الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٦٤

عدم الضمير ، وقد يقال : إن ال خلف عن الإضافة أي : ذنب سرحانه ، ومثله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ، النَّارِ) [البروج : ٥ ـ ٤] أي : ناره ، أو على حذف الضمير كما قالوا في الآية ، أي : ذنب السرحان فيه ، والنار فيه.

وأما نصبهما فعلى أنّ الفاعل ضمير اسمه تعالى ، والأفق مفعول به ، وذنب بدل منه أي : لألأ الله الأفق ذنب السّرحان ، أي : سرحانه أو السرحان فيه ، ورفع الذنب ونصب الأفق واضح ، وعكسه مشكل جدا ، إذ الأفق لم ينوّر الذنب ، نعم إن كان تجويزه على أنّ من باب المقلوب اتّجه كما قالوا : كسر الزجاج الحجر وخرق الثوب المسمار ، لأمن اللبس.

من الفتاوى النحوية لابن هشام

قال الشيخ جمال الدين بن هشام الأنصاري رحمه الله تعالى : سألني بعض الإخوان وأنا على جناح السفر عن توجيه النصب في نحو قول القائل : فلان لا يملك درهما فضلا عن دينار ، وقوله : الإعراب لغة : البيان واصطلاحا : تغيير الآخر لعامل ، والدليل لغة المرشد ، والإجماع لغة العزم والسّنّة لغة الطريقة ، وقوله : يجوز كذا خلافا لفلان ، وقوله : وقال أيضا ، وقوله : هلمّ جرّا ، وكلّ هذه التراكيب مشكلة ، ولست على ثقة من أنّها عربية وإن كانت مشهورة في عرف الناس ، وبعضها لم أقف لأحد على تفسير له ، وقفت لبعضها على تفسير لا يشفي عليلا ولا يبرّد غليلا ، وها أنا مورد في هذه الأوراق ما تيسّر لي معتذرا بضيق الوقت وسقم الخاطر ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

أما قوله : فلان لا يملك درهما فضلا عن دينار ، فمعناه أنّه لا يملك درهما ولا دينارا ، وأنّ عدم ملكه الدينار أولى من عدم ملكه الدرهم ، فكأنه قال : لا يملك درهما فكيف يملك دينارا؟ وهذا التركيب زعم بعضهم أنه مسموع ، وأنشد عليه : [الرمل]

٥٣٨ ـ قلّما يبقى على هذا القلق

صخرة صمّاء فضلا عن رمق

الرّمق : بقية الحياة ، ولا تستعمل «فضلا عن» هذه إلّا في النفي ، وهو مستفاد في البيت من «قلّما» ، قال بعضهم ، حدث ل (قلّ) حين كفّت بما إفادة النفي ، كما حدث ل (إنّ) المكسورة المشدّدة حين كفّت إفادة الاختصاص ، قلت : وهذا خطأ ، فإنّ قلّ تستعمل للنفي مثل الكفّ ، يقال : قلّ أحد يعرف هذا إلّا زيد ، بمعنى لا يعرف هذا إلّا زيد ، ولهذا صحّ استعمال أحد ، وصحّ إبدال المستثنى ، وهو بدل إما

٢٢١

من أحد أو من صغيره ، و «على» في البيت للمعيّة ، مثلها في قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرعد : ٦] ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [إبراهيم : ٣٩] ، وانتصاب «فضلا» على وجهين محكيّين عن الفارسي :

الأول : أن يكون مصدرا لفعل محذوف ، وذلك الفعل نعت للنكرة.

الثاني : أن يكون حالا من معمول الفعل المذكور ، هذا خلاصة ما نقل عنه ويحتاج إلى بسط يوضحه اعلم أنّه يقال : فضل عنه وعليه بمعنى زاد ، فإن قدّرته مصدرا فالتقدير : لا يملك درهما يفضل فضلا عن دينار ، وذلك الفعل المحذوف صفة ل : «درهما» ، كذا حكي عن الفارسي ، ولا يتعيّن كون الفعل صفة ، بل يجوز أن يكون حالا ، كما جاز في «فضلا» أن يكون حالا على ما سيأتي تقريره ، نعم ، وجه الصفة أقوى لأنّ نعت النكرة كيف كانت أقيس من مجيء الحال منها ، وإن قدّرته حالا فصاحبها يحتمل وجهين :

الأول : أن يكون ضميرا لمصدر محذوف ، أي : لا يملكه ، أي : لا يملك الملك على حدّ قوله : [البسيط]

٥٣٩ ـ هذا سراقة للقرآن يدرسه

[والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب]

أي : يدرس الدرس ، إذ ليس الضمير للقرآن ، لأنّ اللام متعلقة بيدرس ، ولا يتعدّى الفعل إلى ضمير اسم وإلى ظاهره جميعا ، ولهذا وجب في «زيدا ضربته» تقدير عامل على الأصح ، وعلى هذا خرج سيبويه والمحققون نحو قوله : ساروا سريعا ، أي : ساروه ، أي : ساروا السير سريعا ، وليس «سريعا» عندهم نعتا لمصدر محذوف لالتزام العرب تنكيره ، ولأن الموصوف لا يحذف إلّا إن كانت الصفة مختصة بجنسه ، كما في «رأيت كاتبا» أو حاسبا أو مهندسا ، فإنّها مختصة بجنس الإنسان ، ولا يجوز : «رأيت طويلا» ولا «رأيت أحمر» ، وفي هذا الموضع بحث ليس هذا موضعه.

الثاني : أن يكون قوله : درهما حالا ، فإن قلت : كيف جاز مجيء الحال من النكرة؟ قلت : أما على قول سيبويه فلا إشكال ، لأنه يجوز عنده مجيء الحال من

__________________

٥٣٩ ـ الشاهد بلا نسبة في الكتاب (٣ / ٧٦) ، وخزانة الأدب (٢ / ٣) ، والدرر (٤ / ١٧١) ، ورصف المباني (ص ٢٤٧) ، وشرح التصريح (١ / ٣٢٦) ، وشرح شواهد المغني (ص ٥٨٧) ، ولسان العرب (سرق) ، والمقرّب (١ / ١١٥) ، وهمع الهوامع (٢ / ٣٣).

٢٢٢

النكرة ، وإن لم يمكن الابتداء بها ، ومن أمثلته (١) : «فيها رجل قائما» ، ومن كلامهم (٢) : «عليه مائة بيضا» ، وفي الحديث : «وصلّى وراءه رجال قياما» (٣) ، وأمّا على المشهور من أنّ الحال لا تأتي من النكرة إلا بمسوّغ فلها مسوّغان :

الأول : كونها في سياق النفي ، والنفي يخرج النكرة من حيّز الإبهام إلى حيّز العموم ، فيجوز حينئذ الإخبار عنها ومجيء الحال منها.

الثاني : ضعف الوصف ، ومتى امتنع الوصف بالحال أو ضعف ساغ مجيئها من النكرة ، فالأول كقوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ) [البقرة : ٢٥٩] ، وقول الشاعر : [الطويل]

٥٤٠ ـ مضى زمن والناس يستشفعون بي

[فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع]

فإن الجملة المقرونة بالواو لا تكون صفة خلافا للزمخشري ، وقولك : «هذا خاتم حديدا» عند من أعربه حالا ، لأنّ الجامد المحض لا يوصف به ، والثاني كقولهم (٥) : «مررت بماء قعدة رجل» ، فإنّ الوصف بالمصدر خارج عن القياس.

فإن قلت : هلّا أجاز الفارسي في «فضلا» كونه صفة ل «درهما» ، قلت : زعم أبو حيان أن ذلك لا يجوز ، لأنه لا يوصف بالمصدر إلا إذا أريدت المبالغة لكثرة وقوع ذلك الحدث من صاحبه ، وليس ذلك بمراد هنا.

قال : وأمّا القول بأنه يوصف بالمصدر على تأويله بالمشتق أو على تقدير المضاف فليس قول المحققين.

