوّل في الألف واللام وغيرهما هاهنا على حالة واحدة» ، يعني سيبويه أنّ الأول لا يتعرّف بإدخالك الألف واللام في الثاني ، ألا ترى أنّ قولك : مررت برجل أسهل خدّ الغلام أشدّ سواد الطّرّة ، أنّه لم يتعرف أسهل ولا أشد ، فاختير دخول الألف واللام ليكونا بدلا من الهاء؟ وإن شئت جئت بالهاء فقلت : مررت برجل أسهل خدّ غلامه أشدّ سواد طرّته.

قال أبو العباس : في هذه الأجوبة ما قد أحلت به على قول النحويين أجمعين ، وليس فيها جواب عمّا سألناك عنه ، وذلك أنّا سألناك فيها بلا ألف ولام ولا هاء ، فزدت فيها ما ليس فيها ، وكان ينبغي أن تردّ المسألة فتقول : هي خطأ على هيئتها إذا لم تدخل فيها الألف واللام أو الهاء ، وتبين من أيّ وجه كانت خطأ أو تجيب فيها إذا كانت صوابا على هيئتها كما ألقيت.

قال أبو جعفر : أمّا قولي : «مررت برجل أسهل خدّ الغلام أشدّ سواد الطّرّة» فهو بنزلة قولك : «مررت برجل أحمر خدّ الغلام» وما أشبهه ، وهو كثير في كلام العرب ، أنشد سيبويه : [البسيط]

٥١٩ ـ أهوى لها أسفع الخدّين مطّرق

ريش القوادم لم تنصب له الشّبك

فقوله : أسفع الخدّين بمنزلة أسهل خدّ الغلام ، وأمّا قولي : مررت برجل أسهل خدّ غلامه أشدّ سواد طرّته فأسهل مرفوع بالابتداء وخدّ غلامه خبره ، والجملة فيه في موضع جرّ ، وكذا الجملة الثانية ، كما تقول : مررت برجل أسود غلامه أحمر أبوه ، وهذا أشهر من أن يحتاج إلى أن يستشهد له ، ونظيره قوله عزّ وجلّ : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) [الجاثية : ٢١] ، على قراءة من قرأ بالرفع ، وهو أحسن ، وكذلك الرفع في المسألة أحسن ، وكذا كل ما لم يكن جاريا على الفعل ، فهذا حكمه ، وأما قولي : مررت برجل أسهل خدّ غلامه أشدّ سواد طرّته ، فعلى أن أجعل أسهل نعتا لرجل وأجعله بمعنى يسهل فأرفع خدّ بأسهل ، وكذلك الجملة الثانية ، كما تقول : مررت برجل أحمر أبوه ، والرفع أجود ، وإنما جاز أن تجريه على الأول لأنّه بمعنى ما هو جار

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٢٥٦).

٥١٩ ـ الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه (ص ١٧٢) ، والكتاب (١ / ٢٥٧) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٧٧) ، ولسان العرب (هوا).

١٩١

على الفعل ، ونظيره القراءة : (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ،) وأمّا قولك : إني زدت في المسألة ألفا ولاما وهاء فقد بيّنّا لم زدنا الألف واللام على مذهب سيبويه ، وقد ذكرناه.

