الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٦٤

وإنّ كلابا هذه عشر أبطن

وأنت بريء من قبائلها العشر

فأنّث والبطن مذكر ، لا خلاف فيه ، لأنّه جعل البطن قبيلة فحمله على المعنى ، وفسر ذلك بقوله : وأنت بريء من قبائلها العشر ، ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) [الأعراف : ١٦٠] ، فأنّث والسّبط مذكر لأنّه أراد بالسّبط الأمة والجماعة ، وفسّر ذلك بقوله : (أَسْباطاً أُمَماً) فقر الأسباط بالأمم ، وفي هذه الآية سؤال آخر أن يقال : لم قال : اثنتي عشرة أسباطا ، ففس بالجمع ولم يقل اثنتي عشر سبطا ، كما تقول : رأيت اثنتي عشرة امرأة ، ولا تقول : نساء ، ولا يفسر العدد بعد العشرة إلى التسعة والتسعين إلّا بواحد يدل على الجنس ولا يفسر بالجمع؟ والجواب في ذلك : أنّه لمّا قصد الأمم ولم يقصد السّبط نفسه لم يجز أن يفسره بالسّبط نفسه ويؤنث ، ولكنّه جعل الأسباط بدلا من اثنتي عشرة ، وهو الذي يسميه الكوفيون المترجم ، فهو منصوب على البدل لا على التمييز ثم فسّره بالأمم ، ولو جاء بالأمة لقال : اثنتي عشرة أمة ولم يقل أمما لأنّه قد طابق اللفظ المعنى.

المسألة السابعة

قولك : ما العلة في تحريك أرضين ولم يحركوا خمسين في العدد العلة في ذلك أنّ الأرض مؤنثة لا خلاف في ذلك ، ويقال في تصغيرها : أريضة ، وما كان من المؤنث على ثلاثة أحرف لا هاء فيه للتأنيث فهو بمنزلة ما فيه هاء التأنيث ، لأنّها مقدّرة فيه ، ألا ترى أنّها تردّ في التصغير فيقال في تصغير هند وعين وشمس وأرض : هنيدة وعيينة وشميسة وأريضة؟ هذا مطرد غير منكسر ، إلّا ما كان من نحو : حرب وذود وما أشبه ذلك ، فإنّ الهاء لا تلحقها في التصغير لأنّها في الأصل مصادر سمّي بها ، وما كان على ثلاثة أحرف من الأسماء المؤنثة ساكن الأوسط منه مفتوح الأول نحو : صحفة وجفنة وضربة ، فإذا جمع جمع السلامة فتح الأوسط منه ، فقيل : صحفات وجفنات وضربات ، وأرضات كذلك أيضا تحرك لأنّها اسم مؤنث ، ولذلك قالت العرب في جمعها الصحيح : أرضات ، ثمّ لمّا قالوا : أرضون فجمعوها بالواو والنون تشبيها لها بمائة وثبة وعزة وبابها ، لأنّها مؤنثة كما أنّها مؤنثة ، وإن لم تكن مثلها في النقصان ، لأنّهم قد يشبّهون الشيء بالشيء وإن لم يكن مثله في جميع أحواله ، حرّكوا أوسطها بالفتح كما يحركونه مع الألف والتاء لأنّه هو الأصل فقالوا : أرضون ففتحوا كما قالوا : أرضات ففتحوا لأنّ ذلك هو الأصل ، وهذا داخل عليه.

قال سيبويه : فقلت للخليل : فلم قالوا : أهلون فأسكنوا الهاء ولم يحركوها كما حركوا أرضين؟ فقال : لأنّ الأهل مذكر ، فأدخلوا الواو والنون فيه على ما يستحقه ولم

١٠١

يحتج إلى تحريكه ، إذ ليس بمؤنث يجمع في بعض الأحوال بالألف والتاء فيحرك لذلك قال الله تعالى : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) [الفتح : ١١] ، وقال : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦].

قال سيبويه (١) : فقلت له : فلم قالوا : أهلات فحرّكوا حين جمعوا بالألف والتاء؟ قال المخبّل السعدي : [الطويل]

٤٠٩ ـ وهم أهلات حول قيس بن عاصم

إذا أدلجوا باللّيل يدعون كوثرا

فقال : شبهوه بأرضات ففتحوا لذلك ، قال سيبويه : ومنهم من يقول : أهلات فيسكّن الهاء ، وهو أقيس ، والتحريك في كلامهم أكثر ، وهذا من الشواذ الذي يحكى حكاية ولا يجعل أصلا ، أعني جمع أهل أهلات ، ومثله في الشذوذ قول بعضهم في جمع حرّة : حرّون ، والحرّة كلّ أرض ملبسة حجارة ، وكل جبل حرّة ، والقياس : حرّات وحرات ، لأنّه لم يلحقه نقصان فيجمع بالواو والنون عوضا من نقصانه ، وهذا نظير قولهم : أرضون ، وذكر يونس بن حبيب أنّ من العرب من يقول : إحرّون ، فيزيد في أوّله همزة ويكسرها ، وهذا أشذ من الأول ، فأمّا خمسون فليس من أرضين في شيء ، لأنّه اسم مبنيّ للجمع من لفظ خمسة ولا واحد له من لفظه ينطق به ، وإنّما هو بمنزلة ثلاثين من ثلاثة وأربعين من أربعة ، ولم يجمع خمسة في العدد خمسات ، ثم تدخل الواو والنون عليها ، كما قيل في أرض : أرضات ثم أدخلت الواو والنون عليها ، فدلّت على حركتها.

المسألة الثامنة

قول الشاعر : [البسيط]

٤١٠ ـ اشدد يديك بمن تهوى فما أحد

يمضي فيدرك حيّ بعده خلفا

وقول زهير : [الطويل]

٤١١ ـ ألا لا أرى ذا إمّة أصبحت به

فتتركه الأيّام وهي كما هيا

وقولك ما الوجه في قوله : «فيدرك» وفي قوله : «فتتركه الأيام» الرفع أو

__________________

(١) انظر الكتاب (٤ / ٧٧).

٤٠٩ ـ الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه (ص ٢٩٤) ، والكتاب (٤ / ٧٧) ، وخزانة الأدب (٨ / ٩٦) ، وشرح المفصّل (٥ / ٣٣) ، ولسان العرب (أهل) ، وبلا نسبة في الاشتقاق (ص ١٢٣).

٤١٠ ـ الشاهد غير موجود في المصادر التي بين أيدينا.

٤١١ ـ الشاهد لزهير في ديوانه (ص ٢٨٨) ، وبلا نسبة في رصف المباني (ص ٢٠٠).

١٠٢

النصب؟ فالوجه فيهما النصب على الجواب ، لأنّ الرفع في مثل هذا يكون على أحد وجهين : إمّا على العطف على الأوّل إذا كان يحسن اشتراك الثاني مع الأول كقولك : «ما تأتينا فتحدثنا» بالرفع ، كأنّك قلت : ما تأتينا وما تحدّثنا ، أو على القطع والابتداء ، كقولك أيضا في هذه المسألة : «ما تأتينا فتحدّثنا» ، كأنّك قلت : فأنت تحدّثنا الآن ، ومثله : «دعني فلا أعود» أي : دعني فإنّي لست ممّن يعود وكما قال الشاعر : [الطويل]

٤١٢ ـ فلا زال قبر بين تبنى وجاسم

عليه من الوسميّ جود ووابل

فينبت حوذانا وعوفا منوّرا

سأتبعه من خير ما قال قائل

كأنّه قال : فهو ينبت ، ولم يجعله جوابا ، ولك أن تقول : «ما تأتينا فتحدّثنا» إذا جعلته جوابا ، فيكون ذلك على معنيين ، أحدهما : أن يكون التقدير : ما تأتينا فكيف تحدّثنا؟ أي : لو أتيتنا لحدّثتنا ، والوجه الآخر : أن يكون التقدير : ما تأتينا إلّا لم تحدّثنا ، أي : منك إتيان كثير ولا حديث منك ، وعلى هذا الوجه النصب في البيتين اللّذين سألت عنهما ، فيقال في قول زهير : المعنى إلّا لم تتركه الأيّام وهي كما هيا ، وكذلك «فما أحد يمضي فيدرك حيّ بعده خلفا ، ألا ترى أنّك لو رفعت على العطف لكان التقدير : لا أرى ذا إمّة ولا تتركه الأيام ، وهذا غير مستقيم ، وكذلك البيت الآخر : فما أحد يمضي فيدرك بالرفع تقديره على العطف : فما أحد يمضي ولا يدرك ، وهذا محال لأنّه ليس يريد أن يقول : لا يمضي أحد ولا يدرك حيّ منه خلفا على نفيهما جميعا ، لأنّ المضيّ لا بدّ منه ، ولو رفعت أيضا على القطع والاستئناف لم يستقم ، وإذا بطل وجه الرفع فليس إلّا النصب على الجواب.