قلت : هذا كلام عجيب ، فإنّ القائل بالتأويل الكوفيون ، فيؤوّلون عدلا بعادل ، ورضى بمرضيّ ، وكذا يقولون في نظائرهما ، والقائل بالتقدير البصريون ، يقولون : التقدير : ذو عدل وذو رضى ، وإذا كان كذلك فمن المحققون؟ ثم اختلف النقل عن الفريقين ، والمشهور أنّ الخلاف مطلق ، وقال ابن عصفور : «وهو الظاهر ، إنما

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٤٨).

(٢) انظر الكتاب (٢ / ١٠٩).

(٣) انظر جامع الأصول لابن الأثير الجزري (٥ / ٦٢٤).

٥٤٠ ـ الشاهد للمجنون في ديوانه (ص ١٥١) ، والدرر (٤ / ٧) ، وسمط اللآلي (ص ١٣٣) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٤١) ، وبلا نسبة في مغني اللبيب (٢ / ٤٣٢) ، وهمع الهوامع (١ / ٢٤٠).

(٤) انظر الكتاب (٢ / ١١٠).

٢٢٣

الخلاف حيث لا تقصد المبالغة ، فإن قصدت فالاتّفاق على أنّه لا تأويل ولا تقدير».

وهذا الذي قاله ابن عصفور هو الذي في ذهن أبي حيّان ، ولكنّه نسي فتوهّم أنّ ابن عصفور قال : إنّه لا تأويل مطلقا ، فمن هنا ـ والله أعلم ـ دخل عليه الوهم ، والذي يظهر لي أنّ الفارسيّ إنّما لم يجز في «فضلا» الصفة لأنه رآه منصوبا أبدا سواء كان ما قبله منصوبا كما في المثال أم مرفوعا كما في البيت ، أم مخفوضا كما في قولك : فلان لا يهتدي إلى ظواهر النحو فضلا عن دقائق البيان.

فهذا منتهى القول في توجيه إعراب الفارسيّ ، وأمّا تنزيله على المعنى المراد فعسر ، وقد خرّج على أنّه من قوله :[الطويل]

٥٤١ ـ على لا حب لا يهتدى بمناره

[إذا سافه العود الدّيافيّ جرجرا]

ولم يذكر أبو حيان سوى ذلك ، وقال : وقد يسلّطون النفي على المحكوم عليه بانتفاء صفته ، فيقولون : ما قام رجل عاقل ، أي : لا رجل عاقل فيقوم ، ثم أنشد بيت امرئ القيس المذكور ، فقال : ألا ترى أنه لا يريد إثبات منار للطريق وينفي الاهتداء به؟ إنما يريد نفي المنار فتنتفي الهداية به ، أي : لا منار لهذا الطريق فيهتدى به ، وقال الأفوه الأوديّ : [السريع]

٥٤٢ ـ بمهمه ما لأنيس به

حسّ فما فيه له من رسيس

لا يريد أن بهذا القفر أنيسا لا حسّ له ، إنّما يريد : لا أنيس به فيكون له حسّ ، وعلى هذا خرج : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] ، أي : لا شافع لهم فتنفعهم شفاعته ، و (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٣٥] ، أي : لا سؤال فيكون إلحافا ، قال : وعلى هذا يخرج المثال المذكور ، أي : لا يملك درهما فيفضل عن دينار له ، وإذ انتفى ملكه الدرهم كان انتفاء ملكه للدينار أولى.

قلت : وهذا الكلام الذي ذكره لا تحرير فيه ، فإنّ الأمثلة المذكورة من بابين مختلفين وقاعدتين متباينتين أميّز كّلا منهما عن الأخرى ، ثم أذكر أنّ التخريج المذكور لا يتأتّى على شيء منهما :

__________________

٥٤١ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ٦٦) ، ولسان العرب (ديف) و (سوف) و (لحف) ، وتهذيب اللغة (٥ / ٧٠) ، وأساس البلاغة (سوف) ، وتاج العروس (سوف) و (لحف) و (ديف) ، وبلا نسبة في لسان العرب (نسا) ، ومقاييس اللغة (٢ / ٣١٨) ، ومجمل اللغة (٢ / ٣٠٤).

٥٤٢ ـ الشاهد في ديوانه (ص ١٨) ، وسمط اللآلي (ص ٣٦٤).

٢٢٤

القاعدة الأولى : أنّ القضية السالبة لا تستلزم وجود الموضوع ، بل كما تصدق مع وجوده تصدق مع عدمه ، فإذا قيل : ما جاءني قاضي مكة ولا ابن الخليفة ، صدقت القضية ، وإن لم يكن بمكة قاض ولا للخليفة ابن ، وهذه القاعدة هي التي يتخرج عليها (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) وبيت امرئ القيس ، فإنّ شفاعة الشافعين بالنسبة إلى الكافرين غير موجودة يوم القيامة ، لأنّ الله تعالى لا يأذن لأحد في أن يشفع لهم ، لأنّه لا يأذن فيما لا ينتفع لتعاليه عن العبث ، ولا يشفع أحد عند الله إذا لم يأذن الله له : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] ، وكذلك المنار غير موجود في الّلاحب المذكور ، لأنّ المراد التمدّح بأنّه يقطع الأرض المجهولة من غيرها ويهتدي به ، فغرضه إنّما تعلّق بنفي وجود ما يهتدي به في تلك الطريق التي سلكها لا بنفي وجود الهداية عن شيء نصب فيها للاهتداء به ، وأمّا قول أبي حيان وغيره : المراد لا شافع لهم فتنفعهم شفاعته ولا منار فيهتدى به فليس بشيء ، لأنّ النفي إنما يتسلّط على المسند لا على المسند إليه ، ولكنّهم لمّا رأوا الشفاعة والمنار غير موجودين توهّموا أنّ ذلك من اللفظ فزعموا ما زعموا ، وفرق بين قولنا : الكلام صادق مع عدم المسند إليه وقولنا : إنّ الكلام اقتضى عدمه.

القاعدة الثانية : أنّ القضية السالبة المشتملة على مقيّد نحو : ما جاءني رجل شاعر ، تحتمل وجهين :

الأول : أن يكون نفي المسند باعتبار القيد ، فيقتضي المفهوم في المثال المذكور وجود مجيء رجل ما غير شاعر ، وهذا هو الاحتمال الراجح المتبادر ، ألا ترى أنه لو كان المراد نفيه عن الرجل مطلقا لكان ذكر الوصف ضائعا ، ولكان زيادة في اللفظ ونقضا في المعنى المراد؟.

الثاني : أن يكون نفيه باعتبار المقيّد وهو الرجل ، وهذا احتمال مرجوح لا يصار إليه إلّا بدليل ، فلا مفهوم حينئذ للقيد ، لأنّه لم يذكر للتقيد ، بل ذكر لغرض آخر ، كأن يكون المراد مناقضة من أثبت ذلك الوصف ، فقال : جاءك رجل شاعر ، فأردت التنصيص على نفي ما أثبته ، وكأن يراد التعريض كما أردت في المثال المذكور أن تعرّض بمن جاءه رجل شاعر ، وهذه هي القاعدة التي يتخرج عليها (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٧٣] ، فإنّ الإلحاف قيد في السؤال المنفيّ ، والمراد من الآية ـ والله أعلم ـ نفي السؤال البتة بدليل : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) [البقرة : ٢٧٣] ، والتعفّف لا يجامع المسألة ، ولكن أريد بذكر الإلحاف ـ والله أعلم ـ التعريض بقوم ملحفين توبيخا لهم على صنيعهم ، والتعريض

٢٢٥

بجنس الملحفين ، وذمّهم على الإلحاف لأنّ النقيض للوصف الممدوح مذموم ، والمثال المبحوث فيه يتخرج على هذه القاعدة فيما زعموا.

فإنّ فضلا مقيد للدرهم ، فلو قدّر النفي مسلّطا على القيد اقتضى مفهومه خلاف المراد ، وهو أنّه يملك الدرهم ولكنّه لا يملك الدينار ، ولمّا امتنع هذا تعيّن الحمل على الوجه المرجوح ، وهو تسليط النفي على المقيّد وهو الدرهم ، فينتفي الدينار لأنّ الذي لا يملك الأقلّ لا يملك الأكثر ، فإنّ المراد بالدرهم ليس الدرهم العرفيّ ، لأنّه يجوز أن يملك الدينار من لا يملكه ، بل المراد ما يساوي من النقود درهما ، فهذا توجيه التخريج.