قال محمد بن بدر : ذكر أنّ سيبويه قال : «وكينونة الألف واللام في الاسم الآخر أكثر وأحسن» ثم جعله في غير موضعه ، وإنما الذي ينبغي أن لو جعلها في موضعها لو كان من أهل العلم لعرف الموضع الذي يجعل الألف واللام في الآخر منه دون ما لا تجعلون فيه ، قال سيبويه (١) : «وتقول فيما لا يقع إلّا منوّنا عاملا في نكرة وإنّما وقع منونا لأنّه فصل فيه بين العامل والمعمول ، فالفصل لازم له أبدا مظهرا أو مضمرا ، وذلك قولك : هو خير منك أبا وأحسن منك وجها وإن شئت قلت : هو خير عملا وأنت تريد منك» ، فالفصل الذي قال هو لازم أبدا في والإظهار هو من ، وأكّده بأن قال : «ولا يعمل إلّا في نكرة لأنّه لم يقو قوة الصفة المشبهة» ، هذا نظير كلامه ، وأين حكايتك عنه : «إن كينونة الألف في الاسم الآخر أكثر وأحسن من أن لا يكونا فيه» وقد قال : «إنه لا يعمل إلا في نكرة» ، والنكرة سواء كانت مفردة أو مضافة ، لأنّا نقول : هذه عشرون مثقالا وعشرون مثقال مسك ، فلا يتغير عن أن يكون تمييزا؟ فقولك : أسهل كقولك : أحسن ، وقولك : وجها كقولك : خدّ غلام ، كما كان «عشرون مثقالا» و «مثقال مسك» سواء ، والصفة المشبهة بالفاعل هي الأوصاف التي تكون خصالا أو ألوانا أو خلقا في الموصوفين ولا تكون أعمالا لهم ، نحو : كريم وكريمة ولئيم ولئيمة وأحمر وحمراء وأعرج وعرجاء ، والفاعل الذي هو أشبه به نحو : ضارب وقاتل ومكرم ومستمع ، والأول غير عمل يعمله الموصوف ولا يقع باختياره ، والثاني عمل يعمله الموصوف ويقع باختياره ، والشبه الذي بينهما في اللفظ أن تقول : مررت برجل حسن الوجه ، فيكون كقولك : مررت برجل ضارب زيد ، ومررت برجل حسن الوجه ، فيكون كقولك : مررت برجل ضارب زيدا ، وكذلك : مررت بامرأة حسن الوجه ، كقولك : مررت بامرأة ضاربة زيد ، وحسنة الوجه ، كقولك : ضاربة زيدا ، وكذلك : مررت برجل أحمر الوجه وبامرأة حمراء الوجه ، وما أشبهه ، وكذلك : مررت برجل حسن وجهه ، كقولك : مررت برجل قائم أبوه ، فهذه الصفة التي قال سيبويه : «وكينونة الألف واللام في الثاني أحسن وأجود» إلّا أنّ هذه الصفة لا تعمل إلّا فيما كان منها أو من سببها ، واسم الفاعل يعمل فيما كان من سببه ومن غيره ، فأمّا ما كان من الأوصاف على وزن أفعل يراد به التفضيل ويلزمه الفصل على ما شرط سيبويه فإنه لا يعمل إلّا في نكرة ، وينصبها على التمييز ، نحو : هذا أحسن

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٢٦٥).

١٩٢

منك وجها وأكثر منك مالا ، وإن شئت قدمت فقلت : «أحسن وجها منك» وإن شئت حذفت الفصل وأنت تريده كما قال ، فتقول : «أنت خير أبا» تريد منه ، قال الله عزّ وجلّ : (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) [مريم : ٧٤] يريد : منهم ، وإن شئت حذفت المعمول فيه وجئت بالفصل ، فتقول : زيد أفضل بن عمر ، ولا يجز أن تحذفهما جميعا ، إلّا أن يكون ذلك مشهورا في الخلق ، كقولهم : الله أكبر ، لأنّه قد علم أنّ الأمر كذلك ، فكأنّه قد نطق بالفصل ، أو يكون شائعا في أمته ، نحو قول الفرزدق : [الكامل]

٥٢٠ ـ إنّ الّذي سمك السّماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول

وأما قول من يقول : إنّ هذا قد يكون بمعنى فاعل أو غيره فليس عندنا بشيء ، لأنّه لا نجد عليه دليلا ، فإذا أردت إضافة أفعل هذا الذي للتفضيل ومعنى التعجب لم تضفه إلّا إلى جمع معرف بالألف واللام ويكون جنسا للأول ويكون الأول بعضا للثاني ، قولك : زيد أفضل الرجال ، ولا تكون الإضافة في هذه الأوصاف التي في هذا المعنى إلّا على هذا ، ألا ترى أنّك لا تقول : زيد أفضل الخيل ولا فرسك أفضل الناس ، لأنّ الناس ليسوا جنسا للفرس ولا الفرس بعضا لهم؟ وهكذا جميع هذا ، وقد يجوز أن تحذف الألف واللام وبناء الجمع من الجنس استخفافا ، فتقول : زيد أفضل رجل وأنت تريد : أفضل الرجال : كما قلت : هذه مائة درهم وأنت تريد : من الدراهم ، وكل رجل تريد الرجال ، ولا يشبه أفعل الذي يكون بلا فصل أفعل لذي يلزمه الفصل ، ولا هو منه في شيء ، لأنّ الذي لا يلزمه الفصل يثنّى ويجمع ويؤنّث ويذكّر والذي يلزمه الفصل لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث ، تقول : زيد أفضل من عمر ، والزيدان أفضل من عمر ، والزيدون أفضل من عمر وهند أفضل من دعد ، وما أشبه ذلك ، ولأفعل الذي يلزمه الفصل وجوه كثيرة تدل على أنّه ليس من أفعل الذي لا يلزمه الفصل بشيء وليس بها خفاء على من اعتبرها أدنى اعتبار ، والذي يدل على تمويهه أنّه قال : ألا ترى أنّ قولهم : مررت برجل أسهل خدّ الغلام أشدّ سواد «الطّرّة» أنّه لم يتعرف «أسهل» ولا «أشدّ» فيحتاج إلى أن يعلم من قاله ، فإنه كذب لم يقله أحد ، وقوله : أمّا قولي : مررت برجل أسهل خد الغلام وما أشبهه وهو كثير في كلام

__________________

٥٢٠ ـ الشاهد للفرزدق في ديوانه (٢ / ١٥٥) ، وخزانة الأدب (٦ / ٥٣٩) ، وشرح المفصّل (٦ / ٩٧) ، والصاحبي في فقه اللغة (ص ٢٥٧) ، ولسان العرب (كبر) و (عزز) ، وتاج العروس (عزز) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٤٢) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني (٢ / ٣٨٨) ، وشرح ابن عقيل (ص ٤٦٧).

١٩٣

العرب ، وأنشد سيبويه البيت الذي ذكره ، وإن «أسفع الخدين» بمنزلة أسهل خد الغلام ، فمحال كله.

أما قوله : هو مثل «مررت برجل أحمر خدّ الغلام» وهو كثير ، فكذب ، وكان ينبغي أن يذكر من ذلك ولو حرفا واحدا ، «وأسهل خد الغلام» لا يقوله أحد لا من العرب ولا من العجم لما تقدّم من الفرق بين أفعل الذي لا يلزمه الفصل والذي يلزمه ، وليس أسفع مثل أسهل ، لأنّ أسفع إنّما الصفة واقعة فيه على الثاني وهو الخدان ، والسفعة لهما دون الأول ، وأفضل الناس الصفة هي للأول دون الثاني ، والفصل له دون المضاف إليه ، فإذا قلت : أسهل الخد فإنّما تعني موضعا من الخد ، كما تقول : الصدر أجود الدّرّاج والسّرّة أطيب الحوت ووجه أخيك أحسنه ، ولو أردت بأسفع ما أردت بأسهل لم يجز ، لأنّك تقول : مررت برجل أسهل خدّا من زيد ، ولا تقول : مررت برجل أسفع خدّا من زيد ، وإنّ «أسهل خدّ الغلام» معرفة وقد وصفت به النكرة ، ويدل على أنّ أفعل الذي يلزمه الفصل يكون معرفة إذا أضفته إلى الألف واللام أنك لا تدخل عليه الألف واللام ، فتقول : «هذا الأفضل الناس» ولا «هذا الأسهل خدّ الغلام» وأنت تقول : هذا الأحمر الوجه والأسفع الخدّين ، وأمّا البيت فإنّ سيبويه قال في الصفة المشبهة : «إنّها تنوّن فتنصب ويحذف التنوين فتضيف» في الصفة المشبهة : «إنّها تنوّن فتنصب ويحذف التنوين فتضيف» ، ثم قال : «ومما جاء منونا قول زهير : أهوى لها ...» فذكر البيت على أنّ الشاهد مطّرق لا غير ، كذا قال أهل العلم ، قوله : «وأما قولي : مررت برجل أسهل خدّ غلامه أشدّ سواء طرّته» فأسهل مرفوع بالابتداء ، وخدّ غلامه خبره ، وكذلك الجملة الثانية» ، يدخله الخطأ من وجوه :