المسألة التاسعة

«ما يسأل زيد عن شيء فيجيب فيه» و «ما يسأل عن شيء فيخطئ فيه» أما قولك : «ما يسأل عن شيء فيجيب فيه» فيجوز فيه النصب والرفع ، النصب من وجهين ، والرفع من وجه واحد ، فأحد وجهي النصب : أن يكون التقدير : ما يسأل زيد عن شيء فيجيب فيه بالنصب ، والتقدير : إلّا لم يجب فيه ، أي : قد يسأل فلا يجيب ، هذا معنى الكلام ونصبه على الجواب ، والوجه الثاني : أن يكون التقدير : ما

__________________

٤١٢ ـ البيتان للنابغة في ديوانه (ص ١٢١) ، والكتاب (٣ / ٣٦) ، والردّ على النحاة (ص ١٢٦) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٥٦) ، والمقتضب (٢ / ٢١).

١٠٣

يسأل عن شيء فكيف يجيب فيه؟ أي : لو سئل لأجاب ، ووجه الرفع على العطف ، ما يسأل زيد عن شيء فيجيب فيه ، أي : ما يسأل عن شيء وما يجيب فيه ، وهو قبيح لأنّ ما لا يسأل عنه لا يجاب عنه ، ولكنه جائز مع قبحه ، يدخل في النفي مع الأوّل.

وأما قولك : «ما يسأل زيد عن شيء فيخطئ فيه» فليس فيه إلّا النصب ، لأنّ وجه العطف فيه غير مستقيم ، ألا ترى أنّك لو قلت : ما يسأل عن شيء وما يخطئ فيه كان غير مستقيم ، فالابتداء به وقطعه عمّا قبله غير جائز ، فليس إلّا النصب على الجواب ، وفيه المعنيان اللّذان في المسألة الأولى ، «ما يسأل زيد عن شيء فيخطئ فيه» بالنصب ، والتقدير إلّا لم يخطئ فيه ، أي : قد يسأل فلا يخطئ ، والوجه الآخر : ما يسأل زيد عن شيء فيخطئ فيه ، أي : فكيف يخطئ فيه ، أي : لو سئل لأخطأ.

المسألة العاشرة

قولك : ما السبب في قولهم في النسب إلى طيّئ : طائيّ ، وما الأصل في طيّئ ومن أيّ شيء اشتقاقه؟.

أمّا قولهم في النسب إلى طيّئ : طائي فالنسب في كلام العرب على ثلاثة أضرب : ضرب منه جاء مصروفا عن وجهه وحدّه شاذّا ، فسبيله أن يحفظ حفظا ويؤدّى ولا يقاس عليه ، وذلك قولهم في النسب إلى العالية : علويّ وإلى الشتاء : شتويّ وإلى الدّهر : دهريّ وإلى الروح : روحانيّ وإلى درابجرد : دراورديّ ، وإلى طيّئ : طائيّ ، وإلى الرّيّ : رازيّ وإلى مرو : مروزيّ بزيادة الزاي ، وقد قيل : مرويّ على القياس ، وقالوا في النسب إلى هذيل وفقيم كنانة : هذليّ وفقميّ ، والقياس : فقيميّ وهذيليّ ، وقالوا في النسب إلى البادية : بدويّ وإلى البصرة : بصريّ بكسر الباء ، هذا قول سيبويه (١) ، وقال غيره : بل قولهم : بصريّ قياس لأنّه يقال للحجارة الرّخوة : بصرة بفتح الباء وإلحاق هاء التأنيث ، وبصر بكسر الباء وحذف الهاء لغتان ، قالوا : ويلزم في النسب حذف الهاء ، فإذا حذفت الهاء لزم كسر الباء ، وهذا مذهب حسن ، ومن ذلك قولهم في النسب إلى الأفق (٢) : أفقيّ وإلى حروراء (٣) وهو موضع : حروريّ وإلى جلولاء (٤) جلوليّ وإلى خراسان : خرّسيّ وخراسانيّ على القياس ، ثلاث لغات حكاها

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ٣٧٤).

(٢) انظر الكتاب (٣ / ٣٦٨).

(٣) حروراء : قرية بظاهر الكوفة. (معجم البلدان ٢ / ٣٤٦).

(٤) جلولاء : مدينة قديمة مشهورة بإفريقيا ، ولها حصن وعين ثرة في وسطها. (الروض المعطار في خبر الأقطار (ص ١٦٨).

١٠٤

سيبويه ، قال سيبويه (١) : ومنه قولهم في النسب إلى صنعاء صنعانيّ بالنون ، وكذلك قالوا في النسب إلى بهراء (٢) وهي قبيلة من قضاعة : بهرانيّ بالنون ، وإلى دستواء ـ مدينة ـ : دستوانيّ بالنون ، وقال أبو العباس المبرد : النون في قولهم : دستوانيّ وبهرانيّ وصنعانيّ بدل من الهمزة ، كما أنها في عطشان بدل من ألف التأنيث التي في عطشى ، وألف عطشى بمنزلة الألف الثانية التي في حمراء المبدل منها الهمزة لأنّه اجتمع ألفان ساكنان فأبدلت الثانية همزة ، لأنّها لو حذفت صار الممدود مقصورا ، فهذا الضرب كثير من النسب جدّا في كلامهم ، والعمل فيه على السماع ، وقد ذكر سيبويه أنّ قولهم في النسب إلى طيّئ (٣) : طائيّ من هذا النوع ، وعندي أنّه مع ما ذكر سيبويه فرّوا فيه لو نسب إليه على القياس من اجتماع أربع ياءات وهمزة ، لأنّ في طيّئ ياءين وهمزة ، وكانت تلحقه ياء النسب مثقلة وهي ياءان ، وكان السبيل أن يقال : طيّئيّ ، فتجتمع أربع ياءات وهمزة وكسرتان ، فاستثقلوا ذلك فصرفوه إلى المحدود عن بابه ، فحذفوا الياء الأولى من طيّئ وهي ساكنة ، فوجب قلب الثانية ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فقيل : طائيّ ، فهذا قياسه.

وضرب منه يأتي على القياس ، كقولهم في النسب إلى بكر : بكريّ وإلى عليّ : علويّ وإلى فتى ورحى : فتويّ ورحويّ ، وما أشبه ذلك على شروطه ومقاييسه المذكورة في حدّ النسب.

وضرب منه يأتي على لفظ فعّال أو فاعل ، كقولهم لصاحب الجمال : جمّال ، ولصاحب الحمر حمّار ، ولذي الدّرع : دارع ولذي النّبل : نابل ولذي التّمر : تامر ولذي اللّبن : لابن ، وهو مسموع ينقل ويحفظ.

فأمّا القول في اشتقاق طيّئ فإني لا أحفظ فيه شيئا عن أصحابنا إلّا ابن قتيبة ذكر على ما أخبرنا عنه أبو القاسم الصائغ أنّ (٤) «نقلة الأخبار رووا أنّ طيّئا أول من طوى المناهل ، سمي بذلك وأنّ مرادا تمرّدت فسميت بذلك ، واسمها يحابر» قال : «ولا أرى كيف هذان الحرفان ، ولا أنا من هذا التأويل فيهما على يقين».