وأما الاعتراض عليه فمن جهة أنّ القيد ليس نفس الدينار حتى يصير المعنى : لا يملك درهما فكيف يملك دينارا؟ وإنما القيد قوله : فضلا عن دينار ، فيصير المعنى لا يملك درهما فكيف يملك زائدا عن دينار ، والكلام لم يسق لنفي ملك الزائد عن الدينار ، بل لنفي ملك الدينار نفسه ، ثم يلزم من ذلك انتفاء ملك ما زاد عليه ، والذي يظهر لي في توجيه هذا الكلام أن يقال : إنه في الأصل جملتان مستقلّتان ، ولكنّ الجملة الثانية دخلها حذف كثير وتغيير حصل الإشكال بسببه ، وتوجيه ذلك أن يكون هذا الكلام في اللفظ أو في التقدير جوابا لمستخبر قال : أيملك فلان دينارا؟ أو ردّا على مخبر قال : فلان يملك دينارا ، فقيل في الجواب : فلان لا يملك درهما ، ثم استأنف كلاما آخر ، ولك في تقديره توجيهان :

الأول : أو يقال : أخبرتك بهذا زيادة عن الإخبار عن دينار استفهمت عنه أو زيادة عن دينار ، وأخبرت بملكك له ، ثم حذفت جملة «أخبرتك بهذا» وبقي معمولها وهو «فضلا» كما قالوا : حينئذ الآن ، بتقدير : كان ذلك حينئذ واسمع الآن ، فحذفوا الجملتين وأبقوا من كل منهما معمولها ، ثم حذف مجرور عن وجار دينار وأدخلت عن الأولى الدينار ، كما قالوا : «ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل من عين زيد» ، والأصل : منه في عين زيد ، ثم حذف مجرور من وهو الضمير وجارّ العين وهو في ودخلت من على العين.

الثاني : أن يقدر : فضلا انتفاء الدرهم عن فلان عن انتفاء الدينار عنه ، ومعنى ذلك أن تكون حال هذا المذكور في الفقر معروفة عند الناس ، والفقير إنما ينفى عنه في العادة ملك الأشياء الحقيرة لا ملك الأموال الكثيرة ، فوقوع نفي ملك الدرهم عنه في الوجود فاضل عن وقوع نفي ملك الدينار عنه أو أكثر منه ، و «فضلا» على التقدير الأول حال وعلى الثاني مصدر ، وهما الوجهان اللذان ذكرهما الفارسي ، لكن توجيه

٢٢٦

الإعرابين مخالف لما ذكر ، وتوجيه المعنى مخالف لما ذكروا ، لأنه إنما يتّضح تطابق اللفظ والمعنى على ما وجّهت لا على ما وجهوا ، ولعلّ من لم يقو أنسه بتجوّزات العرب في كلامهم يقدح فيما ذكرت بكثرة الحذف ، وهو كما قيل : [الطويل]

٥٤٣ ـ إذا لم يكن إلّا الأسنّة مركب

فلا أر للمحتاج إلّا ركوبها

وقد بيّنت في التوجيه الأول أنّ مثل هذا الحذف والتجوّز واقع في كلامهم ، قال أبو الفتح : «قال لي أبو علي : من عرف ألف ومن جهل استوحش».

رأي في قولهم : الإعراب لغة البيان

وأمّا قوله : الإعراب لغة البيان ونحوه فيتبادر إلى الذهن فيه أربعة أوجه :

الأول : وهو أقربها تبادرا أن يكون على نزع الخافض ، والأصل : الإعراب في اللغة البيان ، ويشهد لهذا أنّهم قد يصرّحون بذلك ، أعني بأن يقولون : الإعراب في اللغة البيان وفي هذا الوجه نظر من وجهين :

الأول : أنّ إسقاط الخافض من هذا ونحوه ليس بقياس ، واستعمال مثل هذا التركيب مستمرّ في كلام العلماء.

والثاني : أنّهم قد التزموا في هذه الألفاظ التنكير ، ولو كانت على إسقاط الخافض لبقيت على تعريفها الذي كان عند وجود الخافض ، كما بقي التعريف في قوله : [الوافر]

٥٤٤ ـ تمرّون الدّيار ولم تعوجوا

[كلامكم عليّ إذا حرام]

وأصله : تمرون على الديار أو بالديار ، وقد يزاد على هذين الوجهين وجهان آخران :

الأول : أنه ليس في الكلام ما يتعلق به هذا الخافض.

والثاني : أنّ سقوط الخافض لا يقتضي النصب من حيث هو سقوط خافض ، بل من حيث إنّ العامل الذي كان الجار متعلقا به لمّا زال من اللفظ ظهر أثره لزوال ما

__________________

٥٤٣ ـ انظر زهر الآداب (٢ / ٨٢).

٥٤٤ ـ الشاهد لجرير في ديوانه (ص ٢٧٨) ، والأغاني (٢ / ١٧٩) ، وتخليص الشواهد (ص ٥٠٣) ، وخزانة الأدب (٩ / ١١٨) ، والدرر (٥ / ١٨٩) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٣١١) ، ولسان العرب (مرر) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٥٦٠) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٧ / ١٥٨) ، ورصف المباني (ص ٢٤٧) ، وشرح ابن عقيل (ص ٢٧٢) ، وشرح المفصّل (٨ / ٨) ، ومغني اللبيب (١ / ١٠٠) ، والمقرّب (١ / ١١٥).

٢٢٧

كان يعارضه ، فإذا لم يكن في الكلام ما يقتضي النصب من فعل أو شبهه لم يجز النصب ، ومن هنا كان خطأ قول الكوفيين في «ما زيد قائما» : إنّ ما النافية لم ترفع الاسم ولم تنصب الخبر ، بل ارتفاع زيد على أنه مبتدأ ونصب «قائما» على إسقاط الباء ، وهذان الوجهان لو صحّا لاقتضيا أن لا يجوز الإعراب في اللغة البيان ، ولكن نجيزه على التعليق بأعني مضمرة معترضة بين المبتدأ والخبر ، والفصل بالجملة الاعتراضية جائز اتفاقا ، فإن قلت : هلّا قدّرت الجارّ المحذوف أو المذكور متعلقا بالخبر المؤخر عنه فإنّ فيه معنى الفعل ، قلت : لفساده معنى وصناعة ، أمّا معنى فلأنّه يصير المعنى : الإعراب البيان الحاصل في اللغة لا البيان الحاصل في غير اللغة ، وليس المراد هذا ، وأما صناعة فلأنّ البيان ونحوه مصادر ، ولا يتقدم على المصدر معموله ولو كان ظرفا ، ولهذا قالوا في قول الحماسي : [الهزج]

٥٤٥ ـ وبعض الحلم عند الجه

ل للذّلة إذعان

إنّ اللام متعلقة بإذعان محذوف يدل عليه الإذعان المذكور ، وليست متعلقة بالإذعان المذكور ، فإذا امتنعوا من ذلك حيث لم يظهر تأثير المصدر للنصب ولم يتجوزوا في الجار بالحذف فهم عن تجويز التقديم عند وجود هذين أبعد ، فإن قلت : هب أنّ هذا امتنع حيث الخبر مصدر ، لكنّه لا يمنع حيث هو وصف كقوله : الدليل لغة المرشد ، قلت بل يمتنع لأنّ اسم الفاعل صلة الألف واللام ، أي : الدليل الذي يرشد ، ولا يتقدم معمول الصلة على الموصول ولو كان ظرفا ، ولهذا يؤول قول الله سبحانه وتعالى : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) [يوسف : ٢٠] ، (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف : ٢١] ، (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) [الشعراء : ١٦٨] ولو قدّرنا «ال» في ذلك لمحض التعريف ، كما يقول الأخفش ، لم نخلص من الإشكال الثاني وهو فساد المعنى ، إذ المعنى حينئذ : الدليل الذي يرشد في اللغة لا الذي يرشد في غير اللغة ، وأيضا فإذا امتنع التعليق بالخبر حيث يكون الخبر مصدرا امتنع في الباقي لأنّ هذه الأمثلة باب واحد ، فإن قلت : قدّر التعليق بمضاف محذوف ، أي : تفسير الإعراب في اللغة البيان ، كما قالوا : أنت مني فرسخان على تقدير : بعدك مني فرسخان ، وقدر في مثلها في قولهم : الاسم ما دلّ على معنى في نفسه ، أي : ما دلّ

__________________

٥٤٥ ـ الشاهد للفند الزماني (شهل بن شيبان) في أمالي القالي (١ / ٢٦٠) ، وحماسة البحتري (ص ٥٦) ، وخزانة الأدب (٣ / ٤٣١) ، والدرر (٥ / ٢٥٠) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٣٨) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٩٤٤) ، والمقاصد النحوية (٣ / ١٢٢) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني (٢ / ٣٣٨) ، وهمع الهوامع (٢ / ٩٣).