أحدها : أنّه رفع أسهل بالابتداء ، وهو نكرة ، و «خدّ غلامه» الخبر ، وهو معرفة ، وأنّ «أسهل» للمفاضلة لا يجوز أن يحذف منه الفصل والمعمول فيه معا ولا دليل على ذلك ، وأنّه جعل الجملتين وصفا للرجل ، والجمل إذا كانت أوصافا أو أخبارا أو أحوالا يعطف بعضها على بعض ، فتقول : مررت برجل قام أبوه وقعد ، ولا تقول : قام أبوه قعد ، وأنه إن جعل الهاء في طرّته للرجل أحال ، إنّما المراد أنّ الغلام هو الأسهل الخدّ الأسود الطّرّة ليس الرجل ، وإن جعلها للغلام أحال لأنّ الإعراب يصير لحنا ، ولا يجوز أن يكون أشدّ مجرورا ، ولكن يكون منصوبا ، كما تقول : هذا رجل أسهل خدّ غلام أشدّ سواد طرّة ، فتجعل أشدّ منصوبا على الحال ، قالوا : مررت برجل مقيمة أمّه منطلقا أبوه ، لا غير ، وقوله : هذا أشهر من أن يستشهد له كذب ، قوله : «أمّا قولي :

١٩٤

مررت برجل أسهل خدّ غلامه أشدّ سواد طرّته ، فعلى أن أجعل أسهل نعتا لرجل ، بمنزلة سهل ، فأرفع خدّ بأسهل ، وكذا الجملة الثانية» قد أحال فيه ، لأنّه لم يأت لأسهل ولا لأشدّ بالفصل ولا بالمعمول فيه ورفع به الظاهر ، وإنّما سبيله أن يرفع به المضمر لأنّ هذا الوصف الذي للمفاضلة لا يرفع إلّا المضمر لا غير ، ومثّلوه بقولهم : «ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل منه في عينه» (١) ، و «ما من أيّام أحبّ إلى الله فيها الصّوم منه في عشر ذي الحجة» (٢) والكلام على الهاء هاهنا كالكلام عليها قبل.

المسألة الخامسة : قال أبو جعفر : كيف تقول : إن سارّا سارّه حديثك كلامك؟ قال أبو العباس : تقديره هذه المسألة : إنّ حديثك سارّ سارّه كلامك ، قال أبو جعفر : هذا التقدير خطأ بإجماع النحويين ، لأنهم قد أجمعوا أنه لا يفرّق بين «إنّ» واسمها إلّا بالظرف أو ما قام مقامه ، فإن قال قائل : إني أقدّم حديثك وأجعله يلي (إنّ) ، قلت : هذا فرار من المسألة ومجيء بمسألة أخرى ، وأيضا فإنّه لم يقدر في جواب تقدير المسألة فيفهم ما بناه عليه من الجواب ، قال : أمّا قوله : إنّ هذا التقدير خطأ فعلى خلاف ما ذكر ، إذ كنّا لم نفرّق بين إنّ وبين اسمها في حال التقدير ، وإنما كان تفريقنا بينهما في حال الإلقاء ، والتقدير صواب ، وأمّا قوله : إنّ هذا التقدير أيضا خطأ فقد أخطأ ، وقد كان يجب أن يبيّن من أيّ وجه كان خطأ ، لأنّ الفائدة في الحجّة لا في الدعوى ، قال : قد بيّنّاه بقولنا : إنّه لا يفرق بين إن وبين اسمها إلا بالظرف أو ما أشبهه.

وجواب هذه المسألة : إنّ سارّا سارّه حديثك كلامك ، والتقدير : إنّ قولا سارّا رجلا سارّه حديثك كلامك ، فسارّا منصوب لأنّه نعت لقول وقول اسم إنّ ، وقولك سارّه نعت لرجل ورجل منصوب بوقوع سار عليه ، وحديثك مرفوع بقولك سارّه وكلامك خبر إنّ.