فأمّا اشتقاق مراد من التّمرّد فغير منكر لأنّ مرادا فعال من مرد فهو مارد وتمرّد فهو متمرّد ، واشتقاق مراد من التّمرّد غير بعيد ، وأمّا اشتقاق طيّئ من طويت فغير مستقيم ، لأنّ لام الفعل من طيّيء همزة ومن طويت ياء فهو خالف له وليس يجوز أن يكون طيّيء إلّا مشتقا ، والذي عندي فيه أنّ الطاءة الظلة ، وحروف فائها وعينها ولامها موافقة لحروف طيّئ ، فيشبه أن يكون فيعلا من ذلك.

__________________

(١ و ٢ و ٣) انظر الكتاب (٣ / ٣٦٨).

(٤) انظر الاشتقاق (ص ٣٩٨) ، وأدب الكتاب (ص ٦٤).

١٠٥

والناس في الاشتقاق على ثلاثة مذاهب : فأمّا جمهور العلماء من أهل اللغة والنظر من الكوفيين والبصريين مثل الخليل وأبي عمرو وسيبويه والأخفش ويونس وقطرب والكسائيّ والفراء والأصمعي وأبي زيد وأبي عبيد وغيرهم على أنّ بعض الأسماء مشتق وبعضها غير مشتق ، وأهل الظاهر يذهبون إلى أنّ الكلام كله أصل في بابه ، ليس شيء منه مشتقا من شيء ، فإن قيل : إنّ القطاميّ مشتق من القطم وهو الشّهوان للحم وغيره ، قالوا : بل القطم مشتق من القطاميّ ، وإن قيل لهم ، إنّ زهيرا من الأزهر وهو الأبيض قالوا : بل الأزهر من زهير وإن قيل لهم : إنّ الباتر في صفات السيف من البتر وهو القطع قالوا : لا ، البتر من الباتر ، ومن صيّر أحد هذين أولى بأن يكون أصلا من صاحبه ، بل الكلام كله أصل في بابه ، ويدفعون الاشتقاق أصلا ، وهؤلاء ليس ممّن يذهب مذهب أهل اللغة ، ولا يتعلق بأساليبها ، لأنّه ليس أحد من أهل اللغة يدفع الاشتقاق بوجه ولا سبب.

وقوم يذهبون إلى أنّ الكلام كله مشتق ، وهذا شيء لم ألق أحدا ممن يوثق بعلمه يقول به ، ولا قرأت فيه كتابا للمتقدمين مصنفا ، وإنّما هو قول شاذ يتعلق به بعض المتكلفين التحقق باللغة ، وبعض الناس يزعم أنّ أبا إسحاق الزجاج كان يذهب إليه ، ومعاذ الله من ذلك ، وإنّما دعاهم إلى هذا إملاء أبي إسحاق كتابه الكبير في الاشتقاق ، وذلك أنّه توغل في كثير منه وتقلّد في كثير مما هو غير مشتق عند أهل اللغة أنّه مشتق ، فأمّا أن يعتقد أنّ الكلام كله مشتق فمحال لأنّه لا بدّ للمشتق من أصل يتناهى إليه غير مشتق ، وذكرت في هذا الفصل رقعة أبي الحسن الصيمري المتكلم إلى أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد في هذا المعنى وجوابها منه ، فأجبت أن أتحفك بهما ، لما فيهما من الفوائد من حسن سؤال السائل وإجابة المجيب في الجواب.

كتب أبو الحسن الصيمري إلى أبي بكر بن دريد : أنت أدام الله عزّك كهف الأدب ، وإليك مفزع أهله فيما أشكل من اللغة ، واستعجم من معاني العربية ، وقد زعم قوم من أهل الجدل أنّ العرب تسمّت بأسماء تأدّت إليها صورها ولم يعرفوا هم معانيها وحقائقها ، فقيل لهم : أتعرفون ما تحت تلك الأسماء التي لم يعرفوا حقائقها ومجازها والاتساع فيها؟ فقالوا : لا هل يجوز عندك أن توقع العرب اسما على ما لا معنى تحته يعرفونه هم؟ وقالوا : إنّ العرب لم تدر ما الاستطاعة وما القدرة وما القوة ، فما عندك في ذلك؟ وتفضّل بتعريفنا هل في كلامهم إذا قيل لأحدهم : بماذا استطعت قطع هذا الحبل وهذا الطّنب أو هذا اللحم أن يقول بسكين أو شفرة أو

١٠٦

سيف؟ وهل يقولون : فلان قويّ على فلان بماله أو بسيفه أو برمحه؟ وهل عندك أنّ قول الله عزّ وجلّ : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] ، أنّه أراد به الراحلة والزاد دون صحة بدنه أو أراد به صحة بدنه والزاد والراحلة؟ وأفتنا في معنى قوله الله عزّ وجلّ : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) [الأنفال : ٦٠] ، هل القوة ورباط الخيل ممّا استطاعوه أو غير ذلك؟ وإن حضرك ـ أيّدك الله ـ شواهد من الشعر أو من مطلق كلام العرب بيّنت ذلك لنا وأتبعته مسؤولا بذكر ما قيل : إنّ العرب لم تعرف شيئا من حقائق الأعراض ، وهل جائز عليهم أن يسموا شيئا لا يعرفون حقيقته أم لا؟ ومننت به علينا إن شاء الله تعالى ، وأطال الله بقاءك وأدام عزك وتأييدك ، وأيد أهل الأدب بك وحرس نعمته عليك ومواهبه لديك.

فأجابه أبو بكر بن دريد : وقفت أدام الله عزك على متضمّن كتابك ، فأما المسألة الأولى فقد بينتها في أول كتاب الاشتقاق ، وهي قول من زعم من أهل الجدل أن العرب تسمّت بأسماء تأدّت إليها صورها ، ولم تعرف العرب حقائقها ، وإنّما تعلّق هؤلاء الزاعمون بما ذكره اللّيث بن المظفر في (كتاب العين) عن الخليل أنّه سأل أبا الدّقيش (١) ما الدّقش؟ فقال : لا أدري ، إنّما هي أسماء نسميها لا نعرف معناها ، وهذا جهل من اللّيث وادّعاء على الخليل ، وذلك أنّ العرب قد سمّت دقشا ثم حقّروه فقالوا : دقيش ، ثم صرّفوه من فعل إلى فنعل فسمّوا دنقشا وكل هذه أسماء ، فلو لم يكن للدّقش أصل في كلامهم ولم يقفوا على حقيقته لم يجيئوا به مكبّرا ومحقّرا ومصرّفا من فعل إلى فنعل ، والدّقيش طائر أغيبر أريقط معروف عندهم ، قال غلام من العرب ، أنشده يونس ومكوزة : [الرجز]

٤١٣ ـ يا أمّتاه واخصبي العشيّه

قد صدت دقشين وسندريّه

وليس قول الليث مقبولا على أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد نضّر الله وجهه ، والدليل على ذلك تخليط الليث في كتاب العين واحتجاجه بالأشعار الضعيفة ، ثم بأشعار المولدين نحو أبي الشّمقمق ومن أشبهه.

وأما قولك أيّدك الله : أيجوز عندي أن توقع العرب اسما على ما لا معنى له؟

__________________

(١) أبو الدقيش القناني الغنوي ، وذكره ابن النديم بالسين المهملة. (انظر الفهرست ص ٧٦). وهو أحد فصحاء الأعراب.

٤١٣ ـ الرجز بلا نسبة في لسان العرب (دقش) ، وتاج العروس (دقش) ، والتنبيه والإيضاح (٢ / ٣١٨).