٢٢٨

على معنى باعتبار نفسه لا باعتبار أمر خارج عنه ، فإنّه إذا لم يحمل على هذا اقتضى أن يكون معنى الاسم وهو المسمى موجودا في لفظ الاسم وهو محال ، ولذا يكون المعنى : شرح الإعراب باعتبار اللغة البيان ، قلت : هذا تقدير صحيح ، ولكن يبقى الاشكالان الأوّلان وهما أنّ إسقاط الجارّ ليس بقياس وأنّ التزام التنكير حينئذ لا وجه له.

الوجه الثاني : أن يكون تمييزا ، وحينئذ فلا يشكل التزام تنكيره ، ولكنه ممتنع من جهة أنّ التمييز إمّا تفسير للمفرد كرطل زيتا أو تفسير للنسبة كطاب زيد نفسا ، وهنا لم تتقدم نسبة البتّة ، ولا اسم مبهم وضعا ، فإن قلت : أليس الإعراب في الحدّ المذكور يحتمل اللغويّ والاصطلاحيّ فهو مبهم؟ قلنا : الألفاظ المشتركة لا يجيء التمييز باعتبارها ، فلا نقول : رأيت عينا ذهبا على التمييز ، وسرّ ذلك أنّ : المشترك موضوع للدلالة على ذات المسمى باعتبار حقيقته ، وإنما يجيء الإلباس لعدم القرينة أو للجهل بها ، وأسماء العدد ونحوها ممّا يميّز لم توضع للذات باعتبار حقيقتها التي تحصل بالتمييز ، فإنه لا يفهم من عشرين إلا عشرتان من أيّ معدود كان ، فهو موضوع على الإبهام فافتقر إلى التمييز والمشترك إنّما وضع لمعيّن ، والاشتراك إنّما حصل عند السامع ، فإن قلت : يمكن أن يكون من تمييز النسبة بأن يقدّر قبله مضاف ، أي : شرح الإعراب ، فيكون من باب : أعجبني طيبه أبا ، فإنّ كون «أبا» تمييزا إنما هو باعتبار قولك : طيبه لا باعتبار الجملة كلها ، قلت : تمييز النسبة الواقع بعد المتضايفين لا يكون إلا فاعلا في المعنى ، ثم قد يكون مع ذلك فاعلا في الصناعة باعتبار الأصل فيكون محوّلا عن المضاف إليه ، نحو : أعجبني طيب زيد أبا ، إذا كان المراد الثناء على أبي زيد ، فإنّ أصله : أعجبني طيب أبي زيد ، وقد لا يكون كذلك فيكون صالحا لدخول من ، نحو : لله درّه فارسا ، وويحه رجلا ، ووويله إنسانا ، فإنّ الدّرّ بمعنى الخير ، والويح والويل بمعنى الهلاك ، ونسبتهما إلى الرجل نسبة الفعل إلى فاعله ، ومنه : أعجبني طيب زيد أبا ، إذا كان الأب نفس زيد ، وتعلّق الفعل بالمفعول لا بالفاعل ثم إنّا لا نعلم تمييزا جاء باعتبار متضايفين حذف المضاف منهما.

والوجه الثالث : أن يكون مفعولا مطلقا ، والأصل : الإعراب تغيير الآخر لعامل اصطلحوا على ذلك اصطلاحا ، ثم حذف العامل واعترض بالمصدر بين المبتدأ والخبر ، وهذا الوجه مردود أيضا لأنّه ممتنع في قولك : الإعراب لغة البيان ، فإنّ اللغة ليست مصدرا لأنّها ليست اسما لحدث وإنما هي اسم للفظ المسموع ، ولهذا توصف بما توصف به الألفاظ المسموعة فيقال : لغة فصيحة كما يقال كلمة

٢٢٩

فصيحة ، وزعم أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله في أماليه أنّ ذلك على المفعول المطلق ، وأنّه من المصدر المؤكد لغيره ، قال : «ذلك لأنّ معنى قولنا : الإجماع لغة العزم ، مدلول الإجماع لغة : العزم ، والدّلالة تنقسم إلى دلالة شرع وإلى دلالة عرف ، فلمّا كانت محتملة وذكر أحد المحتملات كان مصدرا من باب المصدر المؤكد لغيره» ، وفيما قاله نظر من وجهين :

الأول : ما ذكرنا من أنّ اللغة ليست مصدرا لأنّها ليست اسما لحدث.

والثاني : أنّ ذلك لو كان مصدرا مؤكدا لغيره لكان إنّما يأتي بعد الجملة ، فإنه لا يجوز أن يتوسّط ولا أن يتقدّم لأنّه لا يقال : زيد حقا ابني ، ولا حقا زيد ابني ، وإن كان الزّجّاج يجيز ذلك ، ولكنّ الجمهور على خلافه.

والوجه الرابع : أن يكون مفعولا لأجله ، والتقدير : تفسير الإعراب لأجل الاصطلاح ، أي : لأجل بيان الاصطلاح ، وهذا الوجه أيضا لا يستقيم لأنّ المنتصب على المفعول له لا يكون إلّا مصدرا كقمت إجلالا له ، ولا يجوز : جئتك الماء والعشب بتقدير مضاف أي : ابتغاء الماء والعشب.

الوجه الخامس : وهو الظاهر ، أن يكون حالا على تقدير مضاف إليه من المجرور ومضافين من المنصوب ، والأصل : تفسير الإعراب موضوع أهل اللغة أو موضوع أهل الاصطلاح ثم حذف المتضايفان على حد حذفهما في قوله تعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) [طه : ٩٦] ، أي : من أثر حافر فرس الرسول ، ولمّا أنيب الثالث عمّا هو الحال بالحقيقة التزم تنكيره لنيابته عن لازم التنكير ، كما في قولهم : «قضية ولا أبا حسن لها» (١) والأصل ولا مثل أبي الحسن لها ، فلمّا أنيب أبو حسن عن مثل جرّد عن أداة التعريف ، ولك أن تقول : الأصل : موضوع اللغة أو موضوع الاصطلاح على نسبة الوضع إلى اللغة أو الاصطلاح مجازا ، وحينئذ فلا يكون فيه إلا حذف مضاف واحد ، ويصير نظير قول بعض العرب :

«كنت أظنّ العقرب أشدّ لسعة من الزّنبور فإذا هو إيّاها» على تأويل ابن الحاجب فإنّه أعرب إيّاها حالا ، على أنّ الأصل : فإذا هو موجود مثلها ، فحذف الخبر كما حذف من «خرجت فإذا الأسد» ، ثم حذف المضاف وهو مثل وقام المضاف إليه مقامه ، فتحول الضمير المجرور ضميرا منصوبا ، بل تخريج ما نحن فيه على ذلك أسهل ، لأنّ لفظ الضمير معرفة ، فانتصابه على الحال بعيد.

والظاهر في المثال المذكور أنّه مفعول الفعل محذوف هو الخبر ، والتقدير :

__________________

(١) انظر الكتاب (٢ / ٣٠٩).

٢٣٠

فإذا هو يشبهها ولمّا حذف الفعل انفصل الضمير ، أو أنّه هو الخبر ، كما في قول الأكثرين : فإذا هو هي ، ولكن أنيب ضمير النصب عن ضمير الرفع.