قال محمد بن بدر : هذا نص ما ذكرته عن خصمك وارتضيته عن قولك : وليس فيما عبت عليه شيء تنكره العلماء ، ولا يعدل عنه الفهماء.

المسألة السادسة : ثم سأل أبو العباس فقال : كيف تقول : «هذه ساعة أنا فرح» بغير تنوين؟ فقال أبو جعفر : أقول : هذه ساعة أنا فرح ، فتكون هذه في موضع رفع بالابتداء ، وقولك ساعة خبره و «أنا فرح» مبتدأ أو خبر في موضع جر ، ويجوز أن

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٢٩).

(٢) أخرجه أحمد في مسنده رقم (١٩٦٨) ، و (٣١٣٩).

١٩٥

تقول : هذه ساعة أنا فرح ، على كلام قد جرى ، كأنّك قلت : هذه القضية ساعة أنا فرح ، تزيد : إن هذا الأمر ساعة أنا فرح ، قال الله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩] الفعل والفاعل بمنزلة المبتدأ وخبره عند أهل العربية.

قال أبو العباس : سيبويه وغيره يفسدون هذا الجواب ويحيلونه ، وذلك أنّهم لا يضيفون إلى الابتداء والخبر والفعل والفاعل إلّا ظرفا في معنى المضيّ ، كقولك : جئتك يوم زيد أمير ، وجئتك يوم يقوم زيد ، وذلك أنّه إذا كان ماضيا كان بمعنى (إذ) ، كقولك : جئتك إذ زيد أمير ، وجئتك إذ يقوم زيد ، فإذا كان في معنى الاستقبال لم يضف إلّا إلى الفعل ، ولا تجوز إضافته إلى المبتدأ أو الخبر ، لأنه يكون حينئذ بمعنى (إذا) ، كما تقول : أنا آتيك يوم يقوم زيد ، مثل أنا آتيك إذا يقوم زيد ، لأنّ (إذا) في معنى الجزاء ، وإنما تضيف الظرف إذا كان في معناها إلى الفعل ، ولا تضيفه إلى الابتداء والخبر ، لأنّ حروف الجزاء لا تقع على الابتداء والخبر ، وهذه المسألة مسطورة لسيبويه ، وهذا الاعتلال اعتلاله ، وهي منه مأخوذة (١).

قال أبو جعفر : جوابنا عن المسألة على معنى المضي ، والدليل عليه قولنا على كلام قد جرى وقولنا : كأنّك قلت هذه القضية ساعة أنا فرح.

المسائل العشر المتبعات إلى الحشر

قال السخاوي في (سفر السعادة) : وهذه عشر مسائل سمّاها أبو نزار الملقّب بملك النحاة : المسائل العشر المتبعات إلى الحشر ، وتحدّى بها.

المسألة الأولى : سأل عن قوله تعالى : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) [المؤمنون : ٣٥] ، فقال : إنّ «أنّ» الأولى لم يأت لها خبر ، وسأل عن العامل في إذا ثم قال : إذا بمعنى الوقت ، وهو يضاف إلى الجمل على تأويل المصدر ، فإذا قلت : تقديره : مخرجون وقت موتكم كان محالا لأنّ الإخراج وقت الموت لا يتصوّر لأنّه جمع بين ضدّين ، ثم أجاب هو عمّا سأل فقال : والجواب : أمّا الأول فنقول : إنّ العرب قد حذفت خبر أنّ كثيرا في شعرها وكلامها ، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى ، لا سيّما إذا دلّ على الخبر مثله ، وهاهنا خبر الثانية دلّ على خبر الأولى ، ونوي عاملا في إذا ، والتقدير : أيعدكم أنكم مخرجون بعد وقت مماتكم ، إلّا أنّ «بعد وقت» حذفت وأريدت ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) [الزخرف : ٣٩] ، و «ينفعكم»

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ١١٩).