١٠٧

فهذا خلف من الكلام ، ليس في كلامهم كلمة جدّ ولا هزل إلّا وتحتها معنى من فنها ، ولو تكلف ذلك متكلف حتى يستقصيه لأوضح منه ما خفي ، فأمّا قولهم : إنّ العرب لم تدر ما الاستطاعة وما القدرة وما القوة فكيف يكون ذلك وقد جاء في الشعر الفصيح عن المطبوعين دون المتكلفين؟ قال عمرو بن معد يكرب : [الوافر]

٤١٤ ـ إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

وقال القطاميّ وهو حجة : [الوافر]

٤١٥ ـ أمور لو تدبّرها حليم

لهيّب أو لحذّر ما استطاعا

وهذا يكثر أدام الله تأييدك ، فأمّا القول في أنّهم إذا قيل لأحدهم : بم استطعت قطع الحبل أو هذا الطّنب أن يقول : بسكين أو شفرة أو سيف فللاستطاعة عندهم موضعان : موضع بفضل قوة وشدة بطش ، وموضع بآلة نحو : السيف والشفرة وما أشبههما ، وفي الجملة أنّهم لا يؤمنون بالاستطاعة إلّا إلى الإنسان دون سائر الحيوان ، ولهم ترتيب في لغتهم ، يقولون : فلان يستطيع أن يرقى هذا الجبل ، وهذا الجمل مطيق للسفر ، وهذا الفرس صبور على مماطلة الحضر ، وكذلك قول الله عزّ وجلّ : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] ، إنّما قال : «استطاع» لمّا وقع الخطاب على «من» وهي تقع على من يعقل خاصة ، فلزم هذا الخطاب المستطيعين الحج بأيّ ضرب من الضروب كان مطلقا بزاد وراحلة وصحة بدن وكيفما وجد السبيل إليه ، هكذا ظاهر الخطاب ومخرجه على مذاهب كلام العرب.

وأمّا قوله عزّ وجلّ : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) [الأنفال : ٦٠] فليس المراد بالقوة هاهنا قوة الأجسام التي بها يكون بطشها وتصرّفها واقتدارها على ما تحاول ، لأنّ ذلك ليس إلى الناس الزيادة فيه ولا النّقصان منه ، وإنّما الله يزيد في قوى الأجسام وينقص منها كما يريد تبارك وتعالى ، وإنّما أريد به والله أعلم : وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة أي : من الأشياء التي تتقوّون بها على العدو من سلاح وآلة وأصحاب وأنصار ، وغير ذلك ممّا تفلّون به غرب عدوكم وتعلون به عليهم ، وكذلك قوله : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أي : وأعدّوا لهم من الخيل ما تتقوّون به عليهم ، وهذه القوة ورباط الخيل مّا كانوا يستطيعون إعداده ويمكنهم ، فأمروا

__________________

٤١٤ ـ الشاهد لعمرو بن معد يكرب في ديوانه (ص ١٤٥) ، وتاج العروس (زمع) و (طوع) و (ودع) ، والأصمعيات (ص ١٧٥).

٤١٥ ـ الشاهد في ديوانه (ص ٣٤) ، وطبقات فحول الشعراء (ص ٥٣٨).

١٠٨

بإعداده للعدوّ ليرهبوهم وليخيفوهم ، وهذا باب يطول جدا ، وفيما أومأت إليه دليل عما سواه مما يتصل به.

وأما سؤالك أيّدك الله عن مذاهب العرب في العرض ، وهل كانوا عارفين به أم كيف سمّوا شيئا لا يعرفون حقيقته ، فقد ذكرت لك أيدك الله أنّه ليس في كلامهم من اسم هزل ولا جدّ إلّا وتحته معنى من جنسه ، ولكنّهم لم يكونوا يذهبون بالعرض مذاهب المتفلسفة ولا طريق أهل الجدل ، وإن كان مذهبهم فيه لمن تدبّر مطابقا لغرض الفلاسفة والمتكلمين في حقيقته ، وذلك أنّهم يذهبون بالعرض إلى أسماء منها : أن يضعوه موضع ما اعترض لأحدهم من حيث لم يحتسبه ، كما يقال : علّقت فلانة عرضا أي اعتراضا من حيث لم أقدّره ، قال الأعشى : [البسيط]

٤١٦ ـ علّقتها عرضا وعلّقت رجلا

غيري وعلّق أخرى ذلك الرّجل

وقد يضعونه موضع ما لا يثبت فلا يدوم ، كقولهم : كان ذلك الأمر عن عرض ثم زال ، وقد يضعونه موضع ما يتصّل بغيره ويقوم به ، وقد يضعونه مكان ما يضعف ويقلّ ، فكأنّ المتكلمين استنبطوا العرض من أحد هذه المعاني فوضعوه لما قصدوا له ، وهو ـ إذا تأملته ـ غير خارج عن مذاهب العرب ، وكذلك الجوهر عند العرب ، إنما يشيرون به إلى الشيء النفيس الجليل ، فاستعمله المتكلمون فيما خالف الأعراض ، لأنّها أشرف منها ، وقد ولّدت أسماء في الإسلام لم تكن العرب قبله عارفة بها ، إلّا أنّها غير خارجة عن معاني كلامها واستفادة معرفتها إذ كانت على أوضاعها والمعاني التي تعقلها ، وذلك نحو الكافر والفاسق والمنافق إنما اشتقاق الكافر من كفرت الشيء إذا سترته وغطيته ، والفاسق من فسقت الرّطبة إذا خرجت من قشرها ، واشتقاق المنافق من النّافقاء وهو أحد جحرة اليربوع إلى كثير من ذلك يطول تعداده ، وكذلك في كل زمان وأوان لا يخلو الناس فيه من توليد أسماء يحدث لها أسباب ، فيتعارفونها بينهم بكل لغة ولسان ، فليس هذا منكرا إذا كان ذلك غير خارج عن الأصول المتفق عليها والمعاني المعقولة بينهم ، وفيما ضمّنت من كتاب الاشتقاق ما يدلك على ما التمست الوقوف عليه من هذا النحو ، وهذا من القول كاف في جواب ما سألت عنه ، وأطال الله بقاءك وأدام عزك وتأييدك ، وأتمّ نعمته عليك وعلى أهل العلم بك وفيك وعندك.

__________________

٤١٦ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١٠٧) ، وشرح التصريح (١ / ٢٨٦) ، ولسان العرب (عرض) و (علق) ، وتاج العروس (علق) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٥٠٤) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٢ / ١٣٦).

١٠٩

المسألة الحادية عشرة

وهي آخر مسائلك ، وهي قولك : ما وزن أرطى وأفعى وأروى ، وهل هي على وزن أفعل أم الألف في آخرها منونة؟

أمّا أرطى فللعرب فيها مذهبان : أكثرهم على أنّ الهمزة في أوّلها أصلية ، والألف في آخرها مزيدة للإلحاق ، فتقديرها فعلى ملحق بفعلل نحو : جعفر وسلهب ، فالألف ألحقته بهذا البناء ، والدليل على ذلك قولهم : أديم مأروط إذا دبغ بالأرطى ، ولو كانت الهمزة مزيدة وكان على وزن أفعل لقيل : أديم مرطيّ ، والأرطى جمع واحدتها أرطاة ، وهي شجرة تدبغ بها العرب ، وذكر الجرميّ أنّ من العرب من يقول : أديم مرطيّ ، فأرطى على هذا التقدير أفعل ، والهمزة في أولها زائدة ، فإذا سمّي بها مذكر على المذهب الأول وهو المشهور المعروف لم ينصرف في المعرفة وانصرف في النكرة ، وإذا سمي بها في المذهب الثاني مذكر لم ينصرف أيضا في المعرفة وانصرف في النكرة ، فأمّا الآن في موضعها وهي شجر فهي مصروفة للنكرة ، فتقول : أرطاة وأرطى كما ترى مصروف واحده وجمعه لأنه نكرة ، وذكر سيبويه (١) وغيره من النحويين أنّ الاسم إذا كان أربعة أحرف بهمزة في أوله حكم عليها بالزيادة ، نحو : أفكل وأيدع وما أشبه ذلك ، وإنّما ويحكم على الهمزة هاهنا بالزيادة لكثرة ما جاءت زائدة في هذا النحو مما يدل الاشتقاق على زيادتها فيه ، نحو : أحمر وأصفر وأخضر وأحمد وما أشبه ذلك ، فألحق ما لا اشتقاق له به إلا أسماء قام الدليل على أنّ الهمزة في أوائلها أصلية ، وهي أرطى وإمّعة وأيصر.

فأمّا أرطى فقد مضى القول فيه ، وأمّا إمّعة (٢) فالدليل على أنّ الهمزة في أولها أصلية أنّه ليس في الكلام إفعلة وإنّما هو فعّلة مثل : دنّمة وهو القصير ، وأمّا أيصر فالدليل على ذلك أنّهم قالوا في جمعه : إصار ، وهو كساء يحتشّ فيه ، قال الشاعر : [المتقارب]

٤١٧ ـ [فهذا يعدّ لهنّ الغلى]

ويجمع ذا بينهنّ الإصارا

وأمّا أفعى فالهمزة في أوّلها مزيدة ووزنها أفعل ، إلّا أنّ للعرب فيها مذهبين ،

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ٢١٨).