الكلام في قوله يجوز كذا خلافا لفلان

وأمّا قوله : يجوز كذا وكذا خلافا لفلان ، فقد يقال : إنّه يجوز فيه وجهان :

الوجه الأول : أن يكون مصدرا ، كما أنّ قولك : يجوز كذا اتفاقا أو إجماعا ، بتقدير اتّفقوا على ذلك اتّفاقا وأجمعوا عليه إجماعا ، ويشكل على هذا أنّ فعله المقدّر إمّا اختلفوا أو خالفوا أو خالفت ، فإن كان اختلفوا أشكل عليه أمران :

أحدهما : أنّ مصدر اختلف إنما هو الاختلاف لا الخلاف.

والثاني : أنّ ذلك يأبى أن تقول بعده : لفلان ، وإن كان خالفوا أو خالفت أشكل عليه أن «خالف» لا يتعدّى باللام بل بنفسه ، وقد يختار هذا القسم ويجاب عن هذا الاعتراض بأن يقال : قدّر اللام مثلها في سقيا له ، أي : متعلقة بمحذوف تقديره : أعني له أو إرادتي له ، ألا ترى أنّها لا تتعلّق بسقيا لأنّ سقى يتعدّى بنفسه؟

والوجه الثاني : أن يكون حالا ، والتقدير : أقول ذلك خلافا لفلان أي : مخالفا له ، وحذف القول كثير جدا حتى قال أبو علي : «هو من حديث البحر قل ولا حرج» ، ودلّ على هذا العامل أنّ كل حكم ذكره المصنّفون فظاهر أمرهم أنّهم قائلون به ، وكأنّ القول مقدّر قبل كلّ مسألة ، وهذه العلة قريبة من العلة التي ذكروها لاختصاصهم الظروف بالتوسّع فيها ، وذلك أنّهم قالوا : إن منزّلة من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها ، وإنها لا تنفكّ عنها ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأمّا قوله : «وقال أيضا» فاعلم أنّ (أيضا) مصدر آض ، وآض فعل يستعمل وله معنيان :

الأول : رجع ، فيكون تاما ، قال صاحب المحكم : «وآض إلى آهله : رجع إليهم» انتهى في وكذا قال ابن السكيت وغيرهما : وهذا هو المستعمل مصدره هنا.

والثاني : صار ، فيكون ناقصا عاملا عمل كان ، ذكره ابن مالك وغيره وأنشدوا قول الراجز :

٥٤٦ ـ ربّيته حتّى إذا تمعددا

وآض نهدا كالحصان أجردا

كان جزائي بالعصا أن أجلدا

__________________

٥٤٦ ـ الرجز للعجاج في ملحق ديوانه (٢ / ٢٨١) ، وخزانة الأدب (٨ / ٤٢٩) ، والدرر (١ / ٢٩٢) ، والمحتسب (٢ / ٣١٠) ، وبلا نسبة في تاج العروس (عدد) و (معد) ، وأساس البلاغة (معد) ، ـ ـ

٢٣١

ورواه الجوهري : وصار نهدا ، يقال تمعدد الغلام : إذا شبّ وغلظ ، والنّهد : عظيم الجسم من الخيل ، وإنما يوصف به الإنسان على وجه التشبيه ، والأجرد الذي لا شعر عليه.

وانتصاب «أيضا» في المثال المذكور ليس على الحال من ضمير «قال» كما توهّمه جماعة من الناس فزعموا أنّ التقدير : وقال أيضا أي : راجعا إلى القول وهذا لا يحسن تقديره إلّا إذا كان هذا القول إنّما صدر من القائل بعد صدور القول السابق له حتى يصحّ أن يقال : إنّه قال راجعا إلى القول بعد ما فرغ منه ، وليس ذلك بشرط في استعمال أيضا ، ألا ترى أنّك تقول : قلت اليوم كذا وقلت أمس أيضا كذا؟ وكذلك تقول : كتبت اليوم وكتبت أمس أيضا.

والذي يظهر لي أنّه مفعول مطلق حذف عامله ، أو حال حذف عاملها وصاحبها ، وذلك أنّك قلت : وقال فلان ، ثم استأنفت جملة فقلت أرجع إلى الإخبار رجوعا ولا أقتصر على ما قدّمت ، فيكون مفعولا مطلقا ، أو التقدير : أخبر أيضا أو أحكي أيضا ، فيكون حالا من ضمير المتكلّم ، فهذا هو الذي يستمرّ في جميع المواضع ، وممّا يؤنسك بما ذكرته من أنّ العامل محذوف أنّك تقول : عنده مال وأيضا علم ، فلا يكون قبلها ما يصلح للعمل فيها ، فلا بدّ حينئذ من التقدير ، وعلى ذلك قال الشاطبيّ رضي الله عنه وقد ذكر أنّه لا يدغم الحرف إذا كان تاء متكلم أو تاء مخاطب أو منوّنا أو مشدّدا : [الطويل]

٥٤٧ ـ ككنت ترابا أنت تكره واسع

عليم وأيضا تمّ ميقات مثّلا

قال أبو شامة رحمه الله تعالى : «قوله : أيضا أي : أمثّل النوع الرابع ولا أقتصر على تمثيل الأنواع الثلاثة ، وهو مصدر آض إذا رجع» انتهى كلامه ، فأيضا على تقديره حال من ضمير أمثل الذي قدّره ، واعلم أنّ هذه الكلمة إنما تستعمل مع ذكر شيئين بينهما توافق ، ويمكن استغناء كل منهما عن الآخر ، فلا يجوز : جاء زيد أيضا ، إلّا أن يتقدّم ذكر شخص آخر أو تدل عليه قرينة ، ولا جاء زيد ومضى عمر أيضا لعدم التوافق ، ولا اختصم زيد وعمر أيضا لأنّ أحدهما لا يستغني عن الآخر.

__________________

والدرر (٤ / ٥٩) ، وشرح شافية ابن الحاجب (٢ / ٣٣٦) ، وشرح المفصّل (٩ / ١٥١) ، واللامات (ص ٥٩) ، والمنصف (١ / ١٢٩) ، وهمع الهوامع (١ / ٨٨) ، ولسان العرب (عدد) و (معد) ، وتهذيب اللغة (٢ / ٢٦٠) ، والمخصص (١٤ / ١٧٥).

٥٤٧ ـ انظر شرح الشاطبية (ص ٦٣).

٢٣٢

الكلام في (هلمّ جرّا)

وأمّا قوله : هلمّ جرّا ، فكلام مستعمل في العرف كثيرا ، وذكره الجوهري في صحاحه ، فقال في فصل الجيم باب الراء : «وتقول : كان ذلك عام كذا وهلمّ جرّا إلى اليوم» ، هذا جميع ما ذكره ، وذكر الصاغاني في عبابه ما ذكره صاحب الصحاح ولم يزد عليه ، وذكر أبو بكر بن الأنباري «هلمّ جرّا» في كتاب الزاهر ، وبسط القول فيه وقال : «معناه : سيروا على هينتكم ، أي : تثبّتوا في سيركم ، ولا تجهدوا أنفسكم» قال : «وهو مأخوذ من الجرّ وهو أن تترك الإبل والغنم ترعى في السّير ، قال الراجز :

٥٤٨ ـ لطالما جررتكنّ جرّا

حتّى نوى الأعجف واستمرّا

فاليوم لا آلو الرّكاب شبرا

قلت : الأعجف : الهزيل ، ونوى : صار له نيّ بفتح النون وتشديد الياء وهو الشحم ، وأمّا النّييء بكسر النون وبالهمز بعد الياء ساكنة فهو اللحم الذي لم ينضج ، واستمرّ كأنه استفعل من المرّة بكسر الميم ، وهو القوّة ، ومنه قوله : (ذُو مِرَّةٍ) [النجم : ٦] ، قال : وفي انتصاب «جرّا» ثلاثة أوجه :

الأول : أن يكون مصدرا وضع موضع الحال ، والتقدير : هلمّ جارّين ، متثبتين.