١٩٦

لا يعمل في ظرفين مختلفين أحدهما : حال ، والآخر : ماض ، فذلك محال ، ولكن المعنى : ولن ينفعكم اليوم بعد إذ ظلمتم وكذلك يضارع هذا قوله تعالى : «إنّ مع العسر يسرا» والعسر ضدّ اليسر ، والضدان لا يجتمعان ، ولكنّ الأصل : إنّ مع انقضاء العسر يسرا ، إلّا أنّ المضاف حذف ، وأمّا فائدة تكرير أنّ فالعرب تكرر الشيء في الاستفهام استبعادا ، كما يقول الرجل لمخاطبه وهو يستبعد أن يجيء منه الجهاد : أنت تجاهد؟ أأنت تجاهد؟ فكذا هاهنا ، قالوا : أيعدكم أنّكم مخرجون أنّكم مخرجون استبعادا.

فقيل له : أمّا سؤالك الأول عن خبر أنّ وكونه لم يأت فهو سؤال من قطع بما حكاه ، ولم يعدّ وجها سواه ، وهذا قول من لم يتقدّم له بهذا العلم فضل دراية ، ولا وقف على ما سطره فيه أولو النقل والرواية ، إذ كان معظم النحويين قد أجمعوا على أنّ خبر أنّ في هذه المسألة ثابت غير محذوف ، فلو قلت : يسأل عن خبر أنّ لم حذف في هذه الآية على قول بعض النحويين لأتيت بعذر مبين وللنحويين في هذه الآية أربعة أقوال :

الأول : منها : قول المبرد ومن تابعه وهو أن يجعل موضع (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) رفعا بالابتداء «وإذا» ظرف زمان في موضع خبره ، والجملة في موضع خبر أنّ ، فيصير التقدير :

أيعدكم أنّكم إذا متم إخراجكم ، كما تقول : أيعدكم أنّكم يوم الجمعة إخراجكم ، فيكون إخراجكم مرفوعا بالابتداء ويوم الجمعة في موضع خبر أنّ الأول ، وهذا مذهب بيّن ظاهر لا يحتاج فيه إلى خبر محذوف.

الثاني : قول الجرمي ، أن تجعل مخرجون خبر أنّ الأولى ، وتكون الثانية كرّرت توكيدا لتراخي الكلام على حد قوله تعالى : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] ، فكرر «رأيتهم» توكيدا لتراخي الكلام ، ويكون انتصاب ساجدين ب «رأيت» الأولى ، كأنّه قال : رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين ، ومثل قوله سبحانه : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨] ، فيكون «تحسبنّهم» توكيدا لتراخي الكلام ، ومن ذلك قوله : في النداء (١) : [البسيط]

يا تيم تيم عديّ [لا أبالكم

لا يوقعنكم في سوءة عمر]

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٤٦).

١٩٧

الثالث : قول أبي الحسن الأخفش ، أو تجعل «أنكم» في موضع رفع بإذا على أن يكون فاعلا به ، على حدّ قياس مذهبه في الرفع بالظرف في نحو قولك : يوم الجمعة الخروج ، فالخروج عنده مرتفع بالظرف ، كأنه قال : يستقرّ الخروج يوم الجمعة ، ومذهب سيبويه وأصحابه أنّ الخروج مرفوع بالابتداء لا غير.

الرابع : قول سيبويه (١) وهو أن تجعل : (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) [المؤمنون : ٣٥] بدلا من (أنّ) الأولى على حدّ قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) [الجاثية : ٢٧] ، فقوله : يومئذ بدل من قوله : يوم تقوم الساعة ، ويحتاج في هذا القول إلى حذف شيء يتمّ به الكلام ، لأنّه لا يصحّ أن يبدل من أنّ إلا بعد تمامها وتكملتها من اسمها وخبرها ، وقد وجّه أبو علي قول سيبويه في هذه الآية على وجهين :

أحدهما : أن يكون قد حذف مضافا من أنّ الأولى ، تقديره : أيعدكم أنّ إخراجكم إذا متم ، فيصحّ حينئذ أن يبدل (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) من (أنّ) الأولى لأنّها قد تمّت ، وإنّما يحتاج إلى حذف هذا المضاف من جهة أنّ «إذا» ظرف زمان ، وظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث ، فإذا حملت قوله : (أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) على تأويل : أنّ إخراجكم إذا متم ، تمّ الكلام ، وصارت «إذا» خبرا لأنّ على حدّ قولهم : «الليلة الهلال» يريدون : الليلة حدوث الهلال ، أو ظهوره ، ولو لا ذلك لم يجز ، لأنّ الهلال جثّة ، والليلة ظرف زمان ، ومثل الآية في حذف المضاف قوله عزّ وجلّ : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) [الشعراء : ٧٢] ، لأنّه لا بد من تقدير مضاف محذوف تقديره : هل يسمعون دعاءكم إذ تدعون ، فحذف الدعاء وهو يريده.