(٢) انظر الكتاب (٤ / ٤٠٧).

٤١٧ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١٠١) ، ولسان العرب (أصر) ، والمقتضب (٣ / ٣١٧) ، والمنصف (٢ / ١٨) ، وبلا نسبة في المنصف (١ / ١١٣).

١١٠

أكثرهم على أنّها اسم وليس بصفة ، وإذا كانت اسما وهي نكرة وجب صرفها ، لأنّ ما كان على أفعل اسما فهو مصروف في النكرة ، نحو : أفكل وأيدع وأربع ، وإنّما يمتنع من الصرف في المعرفة ، وأكثر العرب على صرف أفعى على هذا التقدير ، قال سيبويه (١) : أجدل للصقر وأخيل للطائر ، وأفعى ، الأجود فيها أن تكون أسماء فتصرف لأنها نكرات ، وقد جعلها بعضهم صفات ، فلم يصرفوها لأن ما كان على أفعل نعتا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة ، نحو : أحمر وأصفر وأشقر ، فكذلك أجدل وأخيل وأفعى عند هؤلاء نعوت فلا يصرفونها : قال : واحتج هؤلاء بأن قالوا : إنما قيل له أجدل من الجدل وهو شدة الخلق فصار أجدل عندهم بمنزلة شديد ، وجعلوا أخيل أفعل من الخيلان للونه وهو طائر على جناحه لمعة مخالفة للونه ، وكذلك أفعى عندهم وإن لم يكن لها فعل ولا مصدر ، وكان امتناع أجدل وأخيل من الصرف وإلحاقه بالنعوت أقوى من ترك صرف أفعى لبيان الاشتقاق في هذين ، وأنّه لا اشتقاق للأفعى ، والأجود فيها الصرف ، وذكر الجرمي أيضا أنّ أكثر العرب على صرف أفعى ، وقد ترك صرفها بعضهم ، والأفعى الأنثى والذكر أفعوان ، وأمّا أروى فوزنها فعلى ، والهمزة في أولها أصلية ، والألف في آخرها للتأنيث ، فهي بمنزلة سكرى تمتنع من الصرف في المعرفة والنكرة.

فهذا منتهى القول في المسائل التي ضمّنتها آخر كتابك والله المعين والموفق للصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.

رأي ابن خالويه في تثنية وجمع (البضع)

قال ابن خالويه في مجموع له : كتب إليّ سيّدنا الأمير سيف الدولة أطال الله بقاءه يوم جمعة وأنا في الجامع : كيف يثنّى ويجمع البضع؟ فقلت : إنّه جرى في كلامهم كالمصدر لم يثنّ ولم يجمع مثل البخل ، قال الله تعالى : (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) [النساء : ٣٧] ، ولم يقل بالإبخال ، ولو جمعناه قياسا لقلنا : أبضاعا ، مثل : قفل وأقفال وخرج وأخراج لأنّ فعلا يجمع على أفعال.

من الفتاوى النحوية لابن الشجري

قال ابن الشجري في (أماليه) (٢) : في المجلس الثامن والخمسين : ذكر مسائل استفتيت فيها بعد ما استفتي المكنيّ بأبي نزار ، فجاء بخلاف ما عليه أئمّة النحويين

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ١٢٢ ، و ٣ / ٢٢٤).

(٢) انظر أمالي ابن الشجري (٢ / ١١٦).

١١١

أجمعين ، وكذلك خالف العرب قاطبة في كلمة أجمعوا عليها ، وأثبت خطه بما سنح له من هذيانه ، وأثبت بعده خطه الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد المعروف بابن الجواليقي.

نسخة الفتوى : ما تقول السادة النحويون أحسن الله توفيقهم في قول العرب :

«يا أيّها الرجل» ، هل ضمة اللام فيه ضمة إعراب؟ وهل الألف واللام فيه للتعريف؟ وهل يأمل ومأمول وما يتصرف منهما جائز؟ وهل يكون «سوى» بمعنى غير؟.

نسخة جواب المكنيّ بأبي نزار :

الضمة في اللام من قولهم : «يا أيّها الرجل» ضمة بناء وليست ضمة إعراب ، لأن ضمة الإعراب ، لا بدّ لها من عامل عامل يوجبها ، ولا عامل هنا يوجب هذه الضمة ، والألف واللام ليست هاهنا للتعريف ، لأنّ التعريف لا يكون إلّا بين اثنين في ثالث ، والألف واللام هنا في اسم المخاطب ، والصحيح أنّها دخلت بدلا من «يا» ، و (أيّ) وإن كان منادى فنداؤه لفظي ، والمنادى على الحقيقة هو الرجل ، ولمّا قصدوا تأكيد التنبيه وقدّروا تكرير حرف النداء كرهوا التكرير ، فعوضوا عن حرف النداء ثانيا «ها» في «أيّها» وثالثا الألف واللام ، فالرجل مبني بناء عارضا كما أنّ قولك : يا زيد يعلم منه أنّ الضمة فيه ضمة بناء عارض.

وأمّا أصل (يأمل) فلا يجوز لأنّ الفعل المضارع إذا كان على يفعل بضم العين كان بابه أنّ ماضيه على فعل بفتح العين ، وأمل لم أسمعه فعلا ماضيا ، فإن قيل : يقدّر أنّ «يأمل» فعل مضارع ولم يأت ماضيه كما أنّ «يذر» و «يدع» كذلك ، قلت : قد علم أنّ «يذر» و «يدع» على هذه القضية جاءا شاذين ، فلو كان معهما كلمة أخرى شاذة لنقلت نقلهما ، ولم يجز أن لا تنقل ، وما سمعنا أن ذلك ملحق بما ذكرنا فلا يجوز يأمل ومأمول ، إلّا أن يسمعني الثقة أمل خفيف الميم.

وأمّا «سوى» فقد نص على أنّها لا تأتي إلّا ظرف مكان ، وأنّ استعمالها اسما منصرفا بوجوه الإعراب بمعنى «غير» خطأ وكتب أبو نزار.

نسخة جواب الشيخ أبي منصور موهوب بن أحمد

ضمة اللام من قولك : «يا أيّها الرّجل» وشبهه ضمة إعراب ، ولا يجوز أن تكون ضمة بناء ، ومن قال ذلك فقد غفل عن الصواب ، وذلك أنّ الواقع عليه النداء «أيّ» المبني على الضم لوقوعه موقع الحرف ، والرجل وإن كان مقصودا بالنداء فهو صفة

١١٢

أيّ ، فمحال أن يبنى أيضا لأنّه مرفوع رفعا صحيحا ، ولهذا أجاز فيه أبو عثمان النصب على الموضع ، كما يجوز في «يا زيد الظريف» ، وعلة رفعه أنّه لمّا استمرّ الضم في كل منادى معرفة أشبه ما أسند إليه الفعل ، فأجريت صفته على اللفظ فرفعت ، ومحال أن يدّعى تكرير حرف النداء مكان ها ومكان الألف واللام ، لأنّ المنادى واحد ، وإنما تقدّر الألف واللام بدلا من حرف النداء فيما عطف بالألف واللام نحو : «يا زيد والرجل» ، لأنّ المنادى الثاني غير الأول ، فيحتاج أن يقدر فيه حرف النداء ، فقد صارت الألف واللام هناك كالبدل منه ، وليس كذلك «يا أيّها الرجل» ، لأنه بمنزلة «يا هذا الرجل» ، والألف واللام فيه للتعريف. وأما أمل يأمل فهو آمل والمفعول مأمول فلا ريب في جوازه عند العلماء ، وقد حكاه الثقاة ، منهم الخليل وغيره ، والشاهد عليه كثير ، قال بعض المعمّرين : [مجزوء الكامل]

٤١٨ ـ المرء يأمل أن يعي

ش وطول عيش قد يضرّه

وقال الآخر : [المنسرح]

٤١٩ ـ ها أنذا آمل الخلود وقد

أدرك عقلي ومولدي حجرا

وقال كعب بن زهير : [البسيط]

٤٢٠ ـ [أنبئت أن رسول الله أوعدني]

والعفو عند رسول الله مأمول

وقال المتنبي وهو من العلماء بالعربية : [الكامل]

٤٢١ ـ حرموا الذي أملوا [وأدرك منهم

آماله من عاد بالحرمان]

وأما «سوى» فلم يختلفوا في أنّها تكون بمعنى «غير» ، وتكون أيضا بمعنى الشيء نفسه ، تقول : «رأيت سواك» أي : «غيرك» ، وحكى ذلك أبو عبيد عن أبي عبيدة ، وقال الأعشى : [الطويل]

٤٢٢ ـ [تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي]

وما قصدت من أهلها لسوائكا

__________________

٤١٨ ـ الشاهد للنابغة الجعدي في ديوانه (ص ١٩١) ، وأمالي القالي (٢ / ٨) ، والخزانة (١ / ٥١٤) ، وللنابغة الذبياني في الشعر والشعراء (ص ١٥٩) ، وليس في ديوانه ، وهو للبيد في ديوانه (ص ٣٦٥).