الثاني : أن يكون على المصدر لأنّ في «هلمّ» معنى جرّوا ، فكأنه قيل : جرّوا جرّا ، وهذا على قياس قولك : جاء زيد مشيا ، فإنّ البصريين يقولون : تقديره : ماشيا ، والكوفيون يقولون : المعنى : مشى مشيا ، وقال بعض النحويين : «جرّا» نصب على التفسير انتهى كلام أبي بكر ملخصا.

وقال أبو حيان في الارتشاف : «وهلمّ جرّا معناه : تعال على هينتك متثبتا ، وانتصاب جرّا على أنه مصدر في موضع الحال ، أي : جارّين ، قاله البصريون ، وقال الكوفيون : مصدر لأنّ معنى هلمّ جرّوا ، وقيل : انتصب على التمييز ، وأوّل من قاله عابد بن يزيد ، قال : [الوافر]

٥٤٩ ـ فإن جاوزت مقفرة رمت بي

إلى أخرى كتلك هلمّ جرّا

وقال آخر من تغلب : [الرجز]

٥٥٠ ـ المطعمين لدى الشّتا

ء سدائفا مل نيب غرّا

في الجاهليّة كان سؤ

دد وائل فهلمّ جرّا

__________________

٥٤٨ ـ الرجز بلا نسبة في مجمع الأمثال (٢ / ٤٠٣) ، واللسان (جرر) ، وتاج العروس (جرر).

٥٤٩ ـ البيت لعائذ بن يزيد اليشكري في مجمع الأمثال (٢ / ٤٠٣).

٥٥٠ ـ الرجز للمؤرج التغلبي في همع الهوامع (٢ / ٢٠٠) ، والدرر (٢ / ٢٣٢).

٢٣٣

انتهى ، وبعد فعندي توقف في كون هذا التركيب عربيا محضا ، والذي رابني منه أمور :

الأول : أنّ إجماع النحويين واللغويين منعقد على أنّ لهلمّ معنيين :

الأول : تعال ، فتكون قاصرة ، كقوله تعالى : (هَلُمَّ إِلَيْنا) [الأحزاب : ١٨] ، أي : تعالوا إلينا.

الثاني : أحضر ، فتكون متعدية ، كقوله تعالى : (هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) [الأنعام : ١٥٠] ، أي : أحضروهم ، ولا مساغ لأحد المعنيين هنا.

الثاني : أنّ إجماعهم منعقد على أنّ فيها لغتين : حجازية وهي التزام استتار ضميرها فتكون اسم فعل ، وتميمية وهي أن يتصل بها ضمائر الرفع البارزة ، فيقال : هلمّا وهلمّي وهلمّوا ، فتكون فعلا ، ولا نعرف لها موضعا أجمعوا فيه على التزام كونها اسم فعل ، ولم يقل أحد : إنه سمع هلمّا جرّا ولا هلمّي جرّا ولا هلمّوا جرّا.

الثالث : أنّ تخالف الجملتين المتعاطفتين بالطلب والخبر ممتنع أو ضعيف ، وهو لازم هنا إذا قلت : كان ذلك عام كذا وكذا وهلمّ جرّا.

الرابع : أنّ أئمة اللغة المعتمد عليهم لم يتعرضوا لهذا التركيب حتى صاحب المحكم مع كثرة استيعابه وتتبّعه ، وإنما ذكره صاحب الصحاح ، وقد قال أبو عمرو ابن الصلاح في شرح مشكلات الوسيط : إنه لا يقبل ما تفرّد به ، وكان علة ذلك ما ذكره في أوّل كتابه من أنّه ينقل عن العرب الذين سمع منهم ، فإنّ زمانه كان اللغة فيه قد فسدت ، وأمّا صاحب العباب فإنّه قلّد صاحب الصحاح فنسخ كلامه ، وأمّا ابن الأنباري فليس كتابه موضوعا لتفسير الألفاظ المسموعة من العرب ، بل وضعه أن يتكلّم على ما يجري في محاورات الناس ، وقد يكون تفسيره له على تقدير أن يكون عربيا ، فإنّه لم يصرّح بأنّه عربي ، وكذلك لا أعلم أحدا من النحاة تكلم عليها غيره.

ولخّص أبو حيان في (الارتشاف) أشياء من كلامه ، ووهم فيه ، فإنّه ذكر أن الكوفيين قالوا : إن (جرّا) مصدر ، والبصريين قالوا : إنه حال ، وهذا يقتضي أنّ الفريقين تكلّموا في إعراب ذلك ، وليس كذلك ، وإنما قال أبو بكر : إنّ قياس إعرابه على قواعد البصريين أن يقال : إنه حال ، وعلى قواعد الكوفيين أن يقال : إنه مصدر ، هذا معنى كلامه ، وهذا هو الذي فهمه عنه أبو القاسم الزجاجي ، وردّ عليه فقال : البصريّون لا يوجبون في نحو «ركضا» أن يكون مفعولا مطلقا ، بل يجيزون أن يكون التقدير : جاء زيد يركض ركضا ، فلذلك يجوز على قياس قولهم أن يكون التقدير :

٢٣٤

هلمّ يجرّ جرّا ، انتهى. ثم أقول : قول أبي بكر : «معناه سيروا على هينتكم أي : اثبتوا في سيركم فلا تجهدوا أنفسكم» معترض من وجهين :

الأول : أنّ فيه إثبات معنى لهلمّ لم يثبته لها أحد.

الثاني : أنّ هذا التفسير لا ينطبق على المراد بهذا التركيب ، إنما يراد به استمرار ما ذكر قبله من الحكم ، فلهذا قال صاحب الصحاح : «وهلمّ جرّا إلى الآن».

وقول أبي حيان : معناه : «تعال على هينتكم» عليه أيضا اعتراضان :

الأول : أنه تفسير لا ينطبق على المراد.

الثاني : في إفراده «تعال» مع أنّه خطاب للجماعة ، وإنّما يقال : تعالوا ، كما قال الله تعالى : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) [آل عمران : ٦٤] ، وكأنه توهّم أنّ «تعال» اسم فعل ، واسم الفعل لا تلحقه ضمائر الرفع البارزة ، وقد توهّم ذلك بعض النحويين فيها وفي «هات» ، والصواب أنّهما فعلان بدليل الآية وقوله تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) [الأنبياء : ٢٤] ، وقول الشاعر : [الطويل]

٥٥١ ـ إذا قلت هاتي نوّليني تمايلت

[عليّ هضيم الكشح ريّا المخلخل]

وقوله : «لأنّ هلمّ في معنى جرّوا» منقول من كلام ابن الأنباري ، وهو خطأ منه انتقده عليه الزجاجي في مختصره ، وقال : لم يقل أحد : إنّ هلمّ في معنى جرّوا ، وفيه دليل على ما قدمته من أنّ الإعرابين المذكورين لم يقلهما البصريون والكوفيون ، وإنّما قالهما ابن الأنباري قياسا على قولهم في جاء زيد ركضا».

وتقدير البيت الأول : فإن تجاوزت أيضا مقفرة أي : ليس بها أنيس رمت بي تلك الأرض المقفرة إلى أرض أخرى مقفرة كتلك الأرض المقفرة ، وجواب الشرط إمّا «رمت بي» أو البيت بعده إن كانت «رمت» صفة لمقفرة.

وأمّا البيتان الآخران فمعناهما الثناء على قوم بالكرم والسيادة ، والعرب تمدح بالإطعام في الشتاء لأنّه زمن يقلّ فيه الطعام ، ويكثر الأكل لاحتباس الحرارة في الباطن ، والسّدائف جمع سديفة ، وهي مفعول بمطعمين ، ومعناها شرائح سنام البعير المقطّع وغيره ممّا غلب عليه من السمن ، وقوله : مل نيب أصله من النيب ، والنّيب جمع ناب وهي الناقة ، سمّيت بذلك لأنّه يستدلّ على عمرها بنابها ، وحذف نون من لأنّه أراد التخفيف حين التقى المتقاربان ، وهما النون واللام ، وتعذّر الإدغام لأنّ اللّام

__________________

٥٥١ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ١٥).