والثاني : من توجيه أبي علي لقول سيبويه : أن يكون خبر أنّ محذوفا ، تقديره : أيعدكم أنّكم إذا متم مخرجون ، ثم حذف خبر أنّ لدلالة أنّ الثانية عليه ، على حدّ قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] فحذف خبر المبتدأ الأول استغناء عنه بخبر الثاني ، وعلى ذلك قول الشاعر (٢) : [المنسرح]

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف

تقديره : نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض ، إلّا أنّ حذف استغناء عنه بالخبر الآخر ، وهذا الوجه وحده هو الذي لم يفتح عليك أيّها المتقمص بقميص الزّهو التائه في غيابة السّهو الملقب بملك النحو إلّا به.

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ١٥٣).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٣٠).

١٩٨

وأمّا قولك بعد السؤال الأول : وكذلك يسأل عن العامل في «إذا» ثم بيّنت في جوابك أنّه محذوف ، فقولك هذا مبنيّ على ما قام في نفسك من كون خبر أنّ محذوفا ، وقد بيّنّا أنه غير محذوف ، إلّا على أحد الوجهين الموجّه بهما قول سيبويه ، وإلّا فهو موجود غير محذوف على المذاهب المتقدمة ، أمّا على مذهب المبرد فالعامل عنده في «إذا» الاستقرار لأنّها في موضع خبر المبتدأ ، وكذلك مذهب الأخفش هي عنده معمولة الاستقرار المقدر في كل ظرف رفع فاعلا ، وأمّا على مذهب الجرمي فإنّ العامل عنده فيها مخرجون التي هي خبر أنّ ، على ما تقدم ذكره.

وأما قولك بعد السؤال الثاني : إن «إذا» بمعنى الوقت ، وهو يضاف إلى الجمل على تأويل المصدر ، وما ذكرت من أنّ المعنى يستحيل إذا جعلت العامل في «إذا» مخرجون ، لأنّه يصير التقدير : أنّكم مخرجون وقت موتكم ، والإخراج وقت الموت لا يتصوّر ، وإجابتك عن ذلك بتقديرك حذف مضاف قبل «إذا» وهو «بعد» ، فإنك أتيت في هذا المكان بضرب من الهذيان.

أما قولك : إن «إذا» بمعنى الوقت وهو يضاف إلى الجمل على تأويل المصدر» فليس تقدير الجملة بعدها على تأويل المصدر بصحيح ، وذلك ممتنع فيها وفي إذ وفي لمّا خاصة ، ألا ترى أنّه يحسن أن تقول في نحو : «آتيك يوم يقدم زيد» : آتيك يوم قدوم زيد فتقدّر ما بعد يوم بتقدير المصدر؟ ولو قلت : «آتيك إذا يقوم زيد» لم يحسن أن تقول : أتيتك إذا قيام زيد ، وكذلك إذ تقول : أتيته إذ قام ولا تقول : أتيته إذ قيامه ، وكذلك لمّا ، تقول : أكرمته لمّا قام ، ولا تقول : أكرمته لمّا قيامه ، لأنّ هذه الظروف لا تضاف إلى مفرد ولا تستعمل إلّا مضافة إلى الجمل ، وأمّا قولك : «لأنّه لا بدّ من تقدير حذف مضاف قبل إذا وهو بعد ليصحّ المعنى ويسلم من الإحالة» فهو قول بيّن الفساد لا محالة ، وذلك أنّ المتقرر عند جميع النحويين أنّه لا يصح أن يضاف إلى إذا ولا إلى لمّا ، وذلك لتوغلهما في البناء وقلة تمكنهما ، ولا يجوز على هذا أن تقول : أكرمتك بعد إذا أكرمتني ، ولا قبل إذا أكرمتني ولا بعد لمّا أكرمتني ، ولا يجوز ذلك في ظروف الزمان ولا غيرها ، ولم يسمع من ذلك شيء إلّا في (إذ) ، والمعنى في الآية يصح على غير هذا التقدير ، إذ في مفهوم الخطاب من قوله عزّ وجلّ : (وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً) أنّ الإخراج ليس هو وقت الموت ، وإنما هو بعد زمان متراخ يقتضي الاستحالة من اللّحميّة والدّمويّة إلى الترابيّة ثم الإخراج بعد ذلك ، وإذا وإن كانت بمعنى الوقت فليس يلزم أن يكون وقوع الفعل في أوّل ذلك الوقت دون آخره ، مثال ذلك قولهم : إذا جاء زيد أحسنت إليه ، ومعلوم من جهة المعنى أنّ الإحسان لم يكن في أوّل المجيء ، إنّما كان بعده ، وتقدير الإعراب يوجب أنّ وقت