٤١٩ ـ الشاهد للربيع بن ضبع الغزاري في نوادر أبي زيد (ص ١٥٩) ، وأمالي القالي (٢ / ١٨٥) ، والخزانة (٣ / ٣٠٨) ، وبلا نسبة في المقتضب (٣ / ١٨٣).

٤٢٠ ـ الشاهد لكعب بن زهير في ديوانه (ص ١٩) ، وطبقات فحول الشعراء (ص ١٠١).

٤٢١ ـ الشاهد للمتنبي في ديوانه (ص ٤١٥).

٤٢٢ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١٣٩) ، والأضداد (ص ٤٤) ، والكتاب (١ / ٦٤) ، وخزانة الأدب (٣ / ٤٣٥) ، والدرر (٣ / ٩٤) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٣٧) ، ولسان العرب (جنف) ، و (سوا) ، وبلا نسبة في شرح المفصل (٢ / ٨٤) ، وفقه اللغة للصاحبي (ص ١٥٤) ، والمقتضب (٤ / ٣٤٩) ، وهمع الهوامع (١ / ٢٠٢).

١١٣

أي لغيرك ، فهذه بمعنى غير ، وهي أيضا غير ظرف ، وتقدير الخليل لها بالظرف في الاستثناء بمعنى مكان وبدل لا يخرجها عن أن تكون بمعنى غير ، وفيها لغات ، إذا فتحت مدّت لا غير ، وإذا ضمت قصرت لا غير ، وإذا كسرت جاز المدّ والقصر أكثر ، وما يحمل المتكلم بالقول الهراء إلا فشوّ الجهل ، وكتب موهوب بن أحمد.

قال ابن الشجري : نسخة جوابي : الجواب والله سبحانه الموفق للصواب :

إنّ ضمة اللام في قولنا : «يا أيّها الرجل» ضمة إعراب ، لأنّ ضمة المنادى المفرد المعرفة لها باطّرادها منزلة بين منزلتين ، فليست كضمة حيث لأنّ ضمة حيث غير مطردة ، وذلك لعدم اطراد العلة التي أوجبتها ، ولا كضمة زيد في نحو : «خرج زيد» ، لأنّ هذه حدثت بعامل لفظيّ ، ولو ساغ أن توصف «حيث» لم يجز وصفها بمرفوع حملا على لفظها ، لأنّ ضمتها غير مطردة ولا حادثة عن عامل ، ولمّا اطّردت الضمة في قولنا : يا زيد ، يا عمرو ، وكذلك اطردت في النكرات المقصودة قصدها ، نحو يا رجل ، يا غلام إلى ما لا يحصى كثرة ، تنزّل الاطّراد فيها منزلة العامل المعنوي الرافع للمبتدأ من حيث اطردت الرفعة في كل اسم ابتدئ به مجردا من عامل لفظي وجيء له بخبر ، كقولك : «زيد منطلق» «عمرو ذاهب» إلى ما لا يدركه الإحصاء ، فلمّا استمرّت ضمة المنادى في معطم الأسماء كما استمرت في الأسماء المعربة الضمة الحادثة عن الابتداء شبهتها العرب بضمة المبتدأ ، فأتبعتها ضمة الإعراب في صفة المنادى في نحو : «يا زيد الطويل» ، وجمع بينهما أيضا أنّ الاطّراد معنى كما أنّ الابتداء معنى ، ومن شأن العرب أن تحمل الشيء على الشيء مع حصول أدنى تناسب بينهما ، وحتى إنهم قد حملوا أشياء على نقائضها ، ألا ترى أنّهم قد أتبعوا حركة الإعراب حركة البناء في قراءة من قرأ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] بكسر الدال ، وكذلك أتبعوا حركة البناء حركة الإعراب في قراءة من قرأ «الحمد لله» بضم اللام ، وكذلك أتبعوا حركة البناء حركة الإعراب في نحو «يا زيد بن عمرو» في قول من فتح الدال من زيد؟ وقد كان شافهني هذا المتعدّي طوره بهذا الهراء الذي ابتدعه والهذاء الذي اختلقه واخترعه ، فقلت له : إنّ ضمة المنادى لها منزلة بين منزلتين ، فقال منكرا لذلك : ما معنى المنزلة بين المنزلتين؟ فجهل معنى هذا القول ، ولم يحسّ بأنّ هذا الوصف يتناول أشياء كثيرة من العربية ، كهمزة بين بين التي هي بين الهمزة والألف أو الهمزة والياء أو الهمزة والواو ، وكألف الإمالة التي هي بين ألف التفخيم والياء ، وكالصاد المشربة صوت الزاي ، وكالقاف التي بين القاف الخالصة والكاف.

١١٤

وأمّا قوله : إنّ الألف واللام هنا ليست للتعريف ، لأنّ التعريف لا يكون إلّا بين اثنين في ثالث ، والألف واللام هنا في اسم المخاطب ، والصحيح أنّها دخلت بدلا من يا فقول فاسد ، بل الألف واللام هنا لتعريف الحضرة ، كالتعريف في قولك : «جاء هذا الرجل» ولكنّها لمّا دخلت على اسم المخاطب صار الحكم للخطاب من حيث كان قولنا : «يا أيّها الرجل» معناه : يا رجل ، ولمّا كان الرجل هو المخاطب في المعنى غلب حكم الخطاب ، فاكتفي باثنين لأنّ أسماء الخطاب لا يفتقر في تعريفها إلى حضور ثالث ، ألا ترى أنّ قولك : «خرجت يا هذا» و «وانطلقت» و «لقيتك» ، و «وأكرمتك» لا حاجة به إلى ثالث؟ وليس كل وجوه التعريف تقتضي أن يكون بين اثنين في ثالث ، ألا ترى أنّ ضمائر المتكلمين نحو : «أنا خرجت» و «نحن ننطلق» لا يوجب في تعريفها حضور ثالث؟ فقد وضح لك بهذا أنّ قوله : «التعريف لا يكون إلّا بين اثنين في ثالث» كلام ظاهر الفساد ، لأنّه أطلق هذا اللفظ على جميع التعاريف ، فتأمل سدّدك الله الفقرة التي عمي عنها هذا الغبيّ ، عمّا صدرت به حتى خطّأ بجهله الأئمّة المبرزين في علم العربية المتقدمين منهم والمتأخرين ، ومن شواهد إعراب الرجل في قولنا : «يا أيّها الرجل» نعته بالمضاف المرفوع في قولك : «يا أيّها الرجل ذو المال» ، وعلى ذلك أنشدوا : [الرجز]

٤٢٣ ـ يا أيّها الجاهل ذو التّنزّي

فهذا دليل على إعراب «الرجل» قاطع ، لأنّ الصفة المضافة في باب النداء لا يجوز حملها على لفظ المبني ، ولا تكون إلّا منصوبة أبدا ، كقولك : «يا زيد ذا المال» ، وقد عارضته بهذا الدليل الجليّ الذي تناصرت به الروايات عن النحوي واللغوي ، فزعم أنّه لا يرفع هذه الصفة ، ولا ينشد إلّا «ذا التّنزّي» ، ولا يعتدّ بإجماع النحويين واللغويين على سماع الرفع فيها عن العرب ، فدلّ ذلك على أنّ هذا العديم الحسّ هو المقصود بالنداء في قول القائل : «يا أيّها الجاهل ذو التّنزّي».