٢٣٥

ساكنة ونظيره قولهم في بني الحارث : بلحارث ، وهو شاذ ، والذي في البيت أشذّ منه لأنّ شرط هذا الحذف أن لا تكون اللام مدغمة فيما بعدها ، فلا يقال في بني النجار وبني النّضير : بنّجّار وبنّضير ، وعلّل ابن جني ذلك بكراهة توالي الإعلالين ، فإنّ اللام قد أعلّت بإدغامها فيما بعدها ، أعلّت النون التي قبلها بالحذف توالى الإعلالان ، وقد يردّ بأنّ ذلك إنما يتجنّب في الكلمة الواحدة ، ويجاب بأنّ كلّا من المتضايفين والجارّ والمجرور كالكلمة الواحدة فأعطيا حكمها ، وقوله : غرّا حال من النّيب ، وهو جمع غرّاء كحمراء وحمر وسوداء وسود ، وفي «الجاهلية» خبر كان إن قدّرت ناقصة أو متعلق بها إن قدّرت تامة بمعنى وجد ، وقوله : فهلمّ جرّا متعلق المعنى بقوله في الجاهلية ، أي : كان سؤدد وائل في الجاهلية فما بعدها.

وإذ قد أتينا على حكاية كلام الناس وشرحه وبيان ما ذكر فيه من نقد فلنذكر ما ظهر لنا في توجيه هذا الكلام بتقدير كونه عربيا ، فنقول : هلمّ هذه هي القاصرة التي بمعنى ائت وتعال ، إلّا أنّ فيها تجويزين :

الأول : أنّه ليس المراد بالإتيان هنا المجيء الحسّي ، بل الاستمرار على الشيء والمداومة عليه ، كما تقول : امش على هذا الأمر ، وسر على هذا المنوال ومنه قوله تعالى : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) [ص : ٦] ، المراد بالانطلاق ليس الذهاب الحسيّ بل انطلاق الألسنة بالكلام ، ولهذا أعربوا أن تفسيرية وهي إنما تأتي بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه كقوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) [المؤمنون : ٢٧] ، والمراد بالمشي ليس بالأقدام ، بل الاستمرار والدوام ، أي : دوموا على عبادة أصنامكم واحبسوا أنفسكم على ذلك.

الثاني : أنه ليس المراد الطلب حقيقة ، وإنما المراد الخبر ، وعبّر عنه بصيغة الطلب كما في قوله تعالى : (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢] ، (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] ، و «جرّا» مصدر جرّه يجرّه إذا سحبه ، ولكن ليس المراد الجرّ الحسّيّ ، بل المراد التعميم كما استعمل السحب بهذا المعنى ، ألا ترى أنّه يقال : هذا الحكم منسحب على كذا أي شامل له؟ فإذا قيل : كان ذلك عام كذا وهلمّ جرّا فكأنّه قيل : واستمرّ ذلك في بقية الأعوام استمرارا ، فهو مصدر ، واستمر مستمرا فهو حال مؤكدة ، وذلك ماش في جميع الصور ، وهذا هو الذي يفهمه الناس من هذا الكلام ، وبهذا التأويل ارتفع إشكال العطف ، فإنّ (هلمّ) حينئذ خبر ، وإشكال التزام إفراد الضمير ، إذ فاعل هلمّ هذه مفرد أبدا ، كما تقول : واستمرّ ذلك أو واستمرّ ما ذكرته.

٢٣٦

فإن قلت : قد اشتملت هذه التوجيهات التي وجّهت بها هذه المسألة على تقديرات كثيرة وتأويلات متعقدة ولم يعهد في كلام النحويين مثل ذلك ، قلت : ذلك لأنّك لم تقف لهم على كلام على مسائل متعقدة مشكلة اجتمعت في مكان واحد ، ولو وقفت لهم على ذلك لوجدت في كلامهم مثل ذلك وأمثاله ، والله تعالى أعلم ، وصلّى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

إعراب قوله صلّى الله عليه وسلّم : كلمتان خفيفتان على اللسان سبحان الله وبحمده ،

سبحان الله العظيم لابن الهمام

قال الشيخ الإمام العلامة المحقّق كمال الدين محمد الشهير بابن الهمام الحنفي رحمه الله تعالى :

الحمد لله ، اللهمّ صلّ على سيّدنا محمّد عبدك ونبيك ورسولك محمد وآله وسلم ، وبعد :

فقد دخلت عليّ امرأة بورقة ذكرت أنّ رجلا دفعها إليها يسأل الجواب عمّا فيها ، فنظرت فإذا فيها سؤال عن إعراب صلّى الله عليه وآله وسلّم : «كلمتان خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» (١).

هل «كلمتان» مبتدأ «وسبحان الله» الخبر أو قلبه؟ وهل قول من يجيز «سبحان الله» للابتداء لتعرّفه صحيح أم لا؟ وهل قول من ردّه للزوم «سبحان الله» النصب صحيح أم لا؟ وهل الحديث ممّا تعدّد فيه الخبر أم لا؟

فكتب العبد الضعيف على قلّة البضاعة وطول التّرك وعجلة الكتابة في الوقت ما نصّه :

الوجه الظاهر أنّ «سبحان الله» إلى آخره الخبر ، لأنّه مؤخّر لفظا ، والأصل عدم مخالفة اللفظ محلّه إلّا لموجب يوجبه ، وهو من قبيل الخبر المفرد بلا تعدّد ، لأنّ كلّا من «سبحان الله» مع عامله المحذوف الأول والثاني مع معموله الثاني إنّما أريد لفظه ، والجملة الكثيرة إذا أريد لفظها فهي من قبيل المفرد الجامد ، ولذا لا تتحمل ضميرا ولأنّه محطّ الفائدة بنفسه بخلاف عكسه ، فإنّه إنما يكون محطّها باعتبار

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (٣١) ، وابن ماجه في سننه رقم (٣٠٨٦).

٢٣٧

وصفه ، ألا ترى أنّ في عكسه يكون الخبر «كلمتان»؟ ومن البيّن أن ليس متعلق الفرض الإخبار من النبي صلّى الله عليه وسلّم عن سبحان الله إلخ ... بأنّهما كلمتان ، بل بملاحظة وصفه ، أعني : خفيفتان ثقيلتان حبيبتان فكان اعتبار سبحان الله إلخ ... خبرا أولى ، فهو مثال : «هجّيرى أبي بكر لا إله إلّا الله» ، ونحوه ممّا أوردوه مثالا للإخبار بالجملة التي أريد لفظها.

وأمّا منع كونه خبرا أو مبتدأ بسبب لزوم نصب «سبحان الله» فإنّما يصدر ممّن لم يفهم معنى قولنا : إنما أريد بالجملة لفظها ، وعلامة إعراب الخبر في مثله وهو الرفع في محله ، فالحاصل أنّ كلّا من حيث العربية يجوز ، وأما من حيث الأولويّة بالنظر إلى المعنى فكلمتان مبتدأ مسوّغ بالأوصاف المختصة ، ولفظ «سبحان الله» وما بعده خبره ، وأمّا جعل «سبحان الله» معرفة فإن أراد به حال كونه مرادا به معناه فصحيح ، وتعريفه بالإضافة ، وهو ما كان المتكلم ذاكرا مسبّحا ، وإن أراد به حال كونه أريد به مجرّد لفظه على معنى أنّ الكلمتين الموصوفتين بتعلق حبّ الله تعالى بهما هاتان اللّفظتان اللّتان هما سبحان الله صادرتين من مريد معناهما وهو تنزيه الله تعالى فلا ، فإنّ أنواع المعارف محصورة وليس هو منها ، إذ لم يرد على هذا التقدير معنى الإضافة ولا خصوص النسبة التي باعتبارها يحصل التعريف ، فإن ادّعي أنه من قبيل العلم بناء على أنّ كل لفظ وضع ليدل على نفسه كما وضع ليدل على غيره كما ذكر ابن الحاجب فليعلم أنّه على تقدير صحة هذه الدعوى لم يعط لهذا الوضع حكم الوضع للدّلالة على غيره ، ولذا لم يقل أحد بأنّ كل لفظ مشترك وهو لازم من جعل كل لفظ وضع ليدل على نفسه كما وضع ليدل على غيره ، فعلم أنّ إعطاء اسم المعرفة والنكرة والمشترك وسائر الألقاب الاصطلاحية باعتبار الوضع للدلالة على غيره ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم دفعت الورقة للمرأة ، ثم بعد أن مضى على هذا نحو من خمسة أشهر سمعت أنّ بعض الإخوان ذهب بجوابي هذا مقترنا بثلاثة أجوبة لأهل العصر مخالفة لجوابي ، وجواب رابع للذاهب إلى بعض ملوك الدنيا لما كان من أهل العلم والفهم في الاصطلاحات ليوقف على خطأ المخطئ وإصابة المصيب ، وحاصل ذلك اتفاقهم على أنّ الوجه الذي رجّحته جعلوه متعينا بناء على أنّ محط الفائدة يتعيّن أن يكون «سبحان الله وبحمده» إلى آخره ، ومنهم من ذكر أوجها لإبطال قلبه :