١٩٩

المجيء وقت الإحسان ، لأنّ (إذا) ظرف ، والعامل فيه «أحسنت» ، فيصير التقدير : أحسنت إليه وقت مجيئه ، وليس الأمر كذلك ، وسبب ذلك أنّه لمّا تقارب الزمانان وتجاور الحالان صارا كأنّهما وقعا في زمان واحد ، وإن كان لا بدّ أن يقدّر أنّ زمان الإحسان بعد زمان المجيء ، إذ الإحسان مسبّب عن المجيء ، والسبب يتقدّم المسبّب ، ويكون تقدير الآية على هذا : أيعدكم أنّكم مخرجون آخر وقت موتكم وكونكم ترابا وعظاما ، ثم قلت بعد هذا : «وأمّا فائدة تكرير أنّ فإنّ العرب تكرّر الشيء في الاستفهام استبعادا ، كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان يستبعد منه أن يجاهد : أنت تجاهد ، أنت تجاهد» ، وهذا قول غير محقّق ولا محرّر ، وهذه العبارة بتكرير الاستبعاد شيء خارج عن المألوف المعتاد ، وإنما التكرير في كلام العرب لمعنى التأكيد ، على ذلك جاء في كتاب الله عزّ وجلّ وفي الكلام الفصيح ، كقوله تعالى : (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) [الفجر : ٢١] ، فكرر دكّا على جهة التأكيد بدلالة قوله تعالى في الأخرى : (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة : ١٤] ، وقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥ ـ ٦] ، وقوله تعالى : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] ، كرر «رأيتهم» توكيدا ، وقوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨] ، وليس في شيء من ذلك استبعادا.

المسألة الثانية : قال أبو نزار : روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : «من جمع مالا من نهاوش أذهبه الله في نهابر» (١) ، يسأل عن مادة هاتين الكلمتين وزيادتهما ومكان استعمالهما.

فأوّل ذلك أن تعلم أن نهوشا واحد قدّر أنّه جمع على نهاوش ، وهو من الهوش بمعنى الاختلاط ، قال : وكذلك نهابر هو جمع واحد نهبره وهو من الهبر بمعنى القطع المتدارك ، والمعنى من جمع مالا من جهات مختلطة لا يعلم جهات حلّها وحرمتها قطعه الله عليه ، قال : فإن قيل : ما سمعنا في الواحد نهبرا ونهوشا قلنا : قد نصّ سيبويه على أنّ العرب تأتي بمجموع لم تنطق بواحدها ، ثم قال : إنّ قياس واحد ملامح ومحاسن ملمحة ومحسنة ، وما سمعنا بملمحة ، وكذلك قدّروا أنّ واحد أباطيل إبطيل أو أبطول ، وأباطيل جمع لم ينطق بواحده.

__________________

(١) الحديث في مسند الشهاب (١ / ٢٧١ ، ٢٧٢) ، وأمثال الحديث (١ / ١٦٢) ، وميزان الاعتدال (٥ / ٣٠٧) ، وكشف الخفاء (٢ / ٢٩٥) ، وفيض القدير (٦ / ٦٥).

٢٠٠