وأمّا قوله : «ولمّا قصدوا تأكيد التنبيه وقدّروا تكرير حرف النداء كرهوا التكرير ، فعوّضوا عن حرف النداء ثانيا ها وثالثا الألف واللام» فهذا من دعاويه الباطلة ، لأنّه زاعم أنّ أصل «يا أيّها الرجل» : يا أيّ يا يا رجل ، فعوّضوا من يا الثانية ها ومن الثالثة الألف واللام ، وليس الأمر على ما قاله وابتدعه من هذا المحال ، ولكن

__________________

٤٢٣ ـ الرجز لرؤبة في ديوانه (ص ٦٣) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٤٧١) ، والكتاب (٢ / ١٩٣) ، وشرح المفصّل (٦ / ١٣٨) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٢١٩) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٨٢٥) ، والمقتضب (٤ / ٢١٨).

١١٥

العرب كرهوا أن يقولوا : يا الرجل وما أشبه ذلك ، فيولوا حرف النداء الألف واللام ، فأدخلوا أيّ فجعلوها وصلة إلى نداء المعارف بالألف واللام ، وألزموها حرف التنبيه عوضا لها ممّا منعته من الإضافة ، هذا قول النحويين ، فمن تكلّف غيره بغير دليل فهو مبطل ، فلا حاجة بنا إلى أن نقدّر أنّ الأصل : يا أيّ يا يا رجل ، فإنّه مع مخالفته لقول الجماعة خلف من القول يمجّه السمع وينكره الطبع.

وأمّا قوله في «أكل ويأمل» : إنّهما لا يجوزان عنده لأنّه لم يسمع في الماضي منهما أمل خفيف الميم ، فليت شعري ما الذي سمع من اللغة ووعاه حتى أنكر أن يفوته هذا الحرف؟ وإنما ينكر مثل هذا من أنعم النظر في كتب اللغة كلها ، ووقف على تركيب أم ل في كتاب العين للخليل بن أحمد ، وكتاب الجمهرة لأبي بكر بن دريد والمجمل لأبي الحسين بن فارس وديوان الأدب لأبي إبراهيم الفارابي وكتاب الصحاح لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري النيسابوري ، وغير ذلك من كتب اللغة ، فإذا وقف على أمّهات كتب هذا العلم التي استوعب كل كتاب منها اللغة أو معظمها فرأى أنّ هذا الحرف قد فات أولئك الأعيان ثم سمع قول كعب بن زهير (١) : [البسيط]

والعفو عند رسول الله مأمول

سلّم لكعب وأذعن له صاغرا قميئا ، فكيف يقول من لم يتولّج سمعه عشرة أسطر من هذه الكتب التي ذكرتها : «لم» أسمع «أمل» ولا أسلم أن يقال : مأمول»؟.

وأمّا قوله : إنه لا يجوز «يأمل» ولا مأمول إلّا أن يسمعني الثقة «أمل» فنقول من لم يعلم بأنّهم قالوا : فقير ولم يقولوا فقر ، ولم يأت فعله إلّا بالزيادة ، أفتراه ينكر أن يقال : فقير ، لأنّ الثقة لم يسمعه فقر؟ فلعله يجحد أن يكونوا قد نطقوا بفقير ، وقد ورد به القرآن في قوله تعالى : (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص : ٤٢] ، وهل إنكار فقير إلّا كإنكار مأمول؟ بل إنكار فقير عنده أوجب ، لأنّهم لم يقولوا في ماضيه إلّا افتقر ، ومأمول قد نطقوا بماضيه بغير زيادة.

وأمّا «سوى» فإنّ العرب استعملتها استثناء ، وهي في ذلك منصوبة على الظرف بدلالة أنّ النصب يظهر منها إذا مدّت ، فإذا قلت : «أتاني القوم سواك» فكأنك قلت : أتاني القوم مكانك ، وكذلك : «أخذت سواك رجلا» ، أي : مكانك ، واستدلّ الأخفش على أنّها ظرف بوصلهم الاسم الناقص بها في نحو : «أتاني الذي سواك» ،

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٥٠).

١١٦

والكوفيون يرون استعمالها بمعنى غير ، وأقول : إدخال الجار عليها في قول الأعشى (١) : [الطويل]

[تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي]

وما قصدت من أهلها لسوائكا

يخرجها من الظرفية ، وإنما استجازت العرب ذلك فيها تشبيها لها بغير من حيث استعملوها استثناء وعلى تشبيهها بغير ، قال أبو الطيب : [الكامل]

٤٢٤ ـ أرض لها شرف سواها مثلها

لو كان مثلك في سواها يوجد

رفع «سوى» الأولى بالابتداء ، وخفض الثاني ب في فأخرجها من الظرفية ، فمن خطّأه فقد خطّأ الأعشى في قوله : «لسوائكا» ، ومن خطّأ الأعشى في لغته التي جبل عليها ، وشعره يستشهد به في كتاب الله تعالى ، فقد شهد على نفسه بأنّه مدخول العقل ضارب في غمرة الجهل وليس لهذا المتطاول إلى ما يقصر عنه ذرعه شيء يتعلق به في تخطئة العرب إلّا قول الشاعر : [الطويل]

٤٢٥ ـ حراجيج ما تنفكّ إلّا مناخة

على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا

فكلّ فاقرة ينزلها بالعربية يزفّ أمامها هذا البيت معارضا به أشعار الفحول من العرب العاربة ، وليس دخول إلّا في هذا البيت خطّأ كما توهّم ، لأن بعض النحويين قدّر في «ينفك» التمام ، ونصب «مناخة» على الحال ، فينفك هاهنا مثل منفكّين في قول الله عزّ وجلّ : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ١] ، فالمعنى ما تنفصل عن جهد ومشقة إلّا في حال إناختها على الخسف ، ورمي البلد القفر بها ، أي : تنتقل من شدّة إلى شدّة.

ومن العجب أنّ هذا الجاهل يقدم على تخطئة سلف النحويين وخلفهم ، وتخطئة الشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين ، فيعترض على أقوال هؤلاء وأشعار هؤلاء بكلام ليس له محصول ، ولا يؤثر عنه أنّه قرأ مصنفا في النحو إلا مقدمة

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٥٤).

٤٢٤ ـ الشاهد للمتنبي في ديوانه (ص ٥٧) ، وخزانة الأدب (٣ / ٤٣٦).

٤٢٥ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ١٤١٩) ، وتخليص الشواهد (ص ٢٧٠) ، وخزانة الأدب (٩ / ٢٤٧) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٢١٩) ، ولسان العرب (فكك) ، والمحتسب (١ / ٣٢٩) ، وهمع الهوامع (١ / ١٢٠) ، وبلا نسبة في أسرار العربية (ص ١٤٢) ، والجنى الداني (ص ٥٢١) ، وشرح الأشموني (١ / ١٢١) ، ومغني اللبيب (١ / ٧٣) ، وهمع الهوامع (١ / ٢٣٠).

١١٧

من تأليف عبد القاهر الجرجاني قيل : إنّها لا تبلغ أن تكون في عشر أوراق ، وقيل : إنّه لا يملك من كتب النحو واللغة ما مقداره عشر أوراق ، وهو مع هذا يردّ بقحته على الخليل وسيبويه ، إنها لوصمة اتّسم بها زماننا هذا ، لا يبيد عارها ولا ينقضي شنارها ، وإنما طلب بتلفيق هذه الأهواس أن تسطر فتوى ، فيثبت خطه فيها مع خط غيره ، فيقال : أجاب أبو نزار بكذا وأجاب غيره بكذا ، فقد أدرك لعمر الله مطلوبه ، وبلغ مقصوده ، ولو لا إيجاب حق من أوجبت حقه والتزمت وفاقه واحترمت خطابه لصنت خطي ولفظي عن مجاورة خطه ولفظه.