منها : أنّ «سبحان الله» لزم الإضافة إلى مفرد ، فجرى مجرى الظروف ، والظرف لا يقع إلّا خبرا ، ولأنّه ملزوم النصب ، ولأنّه مركب من معطوف ومعطوف عليه ، وهذه

٢٣٨

الأوجه الثلاثة يستقلّ بدفعها على ما في بعضها من التحكم ما ذكرناه من أنّ الكلام الواقع خبرا إنّما أريد به لفظه ، ومن أمثلتهم من ابتدائية المتعاطفين إذا أريد به مجرد اللفظ : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله كنز من كنوز الجنّة».

ومنها : أنّ «سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» كلمة ، إذ المراد بالكلمة في الحديث اللغويّة ، فلو جعل مبتدأ لزم الإخبار عمّا هو كلمة بأنّه كلمتان ، ولا يخفى على سامع أنّ المراد اعتبار «سبحان الله وبحمده» كلمة و «سبحان الله العظيم» كلمة ، فالمجموع كما يصحّ أن يعبّر عنه بكلمة كذلك يصحّ أن يعبّر عن كل جملة منه بكلمة ، غير أنّ لمّا كان كلّ من الجملتين ، أعني «سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم» ـ ممّا يستقلّ ذكرا تاما ويفرد بالقصد إليه وبقوله اعتبر كلمة وعبّر عنهما بكلمتين ، على أنّ ما ذكره لازم على تقدير جعل «سبحان الله» الخبر كما هو لازم على تقدير جعله مبتدأ ، لأنّه كما لا يصحّ أن يخبر عمّا هو كلمة بأنّه كلمتان بما هو كلمة ، فإنّ الحاصل على تقدير كون «كلمتان» المبتدأ أنّ الكلمتين اللّتين هما كذا وكذا هما الكلمة التي هي «سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم».

وبجوابنا اندفع عن الشقين لا بما قيل في جوابه : إن سبحان الله إلخ .. تضمن عطفا فيقوم مقام المتعدد ويخبر عنه بكلمتين ، وهذا إن أريد به الكائن في «وبحمده» فهو على تقدير كونه خبرا محضا ، وإلّا فإن جعل «سبحان الله» نقل إلى الإنشاء ـ وإن كان إخبارا ـ صيغة كصيغ العقود كبعت ، وبحمده مع متعلقه خبرا لم يكن عطفا عليه لأنه إنشاء ، وعلى تقدير حذف العاطف ، أي : وسبحان الله وهو قليل ومختلف فيه ، وعلى تقدير صحتهما لا يندفع السؤال ، فإن السائل قال : المراد بالكلمة اللغوية ، فالمجموع من «سبحان الله» إلى آخر الكل كلمة ، ومعلوم أن وجود العطف في أثناء الكلام الكثير لا يمنع من إطلاق لفظ كلمة عليه ترى قولنا : له كلمة شاعر ، يعنون القصيدة ، لا يصح إلّا أن تكون قصيدة لم يقع في مجموعها عطف ، أنّى يكون هذا؟ وحينئذ فالمجموع من المتعاطفين كلمة ، فلا يخبر عنه بأنه كلمتان ، ويعود السؤال فلا يفيد إلّا أن يعود إلى جواب الفقير إن شاء الله تعالى.

ومنها : أنّ جعل المبتدأ «سبحان الله» إلخ .. يفوّت نكتة ، وهي إرادة حصر الخبر في المبتدأ ، وأنت لا يخفى عنك أنّ الحصر إمّا أن يكون بالأداة أو بتقديم الخبر أو المعمول ، والتقديم إنّما هو في جعل «سبحان الله وبحمده» المبتدأ والكلمتان الخبر ، فيصير من قبيل : «تميميّ أنا» لا في جعل «كلمتان» المبتدأ

٢٣٩

و «سبحان الله» الخبر ، وهو مراده إذ لا تقديم فيه ، وإذا لم يكن تقديم فإنما يجيء الحصر في المعرّف بلام الجنس للاستغراق لزوما عقليا ، كقولنا : العالم زيد ، إذا جعلنا العالم مبتدأ ، واليمين على المدعى عليه ، فيفيد أن لا يمين على غيره بسبب جعل الكلّ عليه ، لأنّه ليس وراء الكلّ شيء ، وكأنه ذهب عليه أنّ المذكور في الحديث الكلمتان الخفيفتان الحبيبتان سبحان الله إلخ ، وليس مثله بعجيب على الإنسان كما ذهب على الذاهب بجوابي ليرى غلطه أني جعلت كون الفائدة في جعل «سبحان الله» مبتدأ باعتبار وصف الخبر لا نفسه وجها لردّ ابتدائية سبحان الله إلخ .. ، فأورد عليه لزوم عدم صحة «زيد رجل صالح» وأنا لست من هذا ، وإنّما جعلته كما هو صريح في كتابتي وجه مرجوحيته وأولوية كونه خبرا فليرجع إلى نظر الكتابة ، غير أنّ النفس إذا ملئت بقصد الرد يقع لها نحو هذا السهو في الحسّ ، وإذا كان المذكور في الحديث «كلمتان» بلا تعريف جنس استغراقي لم يكن حصر ، بل المراد الإخبار بسبحان الله وبحمده .. إلخ عن الكلمتين الموصوفتين كما ارتضاه الكاتبون وجعله العبد الضعيف أولى الوجهين ، أو عن سبحان الله وبحمده بأنهما حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان ، والمعنى أنّ اللفظ الذي عهدتموه وتقولونه وهو سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم له من المقدار عند الله أنّهما كلمتان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن ، ولا يخفى أنّه لا يراد مطلق ثقل ما ومحبّة ما ، لأن ذلك معلوم للمؤمنين غير مجهول لهم في كلّ ذكر لله هذا وغيره أنه كذلك ، فلو أريد ذلك لم تكن الجملة الخبرية كلها مجدّدة فائدة عند السامعين ، سواء جعلت «سبحان الله» مبتدأ أو خبرا ، بل هي حينئذ بمنزلة «النار حارّة» ونحوه ، ومثله يجب صون كلام بعض البلغاء عنه ، فكيف بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ سواء جعلت تجدّد الفائدة شرطا لكون الجملة كلاما أو لم تجعل ، فإن الذي لا يشرطه لا يقول : إنه قد حصل فائدة تامة ، إلّا أنّه لا يشرطها في مسمى الكلام اصطلاحا ، وحينئذ وجب كون المراد زيادة ثقل وزيادة محبة ممّا لا يلزم كلّ مؤمن يعلم أنّ للذكر ثوابا ، وإذا ظهر أنّ كلّا من «ثقيلتان» وحبيبتان وسبحان الله وبحمده ، يصلح محطّ فائدة يكون بها خبرا ، ويزداد جعل «سبحان الله» مبتدأ قدّم خبره بنكتة بلاغية لأجلها قدّم الخبر ، وهي التشويق إلى المبتدأ ، وكلّما طال الخبر حسن هذا النوع ، لأنّه كلّما طال بذكر الأوصاف ازداد الشوق إلى المحدّث عنه بها ، كما هو في الحديث الكريم حيث قال : «كلمتان خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن» فإنّ النفس كثر تشوّقها بذلك إلى سماع المحدّث عنه بها ، فلم يجئ «سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» إلّا والنفس في غاية الشوق إلى سماعه ، فهو مثل قوله : [البسيط]

٢٤٠