قال ابن الشجري في المجلس الحادي والستين في (أماليه) (١) :

ذكر أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني صاحب كتاب (الأغاني) حديثا رفعه إلى أبي ظبيان الحماني قال : اجتمعت جماعة من الحي على شراب فتغنّى أحدهم بقول حسان : [الكامل]

٤٢٦ ـ إنّ الّتي ناولتني فرددتها

قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

كلتاهما حلب العصير فعاطني

بزجاجة أرخاهما للمفصل

فقال رجل منهم : كيف ذكر واحدة بقوله : إنّ التي ناولتني فرددتها ، ثم قال : كلتاهما حلب العصير ، فجعلها اثنتين؟ قال أبو ظبيان : فلم يقل أحد من الجماعة جوابا ، فحلف رجل منهم بالطلاق ثلاثا إن بات ولم يسأل القاضي عبيد الله بن الحسين عن تفسير هذا الشعر ، قال : فسقط في أيدينا ليمينه ، ثم أجمعنا على قصد عبيد الله ، فحدثني بعض أصحابنا السعديين قال : فيمّمناه نتخطّى إليه الأحياء فصادفناه في مسجده يصلي بين العشاءين ، فلمّا سمع حسّنا أوجز في صلاته ، ثم أقبل علينا فقال : ما حاجتكم؟ فبدر رجل منا فقال : نحن ـ أعزّ الله القاضي ـ قوم نزعنا إليك من طريق البصرة في حاجة مهمة فيها بعض الشيء ، فإن أذنت لنا قلنا ، فقال : قولوا ، فذكر يمين الرجل والشعر ، فقال : أما قوله : إن التيّ التي ناولتني فإنه يعني الخمر ، وقوله : قتلت أراد : مزجت بالماء ، وقوله : كلتاهما حلب العصير يعني الخمر ومزاجها ، فالخمر عصير العنب ، والماء عصير السحاب ، قال الله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) [النبأ : ١٤] ، انصرفوا إذا شئتم.

__________________

(١) انظر أمالي ابن الشجري (٢ / ١٥٩).

٤٢٦ ـ الشاهد هو البيت الأول وهو لحسان في ديوانه (ص ١٢٤) ، واللسان (قتل) ، وأساس البلاغة (قتل) ، وتاج العروس (قتل) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٤٠٧) ، ومقاييس اللغة (٥ / ٧٥) ، والمخصّص (١١ / ٨٨).

١١٨

قال ابن الشجري : وأقول : إنّ هذا التأويل يمنع منه ثلاثة أشياء :

أحدها : أنّه قال : كلتاهما ، وكلتا موضوعة لمؤنثين ، والماء مذكر والتذكير أبدا يغلّب على التأنيث كتغليب القمر على الشمس في قول الفرزدق (١) : [الطويل]

[أخذنا بآفاق السماء عليكم]

لنا قمراها والنّجوم الطّوالع

أراد : لنا شمسها وقمرها ، وليس للماء اسم آخر مؤنث فيحمل على المعنى ، كما قالوا : «أتته كتابي فاحتقرها» لأنّ الكتاب في المعنى صحيفة وكما قال الشاعر : [السريع]

٤٢٧ ـ قامت تبكّيه على قبره

من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدّار ذا غربة

قد ذلّ من ليس له ناصر

كان الوجه أن يقول : ذات غربة ، وإنّما ذكّر لأنّ المرأة إنسان ، فحمل على المعنى.

والثاني : أنّه قال : أرخاهما للمفصل ، وأفعل هذا موضوع لمشتركين في معنى ، وأحدهما يزيد على الآخر في الوصف به ، كقولك : زيد أفضل الرّجلين ، فزيد والرجل المضموم إليه مشتركان في الفضل ، إلّا أنّ فضل زيد يزيد على فضل المقرون به ، والماء لا يشارك الخمر في إرخاء المفصل.

والثالث : أنّه قال في الحكاية : فالخمر عصير العنب ، وقول حسان : حلب العصير يمنع من هذا لأنّه إذا كان العصير الخمر والحلب هو الخمر فقد أضفت الخمر إلى نفسها ، والشيء لا يضاف إلى نفسه.

والقول في هذا عندي : أنّه أراد كلتا الخمرتين ، الصّرف والممزوجة حلب العني فناولني أشدهما إرخاء للمفصل.

قال ابن الشجري في المجلس الرابع والستين (٣) :

مسألة سئلت عنها : «المعلم والمعلمه زيد عمرا خير الناس إيّاه أنا» ، الجواب : أنّ المعلم مبتدأ والمعلمه معطوف عليه ، وهو يقتضي اسما فاعلا ويقتضي التعدي

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٠٤).

٤٢٧ ـ البيتان بلا نسبة في أمالي المرتضى (١ / ٧١) ، والإنصاف (٢ / ٥٠٧) ، وسمط اللآلي (١ / ١٧٤) ، وشرح المفصّل (٥ / ١٠١) ، ولسان العرب (عمر).

(٢) انظر أمالي ابن الشجري (٢ / ٢٠٩).

١١٩

إلى ثلاثة مفاعيل ، كما يقتضي ذلك فعله الذي هو أعلم ، فزيد فاعله والهاء المفعول الأول ، و «عمرا» الثاني و «خير الناس» الثالث ، و «إياه» ضمير مصدره الذي هو الإعلام أضمره وإن لم يجر له ذكر ، لأنّ المصدر يحسن إضماره إذا ذكر فعله أو اسم فاعله كقوله : [الوافر]

٤٢٨ ـ إذا نهي السّفيه جرى إليه

[وخالف والسّفيه إلى خلاف]

وقولك : «أنا» خبر المبتدأ الذي هو المعلم ، والمعلمه وإن كان عطفا على المعلم فإنه هو المعلم لأنه وصف له ، فلذلك كان أنا خبرا عنهما معا والتقدير : المعلم المعلمه زيد عمرا خير النّاس أنا.

مسألة نحوية لابن السيد البطليوسي

قال الإمام أبو محمد بن السيّد البطليوسيّ في (كتابه المسائل والأجوبة) :

جمعني مجلس مع رجل من أهل الأدب ، فنازعني في مسألة من مسائل النحو ، ثم دبّت الأيام ودرجت الليالي ، وأنا لا أعيرها فكري ولا أخطرها على بالي ، ثم اتّصل بي أنّ قوما يتعصّبون له ويقرظونه يعتقدون أني أنا المخطئ فيها دونه ، فرأيت أن أذكر ما جرى بيننا فيها من الكلام ، وأزيد ما لم أذكره وقت المنازعة والخصام ، ليعلم من المزجي البضاعة وبالله التوفيق.

كان مبتدأ الأمر أنّ هذا الرجل المذكور قال لي : إنّ قوما من نحويي سرقسطة اختلفوا في قول كثير : [الطويل]

٤٢٩ ـ وأنت التي حبّبت كلّ قصيرة

إليّ وما تدري بذاك القصائر

عنيت قصيرات الحجال ولم أرد

قصار الخطا شرّ النّساء البحاتر

فقال بعضهم : البحاتر مبتدأ وشرّ النساء خبره ، وقال بعضهم : يجوز أن يكون شرّ النساء هو المبتدأ والبحاتر خبره ، وأنكرت أنا هذا القول وقلت : لا يجوز إلّا أن

__________________

٤٢٨ ـ الشاهد لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري في إعراب القرآن (ص ٩٠٢) ، وأمالي المرتضى (١ / ٢٠٣) ، والإنصاف (١ / ١٤٠) ، وخزانة الأدب (٣ / ٣٦٤) ، والخصائص (٣ / ٤٩) ، والدرر (١ / ٢١٦) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٢٤٤) ، ومجالس ثعلب (ص ٧٥) ، والمحتسب (١ / ١٧٠) ، وهمع الهوامع (١ / ٦٥).

٤٢٩ ـ البيتان لكثير عزة في ديوانه (ص ٣٦٩) ، وإصلاح المنطق (ص ١٨٤) ، وجمهرة اللغة (ص ٧٤٣) ، والدرر (١ / ٢٨٢) ، ولسان العرب (بهتر) و (قصر) ، والمعاني الكبير (ص ٥٠٥) ، وبلا نسبة في أسرار العربية (ص ٤١) ، وشرح المفصّل (٦ / ٣٧) ، وهمع الهوامع (١ / ٨٦).

١٢٠